نالت مدينة ملبورن الأسترالية، عام 1949، شرف تنظيم ألعاب الأولمبياد السادس عشر عام 1956، بفارق صوت واحد عن العاصمة الأرجنتينية بوينوس آيرس.
كانت ألعاب ملبورن الأولى خارج القارتين الأوروبية والأميركية، ونُظّمت من 22 نوفمبر (تشرين الثاني) إلى 8 ديسمبر (كانون الأول)؛ أي في الشتاء الأوروبي الأميركي، والصيف الأسترالي الحار.
كما أثّرت صعوبة الانتقال وتكلفته من القارة الأسترالية وإليها في تحجيم عدد المشاركين الذي تدنّى عما كان عليه في دورتيْ لندن 1948، وهلسنكي 1952.
أقيمت ألعاب ملبورن، والحرب الباردة في أوْجها، فخريف بودابست وسحق الدبابات السوفياتية للمعارضة المَجَرية بدآ في 4 نوفمبر، والنتيجة التراكمية أكثر من 20 ألف قتيل، والغضب والحقد المتفاقمان «سينفجران» تعبيرياً في ملبورن أيضاً.
شنّت إسرائيل، مع إنجلترا وفرنسا، العدوان الثلاثي على مصر في 5 نوفمبر، وبدأت الثورة الجزائرية تتفتح، والصين، التي تُعارض الاعتراف بجزيرة فورموزا (تايوان)، قاطعت الألعاب، كما قاطعتها لبنان ومصر والعراق؛ احتجاجاً على «العدوان الثلاثي»، وهولندا وإسبانيا وليشتنشتاين وسويسرا؛ احتجاجاً على الغزو السوفياتي للمجر.
غير أن رئيس اللجنة الأولمبية الدولية، الأميركي إيفري بروندغ، أعلن أن الألعاب حاجة ماسة، «والصراع القائم في العالم هو بين الدول والأنظمة، وليس بين الشعوب، والألعاب الأولمبية تنافس رياضي شريف بين الأشخاص ويجب أن يستمر».
بعثة ألمانية مشتركة: وبمبادرة من اللجنة الأولمبية الدولية، تبارت الألمانيتان في بعثة مشتركة، وسارت مجتمعة في طابور العرض الافتتاحي. لبس رياضيوها بزّات رياضية ثورية منسوجة من مادة البرولاستيك التي كانت بداية «فتح» في تصنيع الألبسة الرياضية.
وفي حين دشّن الأميركي ألفريد «أل» أورتر عصر هيمنته الكاسحة على مسابقة رمي القرص، التي استمرّت 4 دورات، وبأرقام تصاعدية لافتة بدأها في ملبورن بتسجيله 56.36 م، وأنهاها عام 1968 في مكسيكو بتحقيق 64.78 م، فإن مواطنه هارولد كونولي كان عريس ملبورن على محورين، وقد أحرز ذهبية رمي المطرقة مسجلاً رقماً عالمياً مقداره 63.19 م.
وتعدّت شهرته الآفاق بمباركة من أكثر من مائة ألف متفرج في استاد ملبورن، بعدما تطوّر إعجابه ببطلة رمي القرص التشيكوسلوفاكية أولغا فيكوتوفا إلى حب، ثم إلى الزواج بعد نحو ثلاثة أشهر، فحفرا كوة في الجدار العازل «بين الشرق والغرب».
أما نجمة البعثة السوفياتية فكانت «دلوعة» الجمباز لاريسا لاتينينا التي حصدت 6 ميداليات؛ بينها 4 ذهبيات، والتي أنهت مسيرتها لاحقاً، وفي جعبتها رقم قياسي من الميداليات بلغ 18 من المعادن المختلفة نِصفها من الذهب.
ميمون بطل الماراثون: وكان العنوان الكبير لسباق الماراثون الفرنسي، الجزائري الأصل، ألان ميمون، الذي فاجأ كثيرين بإعلانه خوض المسافة؛ سعياً إلى تتويج ذهبي طال انتظاره، وبعدما لفت الأنظار ببروزه في سباقيْ 5 آلاف و10 آلاف م في دورتي لندن وهلسنكي.
بلغ ميمون سن السادسة والثلاثين، وكان ينتظر حدثاً سعيداً في بلاده، وعشية السباق المقرّر في الأول من ديسمبر (كانون الأول)، تبلّغ برقياً بولادة طفلته التي سمّاها أوليمب؛ تيمناً بالمناسبة. وحملته الفرصة الكبيرة لبذل جهد استثنائي، وسط حرارة مرتفعة تخطت 35 درجة مئوية.
وفي قرارة نفسه، كان ميمون يدرك أن إحرازه برونزية «أمر جيد»؛ كونه لم يخُض السباق من قبل، علماً بأنه تدرّب بكثافة وهدوء. لم يهدر وقتاً في محطات توقف البعثة الفرنسية، فمثلاً وجد طلبه في ممرّات الفندق الكبير بلوس أنجليس التي وصلت مسافتها إلى 200 م ليجري و«يكدّس الكيلومترات».
طمح ميمون، الذي حمل الرقم 13 في السباق، وهو بالنسبة للبعض نذير شؤم، إلى السير على درب زاتوبيك الفائز في هلسنكي بفارق مريح.
وتميّزت المنافسة في ملبورن بالكرّ والفرّ على طريقة سباقات الدراجات على الطريق. وكان الأميركي كيلي قد تقدّم في منتصف المسافة بمثابة جرس الإنذار لميمون، علماً بأنه شعر بتثاقل قدميه وبألم في رأسه عند الكيلومتر 36، لكنه قرّر الصمود والمواجهة بمختلف السبل، مستعيداً ذكريات ومواقف منذ أيام طفولته المعذَّبة، فزادت عزيمته و«استعاد» قوته وخفة حركته.
دخل الاستاد فشعر بتهليل 120 ألف متفرج، وكأنه «قصف رعد». كانت الساعة تقارب السادسة مساء، ودار حول المضمار لفة هي الأسرع في سباقات الماراثون (1:4 دقيقة)، مُنهياً السباق ومسجلاً 2:25 ساعة.
ولم يشعر ميمون بالتعب، ووقف إلى حافة المضمار يترقب وصول الباقين: «كنت أتمتع بقوّة خفيّة خارقة، وفي مقدوري أن أجري 10 كيلومترات إضافية».
ماء أحمر: أما المقابلة بين السوفيات والمجريين فكانت ساخنة، ورفض المجريون مصافحة منافسيهم، لكن الحقيقة المُرّة في العلاقة المتأزمة بين الطرفين انفجرت لاحقاً، وكان مسرحها حوض كرة الماء، حيث تَواجه منتخباهما في مباراة تحوّلت إلى ملاكمة مائية صُبغت بالدم.
نشب الاشتباك في الدقيقة 12 من المباراة، عندما تقدَّم المجريون 4 - 0، وكانت المدرّجات تغلي بغالبية من المجريين يصرخون: «ليعد الروس إلى بلادهم»، وتردّ الأقلية: «إنكم فاشيون».
ويبدو أن حَكَم المباراة السويدي، سام سوكرمان، كان يتوجّس شراً من اللقاء، فطلب من الطبيب المناوب يونغ كيرسي أن يكون في الحوض؛ لمساعدته حين تدعو الحاجة.
وصَدَقت توقعاته حين وجه فلاديمير بروكوف لكمة «جارحة» إلى أرفين زادور، ولمَّا صبغ دمه مياه الحوض هاج الجمهور وصرخ: «قتلوا زادور»، علماً بأنه أُصيب بجرح بسيط فوق حاجبه. ولمَّا عاد زادور إلى القرية الأولمبية، تلقّى برقية دعم من شيخ أميركي قتل الشيوعيون ابنه في كوريا، وأعلن تبنّيه اللاعب المجري الذي رفض الفكرة والتخلّي عن عاداته وبيئته.
لكن صورة الاختلاط الودّي والمحبَّب بين الوفود في اختتام الألعاب لم تشجع المجريين كلهم على العودة إلى ديارهم. فمِن أصل 112 شخصاً تشكلت منهم البعثة، عاد 44 منهم فقط، ولم يضمّوا المتوَّجين الفائزين بميداليات ذهبية وبينهم أبطال كرة الماء، وبقي 16 في أستراليا، وتوجَّه 52 إلى الولايات المتحدة.