انقسامات اليسار الفرنسي تتعمق وتخدم مصالح ماكرون

قبول استقالة حكومة أتال وتكليفها إدارة الشؤون اليومية

غابرييل أتال رئيس الحكومة الفرنسية المستقيل (إ.ب.أ)
غابرييل أتال رئيس الحكومة الفرنسية المستقيل (إ.ب.أ)
TT

انقسامات اليسار الفرنسي تتعمق وتخدم مصالح ماكرون

غابرييل أتال رئيس الحكومة الفرنسية المستقيل (إ.ب.أ)
غابرييل أتال رئيس الحكومة الفرنسية المستقيل (إ.ب.أ)

سابقاً، كان يقال إن اليمين الفرنسي هو «الأغبى في العالم». لكن اليوم، انقلبت الآية إلى حد قول البعض إن «اليسار هو الأغبى»، وإنه تجاوز بأشواط اليمين. والدليل على ذلك أن مكوناته الأربعة (فرنسا الأبية، والحزبان الاشتراكي والشيوعي، والخضر) نجحت، في وقت قياسي، في التفاهم فيما بينها على تشكيل «الجبهة الشعبية الجديدة» وتبني برنامج انتخابي يساري، مُكذّبة بذلك رهان الرئيس إيمانويل ماكرون الذي اعتبر أن من الصعوبة بمكان ذهاب أطرافها إلى معركة الانتخابات البرلمانية متضامنين متحدين.

ورغم الخلافات العميقة الآيديولوجية والسياسية التي تفصل بينها، غلّبت أطرافها رغبتها في منع اليمين المتطرف من تحقيق نصر انتخابي على غرار فوزه في الانتخابات الأوروبية.

وتجدر الإشارة إلى أن «التجمع الوطني» اليميني المتطرف حلّ في المرتبة الأولى في جولة الانتخابات الأولى، بحصوله على 10.4 مليون صوت، إلا أن التفاهم بين «ائتلاف الوسط» المنضوي تحت راية الرئيس ماكرون والجبهة الشعبية الجديدة على سحب 220 من مرشحيهما لقطع الطريق على اليمين المتطرف كانت له نتائج حاسمة.

متظاهر يحمل العَلم الفرنسي أثناء تجمع الناس في ساحة الجمهورية بعد الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية المبكرة (رويترز)

فجبهة اليسار حلّت في المرتبة الأولى بحصولها، مع من انضم إليها لاحقاً على 196 مقعداً في «الجمعية الوطنية» بحيث أصبحت أكبر مجموعة، يليها ائتلاف الوسط (163 نائباً)، ثم التجمع الوطني الذي حصل مع حلفائه من نواب اليمين على 123 مقعداً. وبذلك تكون جبهة اليسار قد حققت إنجازين رئيسيين: الأول، إبعاد كابوس وصول اليمين المتطرف إلى السلطة وتربع رئيس لائحته، جوردان بارديلا، على مقعد رئيس الحكومة. والآخر، التقدم على لائحة ماكرون وبالتالي أحقيته في أن يسمي الرئيس الفرنسي، من بين صفوفه، رئيس الحكومة الجديد استناداً إلى الأعراف المعمول بها في فرنسا.

المؤسسات والطموحات

كان المنطق يتطلب أن يُسارع قادة الأحزاب الأربعة إلى التفاهم سريعاً على اسم رئيس الحكومة العتيدة المناط به العمل على تنفيذ برنامج الحكم المشترك إلى رئاسة الجمهورية. ومنذ مساء الأحد 7 يوليو (تموز)، أي مباشرة بعد إعلان النتائج النهائية، كثّفت الأطراف الأربعة اجتماعاتها.

والحال، أنه رغم مرور تسعة أيام على إعلان النتائج، فإنها لم تتوصل بعد إلى اتفاق. كثيرة الأسماء التي طرحت. بيد أن أياً منها لم يحصل على إجماع الأحزاب الأربعة. وفي اليومين الأخيرين، طرحت ثلاثة أحزاب (فرنسا الأبية المتمترسة على أقصى اليسار والشيوعيون والخضر) اسم رئيسة منطقة جزيرة «لا ريونيون» الفرنسية الواقعة في المحيط الهندي هوغيت بيلو التي شغلت منصباً نيابياً لسنوات كما أنها تتمتع باحترام واسع في أوساط اليسار.

إلا أن الحزب الاشتراكي أطاح ترشيحها كونها قريبة من زعيم حزب فرنسا الأبية جان لوك ميلونشون. ثم طرح اسم الدبلوماسية لورانس توبيانا، المعروفة بالتزامها بمعركة محاربة التغير البيئي وترأس تنظيماً متخصصاً في هذا القطاع.

لورانس توبيانا مرشحة الاشتراكيين والشيوعيين والخضر لرئاسة الحكومة الفرنسية (أ.ف.ب)

وكما هوغيت بيلو، حظيت توبيانا بدعم من الاشتراكيين والشيوعيين والخضر. بيد أن مانويل بومبار، منسق حزب فرنسا الأبية رفض ترشيحها، معتبراً أنها «قريبة من ماكرون» الذي سبق أن عرض عليها الانضمام إلى إحدى حكوماته.

الواضح اليوم أن حرباً داخلية تدور حول تزعّم «الجبهة الشعبية»، والاتهامات تذهب في أكثر من اتجاه. بومبار وصف ترشيح توبيانا بأنه «غير جدي»؛ لأنه يعني «إعادة الماكرونيين إلى السلطة من النافذة بعد أن أخرجهم الناخبون والناخبات من الباب».

وسارع أوليفيه فور، أمين عام الحزب الاشتراكي إلى الرد عليه، صباح الثلاثاء بقوله: «ثمة أكثرية من ثلاثة أحزاب (من أصل أربعة) تدعم ترشيح توبيانا. ولا أرى لماذا لزاماً علينا أن نخضع لرأي جهة واحدة (فرنسا الأبية)».

وأضاف فور: «السؤال الحقيقي هو: ما الذي يريده حزب فرنسا الأبية؟ أليس الاستجابة لتطلعات الفرنسيين أم البقاء في صفوف المعارضة لأنه أكثر راحة؟».

أوليفيه فور أمين عام الحزب الاشتراكي (الثاني من اليمين) يتهم اليسار المتشدد بأنه يرغب في البقاء بالمعارضة (إ.ب.أ)

وجاء الرد على الاثنين من النائب فرنسوا روفان، المنتمي سابقاً إلى «فرنسا الأبية» الذي هجره للالتحاق بمجموعة الخضر في البرلمان، حيث قال: «بطبيعة الحال، يستطيع ماكرون أن يتذرع بأن هؤلاء المسؤولين (من جبهة اليسار) عاجزين عن طرح اسم لرئيس الحكومة (القادمة)، وبالتالي كيف سيتمكنون من ممارسة الحكم في البلاد؟».

وحذّر أمين عام الحزب الشيوعي، فابيان روسيل، من تواصل مهزلة المشاورات قائلاً: «إذا لم نتمكن من إيجاد حل في الساعات والأيام المقبلة، فستغرق السفينة».

لمن الأولوية؟

ليست المرة الأولى التي تبرز فيها انقسامات اليسار. فقد سبق لمكوناته أن تراشقت بالتهم فيما بينها وتفوقت على ما «قاله مالك في الخمر». «فرنسا الأبية» يتخوف من أن يكون الاشتراكيون والخضر ساعين للاستجابة لرغبة ماكرون الذي دعا، في الأيام الأخيرة وأكثر من مرة، إلى تشكيل «جبهة جمهورية» تنبثق عنها حكومة ائتلافية تضم اليمين التقليدي ومجموعة نوابه ومن يلتحق بهم من جبهة اليسار باستثناء «فرنسا الأبية» من جهة، واليمين المتطرف من جهة ثانية.

وليس سراً أن ماكرون لا يريد إعطاء مفاتيح السلطة لجبهة اليسار. لذا؛ فإن رهانه الجديد هو على تفككها من الداخل بفعل الطموحات الشخصية لجان لوك ميلونشون وأوليفيه فور. الأول، يطمح منذ عام 2022 للحلول في مقعد رئيس الحكومة في حين الآخر طرح ترشيحه منتصف الأسبوع الماضي قبل أن يتراجع عنه بسبب رفض اليسار المتشدد.

يرى المراقبون أن انقسامات جبهة اليسار تريح ماكرون الذي كان من المفترض به أن يقبل استقالة حكومة غابرييل أتال مساء الثلاثاء، وأن يطلب منه تسيير الشؤون العادية للدولة بانتظار تعيين رئيس حكومة جديد.

ونقلت عنه المحطة الإخبارية «بي إف إم»، الثلاثاء، أنه طلب من «المعسكر الرئاسي» العمل على إقامة «تحالف جمهوري مع القوى الأخرى» وفق ما هو مبين سابقاً.

وثمة وزراء من الصف الأول مثل وزير الداخلية ديرالد درامانان والاقتصاد برونو لومير يدفعون ماكرون للتحالف مع اليمين.

والحال، أن تحالفاً كهذا لن يكون كافياً لتوفير الأكثرية المطلقة في البرلمان المكونة من 289 نائباً. وإحدى الذرائع الرئاسية، أن جبهة اليسار، بالإضافة إلى عجزها عن التوافق على اسم رئيس للحكومة، لا تمتلك الأكثرية المطلقة ولذا؛ فإنه يحاول أن يكوّن مجموعة تتفوق عليها عددياً؛ ما يذكرنا بالمناورات التقليدية التي عودنا عليها البرلمان العراقي.

يوم الخميس، سيجتمع البرلمان الجديد للمرة الأولى وينتظر أن تدور معركة حامية حول رئاسته ورئاسة اللجان الأساسية، ومنها الخارجية والدفاع والمال... والأهم من ذلك أنه يفترض بالاجتماع أن يبيّن توزع المجموعات بين الأكثرية والمعارضة. والحال، أن لا أحد يعرف مسبقاً من سينطبق عليه وصف الأكثرية أو المعارضة لطالما أن حكومة في الأفق القريب.


مقالات ذات صلة

ماكرون يعدّ مطالبة إثيوبيا بالوصول إلى البحر «طلباً مشروعاً»

أفريقيا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في أديس أبابا (أ.ف.ب)

ماكرون يعدّ مطالبة إثيوبيا بالوصول إلى البحر «طلباً مشروعاً»

أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن مطالبة إثيوبيا، البلد غير الساحلي في القرن الأفريقي، بالوصول إلى البحر، «مطلب مشروع».

«الشرق الأوسط» (أديس أبابا)
شمال افريقيا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في أديس أبابا (رويترز)

ماكرون يدعو إلى «إلقاء السلاح ووقف إطلاق النار» في السودان

دعا الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، طرفي النزاع في السودان إلى «إلقاء السلاح» بعد عام ونصف العام من الحرب التي تعصف بالبلاد.

«الشرق الأوسط» (أديس أبابا)
أفريقيا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الجيبوتي إسماعيل عمر غيله (أ.ف.ب)

ماكرون: جيبوتي مهمة لاستراتيجية فرنسا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ

شدّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على أهمية الوجود العسكري لبلاده في جيبوتي من أجل تطوير استراتيجيته بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.

«الشرق الأوسط» (جيبوتي)
العالم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (أ.ف.ب)

ماكرون لسكان مايوت الغاضبين: لولا فرنسا لكان الوضع أسوأ

انتقد سكان غاضبون في أحد أحياء جزيرة مايوت، المتضرّرة من إعصار «تشيدو»، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لكنه رد عليهم بأن الوضع كان من الممكن أن يكون «أسوأ».

«الشرق الأوسط» (مامودزو)
أوروبا ماكرون وإردوغان خلال لقائهما عام 2022 (أرشيفية-رويترز)

ماكرون وإردوغان يناقشان عملية الانتقال السياسي في سوريا

قالت الرئاسة الفرنسية، اليوم (الأربعاء)، إن الرئيس الفرنسي ونظيره التركي اتفقا على أن عملية الانتقال السياسي في سوريا يجب أن تحترم حقوق كل الطوائف في البلاد.

«الشرق الأوسط» (باريس )

رئيس الوزراء الفنلندي: روسيا تشكل «تهديداً دائماً» للاتحاد الأوروبي

أوربو وكريسترسون وميلوني وكالاس وميتسوتاكيس خلال اجتماعهم في فنلندا اليوم (أ.ف.ب)
أوربو وكريسترسون وميلوني وكالاس وميتسوتاكيس خلال اجتماعهم في فنلندا اليوم (أ.ف.ب)
TT

رئيس الوزراء الفنلندي: روسيا تشكل «تهديداً دائماً» للاتحاد الأوروبي

أوربو وكريسترسون وميلوني وكالاس وميتسوتاكيس خلال اجتماعهم في فنلندا اليوم (أ.ف.ب)
أوربو وكريسترسون وميلوني وكالاس وميتسوتاكيس خلال اجتماعهم في فنلندا اليوم (أ.ف.ب)

عَدَّ رئيس الوزراء الفنلندي بيتيري أوربو، اليوم الأحد، أن روسيا تشكل «تهديداً دائماً وخطراً» للاتحاد الأوروبي، مشدداً على الحاجة إلى زيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي ودعم أوكرانيا، وفق ما أوردته «وكالة الصحافة الفرنسية».

واستضاف أوربو قمة حول الأمن والهجرة، بمشاركة مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس، ورئيس الوزراء السويدي أولف كريسترسون، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، ورئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس.

وقال رئيس الحكومة الفنلندي، للصحافيين بعد القمة، إن «الوضع الأمني تغيّر»، مضيفاً «روسيا تشكّل تهديداً دائماً وخطراً للاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية».

وأكد أوربو وجوب تعزيز القوة العسكرية للدفاع عن أوروبا «بكل الوسائل الممكنة»، مع «استكشاف جميع الخيارات المالية»، دون ذكر أي خطط ملموسة لزيادة الميزانيات الدفاعية.

ووافقته كالاس قائلة إن «روسيا تشكل تهديداً مباشراً للأمن الأوروبي»، لافتة إلى أن «الأمن يشمل عناصر مختلفة».

وتابعت: «نشهد في جميع أنحاء أوروبا هجمات هجينة مختلفة، سواء أكانت أعمال تخريب أم هجمات إلكترونية، إضافة إلى أسطول ظل خطراً وتشويشاً على نظام تحديد المواقع العالمي (جي بي إس)، وإلحاق أضرار بالكابلات، وأيضاً استخدام الهجرة سلاحاً».

واتهمت فنلندا موسكو بتدبير موجة هجرة في خريف عام 2023، بعد وصول نحو ألف مهاجر دون تأشيرات إلى حدودها الشرقية مع روسيا، والتي يبلغ طولها 1340 كيلومتراً.

وقال أوربو إن ضمان أمن حدود فنلندا مع روسيا، والتي أشار إليها بكونها أيضاً حدود الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي «ناتو»، «مسألة وجودية لفنلندا ولدول الاتحاد الأوروبي وحلفاء الناتو».

كما أشار إلى أن الدول «يجب أن تستمر في تقديم الدعم لأوكرانيا ما دامت هناك حاجة، ومهما طال ذلك».