يضم مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة مجموعة كبيرة من اللقى المتعددة الأنواع والأحجام، منها مجسمات صُنعت من الطين المحروق وصلت بشكل مجتزأ للأسف. تتبع هذه القطع بشكل عام تقليداً جامعاً تظهر شواهده في نواحٍ عدة من ساحل الخليج العربي، غير أنها تتميز بطابع خاص يظهر في بعض عناصرها المكوّنة.
كشفت أعمال التنقيب المستمرة في الإمارات عن مواقع أثرية متعددة ضاربة في التاريخ، منها موقع مليحة الذي يقع على بعد 20 كيلومتراً جنوب مدينة الذيد، وعلى بعد 50 كيلومتراً إلى الشرق من مدينة الشارقة. من هذا الموقع خرجت سلسلة من القطع الفنية تشهد لتعددية مدهشة في الأساليب الفنية، تشابه تنوعها ما نراه في مواقع عدة من البحرين، كما في جزيرة فيلكا الكويتية، وموقعَي قرية الفاو وثاج في المملكة العربية السعودية.
على مقربة من قبر دائري ضخم يعود تاريخه إلى العصر البرونزي ويُعرف بضريح أم النار، افتتح في عام 2016 مركز مليحة للآثار، وشكّل هذا المركز خير دليل للتعريف بتاريخ هذه الناحية من الخليج، من خلال ما يعرضه من مقتنيات، وما يقيمه من عروض وجولات إلى المناطق الأثرية المحيطة به. يحتفظ هذا المركز بمجموعة صغيرة من المجسمات الآدمية المصنوعة من الطين المحروق، تشهد لحضور هذا التقليد الفني في هذه الناحية من شمال شرقي شبه الجزيرة العربية. تتمثل هذه المجموعة بعدد محدود من القطع التي تُعرف عادة بالدمى، لم يصل أي منها بشكل كامل للأسف.
في هذا الميدان، تبرز قطعة فقدت كما يبدو الجزء الأسفل من تكوينها، وباتت أشبه بمجسّم يحضر على شكل تمثال نصفي يبلغ طوله 13 سنتمتراً، وعرضه 13.5 سنتمتر.
يمثّل هذا المجسّم رجلاً في وضعية ثابتة، يعتمر ما يشبه قلنسوة تلتف حول رأسه على شكل عمامة مسطّحة تخلو من أي ثنية. يستقرّ الرأس فوق عنق عريض، وتتحدّد ملامح وجهه الناتئة في كتلة بيضاوية ملساء. العينان حدقتان دائريتان واسعتان، تتميزان بحجمهما الضخم قياساً للأنف الذي يستقر بينهما على شكل مساحة مستطيلة مجردة، غاب عنها أي أثر للغضاريف وللمنخارين. تبدو الأذنان صغيرتين ومنمنمتين قياساً إلى العينين الضخمتين، وتتشكّل كل منهما من مساحة نصف دائرية تخلو من أي تجويف. الفم ممحو، وينحصر في شق أفقي بسيط يستقل في أسفل مساحة الأنف العمودية. الصدر مستطيل وطويل. الكتفان منحنيتان ومقوستان، والذراعان منسدلتان ومتصلتان بالصدر، وهما مبتورتان بسبب ضياع الجزء الأسفل من تكوينهما. تصل الذراع اليمنى حتى حدود المِرْفق، وتكشف عن حركة طفيفة في اتجاه الذراع اليسرى التي فقدت معصمها ويدها.
تتكرّر صورة هذا الرجل المعمم في قطعة أخرى تتميّز بوضعيّة غير مألوفة. تحضر القامة ممدّدة أفقيّاً، وهي تحني ذراعها اليمنى في اتجاه حوض الصدر، كاشفة عن مساحة فارعة تفصل بينها وبين الخاصرة. الذراع اليسرى مفقودة للأسف، وتوحي حركة البدن بأن صاحبها كان مستلقياً عليها. البدن خالٍ من أي ملامح تشريحية، وساقاه ممددتان أفقياً، مع شق غائر يفصل بينهما. القدمان مفقودتان، وتوحي حركة الركبتين الملتصقتين بأنهما كانتا ملتفتين. وصل الرأس بشكل مستقل كما يبدو، وأعيد جمعه بجسده، كما يكشف الشق الظاهر الذي يفصل العنق عن وسط الكتفين. العينان حلقتان واسعتان ناتئتان تحتلان الجزء الأكبر من مساحة الوجه الدائري، وتتميّز كلّ منهما بتجويف دائري يشير إلى بؤبؤ الحدقة. الثغر بسيط، وينحصر كذلك في شق أفقي قصير. الأذنان موازيتان للعينين، وتتكوّن كل منهما من نصف أسطوانة يتصل أعلاها بالعمامة المسطّحة التي تكلّل هامة الرأس.
يحضر هذا الوجه مستقلّاً في قطعة أخرى غابت عنها هذه القلنسوة. تحضر العينان الشاسعتان مرة أخرى، وهما هنا مسطّحتان ومحدّدتان بخط بسيط غائر. يذوب الأنف في كتلة الطين حتى الغياب، ويظهر الثغر على شكل شق هلالي أفقي يرسم ابتسامة بسيطة تضفي على الوجه طابع البراءة واللطف. شق العنق واضح، ويوحي بأن هذا الوجه يعود إلى جسد ضاع، لم يظهر منه أثر آخر إلى اليوم.
تعود هذه القطع الثلاث، بحسب أهل الاختصاص، إلى القرن الميلادي الأول، وتُشابه في تكوينها مجسّمات عُثر عليها في نواحٍ أخرى من ساحل الخليج العربي، وهي من نتاج مرحلة طويلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى نهاية القرن الثاني الميلادي. من هذه المواقع على سبيل المثال، يحضر موقع الدفي الأثري الذي يقع في شمال مدينة الجبيل، شرق المملكة العربية السعودية. من هذا الموقع السعودي، خرجت دمية آدمية ذات رقبة عريضة وطويلة، يعلوها رأس بيضاوي حافظ على ملامحه بشكل جلي.
كشفت أعمال التنقيب المستمرة في الإمارات عن مواقع أثرية متعددة ضاربة في التاريخ
العينان قرصان دائريان كبيران يتميزان بضخامتهما، وهما ناتئان، ويحوي كل منهما قرصاً يمثّل البؤبؤ، تبعاً لطراز يماثل كما يبدو الطراز الذي اتبع في تجسيم دمية مليحة المستلقية. يعلو هاتين العينين الشاخصتين شريطان أفقيان يشكلان معاً حاجبين متصلين. عند نقطة التقاء هذين الحاجبين، ينسدل أنف عريض يفصل بين قرصي العينين، وتظهر عند أسفل هذا الأنف سمات المنخارين المحددة بشكل طفيف. الفم ناتئ، وهو مكون من شفتين واسعتين يفصل بينهما شق أفقي بسيط. الوجنتان ممتلئتان، والجبين غائب على ما يبدو، وكذلك الذقن التي تختفي عند حدود ما دون الفم، في أسفل هذا الوجه.
من جهة أخرى، تشابه دمى مليحة في تكوينها دمية أنثوية محفوظة في متحف البحرين الوطني، مصدرها موقع قلعة البحرين. فقد هذا المجسم يديه عند أعلى المرفقين، كما فقد النصف الأسفل مما يلي الحوض، وحافظ على رأسه. يحضر وجه هذا الرأس بقوة، وتتجلى هذه القوة في عينين ضخمتين جاحظتين، حُدّدت أجفان كل منهما بقوسين معاكسين غائرين. وسط كل من هاتين العينين، يظهر ثقب يختزل البؤبؤ، كما في دمية الدفي ذات الرقبة الطويلة، ودمية مليحة المستلقية.