اكتشاف قاموس للهجة البدو في نجد بجامعة زيوريخ

«الشرق الأوسط» تنشر رسالة نادرة توثق لهجات محكيّة بالسعودية قبل 100 عام

غلاف الكتاب... صورة لافتة للراوي الرئيسي لمعلومات الكتاب (موهق الغنّامي العتيبي)
غلاف الكتاب... صورة لافتة للراوي الرئيسي لمعلومات الكتاب (موهق الغنّامي العتيبي)
TT

اكتشاف قاموس للهجة البدو في نجد بجامعة زيوريخ

غلاف الكتاب... صورة لافتة للراوي الرئيسي لمعلومات الكتاب (موهق الغنّامي العتيبي)
غلاف الكتاب... صورة لافتة للراوي الرئيسي لمعلومات الكتاب (موهق الغنّامي العتيبي)

قد لا يكون اسم الباحث الهولندي الدكتور مارسيل كوربرشوك الذي عُرف باهتمامه بثقافة الصحراء العربية، وتخصص في دراسة الشعر النبطي، غريباً على القارئ العربي عموماً، وعلى القارئ الخليجي خصوصاً، بحكم حضوره في وسائل الإعلام الخليجية، خاصة عندما كان يعمل أستاذاً في جامعة نيويورك في أبوظبي.

الباحث الهولندي د. مارسيل كوربرشوك مع الباحث السعودي قاسم الرويس

ولا ننسَ عمله العظيم «FROM CENTRAL ARABIA ORAL POETRY AND NARRATIVES » الذي أنجزه أثناء عمله في سفارة بلاده لدى السعودية، ونُشر في خمسة مجلدات خلال الفترة 1994-2005م، ثم إنه أصدر بعد ذلك كتاباً عن الشاعر حميدان الشويعر، وأتبعه بكتاب عن الشاعر عبد الله بن سبيّل، وأخيراً كتابه الذي صدر مؤخراً «شعراء النفود»، إضافة إلى أعمال أخرى.

تربطني بهذا الباحث الجاد صداقة وثّقها الاهتمام الثقافي المشترك، وكلي إعجاب بجَلَده ودأبه على تحمّل المشاق والسفر إلى أي مكان في سبيل شغفه بدراسة ثقافة صحراء الجزيرة العربية وآدابها.

قاموس لهجات البدو في نجد

في يوليو (تموز) 2023م أرسل لي هذا الصديق رسالة يزفّ لي فيها خبراً جميلاً حول اكتشافه قاموساً ضخماً مكتوباً بخط اليد عن لهجة بدو قبيلتَي «عتيبة» و«قحطان» القديمة للمستشرق السويسري يوهان جاكوب هيس Johann Jakob Hess (1866ـ1949م) الذي أقام في البلاد العربية عدة سنين عُني خلالها بثقافة ولهجات البدو في داخل الجزيرة العربية، وألّف في ذلك كتاباً نشره في عام 1938م تحت عنوان: «Von den Beduinen des Innern Arabiens: Erzählungen, Lieder, Sitten und Gebräuche».

وتظهر على غلاف الكتاب صورة لافتة للراوي الرئيسي لمعلومات الكتاب (موهق الغنّامي العتيبي) بشعره المدهون وضفائره المجدولة.

وقد تُرجم الكتاب في 2010م، ونشرته «دار الورّاق» في لندن تحت عنوان: «بدو وسط الجزيرة: عادات... تقاليد... حكايات وأغانٍ». هذا الكتاب كان الدليل الرئيسي لأعمال كوربرشوك الميدانية في المملكة العربية السعودية.

كما أن لهيس (Hess) جهوداً أخرى؛ فقد أعدّ بحثاً في «لهجة نجد الحالية» عُرض في مؤتمر المستشرقين الذي عُقد في فيينا عام 1912م، كما نشر مقالتين عن اللهجة الدوسرية حيث سُجّلت مادتها في الكويت، وله أيضاً بحث استقصائي حول رحلة داوتي إلى جزيرة العرب، كما أن له كتاباً قدّمه إلى أكاديمية «هايد لبرغ» للعلوم، وطُبع سنة 1912م تحت عنوان: «أسماء بدو من وسط الجزيرة العربية»، وهو عبارة عن معجم صغير لأسماء البدو، بدأت فكرته عندما جمع المؤلف في صيف 1909م نحو ثلاثمائة اسم من حضر نجد، حسب تعبيره، الذين كان يلتقيهم، ثم عمل على تدقيق هذه الأسماء مع بدو نجد وغرب الجزيرة، ثم أضاف إليها أسماء أخرى. وقد تُرجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية في السنوات الأخيرة، ونشرته «دار الورّاق» بلندن.

اكتشاف جامعة زيوريخ

وفي حين يشير من ترجموا لهيس (Hess) إلى جمعه مواد غزيرة لوضع قاموس للهجات البدو في داخل الجزيرة العربية، فقد أكدوا أنه لم يطبع هذا القاموس إذا كان قد حرّره بشكل نهائي، إلا أنه لا أحد يعلم تفاصيل مادة هذا القاموس وحجمه أو مكان حفظه، حتى اكتشف هذا الكنز الثمين صديقنا مارسيل كوربرشوك في أقبية معهد «الشرق وآسيا» (the Orient und Asien Institut) في جامعة زيوريخ.

عقدت جامعة زيوريخ بعد هذا الاكتشاف مؤتمراً حول هيس وأعماله في سبتمبر (أيلول) 2023م ألقى فيه كوربرشوك الكلمة الافتتاحية عن اكتشافه، ثم إني التقيت به في مؤتمر «المروية العربية» الثاني الذي نظمه مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الإسلامية في الرياض في 5-6 مايو (أيار) الماضي، فشرح لي قصة اكتشاف هذا الأرشيف الضخم وأهميته كأقدم شاهد على لهجات البدو في نجد في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

فذكر أنه في اليوم الأخير من عام 2019م أرسل رسالة إلى أمين مكتبة معهد «أورينت وآسيا» في جامعة زيوريخ، الدكتور يوهانس توهمان، يسأله فيها عن ملاحظات مكتوبة بخط اليد تركها يوهان جاكوب هيس. فتلقى رده خلال ساعة مخبراً بوجود ملفات وبطاقات كثيرة في أرشيف المعهد، لم يقم أحد حتى ذلك التاريخ بعمل جاد عليها.

كان هيس من الباحثين الدقيقين في التدوين الصوتي للغة العربية البدوية؛ ولذا تتميز أعماله بالجودة والإتقان الذي قلّ نظيره في ذلك الوقت المبكر الذي اعتمد فيه على السماع المباشر دون الاستعانة بجهاز تسجيل.

لقد وجد مارسيل كوربرشوك في أقبية المعهد أكثر من ثلاثة عشر ألف بطاقة تحتوي على معلومات لغوية وغيرها: مكتوبة باللغة الألمانية، بخط يد أنيق بقلم رصاص على بطاقات صنعها هيس بنفسه من ورق رقيق جداً، منظمة بشكل أو بآخر أبجدياً، وهي بالفعل مشروع غير مكتمل لقاموس اللهجات العربية البدوية. اشتمل جزء من البطاقات على مادة كتابه «بدو وسط الجزيرة»، ولكن هناك الآلاف من البطاقات الأخرى المثقلة بالمعلومات اللغوية والثقافية البدوية الأصلية، إنها كنز تاريخي مجهول لم يهتم به أحد منذ وفاة هيس في سنة 1949م.

جاء هيس في نحو عام 1900م إلى المنطقة العربية في وقت كانت فيه الثقافة الشفوية هي الوعاء الذي حفظ السمات القديمة للهجات والعادات والتقاليد والحكايات والأغاني، مثل «الماموث» المحفوظ في صقيع سيبيريا - على حد تعبير كوربرشوك - فعمل هيس على توثيق هذه الثقافة الشفوية قبل اندثارها؛ ولذا فإن هذا الإرث الذي تركه هيس فريد ولا يُقدر بثمن، خاصة أن الثقافة الشفوية في قلب الجزيرة في ذلك الوقت غير مكتشفة إلى حد كبير، وهو ما كان يمثل فراغاً علمياً وقصوراً معرفياً.

من موهق العتيبي إلى العمّ محمّد سلّمه الله ودام بقاه.

سلّم لي على عمرك، وعلى جارالله، وعلى عبدالله الموسى إن وجدته، وناصر السعود، وعلى دخيل الجِدَاع، وعلى كلّ الجماعة.

أنا في زوريخ أكبر بلد من سوَيسرا مريّح ومتعافي، ديرةٍ على أهلها طيّبة وعلى الغريب شينة: مطر وبرد واليا رحت أبا أسيّر يتليّمون عليّ الناس. أنا منحجْرٍ من البيت إلى الجنَينة.

يوم سافرنا جات مسافرتنا زَينة. سفرنا على أكبر وابور اللي في البحر المتوسّط. بعد ثلاثة أيام من إسكندرية حصّلنا لمينا تَرْيَستا من بلاد نِمسا. ومنها سافرنا غرب إلى قريةٍ اسمها البندقية، يقولون أصل البنادق طالعةٍ منها، وهي وسط بحر تحوّل من السفينة في فم البيت، وأفكروني كيف بنوها، والبندقية من إيطاليا.

ومنها غيّرنا وابور سِكّة في بلد اسمها ميلانو. ثم ركبنا وابور سِكّه، ثم عطى بنا مع وسط الجبال عليها الثلج. خشّينا في وسط الجبال المشَقّقة يمشي نصّ ساعة والبابور من تحت الجبل. وفِتنا ثلاثة بحَيرات حِلوة، وطبَّينا بلاد الخواجة.

الخواجة والسِتّ يسلّمون عليك سلامٍ كثير مكيّفين.

الفقع اللي عطيته الخواجة نطبخ منه، لقيناه أحسن أكل. حنا ناخذ خمسين يوم ونتوجّه لمصر إن شاء الله. والخواجة متوصٍّ بي مع البَرّ والبحر. تأريخه ثمانية من فطر أوّل

رسالة موهق العتيبي

كان المصدر الرئيسي لهيس هو موهق الغنّامي الذي ظل مقيماً في مصر، وقد دوّن قصة حياته في كتابه «Von den Beduinen» كما رواها له. كان موهق أيضاً شاعراً جيداً، وكان متمكناً من لهجات البدو وتعبيراتهم، ولديه إلمام بالعادات والتقاليد، والقصص والأساطير، وطبيعة الصحراء وتضاريسها، وأعراف البدو وأخلاقهم.

ويرى كوربرشوك أن عمل هيس تفوّق على ما قام به السويسريان ألبرت سوسين وجون لويس بوركهارت، وغيرهما من الرحّالة والمستشرقين؛ لأن نصوصه كانت أول نصوص للغة العربية البدوية في الجزيرة نفسها استناداً إلى مصادر شفوية، ولأن هيس استخدم منهجاً دقيقاً في ترجمته للنصوص؛ فالأبجدية العربية ليست ملائمة كوسيلة لتمثيل المتغيرات المنطوقة. لهذا السبب، يستخدم اللغويون الترجمة النصية بالأبجدية اللاتينية، مع إضافة بعض الرموز الخاصة. فكانت جودة تدويناته الصوتية لا تضاهَى في زمنه، ولمدة طويلة بعد ذلك.

ويشير كوربرشوك إلى أن هيس سجّل بعض الملاحظات على بطاقات المعلومات كمتخصص في علم المصريات، في حين كانت ملاحظاته حول اللهجة البدوية مليئة بالإشارات إلى العبرية، والأكادية، والأرامية، والآشورية، والبابلية، والتركية، والفارسية، والسنسكريتية، حتى الصينية، ناهيك عن اليونانية، واللاتينية، واللغات الأوروبية الحديثة. وبدا أنه مطلع على جميع الأعمال الأكاديمية والرحلات المتعلقة بالجزيرة العربية حتى نهاية الثلاثينات. حيثما لاحظ أخطاء أو أخطاء مطبعية في أعمال الآخرين، قام بتصحيحها إما في ملاحظاته المنشورة أو في بطاقاته. كان يعيش البحث العلمي كمؤسسة جماعية.

يضيف هيس في بطاقاته ملاحظة إذا كانت التعبيرات تستخدم في الشعر بدلاً من الكلام العام، وغالباً ما يتم تحديد مصادر غير موهق، وينسب الكلمات إلى قبائل محددة، وينبّه إذا كانت الكلمات مستخدمة من قبل الحاضرة. ويستخدم مجموعة من الاختصارات للإشارة إلى الباحثين الأوروبيين وأعمالهم في العربية الكلاسيكية. وفي أحيان كثيرة كان هيس يستعين بالرسومات لتوضيح الأوصاف. لقد أظهرت بعض الأوراق أن هيس كان قريباً من تحويل مجموعته إلى قاموس حقيقي، ولكن لا نعلم ما هي الأسباب التي جعلت هيس لا يكمل هذا المشروع الرائع، أو حتى يكتب خطته لتنفيذه النهائي. ولعلنا نتساءل بعد ذلك عما يمكن فعله لإنقاذ هذا القاموس وإخراجه من غياهب النسيان بعد مرور نحو مائة وعشرين عاماً على كتابته ليضيف مزيداً من الوعي والمعرفة حول ثقافتنا وتاريخنا، في ظل ما قام به كوربرشوك من جهد مشكور في رقمنة بطاقات هيس وترتيبها بشكل أبجدي تقريبي. ومن الجميل أن تهتم الجهات الثقافية العلمية في السعودية بهذا القاموس بالتعاون مع جامعة زيوريخ.

رسالة موهق الغنّامي

رسالة نادرة

 

وقبل أسابيع زوّدني الدكتور مارسيل كوربرشوك بنموذج يؤكد أهمية أرشيف هيس في جامعة زيوريخ الذي تحدثنا عنه، وهي رسالة نادرة ظريفة توثق رحلة مجهولة قام بها موهق الغنّامي من مصر إلى سويسرا لزيارة هيس الذي كان يعمل أستاذاً في جامعة زيوريخ، وهي رسالة وجّهها بعد وصوله إلى التاجر محمد العلي الذي كان يعمل لديه، وفيها يحكي بلهجته تفاصيل رحلته بالباخرة من الإسكندرية، ثم القطار حتى وصوله إلى سويسرا، مروراً بالنمسا وإيطاليا في ضيافة هيس. وعلى الرغم من أن موهق قد أرّخ رسالته باليوم والشهر «تأريخه ثمانية من فطر أوّل»؛ أي الثامن من شوّال، فإن السنة مجهولة، ويترجّح أن رحلته كانت بين سنة 1331هـ/1913م وسنة 1336هـ/1918م. وهذا نَص الخطاب كما فرّغه مارسيل كوربرشوك من النص المكتوب بالأحرف اللاتينية كتابةً صوتية.


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية
TT

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام، ولفت الانتباه؛ لأن رواية المانجا «أنستان» أو «الغريزة» لصاحبها المؤثر أنس بن عزوز، الملقب بـ«إنوكس تاغ» باعت أكثر من 82 ألف نسخة خلال 4 أيام. وهو إنجاز كبير؛ لأن القصّة الموجهة إلى جمهور من القرّاء الشباب قد خطفت المرتبة الأولى في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً من «الحوريات»، الرواية الفائزة بجائزة «الغونكور» لهذه السنة.

ولمن يستغرب هذا الرواج أو اهتمام دور النشر بالكُتاب المبتدئين من صنّاع المحتوى، فإن الظاهرة ليست بالجديدة؛ حيث إن كثيراً من المكتبات والمواقع أصبحت تخصّص رفوفاً كاملة لهذه النوعية من الكتب، كسلسلة «#فولوي مي» التابعة لدار «أشيت»، والتي تضم أعمالاً للمؤثرين تتوزع بين السّير الذاتية والقصص المصوّرة والتنمية البشرية والأسفار، وحتى الطبخ.

في فرنسا، أول تجربة من هذا القبيل كانت عام 2015، بكتاب «إنجوي ماري»، وهو السيرة الذاتية للمؤثرة ماري لوبيز المعروفة بـ«إنجوي فنيكس» (6 ملايين متابع على إنستغرام). وإن كان البعض لا يستوعب أن تكتب فتاة في سن العشرين سيرتها الذاتية، فقد يستغرب أيضاً النجاح التجاري الكبير الذي حصل عليه هذا الكتاب؛ حيث باع أكثر من 250 ألف نسخة، رغم الهجوم الشديد على الأسلوب الكتابي الرديء، حتى لقَّبتها مجلة «لي زنكوريبتبل» الثقافية متهكمة بـ«غوستاف فلوبير الجديد». شدّة النقد لم تمنع زملاءها في المهنة من خوض التجربة نفسها بنجاح؛ المؤثرة ناتو (5 ملايين متابع على يوتيوب) نشرت مع مؤسسة «روبرت لافون» العريقة رواية «أيقونة»، قدمت فيها صورة ساخرة عن عالم المجلات النسوية، وباعت أكثر من 225 ألف نسخة. وتُعدُّ دار نشر «روبرت لافون» بالذات الأكثر تعاوناً مع صناع المحتوى؛ حيث نشرت لكثير منهم.

في هذا السياق، الأكثر نجاحاً حتى اليوم كان كتاب التنمية البشرية «الأكثر دائماً+» لصاحبته لينا محفوف، الملقبة بـ«لينا ستواسيون» (5 ملايين متابع على إنستغرام) وباع أكثر من 400 ألف نسخة.

مجلة «لي زيكو» الفرنسية، تحدثت في موضوع بعنوان «صناع المحتوى؛ الدجاجة التي تبيض ذهباً لدور نشر» عن ظاهرة «عالمية» من خلال تطرقها للتجارب الناجحة لمؤثرين من أوروبا وأميركا، حملوا محتواهم إلى قطاع النشر، فكُلّلت أعمالهم بالنجاح في معظم الحالات. المجلة استشهدت بالتجربة الأولى التي فتحت الطريق في بريطانيا، وكانت بين دار نشر «بانغوين بوكس» والمؤثرة زوي سوغ (9 ملايين متابع على إنستغرام) والتي أثمرت عن روايتها الناجحة «فتاة على الإنترنت» أو «غور أون لاين»؛ حيث شهدت أقوى انطلاقة في المكتبات البريطانية بـ80 ألف نسخة في ظرف أسبوع، متفوقة على سلسلة «هاري بوتر» و«دافنشي كود».

المجلة نقلت بهذه المناسبة حكاية طريفة، مفادها أن توم ويلدون، مدير دار النشر، كان قد تعاقد مع المؤثرة بنصيحة من ابنته البالغة من العمر 12 سنة، والتي كانت متابعة وفيّة لها.

ومما لا شك فيه هو أن اهتمام دور النشر بأعمال المؤثرين يبقى مدفوعاً بالأرباح المادية المتوقعة، وهو ما أكده موضوع بمجلة «لوبوان» بعنوان «المؤثرون آلة لصنع النجاحات التجارية في قطاع النشر». كشف الموضوع عن أن تحويل المحتوى السمعي البصري لصناع المحتوى إلى الكتابي، أصبح بمثابة الورقة الرابحة للناشرين، أولاً لأنه يوفر عليهم عناء الترويج الذي تتكفل به مجتمعات المشتركين والمتابعين، وكل وسائل التواصل التابعة للمؤثرين، والتي تقوم بالعمل بدل الناشر، وهو ما قد يقلّل من خطر الفشل؛ بل قد يضمن الرواج الشعبي للعمل. ثم إنها الورقة التي قد تسمح لهم في الوقت نفسه بالوصول إلى فئات عمرية لم تكن في متناولهم من قبل: فجمهور المراهقين -كما يشرح ستيفان كارير، مدير دار نشر «آن كاريير» في مجلة «ليفر إيبدو»: «لم يكن يوماً أقرب إلى القراءة مما هو عليه اليوم. لقد نشرنا في السابق سِيَراً ذاتية لشخصيات من كل الفضاءات، الفرق هذه المرة هو أن المؤثرين صنعوا شهرتهم بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ولهم جمهور جاهز ونشيط، وإذا كانت هذه الشخصيات سبباً في تقريب الشباب إلى القراءة، فلمَ لا نشجعهم؟».

شريبر: الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته

هذه المعطيات الجديدة جعلت الأوضاع تنقلب رأس على عقب، فبينما يسعى الكتاب المبتدئون إلى طرق كل الأبواب أملاً في العثور على ناشر، تأتي دور نشر بنفسها إلى صناع المحتوى، باسطة أمامهم السّجاد الأحمر.

وإن كان اهتمام دور النشر بصنّاع المحتوى لاعتبارات مادية مفهوماً -بما أنها مؤسسات يجب أن تضمن استمراريتها في قطاع النشر- فإن مسألة المصداقية الأدبية تبقى مطروحة بشدّة.

بيار سوفران شريبر، مدير مؤسسة «ليامون» التي أصدرت مذكرات المؤثرة الفرنسية جسيكا تيفنو (6 ملايين متابع على إنستغرام) بجزأيها الأول والثاني، رفض الإفصاح عن كم مبيعات الكتاب، مكتفياً بوصفه بالكبير والكبير جداً؛ لكنه اعترف في الوقت نفسه بلهجة ساخرة بأن الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته؛ لكنها لم تدَّعِ يوماً أنها تكتب بأسلوب راقٍ، وكل ما كانت تريده هو نقل تجاربها الشخصية إلى الجمهور ليأخذ منها العبَر.

الناقد الأدبي والصحافي فريديك بيغ بيدر، كان أكثر قسوة في انتقاده لكتاب المؤثرة لينا ستواسيون، في عمود بصحيفة «الفيغارو» تحت عنوان: «السيرة الذاتية لمجهولة معروفة»؛ حيث وصف العمل بـ«المقرف» و«الديماغوجية»، مضيفاً: «بين الأنا والفراغ اختارت لينا ستواسيون الخيار الثاني». كما وصف الكاتبة الشابة بـ«بالجاهلة التي تعترف بجهلها»، منهياً العمود بالعبارة التالية: «147 صفحة ليس فيها سوى الفراغ، خسرتُ 19 يورو في لا شيء».

أما الناشر بيار سوفران شريبر، فقد قال في مداخلة لصحيفة «لوبوان»: «اتهمونا بنشر ثقافة الرداءة؛ لكن هذه النوعية من الكتب هي هنا لتلتقي بقرائها. إنهما عالمان بعيدان استطعنا تقريبهما بشيء سحري اسمه الكتاب. فلا داعي للازدراء».