للمرة الأولى منذ وصوله إلى قصر الإليزيه عام 2017، يقوم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارة إلى المغرب، تلبية لدعوة من الملك محمد السادس، واضعاً بذلك حدّاً لثلاث سنوات من التوتر بين باريس والرباط.
وزيارة الأيام الثلاثة -التي يصطحب ماكرون خلالها وفداً رسمياً كبيراً- ما كانت لتحصل لولا التغيُّر الجذري في موقف فرنسا من ملف الصحراء، وإلحاح الرباط على التحاق باريس بركب الذين اعترفوا بالسيادة المغربية عليها. وقد حدث هذا التحوُّل في الرسالة الرسمية التي وجهها ماكرون للعاهل المغربي، بمناسبة اعتلائه العرش، التي دفعت الموقف الفرنسي في وجهة جديدة، إذ أكد ماكرون في رسالته أن فرنسا تعدّ أن «حاضر الصحراء الغربية يندرج في إطار السيادة المغربية»، وشدد على «تمسك باريس بخطة الإدارة الذاتية للصحراء»، التي طرحتها الرباط منذ سنوات عدة.
وفي معرض تقديمها للزيارة، قالت مصادر الإليزيه إن الرئيس الفرنسي «سيُعيد تأكيد مواقفه الأخيرة» لملك المغرب، «إذ إنه من المهم جدّاً بالنسبة لأصدقائنا المغاربة أن نعيد لنؤكد اهتمامنا بهذه المسألة الحيوية لأمنهم الوطني».
ووفق المصادر نفسها، فإن باريس «لن تكتفي بالإعراب عن مواقف مبدئية، بل ستسعى لقرن القول بالفعل لجهة المساهمة في تطوير الصحراء الغربية»؛ حيث «قام المغرب بضخ استثمارات كبيرة لصالح سكانها». واستدركت هذه المصادر بالقول إن ما ستقوم به باريس «سيجري في إطار احترام مندرجات القانون الدولي، التي تقول إن المبادرات تعني أن تكون لصالح السكان المعنيين، وبموافقتهم».
بيد أن باريس لا يبدو أنها قررت الذهاب أبعد من ذلك، أقله في الوقت الحاضر، لجهة افتتاح قنصلية لها في مدينة الداخلة الصحراوية. وتحاشت المصادر الرئاسية الرد بردٍّ واضح على هذا التساؤل، كما أنها لم تأتِ بكلمة واحدة على ذكر الجزائر، التي أغاظها التغيُّر في مواقف باريس، وردّت على ذلك باستدعاء سفيرها المعتمد في فرنسا، وصدرت عن مسؤوليها تصريحات نارية بهذا الخصوص، ما يُذكِّر بالقاعدة الذهبية التي تقول إن تقارب باريس مع إحدى العاصمتين (الرباط أو الجزائر) يعني قيام أزمة مع العاصمة الأخرى.
باريس والرباط لعصر ذهبي جديد
تطمح باريس من زيارة الأيام الثلاثة (28، 29 و30 أكتوبر «تشرين الأول» الحالي)، لإطلاق خريطة طريق طموح وشاملة، تكون قادرة على مواجهة التحديات لثلاثة عقود. وقبل الوصول إلى تحديد موعد لهذه الزيارة، التي تأجلت عدة مرات، تكثَّفت الزيارات الوزارية المتبادلة والمشاورات لتوفير مضمون عملي للطموحات المشتركة الكبرى، ورؤية موحدة حول كيفية مواجهة التحديات المقبلة. ويتمثل التحدي الأول الذي يندرج في إطار مبدأ «التنمية المتوازية» بين المغرب وفرنسا في التعاون في قطاع التعليم والبحث العلمي والثقافة والفرنكوفونية؛ إذ إن المستهدف فيه هو الأجيال القادمة من الجانبين.
ويتمثل التحدي الثاني، الأكثر طموحاً، وفق الإليزيه، في الحاجة إلى العمل المشترك بشأن «الاستجابة للتحولات السريعة على المسرح العالمي»، والتعامل مع «الحقائق الجديدة المغربية في ملف التنمية، وأيضاً الحقائق الإقليمية والدولية».
والترجمة الفعلية للغة الدبلوماسية تُفيد بأن الطرفين سيعملان معاً في ملفات الاقتصاد والطاقة والصحة والبيئة. وتعرض باريس خدماتها لـ«مواكبة» المغرب على تحقيق أهدافه في ملف الأمن المائي والزراعي والغذائي، وتطوير البنى التحتية. كما تريد العمل مع المغرب في ملف الذكاء الاصطناعي، والمحافظة على المحيطات والتنوع البيئي ومحاربة التصحر، وكلها موضوعات لا تهم المغرب وحده، بل أيضاً القارة الأفريقية.
وترى باريس أن المغرب يُشكل «حلقة وصل» بين أوروبا وأفريقيا، ولذلك تُريد العمل معه على هذا الصعيد؛ حيث ترى «تكاملاً» بين مبادرات البلدين في أفريقيا، وتذكر على سبيل المثال بـ«مبادرات المغرب» التي أطلقتها الرباط، وبالحاجة للعمل معاً في موضوع «الحائط الأخضر» لوقف زحف الصحراء. أما في الملفات السياسية، فإن ما تريده باريس، وفق الإليزيه، هو تنسيق المواقف والمبادرات في المحافل الدولية، وفي سياق الأهداف المشتركة.
كما تعدّ باريس أن المغرب يوفر فرصاً رئيسية للاقتصاد والشركات الفرنسية. وفي هذا السياق، سيتم خلال اليوم الأول من الزيارة -بحضور الرئيس ماكرون والملك محمد السادس- التوقيع على اتفاقيات في قطاعات الطاقة والمياه والتعليم والتأهيل والأمن الداخلي.
وتُشدد المصادر الفرنسية على قوة العلاقات الاقتصادية بين البلدين؛ حيث إن فرنسا تعد المستثمر الأول في الاقتصاد المغربي، كما أن ما لا يقل عن ألف شركة فرنسية موجودة بالمغرب، وتوفر فرص عمل لـ150 ألف مغربي، في حين تضاعفت المبادلات التجارية بين الطرفين في السنوات العشر الأخيرة. وفي هذا السياق تنوه المصادر الفرنسية بالفرص الاقتصادية الجديدة التي ستوفرها العلاقات والاتفاقيات الموقعة.
كذلك تريد باريس أن تكون لشركاتها أدوار في ملف الطاقة المتجددة والربط الكهربائي بين المغرب، ومن ورائه أفريقيا والقارة الأوروبية.
وتجدر الإشارة إلى أن ماكرون سيختتم مؤتمراً اقتصادياً مشتركاً «فرنسياً ــ مغربياً» يلتئم في الرباط، بمناسبة الزيارة، وسيفضي بدوره إلى توقيع سلسلة جديدة من العقود.
ملف الهجرة والأمن
يبدو واضحاً مما سبق أن هناك رغبة فرنسية في التركيز على الجوانب الاقتصادية، إلا أن مسألتي السياسة والأمن لن تكون غائبتين.
ويرافق وزراء الخارجية والدفاع والداخلية الرئيس الفرنسي في زيارته للمغرب، وستكون لهم لقاءات مع نظرائهم من الطرف المغربي. وليس سرّاً أن المغرب يرغب -وهذه إحدى القضايا التي ستتم إثارتها- في الحصول على سرب من طائرات «ميراج 2000-9» فرنسية الصنع، تمتلكها راهناً الإمارات، وهي تريد التخلي عنها لصالح المغرب؛ ولذا فهي تحتاج إلى موافقة فرنسية. بيد أن الإليزيه امتنع عن الإفصاح عما سيتم في هذا الإطار، إلا أنه أكد أن «موضوعي الأمن والدفاع يشكلان جانباً من الفصل الجديد»، الذي يطمح الطرفان لكتابته معاً. مضيفاً أن الزيارة «ستوفر الفرصة للنظر في التحديات الجديدة التي نواجهها، وفي ملف الإمكانات الدفاعية» المطلوبة.
ويشكل ملف الهجرات تقليدياً أحد أسباب التوتر بين باريس والرباط، وكان أساس شبه القطيعة بينهما ما بين عامي 2021 و2023، عندما قررت باريس خفض عدد التأشيرات الممنوحة للمغاربة للضغط عليها، بسبب رفض الرباط التعاون في موضوع استعادة المغرب لمواطنيه الموجودين على التراب الفرنسي بصفة غير قانونية.
وقال الإليزيه إن الملف سيطرح بين وزيري داخلية البلدين في شقيه: الهجرات والتنقل بين البلدين. وجاء قتل طالبة فرنسية بعد اغتصابها على يد شاب مغربي، سبق أن حكم عليه بالسجن بتهمة اغتصاب سابقة، وطلب القضاء طرده من البلاد، بيد أن عملية الطرد لم تتم لأسباب إدارية، لتُثير مجدداً جدلاً حول موضوع الهجرات، وترحيل المهاجرين غير القانونيين.
ووفق باريس، فإن الملف سيناقش من زاوية بناء أجندة مشتركة بين البلدين، تتناول تسهيلات التنقل القانونية من جهة، والهجرات غير الشرعية، واستعادة المغرب لمواطنيه من جهة أخرى. وركزت باريس على أهمية اللجوء إلى الحوار بين الجانبين لإيجاد حلول لهذه القضايا.