ألبرتو مانغويل: الترجمات الأولى للقرآن كان هدفها دحضه

كتاب جديد له صدر حديثاً بالعربية

ألبرتو مانغويل
ألبرتو مانغويل
TT
20

ألبرتو مانغويل: الترجمات الأولى للقرآن كان هدفها دحضه

ألبرتو مانغويل
ألبرتو مانغويل

كتاب غير تقليدي عن «فنّ الترجمة» لكاتب فذّ، عشق متابِعوه مؤلّفاته الشيقة حول القراءة، فقد تحوّل ألبرتو مانغويل، الكندي الأرجنتيني، إلى ما يشبه الإدمان بالنسبة للبعض، وكتابه الجديد، الذي صدرت ترجمته العربية عن «دار الساقي» في بيروت، لا بد سيلقى اهتماماً كما مؤلّفاته السابقة، سيّما وأن المترجِم مالك سلمان، بذل جهداً للخروج بنص يوازي، قدر الممكن، الأصل، لا سيما وأنه امتُحن في نقل تعابير صعبة، وأسماء أجنبية كثيرة، بينها لاتينية ويونانية، تحتاج عودةً إلى المصادر.

قد يخطر لك أنك ستقرأ تنظيراً في أهمية الترجمة، ودورها، وسقطاتها، والخدمات الحضارية التي قدمتها لتوثيق العُرى الفكرية والإنسانية بين الشعوب، لكنك سرعان ما تكتشف نصوصاً قصيرة لا يتجاوز كل منها الصفحات الثلاث، ولكل نص عنوان من كلمة واحدة، لا يبدو ظاهرياً أنها تَمُتّ للترجمة بصِلة، مثل، «قدّيس»، «هدوء»، «نقي»، «اسم»، «بذرة»، «موت»، «ظلّ»، أي أنها عناوين تزيد إحساس القارئ بالغموض ما لم يقرأ ويتمعّن. أما المضمون فيُعيدك إلى الموضوع الأثير عند مانغويل، ألا وهو القراءة، لا، بل إن الترجمة بالنسبة له نوع آخر من أنواع القراءة ليس أكثر، وهي أسمى أنواعها، وعلى هذا يبني الكتاب.

غلاف الكتاب

مانغويل تحدّث صغيراً ثلاث لغات

في التقديم يشير مانغويل إلى دوافعه الخاصة للاهتمام بموضوع الترجمة، باعتباره نشأ متحدثاً عدة لغات في وقت واحد، فقد تكلّم الألمانية والإنجليزية مع مُربّيته التشيكية، ثم تعلّم الإسبانية في سن الثامنة، وكان يستخدم هذه اللغات الثلاث، ويتنقّل بينها بعفوية، دون شعور بالحواجز، وعندما كبر قليلاً بدأ يترجم بتلقائيةٍ بعضَ النصوص التي يحبها؛ ليتشاركها مع أصحابه، وكأنه يقول لكل منهم: «وأنت أيضاً يجب أن تقرأ هذا!»، من هنا فهم أن القارئ تقتصر معرفته على النص المترجَم، بينما النص الأصلي يختفي تماماً بالنسبة له، ببساطة لأنه لا يجيد التعامل معه.

أما كاتب النص الأصلي، فهو ذاك الشخص الذي يبقى يحاول أن يطابق بين ما يدور في ذهنه وما يسطره، وهو يعلم أن محاولاته تبقى مشُوبة بالنقص، وأنها لن تصل إلى مرحلة الاكتمال أبداً، وبنتيجة استحالة تحقُّق هذا، فإن الفن يستدعي مُشاهداً أو مستمعاً أو قارئاً، «الفن يتخلّق؛ لأن اللغة محكومة بالفشل»، وقد يكون الفن نوعاً من الكذب، بحسب أفلاطون؛ لأنه يشبه انعكاس صورة الواقع على جدار، وفي هذه الحالة تصبح الترجمة هي ظل الظل، أو ظلاً لظل ظل.

كل ترجمة هي حياة جديدة للنص

يلفت الكاتب إلى أن كلمة «ترجمة» (ترانسلشو) في اللاتينية في العصور الوسطى كانت تعني نقل رُفات قدّيس من مكان إلى آخر، «وعلى غرار حاملي الرُّفات المقدّس، يجرّد المترجمون النص من مظهره الخارجي، ويُعِيدون زراعته في تربة لغتهم الأصلية»، من هنا فإن الترجمة «معجزة تنطوي على فِعل قياميّ»، وهي بمثابة رثاء للنص الأصلي، واستنبات لنص جديد من السُّبات والموت. هذا طقس على كل مترجِم أن يؤديه: «اسمح لـ(الموت) أن يظهر في النص، وللأحرف أن تتجمر، ولآخِر نفَسٍ أن يخرج، ومن ثم وبعد أن يشهد وحده على حضور الموت، يحصل المترجِم على الإذن ليقلب الصفحة الأخيرة، ويبدأ الترجمة من الصفحة الأولى».

وكل قراءة هي يقظة جديدة للنص، وتصبح جميع هذه اليقظات المتعاقبة جزءاً من النص نفسه، «نحن لا نقرأ النص الأصلي أبداً، بل نقرأ التاريخ المتراكِم لقراءاته المتكررة».

كائنات أريستوفان

يستعين مانغويل بالأساطير حيناً، وبالفلسفة حيناً آخر، وبالقصص والاستشهادات الأدبية ليوضح فكرته، وفي رأيه أن كل نص في البداية هو كائن مفرد ملتفّ على نفسه، ثم يبدأ النص بالتخلُّق والتشكُّل، ويُقسَم إلى اثنين؛ النص الأصلي من جانب، ومن ثم النص المقروء والمؤوّل والمترجَم من جهة أخرى.

وعلى غرار كائنات أريستوفان المشطورة، فإن النصوص المنفصلة تتُوق إلى الاتحاد مرة أخرى، ولمن لا يعرف ما ورد عند أفلاطون حول كائنات أريستوفان، فإن البشر الأوائل كانوا مخلوقات مخنّثة، لها جسد كروي، وأربع أرجل، كما أربع أذرع، ووجهان، ومجموعتان من الأعضاء الجنسية؛ أنثوية وذكورية. هذه المخلوقات التي كانت متعجرفة وقوية، هدّدَت بالصعود إلى السماء، فلجأ زيوس إلى شطر كل منها إلى نصفَين، ومنذ ذلك الوقت يتُوق كل نصف لملاقاة نصفه الآخر، وهكذا هي علاقة النص الأساسي بالنصوص التي تتولّد عنه في ذهن القارئ، أو عبر عمل المترجم.

الترجمة نوع من التأويل

ليست كل الترجمات بالجودة نفسها، كتب فولتير: «اللعنة على صانعي الترجمات الحرفية، الذين يقومون بتحويل كل كلمة وتجريدها من معناها! فهنا يمكننا القول بدقة: إن الحرفية تقتل، والروح تخلُق الحياة».

لكن قد تبُوء كل الاجتهادات في الترجمة بالفشل كما يشرح لنا دانتي؛ لأن التناغم المنبثق من الوحي الأدبي لا يقبل الترجمة دون التضحية بعذوبته وتناسقه. قال في كتابه «اللقاء» إن «هذا هو سبب افتقار الأشعار في سِفر المزامير إلى عذوبة الموسيقى، والتناغم، فقد تمت الترجمة من العبرية إلى اليونانية، ومن اليونانية إلى اللاتينية، وبدءاً من الترجمة الأولى أخذت تلك العذوبة في الانحسار حتى التلاشي».

فكل ترجمة هي ولادة جديدة، و«يُحدِث المترجم في النص نوعاً من التقمّص الروحي، فمن خلال الترجمة يعود النص إلى الحياة في جسد آخر... الترجمة شكل من أشكال التأويل»، وكل نص يمكن استنطاقه تبعاً لما يتخيّله القارئ، أو يريده المترجِم.

من هنا يأتي تعريف بورخيس، الذي يرى أن أي ترجمة هي «مسودة أخرى للنص الأصلي مكتوبة بلغة أخرى، والترجمة بهذه الحالة هي ببساطة حلقة أخرى في السلسلة الإبداعية، لا تقِل أو تفُوق في جودتها أي مسودة أخرى، بل تختلف عنها».

وتأتي ترجمة الكتاب الواحد، نسخة بعد أخرى، دون أن تتمكّن أيّ منها من أن تدّعي أنها الأخيرة، أو أنها الأفضل، فقد اعتُبرت «أوديسة» بوب مثلاً، تجربة شائنة، أما اليوم فهي تصنّف على أنها نص كلاسيكي.

ويعرّج الكتاب على تنزيل القرآن، فهو كلام الله؛ لذا «هو غاية في النقاء، ولا يمكن إعادة إنتاجه بلغة أخرى أو شكل آخر؛ لأنه نزل بالعربية»، والترجمة تكون للمعنى في هذه الحالة.

تُرجم القرآن في البدء ليُدحَض

ومن طريف ما يذكره أن الترجمات الأولى التي وُضِعت للقرآن، جاءت بهدف إنكاره، لا إيصاله إلى أمم أخرى، ففي القرن التاسع قام نيسيتاس بيزانتوس، الدارس المقيم في القسطنطينية، بإنجاز ترجمة يونانية، تحمل عنوان «دحض القرآن»، وبعد ثلاثة قرون قام روبرت ألكيتوني، بطلب من رئيس دير كلوني، بإنجاز ترجمة لاتينية أسماها «شريعة النبي المزيّف محمد»، تعمّد فيها تشويه ترجمة بعض الآيات؛ لكي يسهل عليه دحضها.

إشارات عديدة في الكتاب إلى نصوص عربية، منها «رسالة حي بن يقظان» لابن طفيل، الذي كان طبيباً وفقيهاً وفيلسوفاً، وشكّل كتابه ما يعتبره مانغويل «السلف السحري» لرواية روبنسون كروزو، وقرأه كل من سبينوزا ولايبنتز، وليسينغ، وغراسيان، وآخرين، وجدوا فيه دفاعاً عن العقل الطبيعي، وإقراراً بأهمية الإيمان في الوقت نفسه.

بدا العالم بالنسبة لحي بن يقظان وكأنه نصّ، عليه أن يفهمه ويفسّره من خلال العقل والشعور، وهي استراتيجية ستمكّنه من الاستنارة، بدون حاجة إلى الفلسفة.

 

مضمون الكتاب يُعيدك إلى الموضوع الأثير عند مانغويل ألا وهو القراءة لا بل إن الترجمة بالنسبة له نوع آخر من أنواع القراءة ليس أكثر

يشرح مانغويل: «بدا العالم لحي كتاباً مترجَماً قابلاً للفهم والإدراك، هكذا أصبحت الجزيرة التي وُجد عليها هي مكتبته، ومكاناً للتعلّم من خلال فضوله الطبيعي وذكائه»، وحين يلتقي بإنسان آخر هو «أبسال» الذي يعيش على جزيرة أخرى، اعتزل فيها سعياً إلى التنسك الروحي، وجدنا «أن الاستنارة التي وصل إليها حي هي أقرب إلى تلك التي وجدها أبسال من خلال مكتبته، فمكتبة أبسال المكوّنة من الكتب، ومكتبة حي الطبيعية، كلتاهما مكرّستان للتعليم».

يقسم غوته الترجمة إلى ثلاثة أنواع؛ أولاً: الترجمة التي تُعرّف القارئ بالثقافة الأجنبية، من خلال نقل حرفي، مثل إنجيل لوثر. ثانياً: الترجمة التي تسعى إلى إيجاد معادل في النص المترجَم للنص الأصلي، وتحاول إيجاد مصطلحات ومفاهيم توازي المفاهيم والمصطلحات الأصلية، وثالثاً: الترجمة التي لا تلتزم بشكل دقيق بالنص الأول، وتسعى لأن تكون بذاتها عملاً فنياً يتمتع بمزايا جمالية وأدبية، كالتي يتمتع بها الأصل.

المترجِم مغبون

لكن تبقى مشكلة الترجمة أننا نحن القرّاء في عجز عن قراءتها بطريقة محايدة وبريئة، فحالما نعرف أن النص مترجَم، نبدأ في التعامل معه بمعايير جديدة، ونادراً ما نُضفي على المترجِم تلك الخصائص التي نعزوها للمؤلف.

ويعيش المترجمون غُبناً كبيراً، فهم يعملون في منطقة مجهولة أو خفية، فلا تُذكَر أسماؤهم، ولا يُعترَف لهم بفضل.

ويُنقل عن شكسبير أنه بينما كان يترجم مع صديقه بن جونسون «إنجيل الملك جيمز»، سأله بن جونسون بعد ترجمة عدة أسطر من «سفر إسحاق»: «من سيعرف أننا شاركنا في العمل؟»، يجيبه شكسبير: «الله ربما».



ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»
TT
20

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

بعد تطواف روائي بين تونس في «باب الليل»، وسوريا في «حذاء فلليني»، يعود الروائي المصري وحيد الطويلة في روايته الأحدث: «سنوات النمش»، إلى عالمه الأثير في القرية المصرية، تلك التي عايَن بعض جوانبها في روايات سابقة، مثل «أحمر خفيف» و«الحب بمن حضر»، وفي كل مرة يقدم هذه القرية من منظور مغاير، مكتشفاً جانباً جديداً من قوانينها وجمالياتها، وقواعدها الصارمة ظاهرياً. هذه القواعد والتقاليد نفسها التي لا يتوقف أهل القرية عن انتهاكها سراً، في تواطؤ ضمني مفضوح يعرفه الجميع، لكنهم لا يجرؤون على الإفصاح عنه وإعلانه.

«سنوات النمش» (الصادرة عن «دار المحرر») يشير عنوانها إلى البقع التي تعكِّر البياض، أو اللون الأصلي، فكأن الراوي يرصد السنوات التي كانت مليئة بالبقع في حياته وحياة قريته وناسها، وتدور أحداثها في إحدى قرى الدلتا، شمال القاهرة، عبر راوٍ طفل يسرد الأحداث كلها بعينيه ورؤيته؛ فهو راوٍ مراقِب ومشارِك ومتورِّط؛ إما في الأحداث بشكل مباشر، أو بتعاطفه مع حدث هنا أو هناك، حتى ما وقع قبل ولادته، ويظل يكبر مع الأحداث متابعاً هذه القرية البعيدة عن سيطرة الحكومات المتعاقبة واهتماماتها، أو كما يعتبرها أهلها «على شمال الدنيا»، وأنها ليست موجودة على الخريطة؛ فهي قرية غارقة في الجهل والمرض والخرافة.

زمنياً، يغطي فضاء الرواية المساحة منذ الأربعينات تقريباً، وحتى نهاية القرن العشرين، حين نرى الراوي الطفل وقد صار شيخاً كبيراً يزور المعالم الأثرية في الأقصر مع ابنتيه الشابتين، ويغني مع المغنين الشعبيين. وطوال هذه الفترة ترصد الرواية تحولات هذه القرية منذ العهد الملكي، حين كانت براري لا يسكنها سوى اللصوص وقُطّاع الطرق؛ إذ كانت اللصوصية المهنة الأشهر التي تتباهى بها عائلات القرية، مروراً بثورة يوليو (تموز) وزعامة جمال عبد الناصر، وصولاً لمرحلة الرئيس الأسبق أنور السادات، وانعكاس هذه التحولات السياسية الكبيرة على القرية وقاطنيها.

رواية الطفل للأحداث منحت السرد قدرة كبيرة على الفضح والتعرية، وكشف علاقات الحب الخفية، وما ينتج عنها أحياناً من صراعات، يكون الحب سببها الحقيقي المضمر، الذي يعلمه الجميع، لكن كل أطراف الصراع تدّعي أسباباً أخرى معلنة.

هذه القدرة الطفولية على الفضح منحت السرد قدراً كبيراً من السخرية والكوميديا، فالفضح بطبيعته له سمت كرنفالي ساخر وكوميدي، أقرب إلى المسخرة؛ فمن يبدو في الظاهر وقوراً نرى (بعين الطفل المندهش) باطنه المتهتِّك المحتجب عن الجميع.

قدرة الراوي الطفل على الفضح والتعرية، تطال حتى أخته، كاشفاً عن مدى عشقها للتحكُّم والتسلُّط؛ إذ يمنحها القدر فرصة لممارسة ميولها السلطوية الكامنة فيها، عبر زواجها من ضابط طيب يستجيب لكل طلباتها، فتجد الفرصة سانحة لتمارس أدواره الرسمية في غيابه، فتعطي هي الأوامر للعساكر، وتتواصل مع مديرية الأمن نيابة عنه، كاشفة عن جانبها المتسلِّط الكامن فيها، الذي ما يني يجد نافذة صغيرة لينشط، معلناً وجوده وتمدُّده، حتى إنها تنتظر عودة زوجها الخاضع لسطوتها حباً فيها، لتمارس عليه سطوتها، وتمسك بالميكروفون كأنها ديكتاتور يخطب في شعبه الخاضع، ويكون هو كل جمهورها ورعيتها.

ثمة جانب آخر، تفضحه الحكاية، أو الحكايات التي تترى في تتابع مدهش، وهو الجانب الذكوري المسيطر على هذا العالم القروي البسيط، ممثلاً في استئثار الرجل بالمواريث، ومنع الميراث عن المرأة، فضلاً عن رفض كثير من الرجال أن تتزوج شقيقاتهم، ويكون المعلن أن هذا الرفض بسبب عدم خروج الميراث لرجل غريب، لكن السبب المضمر هو رفض الرجل أن يطأ رجل غريب شقيقته. لكن رغم هذه الذكورية المهيمنة، ثمة تمثيلات على التمرُّد النسوي لكسر هذه القواعد الذكورية المتصلبة، مثل العمة فريال، العزباء التي تصدم الجميع، وتخترق الأعراف والمواضعات الاجتماعية، وتعلن رغبتها في الزواج ثانية، بعد طلاقها من زوجها اللص، ولا تكتفي بإعلان هذه الرغبة التي تنتهك السائد، بل تمعن في التحدي، ولا تكف عن البحث بنفسها عن عريس.

يعتمد الراوي على صيغة الحكي الشعبي الشفاهي؛ فتبدو الرواية كلها وكأنها سلسلة محكيات يرويها الطفل (بعدما كبر) فيستدعي حياته وعلاقاته وما رآه وسمعه في القرية وعنها وعن شخوصها طوال طفولتها، بطريقة أقرب إلى جلسات السمر واستدعاء الذكريات بشكل شفاهي، دون أن يحكمه رابط واضح، فالحكايات تتناسل، دون التزام بتتابع زمني دقيق؛ فقد تأتي حكاية حديثة عن الأب، ثم تتلوها حكاية عن الجد، ثم حكاية عن أحد أصدقاء الطفولة، وحكاية أخرى عن إحدى العمات، فحلقات الحكي تتداخل وتتابع بلا تخطيط مسبق، وتتمثل شفاهية الحكي في أن الراوي قد ينسى بعض الذكريات، وسرعان ما يتذكرها، مثلما يقول في أحد المواضع: «كنت وأبي على الطريق، لا أتذكر إلى أين... لا، لا، تذكرت الآن، كنا في نهاية فقرة من فقرات الشتاء المتقطعة، يغزونا المطر ثم يتوقف ليومين»... هذه الآلية في إعلان النسيان والاستدراك بالتذكر، آلية شفاهية بامتياز. فضلاً عن بدء التذكر بالأجواء والطقس والمطر، وكأن الراوي يعيد تذكر المشهد كاملاً بصرياً، وأنه يحدث الآن أمام عينيه؛ فالحكاية لا تكتمل إلا بتذكُّر تفاصيلها كاملة، بأجوائها، وبتعبيرات الوجوه أحياناً؛ فهو دائماً يرسم مشاهد بصرية مكتملة، ليضع المتلقي الضمني، في قلب الحدث والحكاية.

حكاية القرية، أو مجموع الحكايات الصغيرة التي تشكل عبر تضافرها حكايتها ككل (بما فيها من علاقات حب وصراعات عائلية، وثارات وفقر وحفاء، وطموحات وانكسارات للشخوص الأفراد من آحاد الناس) لا تنفصل عن حكايات أكبر، فحكايتها محض دائرة صغرى، تحتويها دوائر أكبر، منها حكاية الوطن وتحولاته السياسية، من ملكية، إلى نظام جمهوري وأحلام القومية العربية، وتعلّق الأب بزعامة عبد الناصر، ثم مرحلة الانفتاح، وهناك أيضاً دائرة الحروب، بدءاً من الاحتلال الإنجليزي وآثاره الممثلة في بعض الطرق والكباري التي شُيّدت في ظل حكم الاحتلال، ثم حرب فلسطين، ونكسة 67، وصولاً إلى حرب أكتوبر (تشرين الأول) 73؛ فهذه دائرة أخرى تلقي بظلال تحولاتها على دائرة حكاية القرية. ثمة دائرة عربية لا تنفصل عن الدوائر الأصغر، تتجلى أحيان عبر سفر أحد أقارب الطفل الراوي إلى الشام وإقامته في لبنان فترة طويلة، ثم فراره منها قبل الحرب الأهلية، وعودته إلى قريته/ وقوقعته؛ إذ تنكمش أحلام أبناء القرية، في استعارة لانكماش الأحلام العربية الكبرى تحت وطأة الحروب والنزاعات الطائفية والقومية، وعودة كل شخص للانزواء والتقوقع في قريته/ طائفته/ قوميته، حتى لو لم يكن متناغماً معها، بعد تبدُّد حلم اندماج الجميع في كلٍّ جامع.

ثمة ملمح آخر يتصل بكسر تخييلية الحكاية، وإيجاد صلة بها بالوقع المعيش؛ فالرواية رغم كونها بالأساس عملاً تخييلياً، فإنها المؤلف يتعمد (كعادته) خلق وشائج تربطها بالواقع السياسي والثقافي والفني، كما فعل في «جنازة جديدة لعماد حمدي» التي جعل اسم بطلها على اسم النجم السينمائي الشهير، أو «حذاء فلليني» التي تحيل للمخرج الإيطالي الشهير، فإنه (هنا) في «سنوات النمش» يجعل اسم أحد أبطال الرواية «القذافي»، وهو شخصية نرجسية بامتياز في روايته، ويعاني جنون عظمة واضحاً، ويجعل اسم شقيقه «العكش»، في إشارة للاسم الذي أطلقه المصريون على إعلامي شهير، إضافة إلى حيلة أخرى؛ فقد أراد والد الراوي إنشاء مدرسة في القرية، واشترطت عليه الدولة وجود 30 طالباً لإطلاقها، فلم يجد سوى 23 طفلاً، فاضطر لتزوير شهادة ميلاد لطفل متخيَّل باسم وهمي، فجعل اسم هذا الطفل غير الموجود «خيري شلبي». وبالطبع لا يخفى أن هذه ليست مصادفة، بل أقرب إلى تحية لاسم الروائي الكبير الراحل خيري شلبي، ابن قرية بالمحافظة نفسها، كما أن الإحالات لأسماء واقعية شهيرة توجِّه القارئ إلى أن العمل الروائي المتخيَّل غير منقطع الصلة بالعالم والواقع من حوله؛ فهو تمثيل لهما، وترتبط به بدرجة ما، رغم اعتماد المنطق السردي على الاسترسال الحكائي، الذي يفيد من تقنيات الحكي التراثية في «ألف ليلة وليلة»؛ حيث امتزاج الواقعي بالغرائبي، وتناسل الحكايات من بعضها، مشكلة في النهاية من هذه الطبقات الحكائية حكاية كبرى، أشبه بجدارية ضخمة، تؤرخ لقرية مصرية «على شمال السما» ظلّت عقودا رازحة تحت وطأة الفقر والجهل والمرض.