ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

وسط تضارب مصالح «الإليزيه» والكتل... وتحديات الاقتصاد

يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي
يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي
TT

ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي
يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي

بعد 25 سنة أمضاها ميشال بارنييه في بروكسل (1999 – 2021) مفوضاً أوروبياً متنقلاً في مناصب عديدة، منها مسؤول عن السوق الأوروبية الداخلية ونائب لرئيس المفوضية، ثم مفاوض عن الاتحاد الأوروبي مع بريطانيا إبان عملية «البريكست» (الخروج من الاتحاد) البالغة التعقيد التي طالت 6 سنوات، كان حلم بارنييه مزدوجاً: أن يتوّج مسيرته الأوروبية بأن ينتخب رئيساً للمفوضية، حيث يحل محل الألمانية أورسولا فون دير لاين، التي فازت بولاية ثانية العام الحالي، أو أن ينتخب رئيساً للجمهورية الفرنسية. غير أن حلمه المزدوج خاب مرتين. في المرة الأولى، قال لـ«الشرق الأوسط»، خلال محادثة جانبية بمناسبة اجتماعية حصلت في قصر الإليزيه، إنه «لا يتمتع بدعم من السلطات الفرنسية»، مشيراً بذلك إلى الرئيس إيمانويل ماكرون. وحلّت الخيبة الثانية عام 2021 عندما كان بارنييه يسعى للترشح عن اليمين الجمهوري الفرنسي التقليدي لرئاسة الجمهورية. لكن أعضاء الحزب فضّلوا عليه فاليري بيكريس، رئيسة منطقة باريس (إيل دو فرانس)، التي خرجت من الدورة الأولى بحصولها على 4.78 % فقط من أصوات الناخبين، وهي أسوأ نتيجة حصل عليها مرشح يميني منذ إطلاق الجنرال شارل ديغول «الجمهورية الخامسة» عام 1958.

بعد خيبتي رئاسة المفوضية الأوروبية ورئاسة الجمهورية الفرنسية، ومسيرة سياسي تربو على 50 سنة، وجد ميشال بارنييه (73 سنة) رئيس الحكومة الفرنسية الجديد نفسه سياسياً متقاعداً.

وحقاً، لم يكن الرجل يتوقع أن يُستدعى لترؤس الحكومة بعد الانتخابات البرلمانية التي شهدت تصدّر «الجبهة الشعبية الجديدة» التي تضم أحزاب اليسار و«الخضر»، وحصول اليمين المتطرف ممثلاً بحزب «التجمع الوطني» الذي تتزعمه مارين لوبن، على مجموعة نيابية كبرى، وخصوصاً تراجع معسكر الرئيس إيمانويل ماكرون.

الديغولي القديم

خلال الأيام الأخيرة التي أعقبت تعيينه في مهمته الجديدة، حلا لبارنييه أن يُذكّر بانطلاق التزامه السياسي عندما كان يافعاً - في سن الرابعة عشرة - متأثراً بدعوات الجنرال شارل ديغول، بطل فرنسا الحرة، وفكره وسياسته.

كذلك، يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين، لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب، بل اليمين الاجتماعي. ويؤكد تأثره بوالدته دونيز دوران، حيث حرص في أول تصريحاته، بعد تسميته، على التذكير بالتزامها السياسي اليساري، وحدبها الاجتماعي (مساعدة الضعفاء) وأنها لقّنته احترام الآخر والحوار والتسامح.

لقد كان لافتاً خلال عملية التسلم والتسليم، أن بارنييه ردّ على رئيس الوزراء المودّع غبريال أتال، الذي ألمح الى أنه «أصغر» رئيس للحكومة عرفته فرنسا (35 سنة)، بأن هذه الصفة «لا تدوم طويلاً». وذكّره بأنه شخصياً كان أصغر نائب دخل الندوة البرلمانية، وهو في سن الـ27 سنة.

والمفارقة هنا أن ماكرون عيّن في ولايته الثانية، التي بدأت ربيع عام 2022، أصغر رئيس حكومة (أتال)... والآن أيضاً أكبرهم سناً بشخص بارنييه. ثم إن الأخير كان تقلّد مناصب محلية، عندما كان على المقاعد الجامعية. وبعد تعيينه، ركزت الوسائل الإعلامية الفرنسية والأجنبية على مُراكمته خبراته السياسية وتمرّسه في المفاوضات المعقّدة، التي قيّض له أن يخوضها عندما شغل عدة مناصب وزارية في عهدي الرئيسين اليمينيين جاك شيراك (1995 ــ 2007) ونيكولا ساركوزي (2007 ــ 2012). وكان أبرزها اثنان: وزارة الخارجية، ولاحقاً وزارة الزراعة.

بارنييه... الدرّة النادرة

ما كان لميشال بارنييه أن يغدو رئيساً للحكومة لو جاءت نتائج الانتخابات الأخيرة مختلفة. فخلال السنوات السبع التي أمضاها ماكرون في قصر الإليزيه، عيّن 4 رؤساء حكومات، خامسهم بارنييه، إذ سبقه إدوار فيليب وجان كاستيكس وإليزابيت بورن وغبريال أتال، وكلهم كانوا منتمين إلى تياره السياسي، مع أن الأخيرين ما كانا متمتعين بالأكثرية المطلقة في البرلمان.

أما في حالة بارنييه، فإن الأمور جاءت مختلفة تماماً بسبب تشكّل 3 مجموعات نيابية. هي: «الجبهة الشعبية الجديدة» اليسارية ومجموعة الوسط الداعمة لماكرون و«التجمع الوطني» اليميني المتطرف. والحال أن أياً منها يرفض التعاون مع الآخرين.

رهان ماكرون الفاشل

رهان الرئيس الفرنسي كان على تفكيك تحالف اليسار عبر سحب الحزب الاشتراكي منه وتشكيل «جبهة جمهورية» تمتد من اليسار الاشتراكي (المعتدل) وصولاً إلى اليمين التقليدي (المعتدل)، وتكون كتلته المكوّنة من 166 نائباً بمثابة بيضة القبان، إلا أن هذا الرهان فشل.

وبعدما استبعد ماكرون نهائياً لوسي كاستيه، مرشحة اليسار و«الخضر»، بحجة أن أي حكومة ترأسها ستسقط في البرلمان لدى أول اختبار، بينما المطلوب «المحافظة على الاستقرار المؤسساتي»، جرّب مرشحاً اشتراكياً هو برنار كازنوف، وآخر هو كزافييه برتراند من حزب «اليمين الجمهوري» الحاصل على 47 نائباً، ثم تييري بوديه، رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي بصفته منبثقاً عن المجتمع المدني.

لكن الثلاثة سقطوا في امتحان الديمومة لأسباب سياسية وشخصية مختلفة يطول الخوض في تفسيرها.

الهدية المسمومة

كان ماكرون، الذي تنتهي ولايته الثانية في عام 2027، يبحث عن الرجل المنقذ لعهده من جهة، ولفرنسا من جهة ثانية، من الأزمة السياسية التي أفضت إليها الانتخابات التي أفرزت نتائجها وضعاً سياسياً بالغ التعقيد.

فهو من جهة، اعترف أخيراً بأن معسكره خسر الانتخابات. لكنه، في المقابل، لا يريد رئيساً للحكومة يفكّك ما سعى لبنائه خلال السنوات المنصرمة، متمسكاً باستمرار انتهاج سياسة ليبرالية اقتصادية مشجعة لاستقطاب الاستثمارات، ولا تتراجع عن الإصلاحات والقوانين التي أدخلها، ومنها تعديل سن التقاعد وقانون العمل والرعاية الاجتماعية، فضلاً عن قانون الهجرات.

أما الأهم من هذا وذاك، فهو أن ماكرون كان يبحث عن شخصية لا تواجه رفضاً تلقائياً، لكنها تستطيع التحاور مع الجميع بحيث لا تطرح الثقة به منذ لحظة تشكيل حكومته، فضلاً عن احترام صلاحيات الرئاسة التي يكفلها الدستور. ولأنه رئيس الحكومة العتيد لن يكون بالضرورة من معسكره، أراده ماكرون أن يكون ليناً و«دبلوماسياً» بحيث يسهل معه «التعايش» على رأس السلطة التنفيذية.

في عددها ليوم الأربعاء الماضي، كشفت صحيفة «لوموند» تفاصيل ما جرى، وما دفع ماكرون إلى تسمية بارنييه. إذ أفادت أن ألكسيس كوهلر، أمين عام الرئاسة، هو من زكّى ترشيح بارنييه، وكان صلة الوصل بينه وبين ماكرون قبل أن يستدعيه الأخير لأول لقاء معه في قصر الإليزيه.

لوبن وملف الهجرة

بيد أن العامل الحاسم الذي ثبّت اختيار بارنييه كان قبول مارين لوبن، زعيمة اليمين المتطرف، به رئيساً للحكومة. ذلك أنها ترى أنه لا خلافات شخصية بينه وبين حزبها من جهة، ولأن لديه، من جهة أخرى، مواقف تراها متجانسة ومتقاربة من مواقفها في مسائل يعدّها اليمين المتطرّف حيوية. ومن هذه المسائل: ملف الهجرة، وضرورة السيطرة على حدود البلاد الخارجية، وتأكيده احترام الجميع وانفتاحه على تعديل قانون التقاعد، وليس إلغاؤه، واستعداده للبحث في قانون انتخابي جديد يعتمد النسبية... الأمر الذي يلائم «التجمع الوطني» بعكس قانون الدائرة الصغرى ذي الدورتين المعمول به راهناً. ولو اعتمدت النسبية لكانت لوبن قد حصلت على الأكثرية المطلقة.

بناءً على هذه المعطيات، وعدت لوبن بألا يحجب «التجمع» الثقة عن بارنييه، بعكس جبهة اليسار. وللعلم، لو صوّت اليسار واليمين المتطرف معاً على سحب الثقة من رئيس الحكومة الجديد، فإنه سيسقط حكماً باعتبار أن لديهما 337 نائباً، أي بزيادة 48 نائباً عن العدد المطلوب لإسقاط الحكومة.

في المقابل، هذا الاختيار من ماكرون حوّل لوبن إلى «صانعة رؤساء الحكومات» الذين سيكونون كالخاتم في إصبعها، بحيث تكون قادرة على إسقاطه عندما ترى أن سياسة بارنييه لا تلائمها ولا تجاري مصالح حزبها. ومن هنا، جاء هجوم اليسار و«الخضر» على ماكرون واتهامه بـ«التواطؤ» مع لوبن.

تساؤلات مشروعة

هل سيكون بارنييه قادراً على الصمود رئيساً للحكومة؟

في حديثه المطوّل للقناة الأولى في التلفزيون الفرنسي، عرض بارنييه «فلسفة» حكمه الموعود وانفتاحه على الجميع، فهو يريد أن يدشن «عصراً جديداً» في طريقة الحكم، حيث «رئيس الجمهورية يرأس، والحكومة تحكم». والأهم من ذلك أنه نوّه بـ«القدرة على التفاوض، وجعل الناس يعملون معاً، ودأبه على احترام الجميع والإصغاء لما يقولونه».

وفي رسالة مباشرة إلى اليمين المتطرف، أكد أنه «سيحترم» الـ11 مليوناً الذين صوّتوا له في الدورة الأولى، رغم تأكيده أنه «لا شيء مشترك يجمعه باليمين المتطرف على صعيد الطروحات أو الآيديولوجيا». وإذ استبعد دخول وزراء من هذا الحزب في حكومته، أبدى استعداده للبحث في القانون الانتخابي، قائلاً: «لا خطوط حمراء» تمنعه من ذلك، غير أنه لم يلتزم بأي شيء محدد.

بالتالي، يريد بارنييه حكومة من مختلف الألوان، بما في ذلك اليسار. ولذا كثّف مشاوراته مع قادة الأحزاب والمجموعات البرلمانية. لكنه يواجه مجموعة تحديات لا تنحصر بالجوانب السياسية، بل أبرزها اقتصادي مالي. إذ يتعيّن على الحكومة أن ترفع إلى مكتب المجلس النيابي مشروع الميزانية لعام 2024، وأن تعمل على خفض العجز الذي وصل راهناً إلى 5.6 في المائة، بينما المعيار الأوروبي يتوقف عند عتبة 3 في المائة.

هذا، وسبق للاتحاد فتح تحقيق رسمي بخصوص مالية فرنسا، التي إن أرادت احترام المعايير، فعليها العثور على 110 مليارات يورو إضافية حتى عام 2027. وبالتوازي، تواجه فرنسا مشكلة ديونها التي تتجاوز 3000 مليار يورو، وخدمة الديون تطأ بقوة على ميزانيتها.

الملفان الصعبان

وعليه، ثمة ملفان يهددان بإسقاط بارنييه: الأول ميزانية الدولة، والثاني اقتراح إلغاء قانون التقاعد الذي أقره البرلمان العام الماضي بصعوبة بالغة رغم تعبئة نقابية وسياسية واسعة طالت شهوراً. والواقع أن اليمين المتطرف قدّم رسمياً اقتراح قانون لمكتب المجلس بهذا الشأن، علماً أن إسقاط قانون التقاعد هو أيضاً مطلب يساري بامتياز. وبالمناسبة، بارنييه ليس من أنصار المحافظة على القانون الذي يرفع سن التقاعد إلى 64 سنة فقط، بل سبق له اقتراح 65 سنة.

وبجانب التحديات الإضافية، التي سيواجهها رئيس الحكومة الجديد، ثمة ملفات الهجرة، والقدرة الشرائية، والخدمات العامة (كالمدارس والصحة)، وقبل ذلك كله إشعار المواطن أن صوته لم يذهب سدى، وأن تغييراً حصل في وجوه المسؤولين وفي السياسة المتبعة.

من هنا، تبدو الهدية التي قدّمها ماكرون لبارنييه «مسمّمة»، فهل ستساعد الأخير خبرته السياسية وكياسته على شغل منصبه الجيد، وتحقيق شيء ما من الوعود؟

الجواب في الآتي من الأيام.

فرنسا: سيناريوهات سياسية للمستقبل

ما زالت انتخابات الرئاسة الفرنسية بعيدة، إذ لن يحين أوانها إلا مع ربيع عام 2027. ولكن منذ اليوم، السكاكين السياسية مشحوذة، وأول المبادرين كان إدوار فيليب، رئيس الوزراء السابق ورئيس حزب «هورايزون» (آفاق) المنتمي إلى «المعسكر الرئاسي»، إلى جانب حزب الرئيس إيمانويل ماكرون «النهضة» أو «معاً من أجل الجمهورية» وحزب «الحركة الديمقراطية» الوسطي، الذي يرأسه السياسي المخضرم فرنسوا بايرو، أول الداعمين لماكرون، الذي يدين له بفوزه الأول في الانتخابات الرئاسية في عام 2017، بيد أن التركيبة السياسية اليوم، في ظل غياب أكثرية نيابية تدعم الحكومة، التي يجهد ميشال بارنييه لتشكيلها، تجعل كل السيناريوهات ممكنة، بما في ذلك لجوء ماكرون إلى حل المجلس النيابي مرة جديدة بحلول يونيو (حزيران) المقبل، أي بعد مرور سنة كاملة على حلّه للمرة الأولى، وهو ما ينص عليه الدستور. إقدام ماكرون على خطوة كهذه مرجح، لأن الأمر كان بيد الرئيس الفرنسي، الذي مارس حكماً عامودياً خلال 7 سنوات، حيث الحلّ والربط في القضايا، كبيرها وصغيرها. لكن الأمور تغيّرت اليوم بفعل هزيمة معسكره في الانتخابات النيابية الأخيرة واضطراره إلى تسمية رئيس للحكومة من خارج معسكره، وتحديداً من اليمين التقليدي، الممثل بحزب «اليمين الجمهوري» الذي لم ينفك، خلال السنوات السبع المنقضية، عن التنديد بسياسات حكوماته المتعاقبة. بيد أن مواقفه تغيّرت بعدما سُمي أحد أعضائه، ميشال بارنييه، لرئاسة الحكومة. وسارع الأخير إلى رسم «خارطة طريق» لكيفية تعامله مع رئيس للجمهورية ينزع للسيطرة، بتأكيده أن «الرئيس يرأس والحكومة تحكم».إحدى قواعد السياسة أن «الكلام شيء والممارسة شيء آخر». لذا، يرى محللون أن ماكرون لن يتردد بحلّ المجلس النيابي إذا وجد أن الأمور لا تسير لصالحه، وأن «إرثه» السياسي والاقتصادي مهدد. لكنّ ثمة خطراً آخر قد يكون محدقاً به، وعنوانه «هشاشة» الحكومة التي يجهد بارنييه لتشكيلها، والتي يمكن أن تسقط في البرلمان بسحب الثقة منها إذا رأى اليمين المتطرف أن مصلحته تكمن في سقوطها، أو أنها تنتهك «الخطوط الحمراء» التي رسمها. وليس سراً أن اليسار و«الخضر»، في إطار «الجبهة الشعبية الجديدة» عازمون عند أول فرصة على طرح الثقة بها، لأنهم يرون أساساً أن السلطة سرقت منهم، وأن بارنييه لا يتمتع بالشرعية لممارستها كونه يجيء من صفوف حزب حلّ في المرتبة الرابعة في الانتخابات الأخيرة، وليس له إلا 47 نائباً في البرلمان الجديد.إذا تحقق هذا السيناريو، فإن الأزمة السياسية ستتفاقم، لأن المعطيات الأساسية للتركيبة السياسية لن تتغير. وبالتالي سيجد الرئيس ماكرون نفسه أمام حائط مسدود، بحيث لن يكون من مخرج أمامه سوى الاستقالة، مع أنه أكد غير مرة أنه باقٍ في منصبه حتى آخر يوم من ولايته الثانية، ولن يتخلى عن مسؤولياته في أي ظرف كان. احتمال الاستقالة يبرر مسارعة إدوار فيليب، الذي استقبل ماكرون الخميس في إطار الاحتفال بتحرير مدينة لو هافر، بشمال البلاد، من الاحتلال النازي، إلى الإعلان رسمياً عن ترشحه للرئاسة، سواءً في أوانها العادي (عام 2027) أو إذا قُدّم موعدها بسبب استقالة ماكرون. وليس فيليب الوحيد الذي يتحضر لهذا الاحتمال. فرئيس الحكومة السابق غبريال أتال يرنو بدوره إلى احتلال هذا المنصب، وكان يراهن على مواصلة ممارسة السلطة لفترة أطول بحيث تكون الرافعة لتحقيق طموحاته الرئاسية، ولذا ظهرت شبه القطيعة مع ماكرون والأجواء الجليدية التي تطبع علاقاتهما. ويرأس أتال راهناً المجموعة النيابية المشكلة من الحزب الرئاسي. وبالطبع، ثمة مرشحون ثابتون، مثل جان لوك ميلونشون زعيم حزب «فرنسا الأبية» اليساري، ومارين لوبن زعيمة «التجمع الوطني» اليميني المتطرف، وكلاهما يترشحان للمرة الرابعة. ثم هناك لوران فوكييز وكزافييه برتراند، الأول رئيس حزب «اليمين الجمهوري»، والثاني أحد أعضائه، وكاد يصل إلى رئاسة الحكومة، لولا الفيتو الذي رفعته لوبن بوجهه.


مقالات ذات صلة

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)
حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».