احتشد مئات الآلاف من المشيعين في شوارع وسط طهران يوم السبت، لتشييع كبار القادة من الجهازين العسكري والأمني والعلماء النوويين الذين قُتلوا خلال حرب استمرت 12 يوماً مع إسرائيل، وذلك في اليوم الرابع لوقف هش لإطلاق النار، بينما يهدد الرئيس الأميركي دونالد ترمب بمهاجمة البلاد مجدداً.
ووفقاً لوسائل إعلام رسمية، فمن بين القتلى الذين يتم تشييعهم 16 عالماً على الأقل، و10 من كبار القادة العسكريين. وتم نقل نعوش رئيس الأركان اللواء محمد باقري، وقائد «الحرس الثوري» اللواء حسين سلامي، وقائد الوحدة الصاروخية في الحرس اللواء أمير علي حاجي زاده، وآخرين على شاحنات على طول شارع «آزادي» بالعاصمة، بينما رددت الحشود هتافات: «الموت لأميركا» و«الموت لإسرائيل».
وقُتل كل من سلامي وحاجي زاده في اليوم الأول من الحرب، في 13 يونيو (حزيران)، عندما شنت إسرائيل حرباً قالت إنها تهدف إلى تدمير البرنامج النووي الإيراني، واستهدفت بشكل محدد القادة العسكريين والعلماء والمنشآت النووية.
وذكرت وسائل الإعلام الرسمية أن أكثر من مليون شخص شاركوا في موكب التشييع، وهو رقم لم يكن بالإمكان التحقق منه بشكل مستقل، إلا أن الحشود الكثيفة ملأت الشارع الرئيسي بطهران على امتداد 4.5 كيلومتر تقريباً، وفقاً لوكالة «أسوشييتد برس».
وبينما كانت حشود تلوح بالعلم، استطاع البعض أن يقترب من النعوش ويلمسها ويلقي عليها بتلات الورود. وعرضت قناة «برس تي في» التلفزيونية صورة لصواريخ باليستية يجري استعراضها.

ولم يظهر المرشد الإيراني، علي خامنئي، في البث الرسمي للجنازة، ولم يظهر علناً منذ بدء الحرب. ولم يصدر أي بيان من مكتبه، وكان في السابق يقيم صلاة الجنازة على جثامين القادة قبل المراسم العامة التي تبث لاحقاً على التلفزيون الرسمي.
ولا يزال خامنئي في موقع محصن وسري منذ بدء الحرب، لكنه أرسل رسالة بعد إعلان وقف إطلاق النار، شدد فيها على «الاقتدار الوطني»، معلناً «انتصار» إيران في هذه الحرب على كل من إسرائيل والولايات المتحدة.
وأظهرت لقطات تلفزيونية أن معظم المشاركين كانوا يرتدون ملابس سوداء بالكامل، وكانوا يحاولون لمس النعوش التي وُضعت على شاحنات كبيرة سارت في موكب التشييع. كما جددت الحشود ولاءها للمرشد الإيراني، مرددة: «نحن جاهزون يا قائدنا». وأعرب الكثيرون في الحشود عن مشاعر الغضب والتحدي.
وكانت مراسم السبت، أول جنازات علنية لكبار القادة منذ وقف إطلاق النار، وذكر التلفزيون الرسمي أنها كانت لـ60 شخصاً، من بينهم 4 نساء و4 أطفال.
وقد أعلنت السلطات عطلة رسمية السبت، لإتاحة المجال لحضور شعبي واسع، بعدما كان من المقرر إقامة المراسم الثلاثاء الماضي، لكنها تأجلت لأسباب لم تعلن، وأغلقت العديد من الإدارات والمتاجر السبت.

ونشرت وسائل الإعلام الرسمية صوراً لقبر مفتوح في مقبرة «بهشت زهرا» الواسعة بجنوب طهران، حيث دُفن رئيس هيئة الأركان محمد باقري، الذي قُتل في اليوم الأول من الحرب، إلى جانب شقيقه، وهو قائد في «الحرس الثوري» قُتل في حرب العراق - إيران في الثمانينات. ودُفن العديد من الآخرين في مسقط رأسهم. ودفن العام النووي محمد علي طهرانجي في مقبرة الري جنوب طهران.
كبار المسؤولين بين المشيعين
كان من بين الحضور الرئيس مسعود بزشكيان، ووزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، وذكر التلفزيون الرسمي أن قائد «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري»، اللواء إسماعيل قاآني، واللواء علي شمخاني كانا أيضاً من بين المشيعين.
وظهر شمخاني، مستشار خامنئي الذي أصيب في الجولة الأولى من الهجمات الإسرائيلية، وتم نقله إلى المستشفى، في بدلة مدنية متكئاً على عصا، في صورة نشرتها وسائل إعلام إيرانية على «تلغرام».

وقال قاآني، خلال مراسم تشييع: «إذا وقف الجميع خلف المرشد، فإن كل الأمور ستسير على ما يرام. طريق قادتنا سيستمر بثبات، وقد وصلنا إلى هذه المرحلة بنجاح، وسنواصل التقدم بالنجاح ذاته»، حسبما نقلت وسائل إعلام إيرانية.
وقال وزير الخارجية عباس عراقجي، الذي حضر الجنازة أيضاً، في منشور عبر «تلغرام»: «دافع الإيرانيون اليوم عن شرفهم وكرامتهم بصمودهم البطولي في مواجهة نظامين مسلحين بالأسلحة النووية، وهم يتطلعون إلى المستقبل بفخر وكرامة وعزيمة أكبر من أي وقت مضى».
وقال إسكندر مؤمني، وزير الداخلية الإيراني، خلال مراسم التشييع: «من الطبيعي أننا نواجه عدواً ناكثاً للعهود. لقد أظهر الكيان الصهيوني أنه لا يلتزم بوعوده، وكما أكد المسؤولون والمجلس الأعلى للأمن القومي والجميع، فإننا جميعاً يقظون، وعيوننا مفتوحة، وأصابعنا على الزناد، ونحن في كامل الجاهزية».
وأضاف: «عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن الوطن، فإن كل الخلافات تزول، ويتحد الجميع بصوت واحد وبشكل منسجم دفاعاً عن الوطن ووحدة وسلامة أراضي إيران»، بحسب ما نقلته وكالة أنباء «إرنا».
في الأثناء، ناشدت هيئة الأركان المسلحة الإيرانيين «عدم تصوير أو نشر أي صور خلال الأيام المقبلة تتعلق بنقل أو تمركز الأنظمة العسكرية على الطرق أو المواقع الحساسة في البلاد».
وبدورها، أشارت قنوات تابعة لإعلام «الحرس الثوري» على «تلغرام»، إلى إعلان حالة التأهب القصوى مجدداً في سلاح الجو، الدفاع الجوي، ووحدات الدفاع البري الإيراني، بأمر من هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، مشيرة إلى أنها «ستصل إلى ذروتها خلال ساعات».
وقال إن «الجيش الإيراني عاد للوضع القتالي جاءت بعد رصد استخباراتي لتحركات إسرائيلية شملت نقل معدات عسكرية جديدة خلال الساعة الأخيرة».
وفي وقت لاحق، قالت وكالة «نور نيوز» التابعة لمجلس الأعلى للأمن القومي، إن إيران أعادت فتح مجالها الجوي في وسط وغرب البلاد أمام الرحلات الجوية الدولية العابرة.
نتائج الحرب
خلال 12 يوماً قبل إعلان وقف إطلاق النار يوم الثلاثاء، أعلنت إسرائيل أنها قتلت نحو 40 قائداً إيرانياً، وأكثر من 16 عالماً نووياً، واستهدفت 8 منشآت مرتبطة بالنووي، وأكثر من 720 موقعاً من البنية التحتية العسكرية. وقُتل أكثر من ألف شخص، بينهم ما لا يقل عن 417 مدنياً، وفقاً لمنظمة «نشطاء حقوق الإنسان» التي تتخذ من واشنطن مقراً لها.
وأطلقت إيران أكثر من 550 صاروخاً باليستياً على إسرائيل، تم اعتراض معظمها، لكن ما أصاب أهدافه تسبب في أضرار بعدة مناطق، وأدى إلى مقتل 28 شخصاً.
وشنت إسرائيل هجوماً جوياً على إيران في 13 يونيو، مستهدفة منشآت نووية، مما أسفر عن مقتل القادة العسكريين الكبار وعدد من المدنيين، في أشد هجوم تشهده الجمهورية الإسلامية منذ حرب الثمانينات مع العراق. وردت إيران بإطلاق وابل من الصواريخ على مواقع عسكرية وبنى تحتية ومدن إسرائيلية. ودخلت الولايات المتحدة الحرب في 22 يونيو، بشن غارات على منشآت نووية إيرانية.
وقالت إسرائيل، وهي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي يُعتقد على نطاق واسع، أنها تمتلك أسلحة نووية، إن حربها على خصمها في المنطقة إيران كان هدفها منع طهران من تطوير أسلحة نووية. وتنفي إيران امتلاكها برنامج أسلحة نووية.
وأكدت وكالة «ميزان» التابعة للسلطة القضائية الإيرانية، أن كبير المدعين العامين في سجن إيفين الشهير، قُتل في ضربة إسرائيلية الاثنين الماضي.
وذكرت الوكالة أن علي قناعتكار، الذي قاد محاكمات للمعارضين من بينهم الحائزة على جائزة نوبل للسلام نرجس محمدي، سيُدفن في مرقد بمدينة قم.
من جهتها، أعلنت القيادة العامة للشرطة الإيرانية، مقتل مهدي نعمتي، نائب رئيس منظمة استخبارات بالشرطة، في الهجمات الإسرائيلية على إيران.
وأشارت تقارير إلى أن نعمي تطوع سابقاً للقتال في سوريا والعراق، ضمن صفوف «الحرس الثوري» التي قادها الجنرال قاسم سليماني.
الملف النووي والخلافات الدولية
تصر إيران على أن برنامجها النووي مخصص للأغراض السلمية فقط. لكن إسرائيل تعدّه تهديداً وجودياً، وقالت إن حملتها العسكرية كانت ضرورية لمنع إيران من بناء سلاح نووي.
وكان آخر ظهور علني لخامنئي في 11 يونيو، قبل يومين من اندلاع الحرب، خلال لقاء مع أعضاء البرلمان. لكنه بث يوم الخميس مقطع فيديو مسجلاً، وهو أول رسالة له منذ نهاية الحرب، مليئة بالتحذيرات والتهديدات للولايات المتحدة وإسرائيل، خصوم الجمهورية الإسلامية التقليديين.
وقلل خامنئي البالغ من العمر 86 عاماً، من تأثير الضربات الأميركية على 3 مواقع نووية إيرانية، قائلاً إنها لم تحقق «شيئاً يُذكر»، وادعى تحقيق النصر على إسرائيل.
الأسئلة لا تزال مطروحة حول المحادثات المحتملة.
وقال الرئيس الأميركي دونالد ترمب الجمعة، إنه سيدرس قصف إيران مجدداً، بينما قال خامنئي إن بلاده سترد على أي هجوم أميركي مستقبلاً بضرب قواعد عسكرية أميركية في الشرق الأوسط. وتوقع ترمب أن تفتح إيران منشآتها أمام التفتيش الدولي للتأكد من أنها لن تستأنف برنامجها النووي، وقال مسؤولو البيت الأبيض إنهم يتوقعون استئناف المحادثات قريباً، رغم عدم تحديد موعد.

وفي منشور على منصة «إكس» يوم السبت، أشار عراقجي إلى أن إيران قد تكون منفتحة على المحادثات، لكنه انتقد تصريحات ترمب يوم الجمعة التي سخر فيها من تحذير خامنئي ضد مزيد من الهجمات الأميركية، قائلاً إن إيران «تعرّضت لهزيمة ساحقة».
وكتب عراقجي: «إذا كان الرئيس ترمب جاداً بشأن رغبته في التوصل إلى اتفاق، فعليه أن يضع جانباً النبرة غير المحترمة وغير المقبولة تجاه المرشد، ويتوقف عن إيذاء الملايين من أتباعه المخلصين».
ومن جانبه، قال علي محمد نائيني، المتحدث باسم «الحرس الثوري» الإيراني، خلال مراسم تشييع في طهران: «نوصي ترمب بأن يفتح عينيه ويتوقف عن التصريحات العبثية والسلوكيات غير المتزنة». وأضاف أن «الهزيمة الثقيلة في الحرب التي استمرت 12 يوماً، أدت بوضوح إلى ارتباكه وفقدانه التوازن، وهو ما انعكس في تصريحاته غير المحسوبة».
من جهته، صرح المنسق العام لقوات «الحرس الثوري» محمد رضا نقدي: «في حال التعرّض لأي من مراجع الشيعة، فلن يخرج أي وكيل أميركي من هذه المنطقة حياً».
وقال مسؤول عسكري إسرائيلي كبير أمس (الجمعة)، إن إسرائيل وجهت «ضربة قاصمة» للمشروع النووي الإيراني. وقال «الحرس الثوري» الإيراني في بيان السبت، إن إسرائيل والولايات المتحدة «فشلتا في تحقيق أهدافهما المعلنة» في الحرب.
ووصف رافائيل غروسي، مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الأضرار التي لحقت بمنشأة فوردو النووية الإيرانية، التي بُنيت داخل جبل، جراء قنابل أميركية خارقة للتحصينات، بأنها «كبيرة جداً جداً جداً».
وقد صوّت البرلمان الإيراني على تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في الوقت الراهن.
ووصفت صحيفة «كيهان» الإيرانية غروسي، بأنه «جاسوس للموساد»، وطالبت باعتقاله ومحاكمته وإعدامه في حال دخوله إيران، متهمة إياه بنقل معلومات حساسة لإسرائيل والمشاركة في استهداف مواقع تاريخية ومدنيين إيرانيين. كما انتقدت طلبه زيارة طهران لتفتيش المنشآت النووية، وعدّت استقباله إهانة لإيران.

واتهمت الصحيفة غروسي بنقل معلومات حساسة عن المواقع العسكرية والنووية الإيرانية إلى إسرائيل، وقالت إنه «صرح لقناة (فوكس نيوز) بأن إيران تُخفي يورانيوم مخصباً بنسبة 60 في المائة بمواقع أثرية بمدينة أصفهان».
كما هاجمت الصحيفة بشدة، طلب غروسي بالسفر إلى طهران وتفتيش المنشآت النووية، عادّة الموقف الإيراني كان يجب أن يكون أكثر حزماً، وقالت: «كان الأجدر أن يُقال إن غروسي جاسوس مكشوف للموساد، ولن يُسمح له مطلقاً بدخول إيران». كما أضافت بلهجة ساخرة: «الأمم المتحدة ربما تتوقع منا استقبال هذا الجاسوس القاتل بكل احترام».
وقال علي لاريجاني، مستشار المرشد الإيراني إن «غروسي تصرف بشكل غير سليم في هذا الشأن وخان الأمانة». وأضاف: «غروسي كان السبب في هذه الأزمة، ويجب عدم السماح له بتفقد منشآتنا. وقد اتخذ البرلمان قراراً جيداً جداً بشأن تعليق عمليات التفتيش على منشآتنا».
وأعرب غلام حسين محسني إجئي، رئيس السلطة القضائية في إيران، عن دعمه قانون البرلمان، قائلاً: «من الطبيعي أن يتم تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية».








