«درب البخور» شريان اقتصادي وطريق عبور تاريخية في رحلة صناعة العطور

يشارك المصور العالمي فلاديمير أنطاكي زوار المعرض جولته في أزقة الرياض (هيئة المتاحف)
يشارك المصور العالمي فلاديمير أنطاكي زوار المعرض جولته في أزقة الرياض (هيئة المتاحف)
TT

«درب البخور» شريان اقتصادي وطريق عبور تاريخية في رحلة صناعة العطور

يشارك المصور العالمي فلاديمير أنطاكي زوار المعرض جولته في أزقة الرياض (هيئة المتاحف)
يشارك المصور العالمي فلاديمير أنطاكي زوار المعرض جولته في أزقة الرياض (هيئة المتاحف)

يبدأ تاريخ العطور من لحظة اكتشاف المواد الخام التي تصنع منها، من زهور وأعشاب وتوابل والراتنجات الطبيعية الفواحة الآتية من مناطق مختلفة، من المناطق الريفية المتوسطية إلى المشرق، ومن الصحاري القاحلة في شبه الجزيرة العربية إلى أقصى الأدغال الآسيوية وجبال الهمالايا، وقد أثْرَت هذه المواد الخام أسواق المنتجات المعطرة واستخدمت في مكونات العطور.

في أواخر القرن الـ19 حلّت المنتجات الاصطناعية محل المواد الطبيعية (هيئة المتاحف)

ومنذ بدايات العصور القديمة، لعبت الجزيرة العربية، أرض اللبان والعنبر والمر، دوراً رئيسياً في تركيب العطور؛ وقدم العالم العربي على اتساعه أنواعاً من الزهور والتوابل لإثراء هذه الوصفات، بالإضافة إلى كونه ممراً تاريخياً لمرور التجارة عبر «درب البخور» الذي ارتبط برحلة الشتاء والصيف، وكانت أجزاء منه تمرّ بمنطقة نجران جنوب السعودية.

ويسلّط معرض «عطور الشرق»، الذي ينظمه معهد العالم العربي في باريس، ويحتضنه المتحف الوطني السعودي بوصفه أول محطة في جولته الدّولية، الضوء على أهمية العطور التاريخية في العالم العربي، وثقافة الشّغف بها، التي انطلقت من الجزيرة العربية حين كانت تستقبل المواد العطرية الثمينة وترسلها إلى مجتمعات العالم القديم، لينطلق معها تاريخ العطور من مهد حضارتها، لتُغدق على البشر الطُيُوب، حتى شاع استخدامها في الحياة اليومية للإنسان وأصبحت دلالة على الألفة والاحترام والسخاء.

أرض العطور

تُعرف شبه الجزيرة العربية بـ«أرض العطور» لندرة أمطارها ووفرة شمسها، وفيها تعيش نباتات المرّ واللبان في المناخات القاحلة وتنمو على السواحل الجنوبية لشبه الجزيرة العربية، وفي القرن الأفريقي المقابل لها. ومن أشجار المر واللبان، تستخرج هذه الراتنجات منذ أكثر من ألف عام في عملية تمتاز بصعوبتها، ويمثل العنبر رمزاً آخر لثقافة العطور العربية، وكان يُحصد بشكل رئيسي على سواحل اليمن وعُمان.

وتحظى هذه المنتجات بقيمة عالية ومكانة رفيعة في باقي مناطق العالم، وهي تشكّل سمة مميزة لثقافة العطور في شبه الجزيرة العربية وإحدى ركائز حضاراتها التجارية منذ العصور القديمة، وكانت هذه المواد منتجات أساسية في التبادل التجاري بين الشرق والغرب لعدة قرون، وكانت سبباً في ثراء القوافل التي تولّت توزيعها، وتبقى من بين أكثر المواد التي تمثّل ثقافة العطور الشرقية.

بعض ما بقي من درب البخور في منطقة نجران جنوب السعودية (دارة الملك عبد العزيز)

وفي المقابل، سهّل تدجين الإبل إنشاء تجارة القوافل عبر الجزيرة العربية في مستهل الألفية الأولى قبل الميلاد، وأصبحت الإبل رمزاً لهذه التجارة، وكان اللبان المنتج الأساسي فيها، حيث شكّلت صادرات اللبان مصدر ثروة لعدّة ممالك صغيرة في جنوب شبه الجزيرة، وساهمت في إنماء الواحات الواقعة شمالاً في المناطق التي تنبت فيها شجرة اللبان. وقد شهدت هذه الواحات الواقعة على طول الطريق التجارية المعروف باسم «طريق البخور» فترة من الازدهار بفضل الدور الذي لعبته للتبادل.

وبفضل تطور تقنيات الملاحة وطرق التجارة، أضيفت المنتجات المقابلة من آسيا إلى قائمة مكونات العطور؛ حيث جلبت من هذه الأراضي البعيدة عطور لا يمكن العثور عليها في أرض الجزيرة العربية، وبقي أصل بعض هذه المواد، مثل العنبر والمسك، طي الكتمان لفترة طويلة، وهو ما ألهب خيال الناس وغذّى الأساطير العجيبة. واليوم، تعتمد دُور صناعة العطور الكبرى على الباحثين الذين يجوبون العالم للعثور على المواد الخام الأكثر تميزاً، ولأسباب أخلاقية، تستخدم حالياً الروائح الكيميائية لاستبدال بعض الخلاصات المستخرجة من الحيوانات.

تُعرف شبه الجزيرة العربية بـ«أرض العطور» لندرة أمطارها (هيئة المتاحف)

«المدينة العربية» عطرية تاريخياً

تشكل المدينة العربية مكاناً للاختلاط والتّبادل، وتوجد فيها جميع أنواع المنتجات العطرية ذات الاستخدامات العديدة، سواء أكانت تجميلية أم علاجية أم روحانية، وتعبق أحياء المدينة بالروائح المميزة التي تمنحها هويتها.

حين تتجوّل في مختلف أحياء المدينة، تكتشف طرقاً كثيرة لاستعمال العطور في الأماكن العامة وفي المجتمع، ويعكس انتقال استخدام العطور من مجرد ممارسة شخصية أو فردية، إلى كونه تجربة جماعية توطّد العلاقات بين الناس بغض النظر عن مستواهم الاجتماعي، واعتبار العطور جزءاً من حياة كل فرد.

تحظى المنتجات العطرية بقيمة عالية ومكانة رفيعة في العالم (هيئة المتاحف)

يشارك المصور العالمي فلاديمير أنطاكي زوار المعرض جولته في أزقة المدينة العربية بالرياض ومسقط، التي يعبر من خلالهما في أسواق العطارين لاكتشاف أهمية الروائح والصناعات العطرية التقليدية، التي ورثتها الأجيال عبر التاريخ، ومدى الإقبال عليها وانتشارها في الثقافة العربية.

وكانت مهنة العطار تحظى بتقدير كبير في المجتمع العربي، وللتعبير عن هذا التقدير كان حي العطارين يقع دائماً في قلب السوق وعلى مقربة من المساجد المهمة، وهو ما منح العطور مكانتها في قمة هرم المنتجات المتداولة. ومن دكاكين العطارين يمكن شراء جميع أنواع المواد من التوابل، والأعشاب العطرية، والراتنجات، وماء الورد والمركبات العطرية الثمينة.

رأس أسد ومخلب من البرونز من القرن الثاني (ق.م) من منطقة نجران السعودية (هيئة المتاحف)

ويُعد العطارون، بالإضافة إلى عملهم في المستحضرات العطرية، صيادلة يمتلكون معرفة بالخصائص التجميلية والطبية للخلاصات، في حين تأتي العطور بوصفها سلعة فاخرة في مقدمة المنتجات المتداولة، وهي حصيلة مزيج من الروائح المتنوعة ويتطلب إعدادها خبرة واسعة تتطور مع الوقت.

ومنذ القرن الثامن، أتقن العرب عملية التقطير التي أتاحت لهم إنتاج المياه المعطرة والزيوت العطرية مثل زيت الورد، الذي يحظى بمكانة خاصة، ولكن بدءاً من أواخر القرن الـ19، حلّت المنتجات الاصطناعية محل المواد الطبيعية، وفتحت الباب أمام التّصنيع الكمي للعطور.


مقالات ذات صلة

«دولتشي آند غابانا» تطلق عطراً للكلاب

لمسات الموضة عطر خاص بالكلاب يحمل اسم «فافيه» (دولتشي آند غابانا)

«دولتشي آند غابانا» تطلق عطراً للكلاب

أطلقت «دولتشي آند غابانا» عطراً خاصاً بالكلاب يحمل اسم «فافيه».

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة تم الكشف عن هذه المجموعة بمناسبة افتتاح الدار لأول محل مجوهرات وساعات مستقل بنيويورك (شانيل)

عطر «شانيل نمبر 5» يصل إلى عالم المجوهرات الرفيعة

عطر عمره أكثر من قرن. تتوارثه الحفيدات عن الأمهات والجدات، وفي كل مرة ينجح في دغدغة الحواس بإحيائه ذكريات لأشخاص مروا بحياتنا أو أثروها.

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة كل العطور التي ابتكرها هادي سليمان حتى الآن مستلهمة من تجاربه الخاصة (سيلين)

خلي بالك من «زوزو»... العطر الجديد لـ«سيلين»

«زوزو» هو آخر عطر في سلسلة العطور المتخصصة التي طرحها المصمم هادي سليمان لدار «سيلين». ولولا أننا نجهل مدى ثقافته بالسينما العربية، لدفعنا الحماس للقول أن…

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة كاورلينا أدريانا هيريرا في إحدى رحلاتها إلى منطقة الشرق الأوسط (كارولينا هيريرا)

كارولينا هيريرا تبعث رسالة حب بخلاصات شرقية

قبل أن تُؤجِج المجموعات الرمضانية الاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط في شهر رمضان الفضيل وتجعل صناع الموضة يتنافسون على طرح أزياء وإكسسوارات خاصة وحصرية، كانت العطور.

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة بدأت الفانيلا تسترجع مكانتها في صناعة العطور الدافئة والمريحة (أوجار)

2024... سيكون «عام الفانيلا» في عالم العطور

استعمال الفانيلا (الفانيليا) في العطور ليس جديدا؛ إذ يعود لبداية القرن الماضي، لكنه بدأ يسترجع مكانته وقوته بسبب الحنين للماضي وما يوحيه من دفء وذكريات الطفولة.

مروى صبري (القاهرة)

انطلاق المؤتمر العالمي لـ«موهبة» لتعزيز التعاون الإبداعي لـ«جودة الحياة»

المؤتمر يشكل منصة ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم (واس)
المؤتمر يشكل منصة ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم (واس)
TT

انطلاق المؤتمر العالمي لـ«موهبة» لتعزيز التعاون الإبداعي لـ«جودة الحياة»

المؤتمر يشكل منصة ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم (واس)
المؤتمر يشكل منصة ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم (واس)

انطلقت فعاليات النسخة الثالثة من المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع بعنوان «عقول مبدعة بلا حدود» في العاصمة السعودية الرياض، الأحد، الذي يجمع نخبةً من الخبراء والموهوبين في مجالات العلوم والتقنية والابتكار، ويشارك فيه أكثر من 300 موهوب ومتحدثون محليون ودوليون من أكثر من 50 دولةً، وذلك برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز. ونيابة عنه، افتتح الأمير فيصل بن بندر بن عبد العزيز، أمير منطقة الرياض، فعاليات المؤتمر العالمي والمعرض المصاحب للمؤتمر الذي تنظمه مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله للموهبة والإبداع «موهبة»، في مركز الملك عبد الله للدراسات والبحوث البترولية «كابسارك» بالعاصمة السعودية، وشهد توقيع عدد من الاتفاقيات بين «موهبة» وعدد من الجهات.

أمير الرياض خلال افتتاحه فعاليات المؤتمر العالمي والمعرض المصاحب للمؤتمر (واس)

ورفع أمين عام «موهبة» المكلف الدكتور خالد الشريف، كلمة رفع فيها الشكر لخادم الحرمين الشريفين على رعايته للمؤتمر، ودعمه المستمر لكل ما يُعزز ريادة السعودية في إطلاق المبادرات النوعية التي تمثل قيمة مضافة لمستقبل الإنسانية، مثمناً حضور وتشريف أمير منطقة الرياض لحفل الافتتاح.

وقال الدكتور الشريف: «إن قيادة السعودية تؤمن بأهمية الاستثمار برعاية الموهوبين والمبدعين باعتبارهم الركيزة الأساسية لازدهار الأوطان والطاقة الكامنة التي تصنع آفاقاً مستقبلية لخدمة البشرية»، مشيراً إلى أن العالم شاهد على الحراك الشامل لمنظومة تنمية القدرات البشرية في المملكة لبناء قدرات الإنسان والاستثمار في إمكاناته، في ظل «رؤية السعودية 2030»، بقيادة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي رئيس لجنة برنامج تنمية القدرات البشرية.

وأكد الدكتور الشريف أن هذا الحراك يواكب ما يزخر به وطننا من طاقات بشرية شابة موهوبة ومبدعة في شتى المجالات، يتجاوز إبداعها حدود بلادنا ليصل إلى العالمية، وهو ما مكن المملكة من أن تصبح حاضنة لألمع العقول العالمية الموهوبة والمبدعة، وحاضرة إنسانية واقتصادية واعدة بمستقبل زاهر ينعكس على العالم أجمع.

وأوضح أن المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع بنسخته الثالثة يشكّل منصةً ملهمة تجمع العقول المبدعة من كل العالم، لتستلهم معاً حلولاً مبتكرة تعزز جودة الحياة في مجتمعاتنا، وتبرز الفرص، وتعزز التعاون الإبداعي بين الشعوب.

انعقاد هذا المؤتمر يتزامن مع احتفالية مؤسسة «موهبة» بيوبيلها الفضي (واس)

ولفت النظر إلى أن انعقاد هذا المؤتمر يتزامن مع احتفالية مؤسسة «موهبة» بيوبيلها الفضي؛ حيث أمضت 25 عاماً في دعم الرؤى بعيدة المدى للموهبة والإبداع، وباتت مشاركاً رئيسياً في المنظومة الداعمة لاكتشاف ورعاية الطاقات الشابة الموهوبة والمبدعة، بمنهجية تُعد الأكثر شمولاً على مستوى العالم لرعاية الأداء العالي والإبداع.

عقب ذلك شاهد أمير منطقة الرياض والحضور عرضاً مرئياً بمناسبة اليوبيل الفضي لإنشائها، وإنجازاتها الوطنية خلال الـ25 عاماً الماضية، ثم دشن «استراتيجية موهبة 2030» وهويتها المؤسسية الجديدة، كما دشن منصة «موهبة ميتا مايندز» (M3)، وهي منصة عالمية مصممة لربط ودعم وتمكين الأفراد الموهوبين في البيئات الأكاديمية أو قطاعات الأعمال، إلى جانب تدشين الموقع الإلكتروني الجديد لـ«موهبة»، الذي تواصل المؤسسة من خلاله تقديم خدماتها لجميع مستفيديها من الموهوبين وأولياء الأمور.

ويهدف المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع إلى إظهار إمكانات الموهوبين، وتطوير نظام رعاية شامل ومتكامل للموهوبين، وتعزيز التكامل والشراكات الاستراتيجية، وتحسين وتعزيز فرص التبادل والتعاون الدولي، ويشتمل المؤتمر على 6 جلساتٍ حوارية، و8 ورش عمل، وكرياثون الإبداع بمساراته الـ4، ومتحدثين رئيسيين؛ حيث يسعى المشاركون فيها إلى إيجاد الحلول الإبداعية المبتكرة للتحديات المعاصرة، إلى جانب فعاليات مصاحبة، تشمل معرضاً وزياراتٍ ثقافيةً متنوعةً على هامش المؤتمر.