الشيخة حسينة واجد «وارثة» زعامة بنغلاديش تودّع السلطة بعد حكم استمر 15 سنة متصلة

تحت وطأة تراكم المعارضة الشعبية والعسكرية

كانت فترة ولاية حسينة في رئاسة حزب «رابطة عوامي» بمثابة بداية كفاح دام عقداً شهد إخضاعها لفترات طويلة من الإقامة الجبرية
كانت فترة ولاية حسينة في رئاسة حزب «رابطة عوامي» بمثابة بداية كفاح دام عقداً شهد إخضاعها لفترات طويلة من الإقامة الجبرية
TT

الشيخة حسينة واجد «وارثة» زعامة بنغلاديش تودّع السلطة بعد حكم استمر 15 سنة متصلة

كانت فترة ولاية حسينة في رئاسة حزب «رابطة عوامي» بمثابة بداية كفاح دام عقداً شهد إخضاعها لفترات طويلة من الإقامة الجبرية
كانت فترة ولاية حسينة في رئاسة حزب «رابطة عوامي» بمثابة بداية كفاح دام عقداً شهد إخضاعها لفترات طويلة من الإقامة الجبرية

انزلقت بنغلاديش، إحدى أكبر دول العالم الإسلامي والقارة الآسيوية، من حيث عدد السكان، خلال الأسبوع الماضي إلى حالة من الفوضى. وفي تحوّل دراماتيكي استقالت رئيسة الوزراء الشيخة حسينة واجد، بعد حكم استمر 15 سنة، وفرّت من البلاد. وبفرارها في اللحظة الأخيرة إلى الهند، نجت من غضب آلاف المحتجين الذين اقتحموا مقر إقامتها الرسمي. وما يُذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تلجأ فيها الشيخة حسينة إلى الهند؛ إذ وجدت نفسها وشقيقتها ريحانة في الهند قبل 49 سنة. ففي عام 1975، طلبت حسينة وريحانة مساعدة نيودلهي بعدما قتل عسكريون متمردون والدهما الشيخ مجيب الرحمن مع سبعة من أفراد الأسرة، بينهم أخوهما راسل البالغ 10 سنوات. ونجحت حسينة في الهروب؛ لأنها كانت في ألمانيا مع زوجها وريحانة. ومن جهته، أكد قائد الجيش، وقر الزمان، الذي تربطه بحسينة أواصر عائلية، باعتباره زوج ابنة عمها، أن الشيخة استقالت من منصبها رئيسةً للوزراء وغادرت البلاد. وأردف إن حكومة مؤقتة قيد التشكيل، طالباً من الشعب التعاون سلمياً.

على الرغم من رحيل الشيخة حسينة واجد واستيلاء الجيش على السلطة في بنغلاديش، استمرت أعمال العنف والتخريب في جميع أنحاء البلاد. وأعقب ذلك الاتفاق على تعيين الدكتور محمد يونس، الخبير الاقتصادي الحائز جائزة نوبل، رئيساً للحكومة المؤقتة بالبلاد، وفقاً لما أعلنه السكرتير الصحافي للرئيس محمد شهاب الدين.

هذا، وأبدى يونس استعداده لتشكيل حكومة مؤقتة، مقدّراً «ثقة المحتجين الذين يتمنون لي قيادة الحكومة المؤقتة». ودعا إلى إجراء «انتخابات حرة».

الشيخة حسينة ونسبها

وُلدت الشيخة حسينة لعائلة مسلمة في شرق البنغال عام 1947، أي ما كانت تعرف بباكستان الشرقية، لأبويها البيجوم الشيخة فضيلة النساء مجيب (المتحدرة من أصل بغدادي عراقي) والشيخ مجيب الرحمن، ابن أسرة شيخ، والأب المؤسس لبنغلاديش وأول رئيس للبلاد. وداخل حرم جامعة دكا، كبرى جامعات البلاد والعاصمة، صعد نجم حسينة قياديةً طلابيةً نشطة.

ثم تزوّجت حسينة من عالم فيزياء بنغلاديشي محترم اسمه محمد واجد ميا، الذي تولى لفترة رئاسة هيئة الطاقة الذرية في بنغلاديش. وتوفي ميا، عام 2009 عن عمر يناهز 67 سنة بعد مرض طويل. ولقد أنجب الزوجان ولداً سمَّياه ساجيب جوي (53 سنة) وبنتاً هي سايما (51 سنة).

تأسيس بنغلاديش

بعد تأسيس بنغلاديش المستقلة، في أعقاب انفصال باكستان الشرقية عن باكستان (باكستان الغربية في حينه) تسلّل التوتر إلى صفوف الجيش جرّاء شعور العسكريين الذين رفضوا التمرّد على وحدة باكستان - قبل الحرب - بالتمييز ضدهم. ثم دفع تزايد السخط على الشيخ مجيب الرحمن وحزبه «رابطة عوامي»، بعض الجنود الشباب إلى اغتياله وعائلته بالكامل؛ ما مهّد الطريق لانقلاب عسكري.

يومذاك، نجت حسينة وشقيقتها ريحانة من الموت لأنهما كانتا في ألمانيا، برفقة زوج حسينة الفيزيائي الراحل واجد مياه. وبالتالي، لم تتمكنا من العودة إلى بنغلاديش، الغارقة بالفوضى والدماء.

وفي مقابلة أُجريت معها، روت حسينة أهوال عام 1975، قائلة: «لقد حدث ذلك فجأة. قبل 15 يوماً فقط، غادرت أنا وأختي البلاد، وذهبنا إلى ألمانيا حيث كان زوجي العالم النووي يجري أبحاثه ما بعد الدكتوراه هناك. ولأن زوجي كان مقيماً في الخارج، اعتدت أن أعيش في المنزل نفسه (مع والديّ). في ذلك اليوم، كان الجميع هناك: والدي، وأمي، وإخوتي الثلاثة، وزوجاتهم. كان الجميع هناك. وجاءوا إلى المطار جميعاً لتوديعنا. كان ذلك هو اليوم الأخير لنا معاً، كما تعلمون. لقد قتلوا 18 فرداً من عائلتي، بما في ذلك شقيقي الأصغر 10 سنوات».

وتابعت حسينة إن رئيسة الوزراء الهندية السابقة أنديرا غاندي أبلغتها استعداد الهند منحها الأمن والمأوى. وبالفعل، انتقلت إلى دلهي، وعاشت هي وباقي عائلتها، الذين قدِموا إلى الهند بعد علمهم بالمجزرة، في منزل بالعاصمة الهندية تحت حراسة أمنية مشددة؛ خوفاً على حياتهم.

وذكرت حسينة أنها وأفراد أسرتها اضطروا إلى تغيير أسمائهم كي يتمكنوا من البقاء على قيد الحياة في المنفى، والنجاة من المصير الذي لقيه والداها وأقاربها الآخرون. ومع أنها فكرت في العودة إلى بنغلاديش، بيد أنها لم تفكر قط في تحمل «مسؤولية مثل هذا الحزب الضخم».

في المعترك السياسي

في ثمانينات القرن العشرين، أخذت الأمور تتغيّر. إذ سافرت الشيخة حسينة إلى بلدان عدة، وألقت كلمة في اجتماع عام يوم 16 من أغسطس (آب) 1980 في لندن، مطالبة بمحاكمة قتلة أسرتها. وجاء ذلك بعدما طالبت شقيقتها بالأمر ذاته في خطاب ألقته في السويد. وواصلت حسينة حملتها لتقديم قتلة أسرتها إلى العدالة، وقد شاركت فيها شخصيات مرموقة. وفي هذا الوقت، أعلنت «رابطة عوامي» حسينة زعيمة للحزب أثناء غيابها.

وفي نهاية المطاف، أنهت الشيخة حسينة بالفعل، منفاها في العاصمة الهندية، وعادت إلى بنغلاديش يوم مايو (أيار) 1981.

كانت فترة ولاية حسينة في رئاسة حزب «رابطة عوامي» بمثابة بداية كفاح دام عقداً شهد إخضاعها لفترات طويلة من الإقامة الجبرية. ففي نوفمبر (تشرين الأول) 1987، تعرّضت للاستهداف من جانب الديكتاتور العسكري الجنرال محمد حسين إرشاد.

التنافس «الثنائي» مع خالدة ضياء

بعدها، فاجأت حسينة كثيرين عندما انضمت إلى البيجوم خالدة ضياء - أرملة قائد الجيش السابق ومؤسس «الحزب الوطني البنغلاديشي»، ضياء الرحمن - بهدف إطاحة إرشاد. وبحلول عام 1990، خرج مئات الآلاف إلى شوارع العاصمة دكا للمطالبة باستقالة إرشاد.

ومع أن إرشاد حاول التشبث بالسلطة بإعلان حالة الطوارئ، فإنه أُجبِر بالنتيجة على الاستقالة. لكن «الاتفاق» بين الشيخة حسينة والبيجوم خالدة لم يطُل. ومنذ ذلك الحين، هيمنت العائلتان المتنافستان على الساحة السياسية في البلاد. ولقد قبعت خالدة قيد الإقامة الجبرية، تقاوم ما تقول إنها اتهامات فساد ملفقة، حتى أُطلق سراحها، الاثنين الماضي؛ بناءً على أوامر الرئيس محمد شهاب الدين.

للعلم، في عام 1991، «استولى الحزب الوطني البنغلاديشي» على السلطة، وأصبحت الشيخة حسينة زعيمة المعارضة الرئيسية. لكن الإعصار الذي ضرب بنغلاديش عام 1991 وأسفر عن مقتل 140000 شخص، أعطى مسيرة حسينة دفعاً جديداً. وبعد خمس سنوات، عام 1996، نُصّبت رئيسة وزراء لبنغلاديش.

وطبقاً لتقارير صحافية يعتد بها، شهدت ولاية حسينة الأولى خطوات كبيرة في اتجاه تحرير الاقتصاد وتعزيز الاستثمارات الأجنبية ورفع مستويات المعيشة، بما في ذلك تحسين مجالي الرعاية الصحية والتعليم. أيضاً، تحولت بنغلاديش قوةً بارزةً على صعيد الصناعة العالمية للملابس. لكن مع ذلك، رغم هذه الإنجازات، فقدت حسينة السلطة عام 2001 لصالح البيجوم خالدة. وأدى التنافس بين السيدتين، الذي أطلق عليه «البيجومات المتصارعات»، إلى اشتعال صراع سياسي كبير، شهد أعمال عنف وقتل خارج نطاق القضاء. بعدها، عام 2004، نجت حسينة بأعجوبة من محاولة اغتيال إثر انفجار قنبلة يدوية في تجمع جماهيري. وعام 2007، حكمت كل من حسينة وخالدة بالسجن بتهم فساد بعد انقلاب عسكري ذلك العام. إلا أن التهم أسقطت لاحقاً فأتيح لهما التنافس في الانتخابات التالية. وأخيراً، عام 2008، حققت الشيخة حسينة نصراً انتخابياً كبيراً، وظلت في منصبها حتى اضطرارها إلى الاستقالة هذا الشهر.

وداعها للساحة السياسية

من جهته، قال ساجيب (جوي)، نجل الشيخة حسينة ومستشارها، في مقابلة إنها لن تعود إلى السياسة مرة أخرى، وأكد أنها غادرت البلاد من أجل سلامتها؛ بناءً على إصرار عائلتها. وتابع ساجيب، المقيم بريطانيا، إن والدته «كانت محبطة للغاية من شعب بنغلاديش؛ بسبب طريقة معاملتهم لها، بعدما فعلت الكثير من أجله».

وتابع أن أمه «عندما تولت السلطة كانت بنغلاديش تُعدّ دولة فاشلة ودولة فقيرة، أما اليوم، فتعتبر من نمور آسيا الصاعدة». وأردف: «إنها تشعر بخيبة أمل كبيرة، ولن تعود إلى السياسة، فهي تبلغ من العمر 77 سنة وكانت هذه ستكون ولايتها الأخيرة. كونها ستتقاعد بعد ذلك على أي حال». واختتم كلامه بمرارة: «اتخذ الناس خيارهم، وسيحصلون على القيادة التي يستحقون. لقد مرّت عائلتي بهذا ثلاث مرات - ثلاثة انقلابات، وانتهى الأمر من وجهة نظرنا. لقد سئمنا من إنقاذ بنغلاديش».

ما يجدر ذكره، أن بنغلاديش، التي كانت إحدى أفقر دول العالم عندما استقلت عن باكستان عام 1971، شهدت نمواً بمعدل يزيد على 6 في المائة سنوياً منذ عام 2009. وانخفضت فيها معدلات الفقر بشكل حاد، فبات بمقدور أكثر من 95 في المائة من سكان البلاد البالغ عددهم 170 مليون نسمة، الحصول على الكهرباء، مع تجاوز نصيب الفرد في الدخل نظيره في الهند عام 2021.


مقالات ذات صلة

لبنان: ردّ «حزب الله» مقيّد بالهدف... ومنع الانزلاق إلى حرب واسعة

حصاد الأسبوع استهداف فؤاد شكر في جنوب بيروت (آ ف ب)

لبنان: ردّ «حزب الله» مقيّد بالهدف... ومنع الانزلاق إلى حرب واسعة

«اضحكوا قليلاً وستبكون كثيراً»... بهذه العبارة خاطب الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله الإسرائيليين، متوعداً إياهم بالانتقام لدماء القائد العسكري الأول

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع من التظاهرات الاحتجاجية التي غيرت المعادلة السياسية في بنغلاديش (غيتي)

محطات في العد التنازلي لحكم الشيخة حسينة

> في أوائل يونيو (حزيران) الفائت، بعدما أعادت المحكمة العليا في بنغلاديش نظام حصص الوظائف، الذي كان يفضّل أحفاد مقاتلي حرب التحرير عام 1971، تجمع نحو 500 طالب

«الشرق الأوسط» ( نيودلهي)
حصاد الأسبوع القبة الحديدية الإسرائيلية تتصدى لصواريخ حماس (أ ف ب/ غيتي)

واشنطن ترعى كسر «قواعد الاشتباك»مع إيران... لفرض ميزان قوى جديد

على الرغم من أن بعض التحليلات لا تزال تعتقد أن المنطقة قد تكون مقبلة على حرب موسعة، مدفوعة «بفائض القوة» الذي يشعر به بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، فإن

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع تشييع إسماعيل هنية في طهران قبل مراسم دفنه في قطر (الشرق الأوسط)

عضلات نتنياهو انتفخت... والنتيجة مخيفة

في البيت الأبيض أرشيفات سوداء مليئة بالقصص عن تبجّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على القادة الأميركيين، وأشهرها ما قاله عنه الرئيس الأسبق باراك أوباما قبل نحو عشر سنوات؛ إذ تساءل: «مَن هنا يمثل الدولة العظمى؟». إلا أن جون بايدن، وإن شاطر أوباما في مقت نتنياهو، يتصرف بطريقة مختلفة. إنه يساير. يدلل. وحتى عندما يمارس عليه الضغوط تكون تلك ضغوطاً ناعمة. ويجد نفسه عالقاً في مطبات ومكائد وورطات حربية ووُحُول... فلا يضطر فقط إلى استقباله في البيت الأبيض بعد طول تمنع، ولا يقبل «ببلع ضفدع» وصوله إلى واشنطن تلبية لدعوة من الكونغرس - رغم معارضة الحزب الديمقراطي - بل يصبح شريكاً له، عن رضا أو عن إرغام، في أعمال كثيرة يدفع فيها البشر ثمناً باهظاً وتهدد بحرب لا يريدها أحد. واليوم، الخطر كبير فعلاً... خطر أن تكون الحرب واسعة جداً، ولا يكون بمقدور «الأخ الأكبر» في واشنطن منعها أو تطويقها. مقرّبون من نتنياهو، يقولون إنه «وضع بايدن والإدارة الأميركية كلها تحت إبطه» وطوّعها لصالح سياسة اليمين الإسرائيلي. ويضيفون: «مَن حاول في واشنطن رسم خريطة طريق للإطاحة بالحكومة الإسرائيلية وتنشئة بيني غانتس ليكون رئيس حكومة يطيح نتنياهو، وجد نفسه يسير وراءه. ولكن هذا في خدمة الولايات المتحدة وليس ضدها. فنتنياهو يقود بنجاح أهم معركة ضد الإرهاب في تاريخ الشرق الأوسط». ويؤكد المعجبون بنتنياهو أن هذا هو شعوره هو أيضاً. فهو يعتقد بأن الله حبا الشعب اليهودي وأيضاً الولايات المتحدة بقائد تاريخي سيحدث انعطافاً حاداً في المنطقة لخدمة «العالم الحر» والمعتدلين في الشرق الأوسط. وهو لا يقول هذا الكلام للسيدة سارة أو للمرآة في بيته، بل أيضاً يجاهر به أمام كثير ممّن يلتقيهم هذه الأيام، في واشنطن وفي إسرائيل.

نظير مجلي (القدس)
حصاد الأسبوع بول كاغامي... مُنقذ رواندا وقائد مسيرة تنميتها الاقتصادية

بول كاغامي... مُنقذ رواندا وقائد مسيرة تنميتها الاقتصادية

شعبية كاسحة أظهرتها صناديق الاقتراع في رواندا للرئيس بول كاغامي، «حامل جينات الحكم» وقائد التنمية في البلاد، الذي أنقذ شعبه من براثن الحرب الأهلية وجعل رواندا في مقدمة دول القارة الأفريقية، فكافأه الناخبون بإبقائه في منصبه لمدة قد تزيد على ربع قرن. ورغم تحديات داخلية ومعارضة بات صوتها واضحاً، ظفر كاغامي في يوليو (تموز) الماضي، بولاية رئاسية رابعة بعد حصوله على 99.18 في المائة من الأصوات، مقارنة بمنافسيه: مرشح حزب «الخضر» فرانك هابينيزا (0.5 في المائة) والمرشح المُستقل فيليب مباييمانا (0.32 في المائة). ومعلوم أن مسيرة كاغامي ترتبط في أذهان قادة غربيين وأفارقة بأنها مسيرة شخص بات «نموذجاً للتنمية» و«مخلصاً حقيقياً لشعبه من آفتي الإبادة والتمييز»، بل جعل من بلده «سنغافورة أفريقيا».

محمد الريس (القاهرة)

لبنان: ردّ «حزب الله» مقيّد بالهدف... ومنع الانزلاق إلى حرب واسعة

استهداف فؤاد شكر في جنوب بيروت (آ ف ب)
استهداف فؤاد شكر في جنوب بيروت (آ ف ب)
TT

لبنان: ردّ «حزب الله» مقيّد بالهدف... ومنع الانزلاق إلى حرب واسعة

استهداف فؤاد شكر في جنوب بيروت (آ ف ب)
استهداف فؤاد شكر في جنوب بيروت (آ ف ب)

«اضحكوا قليلاً وستبكون كثيراً»... بهذه العبارة خاطب الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله الإسرائيليين، متوعداً إياهم بالانتقام لدماء القائد العسكري الأول فؤاد شكر في خطاب تشييع الأخير، الذي اغتالته إسرائيل، مع غروب يوم الثلاثاء الماضي بغارة استهدفته داخل منزله في منطقة حارة حريك بضواحي بيروت الجنوبية. لكنّ خطاب تأبين شكر في ذكرى مرور أسبوع على مقتله انطوى على عدّة مفارقات، أبرزها إعلان نصر الله أن حزبه و«محور المقاومة» غير مستعجلين للردّ بانتظار اختيار الهدف بدقّة حتى لا يؤدي إلى حربٍ واسعة، وأن تجنب الردّ حتى الآن هو ردّ بذاته يجعل الإسرائيليين «يقفون على قدم ونصف» تحسّباً لما سيأتي. في لبنان أيضاً يحبس الناس أنفاسهم بانتظار ردّ الحزب والأثمان التي ستدفعها إسرائيل جراءه. إلا أن ما يقلقهم أكثر هو كيف ستتعامل تلّ أبيب مع نتائج عملية الحزب المرتقبة بين ساعة وأخرى، خصوصاً إذا أدت إلى ضرب هدفٍ استراتيجي أو قتل مدنيين إسرائيليين، وهو ما ينذر بجرّ جبهة لبنان إلى حربٍ واسعة يصعب تحمل تبعاتها ونتائجها.

يعترف خبراء في لبنان أن في جعبة «حزب الله» بنك أهداف واسعاً في الداخل الإسرائيلي، والصور التي التقطتها طائرات «الهُدهد» 3 مرات، تنبئ باختيار أكثر من هدف. إلّا أن مراقبين يعدّون أن «خيارات الحزب محدودة، وإن كان يملك كثيراً من الصور والمعطيات».

ويرى العميد منير شحادة، منسّق الحكومة اللبنانية السابق مع «الأمم المتحدة»، أن خطاب نصر الله ما قبل الأخير «حسم بشكل قاطع الانتقال من جبهة المساندة إلى المعركة الكبرى. وهذا يعني أن كل محور المقاومة، بما فيها إيران، انخرط في هذه المعركة». ويؤكد شحادة لـ«الشرق الأوسط» أن «الردّ على اغتيال فؤاد شكر حتمي، لكن هذا الردّ ليس فورياً، بل رهن اختيار الهدف والفرصة المتاحة له». ويضيف: «بتقديري سيكون الردّ بحجم جريمة اغتيال القيادي العسكري فؤاد شكر، وربما يؤدي إلى اغتيال شخصية عسكرية إسرائيلية كبيرة».

التوقيت المناسب

وحقاً، اتسم خطاب نصر الله الثاني الذي ألقاه يوم الثلاثاء بمناسبة تأبين شكر، بالهدوء والروية وتحاشي استعجال «الردّ القادم في توقيته المناسب»، مخاطباً جمهوره المتعطّش للانتقام، بـ«التروّي»، مستخدماً تعبير «يا واش يا واش»، معتبراً أن «عدم الردّ حتى الآن هو جزء من الردّ» طالما أنه يقلق الإسرائيليين.

وهنا، يوضح الخبير العسكري والاستراتيجي العميد الدكتور حسن جوني لـ«الشرق الأوسط»، أن نصر الله «ملتزم بحتميّة الردّ على اغتيال قائده العسكري فؤاد شكر، تاركاً التوقيت للميدان وللفرصة التي توفر له هدفاً بحجم الخسارة التي تلقاها». ويتابع: «ردّ (حزب الله) ليس مشروطاً باغتيال شخصية إسرائيلية توازي أهمية فؤاد شكر، بل ربما يكون هدفاً عسكرياً موجعاً، يستخدم فيه صواريخ فاعلة ومؤثرة، لكن إذا تمكن من اصطياد شخصية عسكرية كبيرة يكون ذلك أفضل بالنسبة له».

وحسب جوني، الذي كان يشغل منصب قائد كلية الأركان في الجيش اللبناني: «لا يمكنني أن أتنبّأ بطبيعة الردّ، بل أستنتج انطلاقاً من الظروف الإقليمية والدولية المؤثرة في هذه الحرب واستراتيجية تدخل (حزب الله)، وعنوانها الدعم والمساندة، بأن هذا الردّ محكوم بحدّين: الأول ردّ غير تقليدي وغير نمطي، أي أنه لا يشبه الردود التي أتت انتقاماً لاغتيال قادة ميدانيين، ويأتي في مكان لا يتوقعه الجيش الاسرائيلي، كأن تكون هناك عملية خاصة، برية أو بحرية أو جوية، تفاجئه في أسلوبها ومكانها. والثاني وهو السقف الأعلى للردّ، يتحدد بألّا يتجاوز الخطوط الحمراء الكبرى التي تعطي إسرائيل مبرّراً، سواء في الداخل الإسرائيلي أو في الخارج، لشنّ حرب واسعة على لبنان... فالعملية المرتقبة تحتاج إلى تقييم دقيق حتى تأتي ضمن هذين الحدّين»، وفق جوني.

مصطفى بدر الدين

قصف الضاحية

طبعاً، لا مجال للمقارنة بين التفوق الجوي والتكنولوجي لدى إسرائيل وبين قدرات «حزب الله». وإن كان الأخير طوّر قدراته القتالية منذ عام 2006 حتى اليوم، فليس سهلاً أن ينتقي الهدف، وثمة أسئلة عن البدائل التي سيلجأ إليها في حال لم يحقق مراده بقتل شخصية إسرائيلية كبيرة. هنا يعدّ العميد شحادة أنه «في حال تأخر اختيار الشخصية الإسرائيلية، سيختار الحزب هدفاً عسكرياً استراتيجياً، أعمق من كل الأهداف التي ضربها منذ 8 أكتوبر الماضي». ويوضح: «طالما أن إسرائيل خرقت قواعد الاشتباك وتجرّأت على قصف الضاحية الجنوبية، قد لا يتردد الحزب بضرب هدف استراتيجي في حيفا أو تلّ أبيب، مع حرصه على ألّا تتسبب الضربة بقتل مدنيين إسرائيليين»، ثم إنّ «ردّ (حزب الله) ليس فورياً ولا خلال ساعات أو أيام قليلة، فهو يتوخّى نجاح الردّ وانتقاء الهدف وضربه بدقّة».

معركة «المحور»

راهناً، ثمّة حرص كبير لدى «حزب الله» على ألا يُجرّ إلى حرب لا يريدها، وهذا ما عناه نصر الله عندما أكد أن معركة «محور المقاومة» تهدف إلى «عدم تمكين إسرائيل من الانتصار في هذه المعركة»، ما يعني تخليه عن شعار «إزالة الكيان الصهيوني من الوجود». وحول هذا، رأى العميد جوني أنه «رغم كل هذا التصعيد في العمليات العسكرية، وتحديداً في عمليات الاغتيال، ورغم ارتفاع وتيرة الخطاب السياسي والتهديدات، فإن الأسباب التي منعت اندلاع الحرب الشاملة، وخاصة بين إسرائيل و(حزب الله)، لا تزال قائمة. وهي أولاً اعتبارات الردع والردع المقابل، وثانياً الإنهاك الذي أصاب الجيش الإسرائيلي بعد أشهر طويلة من القتال في غزة، وثالثاً الموقف الدولي والإقليمي، وتحديداً الولايات المتحدة، التي لم تسمح لإسرائيل حتى الآن بتوسعة عملياتها وإدخال المنطقة في حرب كبرى لا لزوم لها ولا مصلحة».

لا عذر لإسرائيل

من جانب آخر، أتى قصف الضاحية الجنوبية واغتيال فؤاد شكر من خارج كلّ التوقعات، إذ تفيد المعلومات بأن لبنان تلقى ضمانات أميركية بأن بيروت والضاحية الجنوبية مستثنيان من أي عمل عسكري إسرائيلي. وهذه العملية كانت محور الاتصال العاصف بين بنيامين نتنياهو والرئيس الأميركي جو بايدن، الذي اتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بـ«الخداع» والتفرد بقرار اغتيال شكر في بيروت وإسماعيل هنية في قلب طهران. وبرأي العميد شحادة، إن نتنياهو «يسعى إلى جرّ الولايات المتحدة إلى حرب مع إيران»، وإنه «لا عذر لإسرائيل لتنفيذ عملية خطيرة ودقيقة في قلب طهران، واغتيال القائد السياسي لحركة (حماس) إسماعيل هنية، إلّا دفع المنطقة إلى الحرب». وبعد تساؤل شحادة: «ما هو مبرّر إسرائيل لاغتيال قائد سياسي تتفاوض معه من أجل تبادل الأسرى ووقف العمليات العسكرية؟»، فإنه يشير إلى «أن ردّ (حزب الله) قد يستدرج ردّاً إسرائيلياً، وعندها نصبح أمام حربٍ مفتوحة، وقد تكون حرباً إقليمية تتخطّى جبهة لبنان، وسيكون كلّ محور المقاومة شريكاً فيها».

اغتيال شكر يتصدّرخسائر «حزب الله» للعلم منذ 8 أكتوبر الماضي، خسر «حزب الله» عدداً من قادته العسكريين والميدانيين، لكن اغتيال شكر شكّل أكبر ضربة منذ اغتيال عماد مغنية في دمشق عام 2008. وعليه، يعدّ الدكتور خلدون الشريف، السياسي اللبناني، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن خطابي نصر الله الأخيرين «اتسما بالعقلانية، رغم حجم الخسارة التي مني بها باغتيال القائد العسكري فؤاد شكر في عمق الضاحية الجنوبية لبيروت، عندما أعلن أن الردّ محسوم، لكننا نقاتل بغضب وبعقل، وبغضب وحكمة». وتابع الشريف أن الخطاب الثاني لنصر الله «استفاض في شرح الموقف من الجهتين، حيث قال إنه لو أرادت إسرائيل حرباً شاملة مع لبنان لشنّتها منذ حين، وليؤكد بدوره أن الحزب ليس طالب حرب بدوره، لكنه حسم موضوع الرد ولمّح بشكل واضح إلى أن الحزب حين استهدفت إسرائيل مدنيين ردّ على أهداف عسكرية».

أبعد مسافة

هذا، وبينما يبدي «حزب الله» حرصه على تجنيب المدنيين الإسرائيليين والمنشآت المدنية عملياته، بدا لافتاً امتلاكه أسماء وأماكن المعامل والمصانع الموجودة في الشمال الإسرائيلي. فقد ذكرها نصر الله في خطابه الأخير، وهذا ما رسم علامات استفهام عن إمكانية تحويلها إلى أهداف مشروعة في حال اندلاع الحرب. إلّا أن الشريف أعرب عن اعتقاده بأن «الرد سيكون على أهداف عسكرية قد تكون أبعد مسافة مما طالته صواريخ الحزب أو مسيراته سابقاً». وأردف: «لا شك أن هناك وساطات كثيرة تجري بين الحزب وإسرائيل وبين إيران وإسرائيل أيضاً... ومن الواضح أن السبيل الوحيدة لإلغاء الرد على اغتيال كل من هنية وشكر تختصر بوقف إطلاق نار في غزة، ما يسقط الردود. لكن الملفت في الخطاب قول نصر الله إن أحداً لا يطلب من إيران وسوريا أن يقاتلا قتالاً طويلاً، وهو ما دفع عدداً كبيراً من الفرقاء في لبنان ليسألوا سؤالاً بديهياً: هل مطلوب أن يدفع لبنان وحده، دون الآخرين، ثمناً من رزقه وأرواحه، على الرغم من إيمانهم بعدالة القضية الفلسطينية وإجرام حكام إسرائيل؟!».

لا مجال للمقارنة بين التفوق الجوي والتكنولوجي لدى إسرائيل وبين قدرات «حزب الله»

كلام دبلوماسي

في المقابل، التزام «حزب الله» بـ«قواعد الاشتباك المستمرة» منذ فتح «جبهة المساندة» قبل 10 أشهر، لا يعني أن عملياته لن تطول أهدافاً ومنشآت عسكرية في العمق الإسرائيلي، لكن لا شيء يضمن استمرار المغامرات الإسرائيلية رغم الضغوط الأميركية والغربية التي تمارس عليها. وهنا يلفت الدكتور الشريف إلى أنه «ليس ثمة ما يؤكد أن واشنطن وعدت بعدم استهداف بيروت والضاحية، ولو أن الكلام الدبلوماسي الرفيع في العاصمة كان في هذا الاتجاه كل الوقت». ويضيف في الوقت نفسه أنه «ليست هناك ضمانات ألّا يرد الحزب على أهداف قد تدفع الإسرائيلي إلى الردّ بدوره، وزيادة حدود الصراع وحدود النار، غير أنه من الواضح إلى اليوم أن الكل يقاتل تحت السقوف، لكن تلك السقوف ترتفع تدريجياً إلى مستويات عالية».

موازين القوى

ثم توقف الشريف عند إعلان الأمين العام لـ«حزب الله» أن هذه المعركة لن تكون معركة زوال إسرائيل. وعزا هذا الموقف اللافت إلى أن «موازين القوى الداعمة لإسرائيل بعد عملية (طوفان الأقصى) لغير مصلحة المقاومة، خاصة في فلسطين المحتلة، بسبب الظروف التي أحاطت بالعملية من جهة، وبسبب ضعف إمكانات حركة (حماس) العسكرية، رغم قدراتها الهائلة على الصمود، ولأن هذه المعركة تحديداً لم يقررها نصر الله، بل جاء منذ 8 أكتوبر ليقول إنه جبهة إسناد لا أكثر».

ولا يستغرب الشريف اعتراف نصر الله «المنطقي والبديهي بتحقيق إسرائيل أهدافاً ثمينة في اغتيال من اغتالتهم منذ البدايات، مع أن المعارك تعرف بنتائجها النهائية، التي لا تزال غير واضحة». ثم يختم: «من المؤكد أن إسرائيل لا تستطيع إنهاء (حزب الله) وضرب نفوذه، لكنها تستطيع التسبب بآلام شديدة، وهو بدوره يستطيع إيلامها»، معتبراً أن «سردية الحزب في الاستراتيجية قد لا تكون تغيّرت، لكنه يدرك في التكتيك أن زوال إسرائيل ليس في متناول اليد في هذه المرحلة أو في مرحلة أبعد».

عماد مغنية

ثلاثة من القيادات المركزية في «حزب الله» يُنسب اغتيالها لإسرائيل

ينسب «حزب الله» اغتيال ثلاث شخصيات عسكرية مركزية في جهازه إلى إسرائيل. وبدأ المسلسل في عام 2008 باغتيال عماد مغنية، الذي وصفه نصر الله بـ«قائد الانتصارين»، (2000 و2006)، وكان قد اغتيل بسيارة مفخخة بدمشق في فبراير (شباط) 2008. ومغنية، من مواليد 1962، ويُعد من مؤسسي «حزب الله» في 1982، وقاد الوحدة العسكرية بالحزب منذ منتصف التسعينات، كما قاد معارك الحزب ضد إسرائيل في 2006.بعد مغنية، تعرّض مصطفى بدر الدين للاغتيال في مايو (أيار) 2016، إذ قتله صاروخ استهدفه في مركز للحزب بريف دمشق في سوريا، وتضاربت هوية الجهة التي اغتالته بين مجموعات سورية معارضة أو إسرائيل. وبدر الدين من مواليد 1961، ويعد من الكوادر المؤسِّسة للحزب في 1982، وقاد وحدة الحزب العسكرية لفترات متقطعة بين 1992 - 1996 و2008 - 2016، كما قاد معارك الحزب في سوريا منذ 2012، وعدَّته إسرائيل «وزير أمن حزب الله».وبعد بدر الدين، اغتالت إسرائيل أخيراً فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت في يوليو (تموز) 2024، وشكر من مواليد 1961، ومن مؤسسي «حزب الله» في 1982، وقاد الوحدة العسكرية المركزية بالحزب في فترات متقطعة بين 1985 - 1992، و2016 – 2024، وترأس برنامج تطوير سلاح الحزب بالصواريخ الدقيقة والمسيّرات. ويقول الحزب إنه وضع البرامج التدريبية والعسكرية وتولى صياغة الخطط العسكرية. أيضاً قاد شكر معارك الحزب في جنوب لبنان ضد إسرائيل منذ 8 أكتوبر (تشرين الأول)، واغتيل بغارة جوية إسرائيلية في ضواحي بيروت الجنوبية يوم 30 يوليو 2024.