ديفيد لامي... وجه الدبلوماسية البريطانية الجديد يواجه قضايا عالمية شائكة

محام طموح ظل 14 سنة يعارض المحافظين

ديفيد لامي
ديفيد لامي
TT

ديفيد لامي... وجه الدبلوماسية البريطانية الجديد يواجه قضايا عالمية شائكة

ديفيد لامي
ديفيد لامي

ديفيد لامي، وزير الخارجية الجديد، هو «ذراع» كير ستارمر اليمنى على المستوى الدولي، ومنه يتوقّع العالم أن يسمع عن توجهات حكومة بريطانية جديدة تتمتع بتفويض عريض يتيح لها حرية التصرف مع الخصوم والأصدقاء.

النشأة والبداية

ولد ديفيد ليندون لامي يوم 19 يوليو (تموز) 1972 في حي هولواي، بشمال وسط العاصمة البريطانية لندن، لأسرة سوداء تتحدّر من غيانا (أميركا الجنوبية). وترعرع مع إخوته الأربعة في حي توتنهام المجاور برعاية أمه وحدها؛ إذ غادر أبوه منزل الأسرة عندما كان ديفيد في الثانية عشرة من العمر، وترك هذا الأمر تأثيراً بالغاً في حياته لجهة اهتمامه الشديد بالعناية بالأطفال. وفي أثناء دراسته في مدرسته الأولى بلندن، وكان يومذاك في العاشرة من عمره، حصل على منحة دراسية كورالية للإنشاد في كاتدرائية بيتربورو (شرق إنجلترا)، وكانت الدراسة في مدرسة «كينغز سكول» الخاصة في مدينة بيتربورو.

بعد إكمال لامي تعليمه المتوسط والثانوي في مدرسة «كينغز سكول» - بيتربورو، التحق بمعهد الدراسات الشرقية والأفريقية «سواس» العريق في جامعة لندن، ومنه تخرّج مُجازاً بالحقوق، وانتمى لنقابة المحامين في إنجلترا وويلز عام 1994. ثم درس في جامعة هارفارد الأميركية الشهيرة، وأكمل هناك شهادة الماجستير في القانون. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه كان أول بريطاني أسود يتخرّج في كلية الحقوق بجامعة هارفارد. وبعد الماجستير عمل محامياً في مكتب شركة هوارد رايس القانونية بولاية كاليفورنيا عامي 1997 – 1998، ثم شركة دي جي فريمان بين عامي 1998 و2000. كما كان لفترة قصيرة أستاذاً زائراً للمارساة المحاماة في «سواس» بلندن.

وأما بالنسبة لحياته الزوجية، فإنه تزوّج عام 2005 من الرسامة نيكولا غرين ورزقا بصبيين وبنت. وهو يصف نفسه بأنه مسيحي ومتحدر من أصل أفريقي... وبريطاني وإنجليزي ولندني وأوروبي، كما أنه يحمل جنسية مزدوجة غيانية - بريطانية.

لامي السياسي الطموح

منذ مرحلة الشباب المبكّر انتسب لامي إلى حزب العمال ونشط في صفوفه. وفي عام 2000 دخل «مجلس لندن التمثيلي»، وانتقل بعد ذلك في عام 2002 ليشغل مقعد دائرة منطقة توتنهام، بشمال لندن، عبر انتخاب فرعي أجري لملء شغور المقعد البرلماني إثر وفاة شاغله النائب الأسود العمالي اليساري بيرني غرانت. ويومذاك، في 22 يونيو (حزيران) 2002 حصل على 53.5 في المائة من الأصوات، ومتغلباً على أقريب منافسيه بفارق 5646 صوتاً، وغدا، بالتالي، وهو في سن السابعة والعشرين أصغر أعضاء مجلس العموم سناً... واحتفظ بهذا اللقب حتى انتخاب النائبة سارة تيثر في العام التالي.

ولقد احتفظ لامي بهذا المقعد منذ ذلك الحين، كما أنه شغل عدة مناصب وزارية ثانوية في حكومتي بلير وبراون بين عامي 2002 و2010؛ إذ عيّنه بلير عام 2002 مساعد وزير دولة بوزارة الصحة العامة، وعام 2003 أصبح مساعد وزير دولة للشؤون الدستورية. ثم عيّن وزير دولة في وزارة الثقافة عام 2005، ثم نائب وزير دولة للابتكار والجامعات والمهارات عام 2007، وبين عامي 2008 و2010 شغل لامي منصب وزير دولة للتعليم العالي.

الابتعاد التدريجي عن اليسار

بعد خسارة حزب العمال انتخابات 2010، أيّد لامي انتخاب إد ميليباند لزعامة الحزب، لكنه لم يدخل «حكومة الظل»، مفضلاً البقاء خارج الصفوف القيادية. وخلال هذه الفترة كانت توجهات لامي السياسية لا تزال تعتبر عن قناعات يسارية، وهذا بالتوازي مع الصعود الحثيث للتيار اليساري المتشدد، الذي تجسّد عام 2015 بانتخاب اليساري المخضرم جيريمي كوربن زعيماً.

في عام 2012، أيّد لامي ترشيح عمدة لندن الكبرى اليساري كين ليفينغستون لتولي منصب رئيس بلدية العاصمة، بل كان ضمن فريق مستشاريه ومعاونيه. وبعدها، عام 2014 أعلن عن رغبته بالترشح لمنصب رئيس البلدية، وقال إنه يخطّط لخوض المنافسة عام 2016. ولكن خلال الانتخابات العامة عام 2015 أعيد انتخابه نائباً في مجلس العموم، معزّزاً غالبيته بحصوله على نسبة 67.3 من أصوات دائرته، ومتقدّماً على أقرب منافسيه بأكثر من 23560.

حتى بعد هزيمة حزب العمال في تلك الانتخابات، كان لامي واحداً من 36 نائباً رشحوا جيريمي كوربن لزعامة الحزب... وكان محسوباً أحد أصدقائه. إلا أن طموحه لرئاسة بلدية لندن تعرض لانتكاسة كبرى عندما حل رابعاً بين المرشحين العماليين في التصويت الترشيحي، وفي نهاية المطاف فاز برئاسة البلدية متصدّر المنافسين صديق خان، الذي ما زال يشغل المنصب.

عند هذه المحطة بدأ تحول لامي - وبعض أترابه من اليساريين - التدريجي نحو الاعتدال والوسط. وتجلّى هذا التحوّل في تأييده لتوليّ ستارمر، الشخصية القانونية ذات التوجهات الوسطية، خلال انتخابات الزعامة عام 2020. ويُذكر أن انتخابات عام 2019 شهدت هزيمة مريرة للعمال، أنهت حقبة كورين واليسار لمصلحة التيار الوسطي المدعوم بقوة من مناصري إسرائيل داخل الحزب. وبالفعل، أثمر ولاء لامي للزعيم الجديد - المقرب جداً من إسرائيل - وخطه السياسي عندما عيّن في «حكومة الظل» لحقيبة العدل وكبير القانونيين. ولاحقاً، في التعديل الذي أجري في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، انتقل لتولي حقيبة وزارة الخارجية في «حكومة الظل».

تعيينه وزيراً للخارجية

في أعقاب فوز العمال الساحق بالانتخابات الأخيرة، واحتفاظ لامي بمقعده في توتنهام، بشمال لندن، أسند رئيس الوزراء الجديد ستارمر إليه منصب وزير الخارجية رسمياً. وجاء هذا التعيين على الرغم من أن لجنة تحقيق اكتشفت عام 2022 ارتكابه من دون قصد مخالفة مسلكية، واضطر على الأثر إلى تقديم كتاب اعتذار عن المخالفة إلى مفوضة المعايير البرلمانية. أما على الصعيد السياسي، فمنذ تولي لامي منصبه الوزاري الجديد، كان بين أبرز مواقفه تأييده الصريح لأوكرانيا في الحرب الروسية عليها، ودعمه حرب إسرائيل ضد حركة «حماس»، وهو في هذا الشأن، على الرغم من تأييده وقف إطلاق النار في غزة، فإنه مثل ستارمر، ما زال يربطه بإطلاق جميع الرهائن.

الموقف من إسرائيل

أيضاً حول موضوع إسرائيل والقضية الفلسطينية، تجدر الإشارة إلى أن ديفيد لامي يُعد من أكثر أعضاء الحكومة العمالية الجديدة تلقياً للدعم المالي من جماعة «أصدقاء إسرائيل في حزب العمال». وهو، بعد هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول) في غلاف قطاع غزة، زار إسرائيل في أواخر العام الفائت، تحديداً يوم 19 نوفمبر 2023، وهناك اجتمع برئيس الدولة الإسرائيلي إسحق هرتسوغ ووزير الخارجية إيلي كوهين.

وخلال ذلك الشهر، اعتبر لامي الغارة الإسرائيلية على أحد مخيمات اللاجئين في قطاع غزة «عملية مبرّرة». على الأثر، اتسمت بالسلبية علاقته بالشارع البريطاني المؤيد للقضية الفلسطينية، والمعارض لاستمرار الأعمال التهجيرية الدامية في القطاع، وأيضاً في الضفة الغربية. ومجدداً زار لامي إسرائيل يوم 14 يوليو (تموز) الحالي، والتقى في أثناء الزيارة بعائلات الرهائن الإسرائيليين الذين اختطفتهم «حماس»، وكرر من هناك المطالبة بوقف لإطلاق النار في غزة مشروط بالإفراج عن جميع الرهائن.

... ومن أوكرانيا

أما ما يخصّ أوكرانيا وانعكاسات حربها على المشهد الأوروبي، فكانت من أولى مهام ديفيد لامي وزياراته الخارجية بصفته وزيراً للخارجية البريطانية، اجتماعه بنظرائه: البولندي رادوسواف سيكورسكي، والألمانية آنالينا بيربوك، والسويدي توبياس بيلستروم، لمناقشة الوضع ومستجدات الحرب الروسية إلى جانب مواضيع أخرى. وحول علاقة بريطانيا - ما بعد «بريكست» (الخروج من الاتحاد الأوروبي)، شدد لامي الوزير لنظرائه الأوروبيين على أن الحكومة الجديدة في لندن حريصة على «إعادة ضبط» علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك تعزيز الخطط الخاصة بالأمن المشترك، وسياسات الطاقة، وأزمة تغير المناخ، ومواجهة الجوائح والأوبئة، والهجرة غير الشرعية.

ديفيد لامي، الذي يتمتع بخبرة سياسية وقانونية كبيرة، لديه أيضاً - كما سبقت الإشارة - اهتمامات أكاديمية وثقافية. وكان قد نشر خلال نوفمبر 2011 كتاباً بعنوان «بعيداً عن الرماد: بريطانيا في أعقاب اضطراب الشوارع»، تناول فيه الاضطرابات التي اجتاحت بعض المدن الإنجليزية عام 2011. ثم نشر كتاباً ثانياً من تأليفه بعنوان «قبائل» ناقش فيه أزمة الانقسامات الاجتماعية، ومدى الحاجة إلى الانتماء. ومن جهة ثانية، ظهر مقدِّماً خلال الفترة بين عامي 2022 و2024 في برنامج تلفزيوني قبل ظهر أيام الأحد. وهنا، نشير إلى أن المعلومات الموثقة عنه تفيد بأنه تلقى بين عامي 2019 و2024 أعلى دخل مادي بين النواب العماليين، إلى جانب مرتبه نائباً في مجلس العموم. من أبرز مواقف لامي في منصبه الوزاري

تأييده الصريح لأوكرانيا في الحرب الروسية عليها،

ودعمه حرب إسرائيل ضد «حماس»


مقالات ذات صلة

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

حصاد الأسبوع تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

بعد عِقد من الزمن، توافد الناخبون بإقليم جامو وكشمير، ذي الغالبية المسلمة والخاضع للإدارة الهندية، بأعداد قياسية للتصويت للحكومة المحلية في إطار انتخابات...

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع طابور اقتراع في كشمير (رويترز)

القضايا الرئيسية في انتخابات 2024 الكشميرية

برز إلغاء المادة 370 وتأسيس دولة مستقلة في جامو وكشمير قضيتَين رئيسيتين في هذه الانتخابات، بينما تشكّل البطالة مصدر قلق مزمن كبير. الصحافي زاهور مالك قال: «ثمة…

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع لقطة من مناظرة الثلاثاء الرئاسية (رويترز)

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

يُجمِع خبراء المناظرات الرئاسية الأميركية على أن الانتصارات فيها لا تُترجم بالضرورة فوزاً في الانتخابات، والمرشحون الذين يتألقون في المناظرات لا يفوزون دائماً

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي

ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

بعد 25 سنة أمضاها ميشال بارنييه في بروكسل (1999 – 2021) مفوضاً أوروبياً متنقلاً في مناصب عديدة، منها مسؤول عن السوق الأوروبية الداخلية ونائب لرئيس المفوضية،

ميشال أبونجم (باريس)
حصاد الأسبوع الرئيس الموريتاني ولد الغزواني يستقبل رئيس الوزراء الإسباني سانتشيز ورئيسة المفوضية الأوروبية فون در لاين في نواكشوط 
(آ فب)

إسبانيا تحاول التحكّم بهاجس التعامل مع المهاجرين

عندما فازت إسبانيا بكأس الأمم الأوروبية لكرة القدم، أواسط يوليو (تموز) الفائت، كان النجم الأبرز في الفريق الوطني الأمين جمال، وهو لاعب من أب مغربي وصل قبل 19

شوقي الريّس (مدريد)

«حرب لبنان» تظهر تغييراً كبيراً في نظرة أميركا تجاه إيران

القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)
القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)
TT

«حرب لبنان» تظهر تغييراً كبيراً في نظرة أميركا تجاه إيران

القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)
القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)

منذ اندلاع «حرب مساندة» غزة التي أطلقها «حزب الله» قبل نحو سنة، كانت المؤشرات كلها توحي بأن حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل رداً على «هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول)»، ستنتقل عاجلاً أو آجلاً إلى لبنان، في ظل إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه يخوض «حرباً ستكون طويلة لتغيير خريطة الشرق الأوسط». ومع ذلك، كانت معظم التحليلات تتكلّم عن «مأزق» إسرائيل «المأزومة»، وعن خلافاتها في الداخل ومع الخارج، ولا سيما الولايات المتحدة، ما سمح للبعض بالترويج أن أهداف هذه الحرب لم تتحقق، وقد لا تتحقق، سواء في غزة والأراضي الفلسطينية، أو في لبنان. لكن على أرض الواقع، كان من الواضح أن ما حقّقته إسرائيل حتى الآن من حربها على غزة يتجاوز كثيراً الردّ على «هجوم أكتوبر».

بعدما نجحت إسرائيل في تعزيز «صورة» ربط حربها التهجيرية في غزة بأنها «صراع وجود» مع إيران وأذرعها الساعين إلى تدميرها، وفّرت تلك الحرب للإسرائيليين أيضاً غطاءً دولياً واسعاً، ليس لإطالة حرب الإبادة ضد الفلسطينيين فقط، بل الانتقال أيضاً إلى حرب إبادة أخرى ضد لبنان.

هذا الأمر طرح تساؤلات عن حقيقة الموقف الأميركي تجاه أهداف إسرائيل، وعمّا إذا كانت حربها لتغيير «المشهد الإقليمي» ممكنة من دون موافقة أميركية. بيد أن الوقوف على المتغيرات الدراماتيكية التي طرأت على سياسة واشنطن يظهر تغييراً كبيراً في مقاربتها ونظرتها تجاه إيران، مع التغييرات التي طرأت على المشهد الدولي منذ اندلاع الحرب الأوكرانية.

«فرصة استراتيجية» لأميركا

قبل الدخول في ما عدّه البعض «تجاهلاً» من تل أبيب للمساعي الأميركية لفرض وقف لإطلاق النار في حربها المتصاعدة ضد «حزب الله»، روّجت تحليلات العديد من الصحف الأميركية ولا تزال لـ«خلافات» بين واشنطن وتل أبيب. إلا أن دينيس روس، المبعوث الرئاسي السابق في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، رأى أن ما جرى حتى الآن «يُعد فرصة استراتيجية لأميركا، ليس لتغيير المنطقة فقط، بل تغيير الوضع في لبنان أيضاً بعد اغتيال حسن نصر الله وإضعاف (حزب الله)». وخلال ندوة في «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى»، حضرتها «الشرق الأوسط»، يوم الأربعاء، وشاركت فيها دانا سترول، نائبة مساعد وزير الدفاع السابقة لشؤون الشرق الأوسط في إدارة بايدن، وديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الشرق الأدنى في إدارة ترمب، أضاف روس: «بات بمقدور أميركا اتخاذ إجراءات رادعة مباشرة، ليس ضد إيران فقط، بل المشاركة قبل ذلك في ضرب أذرعها مباشرة وملاحقتهم».

وبحسب روس، فإنه بعدما تمكّنت إسرائيل من ضرب و«تحييد» الخطر الذي يمثله «حزب الله» و«حماس»، يمكن لواشنطن الآن «ضرب وملاحقة الحوثيين، كإشارة إلى أننا قادرون على تعريض ما نعتقده نحن مصالح مهمة لها، وخصوصاً برنامجها النووي، وليس المصالح التي تعتقد إيران أنها مهمة بالنسبة لها فقط».

تغيير مسار المنطقة

من جهتها، قالت سترول، إن إرسال الأصول العسكرية الأميركية، منذ اندلاع الحرب قبل نحو سنة، وخصوصاً في الفترة الأخيرة «لا يُعبّر عن تصميم إدارة بايدن على مواجهة التهديدات الإقليمية، والدفاع عن إسرائيل، ومنع توسّع الحرب فقط، بل تغيير المسار في المنطقة أيضاً». وأضافت: «كل الأحداث التي وقعت منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) حتى الآن، بما فيها تصفية قوة (حماس) وضرب (حزب الله) وتوجيه ضربات لإيران، لم يكن بالضرورة مخطط لها. لكن اليوم، بعد كل الذي جرى، ينبغي أن نستغل ما حصل لنمضي في مسار مختلف، بما يعيد الاستقرار والسلام إلى المنطقة، وإعادة مسار العلاقات الإسرائيلية العربية إلى مسارها الذي انقطع بعد 7 أكتوبر».

من ناحيته، قال شينكر: «ثمة فهم خاطئ لتفسير ما تعنيه المطالبة بوقف إطلاق النار، سواء في غزة أو لبنان، وذلك لأن الأهداف التي وضعت لا يمكن تحقيقها من دون تغيير الديناميات السابقة». وأردف أنه بمعزل عن الإدارة الجديدة التي ستأتي بعد الانتخابات الأميركية، وسواء أكان الفائز فيها كامالا هاريس أم دونالد ترمب، لا شك أنه «سيكون من الصعب العودة إلى السياسات الأميركية السابقة تجاه إيران وأذرعها وبرنامجها النووي». وأكد أن أميركا «ستلعب دوراً رئيسياً في إعادة تشكيل وترتيب الأوضاع بعد حرب غزة، التي ستنتهي عاجلاً أم آجلاً، وكذلك في لبنان».

وهكذا، أمام هذه «الرؤية» التي تعكس حقيقة الموقف الأميركي للصراع الجاري، إن إصرار البعض على اعتباره إذعاناً وارتباكاً أميركياً أمام رغبات إسرائيل، قد يكون من الضروري قراءة «التحولات» التي طرأت على موقف إدارة الرئيس جو بايدن، منذ اندلاع الحرب.

تقديرات مختلفة للحرب في لبنان

كانت هناك تقديرات مختلفة داخل إدارة بايدن عن طبيعة الأخطار التي يمكن أن تواجهها «العملية» العسكرية التي أطلقتها إسرائيل ضد «حزب الله»، وعن قدراته العسكرية الحقيقية التي جرى تضخيمها. ولكن، بدلاً من تبيّن صحة تلك التقديرات، انتهى الأمر بتبنّي العديد من المسؤولين الأميركيين النجاح الذي حقّقته إسرائيل في سعيها - بزخم مذهل - إلى إضعاف «حزب الله». وهو ما بدا أنه يتناسب مع نمط إدارة بايدن، التي لطالما تدرّجت في التعبير عن مواقفها من الأحداث السياسية الخارجية.

إذ بعدما تحثّ إسرائيل على لجم اندفاعاتها، كانت لا تلبث أن تتراجع لاحقاً. وبعدما أوضح بايدن رغبته في «الوقف الفوري» للقتال في لبنان، وتحفّظه عن التوغّل البرّي، ظهر انقسام بين المسؤولين الأميركيين حول «الحكمة» من الحملة الإسرائيلية ضد «حزب الله»، خاصة منذ مقتل زعيمه حسن نصر الله، في 27 سبتمبر (أيلول) الماضي. ففي حين ركّز البعض كثيراً على المخاطر، قال آخرون إنه إذا أمكن توجيه ضربة قوية للحزب من دون إثارة صراع إقليمي أوسع يجذب إيران فإن ذلك قد يُعدّ نجاحاً.

واليوم، يذهب كثيرون إلى القول إن وجهة النظر الأخيرة هي التي تغلبت في النهاية، وعبّرت عنها تصريحات وزير الخارجية أنتوني بلينكن، «غير المعهودة» من كبير الدبلوماسيين، حين تكلّم عن «العدالة» التي نفّذت بحق نصر الله.

الضغط العسكري يدعم الدبلوماسية

يوم الاثنين الماضي، قال ماثيو ميللر، الناطق باسم الخارجية للصحافيين: «نحن بالطبع نواصل دعم وقف إطلاق النار، ولكن في الوقت نفسه، هناك أمران آخران صحيحان أيضاً: الضغط العسكري يمكن في بعض الأحيان أن يمكّن الدبلوماسية. وطبعاً، قد يؤدي أيضاً إلى سوء التقدير... يمكن أن يؤدي إلى عواقب غير مقصودة، ونحن نتحادث مع إسرائيل حول كل هذه العوامل الآن».

وحقاً، حتى الاتفاق الذي قيل إنه حصل بين أميركا وفرنسا وإسرائيل ودول عدة توصُّلاً إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في لبنان، لمدة 3 أسابيع، بدا أن واشنطن قد تخلت عنه.

هذا ما بدا بعدما رأى مسؤولون في إدارة بايدن أن إسرائيل تحاول توجيه ضربة حاسمة لـ«حزب الله» عبر اغتيال زعيمه، بعد الضربات الساحقة التي نفّذتها على امتداد الأشهر الماضية، وتوجّت بما سُمي بهجوم «البيجر»، وبتصفية العديد من قياداته العليا والوسطى.

ورغم اتهام بنيامين نتنياهو بأنه هو الذي عاد عن الاتفاق الذي وافق عليه، فإن «الصمت» الأميركي الذي تلا اغتيال نصر الله، كاد يؤدي إلى تأجيل حتى إلغاء زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى لبنان، التي أصرّ قصر الإليزيه عليها في نهاية المطاف، تعبيراً عن «غضب» فرنسا، الذي قابلته إسرائيل بقصف هدف في العاصمة بيروت، للمرة الأولى يوم الأحد الماضي.

الحسم في تفكيك بنية «حزب الله»

بعدها، يوم الاثنين، في إشارة واضحة لحسم التردد ودعم العملية الإسرائيلية، قال «البنتاغون» إن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن اتفق مع نظيره الإسرائيلي يوآف غالانت «على ضرورة تفكيك البنية التحتية الهجومية على طول الحدود الشمالية لإسرائيل، لضمان عجز (حزب الله) عن شنّ هجمات على غرار هجمات 7 أكتوبر على المجتمعات الإسرائيلية في تلك المنطقة». وأردف «البنتاغون» أن أوستن «راجع التطورات الأمنية والعمليات الإسرائيلية» مع غالانت، وأكد مجدداً «دعم الولايات المتحدة لحقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد إيران و(حزب الله) و(حماس) والحوثيين وغيرها من المنظمات الإرهابية المدعومة من إيران».

ورغم تأكيد أوستن على أهمية «التحول في نهاية المطاف من العمليات العسكرية إلى المسار الدبلوماسي لتوفير الأمن والاستقرار في أقرب وقت ممكن»، فإنه أوضح أن واشنطن في وضع جيد للدفاع عن أفرادها وشركائها وحلفائها في مواجهة تهديدات إيران والمنظمات الإرهابية المدعومة منها، وأنها عازمة على منع أي جهة فاعلة من استغلال التوترات أو توسيع الصراع. كذلك ناقش أوستن مع غالانت ما سمّاه «العواقب الوخيمة» التي ستتحمّلها إيران في حال اختارت شنّ هجوم عسكري مباشر ضد إسرائيل.

ومقابل تركيز إدارة بايدن كثيراً من مساعيها منذ ما يقرب من سنة على منع التصعيد بين إسرائيل و«حزب الله»، أعجب بعض المسؤولين بالإنجازات الإسرائيلية. ومع شلل الحزب وتراجع قدراته «الإقليمية»، بات هؤلاء يعتقدون أن الوضع بات الآن مختلفاً تماماً، مشيرين إلى أن إسرائيل في أقوى موقف لها منذ بدأ الجانبان تبادل إطلاق النار منذ 8 أكتوبر بعد فتح «جبهة الإسناد» لغزة.

ولكن، مع ذلك، قال مسؤولون كبار إنهم كانوا ينصحون إسرائيل بألّا تشنّ غزواً برّياً للبنان، ويحذرون من أن خطوة كهذه يمكن أن تأتي بنتائج عكسية، تتمثّل ببناء الدعم السياسي لـ«حزب الله» داخل لبنان وإطلاق العنان لعواقب غير متوقعة على المدنيين والتدخل الإيراني.

لا كلام عن وقف التصعيد

من جهة ثانية، مع الهجمات الصاروخية الإيرانية «المحسوبة» ضد إسرائيل، رداً على قتل إسماعيل هنية وحسن نصر الله، بدا لافتاً أن الرئيس بايدن لم يتكلّم - للمرة الأولى - عن ضرورة «وقف التصعيد» و«ضبط النفس». بل العكس، أكّد أن واشنطن «تدعم بالكامل» إسرائيل بعد الهجوم الذي جرى صدّه بدعم أميركي و«أثبت انعدام فاعليته»، وأن المناقشات مستمرة مع إسرائيل بشأن الردّ، مضيفاً أن «العواقب على إيران لم تُحدد بعد».

موقف بايدن لم يكن وحيداً، إذ اندفع المشرّعون الأميركيون من الحزبين مؤيدين مواقف أكثر حزماً من إيران، وداعين إلى تبني سلسلة من التدابير المحددة والمصمّمة لشلّ القوى العسكرية لطهران ووكلائها، وإلى تمرير تمويل إضافي لإسرائيل في أعقاب هجوم إيران.

وبالفعل، يرى كثرة من المسؤولين الأميركيين اليوم، أن إدارة بايدن تحوّلت من محاولة منع اتساع حرب غزة إلى إدارة «الحرب الشاملة»، في ظل رؤية غدت موحّدة مع إسرائيل تجاه الأهداف المأمول تنفيذها. وتساءلت صحيفة «النيويورك تايمز» عن المدى الذي يمكن أن تبلغه الحرب، وما إذا كانت الولايات المتحدة ستنخرط فيها بشكل مباشر، في ظل مخاوف من احتمال أن ترد إسرائيل على صواريخ إيران باستهداف منشآتها النووية، ما قد يؤدي إلى خروج الحرب عن السيطرة.

لكن بايدن عاد وأوضح، يوم الأربعاء، أنه لا يدعم أي استهداف إسرائيلي للبرنامج النووي الإيراني، فاتحاً المجال أمام تكهنات عن بدء مفاوضات للتوصل إلى تسوية بين الطرفين. وهذا، بالتوازي مع تقديم مزيد من المساعدات لإسرائيل لإنهاء الحرب ضد «حماس» في غزة، والتصدّي للهجمات التي تنفذها جماعة الحوثي في اليمن ضد إسرائيل والملاحة في البحر الأحمر والمضائق الدولية القريبة، ودعم غزوها البرّي للبنان «لتفكيك البنية التحتية» لـ«حزب الله».

تساؤلات مع تغيير أميركا نبرتها واستراتيجيتها

> وسط تحذيرات من أن يكون لبنان هو ساحة «الحرب الشاملة» بين إسرائيل وإيران، أشار مسؤول أميركي كبير إلى المشاورات الواسعة النطاق مع إسرائيل، بما في ذلك مع مكتب بنيامين نتنياهو لصوغ الاستجابة المناسبة، من دون أن يشير إلى «الخلافات» القديمة بين الرئيس جو بايدن ونتنياهو على طريقة تعامل إسرائيل مع حرب غزة، وانتقال المعركة إلى لبنان. وأضاف المسؤول: «لكن بعد دخول إيران المعركة بشكل مباشر، التي تشكل (تهديداً مدمراً) لإسرائيل، تغيّرت نبرة أميركا واستراتيجيتها». أما «النيويورك تايمز» فنقلت عن جوناثان بانيكوف، مدير «مبادرة سكوكروفت للأمن في الشرق الأوسط بالمجلس الأطلسي»، قوله إن «الحرب الشاملة حتى الحرب الأكثر محدودية، يمكن أن تكون مدمّرة للبنان وإسرائيل والمنطقة. ولكن من خلالها ستأتي فرص غير متوقعة أيضاً لتقويض النفوذ الإيراني الخبيث في المنطقة، من خلال عرقلة جهودها لإعادة تشكيل (حزب الله)، مثلاً. وبالتالي، ينبغي للإدارة الجديدة أن تكون جاهزة للاستفادة من هذه الفرص». لكن مع المفاجأة التي تعرّضت لها إسرائيل أخيراً خلال «توغّلاتها» البرّية، وسقوط العديد من جنودها بين قتيل وجريح من قبل مقاتلي (حزب الله)، طرح العديد من التساؤلات... منها عمّا إذا كانت ستعيد النظر بخططها العسكرية وبحساباتها فيما يتعلق بكيفية إقامتها «المنطقة العازلة» في جنوب لبنان، تطبيقاً للقرار 1701؟ وأيضاً، هل ستكثّف قصفها الوحشي والتدميري، بما يؤدي بتلك التوغّلات إلى احتلال جديد، أو تحويل المنطقة إلى «أرض محروقة»؟ وهل سيكون متاحاً مرة أخرى أمام الحزب واللبنانيين عموماً، إعادة تنظيم «مقاومة» ما، على قاعدة توافق سياسي ينهي سلطة «حزب الله» لمصلحة الدولة... أم أن المقوّمات مستعصية في ظل الانهيار السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه لبنان؟