«الوطن في حقيبة»... مطالبة فنّية برفع الحظر عن الانتماء

محمد حافظ لـ«الشرق الأوسط»: أتطلّع إلى دور في إعادة بناء الإنسان

ضمَّن الفنان السوري محمد حافظ فنّه لوعة تعذُّر النسيان (موقعه الإلكتروني)
ضمَّن الفنان السوري محمد حافظ فنّه لوعة تعذُّر النسيان (موقعه الإلكتروني)
TT

«الوطن في حقيبة»... مطالبة فنّية برفع الحظر عن الانتماء

ضمَّن الفنان السوري محمد حافظ فنّه لوعة تعذُّر النسيان (موقعه الإلكتروني)
ضمَّن الفنان السوري محمد حافظ فنّه لوعة تعذُّر النسيان (موقعه الإلكتروني)

يتوه الفنان السوري محمد حافظ في إيجاد مرادف إنجليزي لكلمة «الغربة» بما يُعبّر بعمق عما يتعارك في داخله، رغم نحو ربع قرن من المغادرة إلى أميركا. قصد عام 2003 «أرض الأحلام» للدراسة، ثم فرض منعطف 11 سبتمبر (أيلول) التضييق الحائل دون العودة. وَفَد مراهقاً في الـ17 من العمر إلى بلاد هائلة لم تستطع أن تُنسيه أصله. ظلَّ ملوَّعاً بتعذُّر النسيان. سنوات مرَّت وهو سوريٌّ جداً، في عزّ إمكان بزوغ الخيار الآخر؛ كأنْ يتغاضى مثلاً، أو يُشفى بعض الشيء من مرارة الأوطان. فنُّه عزاء لروحه المشتاقة.

تستوقفه الحقيبة لكونها مادة مُستعملة ضمن مجال لا يُحصر (موقع الفنان الإلكتروني)

يُعرَف بالرسم من داخل الحقائب وبالتعبير ضمن حيّزها، فمجموعته «الوطن في حقيبة» تحمل اختزالات كافية لفَهم سياقها وتأويل معانيها. يقول لـ«الشرق الأوسط» إنّ الحنين لغة عالمية، مفرداتُها الأشياء والزوايا والناس وما لا يجده المرء في خياراته البديلة. تستوقفه الحقيبة لكونها مادة مُستعملة ضمن مجال لا يُحصر، ويمكن أن تخصَّ الجميع بلا تمييز، رغم اختلاف دواعي استعمالها. فبعضٌ يهاجر من منطلق رغبة أو طموح، وآخرون تحت ضغط ظرف قاهر؛ لكنَّ الجميع يوضّب حقائبه مُعلناً الوُجهة الجديدة.

نوستالجية النظرة إلى المكان المُتعذِّر، وهو هنا الجغرافيا السورية، تجعل المجموعة مُشبَّعة بسحرها. يعترف المهندس المعماري محمد حافظ بأنّ الغرب منحه أضواء مُنصِفة: «لستُ معروفاً في المنطقة العربية تماماً مثل معرفة الأميركيين بفنّي. أردتُ وسط شراسة الهجوم على العرب والسوريين، وتصاعُد خطاب الكراهية، تسجيل موقف. في أميركا، ثمة استعمال آخر لمفردة (Baggage). لا تعني دائماً الأمتعة، فحين يُقال (Somebody has baggage)، فذلك للإشارة إلى الصدمة والمشاعر الثقيلة. تغدو المفردة انعكاساً للشيء والشعور معاً. تروقني ازدواجية المعنى وأراها محاكاة للتجربة الإنسانية. الحقيبة تحمل المشاعر، وداخلها لا يقتصر على الملابس والحاجات. بإقفالها، يكتمل إسقاط المسكوت عنه في دواخلنا».

يُعرَف محمد حافظ بالرسم من داخل الحقائب وبالتعبير ضمن حيّزها (موقعه الإلكتروني)

صدَّق استحالة العودة إلى دمشق، وتابع ممازحاً أنّ المقابلة لو رُتِّبت قبل التحوّلات السورية الأخيرة، لكانت اختلفت كلياً. مؤلم قوله إنه دفن سوريا في داخله ومعها ذكرياته، كما تُشكّل الحقيبة لأشيائها مكاناً سرّياً. وقد يتطلَّب التصميم أشهراً من الحفر والتلوين، «ولكن لا يهم». الأهم استطاعته المسَّ بالمساحة الداخلية النازفة وتضميدها: «أحاول إعادة تكوين العلاقة مع دمشق على مستوى الذاكرة. جزء من أعمالي يتضمَّن أصواتاً من بلادي البعيدة سجَّلتها في الماضي. كان يكفيني الجلوس طويلاً أمام اللوحة وتلك الأصوات: الموسيقى السورية، رائحة القهوة بطعم الهال، التكبير من الجامع الأموي، ونداء الباعة في سوق الحميدية... لقد شكَّلت طريقة تواصلي مع العالم. شحنتني بصمت. فلسنوات مارستُ الفنّ بالخفاء لغياب مساحة خاصة للتعبير السياسي. كنتُ مهندساً معمارياً، وعليَّ التفرّغ لعملي. في محترفي، حبستُ نفسي وبكيتُ وأنتجتُ لأُخرج الطاقة الضاغطة. اليوم أطالبُ عقلي وقلبي برفع الحظر عن سوريا. إنني في طور إعادة برمجة الذكريات، وهذا مُتعب».

نوستالجية النظرة إلى المكان المُتعذِّر تجعل المجموعة مُشبَّعة بسحرها (موقع الفنان الإلكتروني)

يشاء محمد حافظ التحلّي بدور يتعلّق ببناء الإنسان: «ثمة معماريون يفوقونني مهارةً؛ هم المخوّلون بالحجر. يعنيني البشر، وكيف ننتظم بوصفنا فنانين في المهجر لنقدّم المساعدة. أتطلّع إلى تجارب دول، منها ألمانيا بعد الحرب، تحوّلت اقتصادات كبرى من عمق بحيرات الدم. ماذا ينقصنا لنقتدي؟ ما المطلوب لننهض بالبلد؟».

قد يتطلَّب التصميم أشهراً من الحفر والتلوين (موقع الفنان الإلكتروني)

كان لا يزال في الثلاثين حين صمَّم ناطحة سحاب في أميركا من 60 طابقاً. اتّهمه أصدقاء بالجنون لتخلّيه عن المهنة من أجل الشغف: «لم يتفهّموا حاجتي إلى أن أكون فناناً على الملأ. الفنّ شكَّل طريقي. فضّلته على ممارسة الوظيفة. لطالما عبَّر عن مراحل وتحوّلات مصيرية عاشها بلدي والمنطقة. بديهيٌّ أن يمسّه التغيير الحاصل في سوريا. ذلك يحدُث من خارج تصميمي وإرادتي. الفنّ مرآتي. الحقيبة هذه المرة ستعيد إعمار الإنسان والأرض. ستكون حقيبة عودة. جميعنا سنعود».

الحقيبة تحمل المشاعر وداخلها لا يقتصر على الملابس والحاجات (موقع الفنان الإلكتروني)

يحاول تخيُّل لحظة الرجوع ومسار زراعة الأمل. يقول إنه يمضي ساعات خلال الليل في تصفّح فيديوهات وصور عن سوريا، والحلم باللقاء المُنتظر. المفارقة أنّ شكل هذا اللقاء يتراءى له على هيئة فردية: «أجدني أصلُ إلى الشام وحيداً. أستقلّ سيارة أجرة ولا أُخبر عائلتي وأصدقائي. أريد البلد كلّه لي؛ يعانقني وأعانقه، فأتقاسم المعاناة مع مَن أمضوا 50 عاماً مثلاً في الغربة. أتخيّلني في فندق، وحيداً، لا أسمع ترحيب الأحبّة وصيحة (أبو حميد، متى عدت؟). أريد عودةً من دون تشتُّت. ثم بعد أسبوعين أو 3، أصرخُ بملء الصوت: أنا هنا. أخيراً عانقتُ سوريا».


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يوميات الشرق المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يسعى «معرض جازان للكتاب» خلال الفترة بين 11 و17 فبراير 2025 إلى إبراز الإرث الثقافي الغني للمنطقة.

«الشرق الأوسط» (جيزان)
يوميات الشرق عمل للفنان مصطفى سنوسي (الشرق الأوسط)

حضور تشكيلي سعودي بارز في مهرجان «ضي للشباب العربي» بمصر

بات «مهرجان ضي للشباب العربي» الذي يطلقه «أتيليه العرب للثقافة والفنون» في مصر كل عامين، يشكل تظاهرة ثقافية تحتفي بالمواهب العربية الشابة في الفنون التشكيلية.

نادية عبد الحليم (القاهرة)
يوميات الشرق الطبيعة بريشة الفنانة البرازيلية (متحف لوكسمبورغ)

تارسيلا دو أمارال... الفنانة المتمردة التي رسمت البرازيل

يأتي معرض الرسامة البرازيلية تارسيلا دو أمارال، في متحف دوقية لوكسمبورغ، ليشيع دفئاً لاتينياً جنوبياً يأخذ زواره إلى بقاع تحب الألوان الحارة والإيقاعات البدائية

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق مشهد من معرض «آدم حنين... سنوات باريس» (مكتبة الإسكندرية)

روائع آدم حنين الباريسية ترى النور للمرة الأولى في مصر

تعكس أعماله الفنّية سمات ميَّزت آدم حنين في التصوير والنحت، إذ تكشف غلبة التجريد على لوحاته التصويرية، وسعيه إلى الوصول نحو آفاق روحية بالغة السمو والإنسانية.

حمدي عابدين (القاهرة)
يوميات الشرق الغناء والرقص الشعبي في لوحات الفنان محسن أبو العزم (الشرق الأوسط)

«منمنمات شعبية»... معرض فني يرصد «الروح المصرية المبهجة»

«بائع العرقسوس»، و«طقوس الأفراح»، و«المولد»، و«الغناء الشعبي»... بهذه اللوحات أو اللقطات المأخوذة من الشارع المصري جسّد معرض «منمنمات شعبية» مشاهد حياتية مميزة.

محمد الكفراوي (القاهرة )

لماذا يرفض مصريون إعادة تمثال ديليسبس لمدخل قناة السويس؟

تمثال ديليسبس بمتحف قناة السويس (فيسبوك)
تمثال ديليسبس بمتحف قناة السويس (فيسبوك)
TT

لماذا يرفض مصريون إعادة تمثال ديليسبس لمدخل قناة السويس؟

تمثال ديليسبس بمتحف قناة السويس (فيسبوك)
تمثال ديليسبس بمتحف قناة السويس (فيسبوك)

في الوقت الذي يشهد تصاعداً للجدل حول إعادة تمثال ديليسبس إلى مكانه الأصلي في المدخل الشمالي لقناة السويس، قررت محكمة القضاء الإداري بمصر الثلاثاء تأجيل نظر الطعن على قرار إعادة التمثال لجلسة 21 يناير (كانون الثاني) الحالي، للاطلاع على تقرير المفوضين.

وتباينت الآراء حول إعادة التمثال إلى موقعه، فبينما رأى معارضو الفكرة أن «ديليسبس يعدّ رمزاً للاستعمار، ولا يجوز وضع تمثاله في مدخل القناة»، رأى آخرون أنه «قدّم خدمات لمصر وساهم في إنشاء القناة التي تدر مليارات الدولارات على البلاد حتى الآن».

وكان محافظ بورسعيد قد أعلن أثناء الاحتفال بالعيد القومي للمحافظة، قبل أيام عدة، بأنه طلب من رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، إعادة تمثال ديليسبس إلى مكانه في مدخل القناة بناءً على مطالبات أهالي المحافظة، وأن رئيس الوزراء وعده بدراسة الأمر.

ويعود جدل إعادة التمثال إلى مدخل قناة السويس بمحافظة بورسعيد لعام 2020 حين تم نقل التمثال إلى متحف قناة السويس بمدينة الإسماعيلية (إحدى مدن القناة)، حينها بارك الكثير من الكتاب هذه الخطوة، رافضين وجود تمثال ديليسبس بمدخل قناة السويس، معتبرين أن «المقاول الفرنسي»، بحسب وصف بعضهم، «سارق لفكرة القناة وإحدى أذرع التدخل الأجنبي في شؤون مصر».

قاعدة تمثال ديليسبس ببورسعيد (محافظة بورسعيد)

ويعدّ فرديناند ديليسبس (1805 - 1894) من السياسيين الفرنسيين الذين عاشوا في مصر خلال القرن الـ19، وحصل على امتياز حفر قناة السويس من سعيد باشا حاكم مصر من الأسرة العلوية عام 1854 لمدة 99 عاماً، وتقرب من الخديو إسماعيل، حتى تم افتتاح القناة التي استغرق حفرها نحو 10 أعوام، وتم افتتاحها عام 1869.

وفي عام 1899، أي بعد مرور 5 سنوات على رحيل ديليسبس تقرر نصب تمثال له في مدخل القناة بمحافظة بورسعيد، وهذا التمثال الذي صممه الفنان الفرنسي إمانويل فرميم، مجوف من الداخل ومصنوع من الحديد والبرونز، بارتفاع 7.5 متر، وتم إدراجه عام 2017 ضمن الآثار الإسلامية والقبطية.

ويصل الأمر بالبعض إلى وصف ديليسبس بـ«الخائن الذي سهَّل دخول الإنجليز إلى مصر بعد أن وعد عرابي أن القناة منطقة محايدة ولن يسمح بدخول قوات عسكرية منها»، بحسب ما يؤكد المؤرخ المصري محمد الشافعي.

ويوضح الشافعي (صاحب كتاب «ديليسبس الأسطورة الكاذبة») وأحد قادة الحملة التي ترفض عودة التمثال إلى مكانه، لـ«الشرق الأوسط» أن «ديليسبس استعبد المصريين، وتسبب في مقتل نحو 120 ألف مصري في أعمال السخرة وحفر القناة، كما تسبب في إغراق مصر بالديون في عصري سعيد باشا والخديو إسماعيل، وأنه مدان بالسرقة والنصب على صاحب المشروع الأصلي».

وتعد قناة السويس أحد مصادر الدخل الرئيسية لمصر، وبلغت إيراداتها في العام المالي (2022- 2023) 9.4 مليار دولار، لكنها فقدت ما يقرب من 50 إلى 60 في المائة من دخلها خلال الشهور الماضية بسبب «حرب غزة» وهجمات الحوثيين باليمن على سفن في البحر الأحمر، وقدر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الخسائر بأكثر من 6 مليارات دولار. وفق تصريح له في شهر سبتمبر (أيلول) من العام الماضي.

في المقابل، يقول الكاتب المصري علي سعدة، إن تمثال ديليسبس يمثل أثراً وجزءاً من تاريخ بورسعيد، رافضاً ما وصفه في مقال بجريدة «الدستور» المصرية بـ«المغالطات التاريخية» التي تروّجها جبهة الرفض، كما نشر سعدة خطاباً مفتوحاً موجهاً لمحافظ بورسعيد، كتبه مسؤول سابق بمكتب المحافظ جاء فيه «باسم الأغلبية المطلقة الواعية من أهل بورسعيد نود أن نشكركم على القرار الحكيم والشجاع بعودة تمثال ديليسبس إلى قاعدته».

واجتمع عدد من الرافضين لإعادة التمثال بنقابة الصحافيين المصرية مؤخراً، وأكدوا رفضهم عودته، كما طالبوا فرنسا بإزالة تمثال شامبليون الذي يظهر أمام إحدى الجامعات الفرنسية وهو يضع قدمه على أثر مصري قديم.

«المهندس النمساوي الإيطالي نيجريلي هو صاحب المشروع الأصلي لحفر قناة السويس، وتمت سرقته منه، بينما ديليسبس لم يكن مهندساً، فقد درس لعام واحد في كلية الحقوق وأُلحق بالسلك الدبلوماسي بتزكية من والده وعمه وتم فصله لفشله، وابنته نيجريلي التي حصلت على تعويض بعد إثباتها سرقة مشروع والدها»، وفق الشافعي.

وكانت الجمعية المصرية للدراسات التاريخية قد أصدرت بياناً أكدت فيه أن ديليسبس لا يستحق التكريم بوضع تمثاله في مدخل القناة، موضحة أن ما قام به من مخالفات ومن أعمال لم تكن في صالح مصر.

في حين كتب الدكتور أسامة الغزالي حرب مقالاً يؤكد فيه على موقفه السابق المؤيد لعودة التمثال إلى قاعدته في محافظة بورسعيد، باعتباره استكمالاً لطابع المدينة التاريخي، وممشاها السياحي بمدخل القناة.

وبحسب أستاذ التاريخ بجامعة عين شمس المصرية والمحاضر بأكاديمية ناصر العسكرية العليا، الدكتور جمال شقرة، فقد «تمت صياغة وثيقة من الجمعية حين أثير الموضوع في المرة الأولى تؤكد أن ديليسبس ليس هو صاحب المشروع، لكنه لص سرق المشروع من آل سان سيمون». بحسب تصريحاته.

وفي ختام حديثه، قال شقرة لـ«الشرق الأوسط» إن «ديليسبس خان مصر وخدع أحمد عرابي حين فتح القناة أمام القوات الإنجليزية عام 1882، ونرى بوصفنا مؤرخين أنه لا يستحق أن يوضع له تمثال في مدخل قناة السويس».