نشيد الأناشيد وشعرية الحنين إلى الفردوس

جمع بين العشق الجسدي واندفاعة الروح للاتحاد بالآخر

جيمس فريزر
جيمس فريزر
TT
20

نشيد الأناشيد وشعرية الحنين إلى الفردوس

جيمس فريزر
جيمس فريزر

يتعذر الحديث عن الحب دون التوقف ملياً عند «نشيد الأناشيد»، بوصفه أحد أهم النصوص المؤسسة لشعرية العشق والافتتان التي عرفها الكوكب الأرضي على امتداد العصور. ذلك أن في ثنايا هذا النص المدهش من جماليات أسلوبية وفنية، ومن تباريح العشق الروحي والجسدي، ما جعله شديد الأثر على الكثير من قصائد الحب التي كُتبت من بعده، بقدر ما شكّل على الدوام مصدر حيرة الباحثين الذين تناولوه بالنقد والدراسة والتحليل. ولعل أكثر ما يستوقفنا بشأن هذا النشيد، وقبل الولوج إلى جمالياته ودلالاته الفنية والإنسانية، هو وروده كسفْر مستقل من أسفار «العهد القديم»، التي تركز في مجملها على سرديات دينية تتعلق بخلق العالم وتتبُّع أحداثه المفصلية، وبسيَر أنبيائه الكثر وما عانوه، في سياق الصراع الدائم بين الخير والشر، من آلام ومكابدات.

والملاحَظُ أن حرص القرآن الكريم على تنزيه الأنبياء عن ارتكاب المعاصي، لم يقتصر على الملك سليمان وحده، بل طال أباه داود، الذي اقتصرت صورته في القرآن على العبادة والعلم وطاعة الخالق، فيما ينقل عنه «سفر صموئيل الثاني»، بأنه الرجل النزق الذي لم يتوان عن قتل قائد جيشه، لمواقعة زوجته «بثشبع»، وقد شاهدها تغتسل عاريةً، قبل أن تحمل في وقت لاحق بابنه سليمان. ولا تختلف صورة الابن في «العهد القديم» عن صورة الأب. ففي «سفر الملوك الأول» يظهر سليمان بوصفه الذكَر الممتلئ شبقاً، الذي شغف بنساء من جميع الأعراق، وبينهن من نهاه الله عن الزواج منهن، ولكنه «التصق بهن لفرط محبته لهن، فكانت له سبعمائة زوجة وثلاثمائة محظية، انحرفن بقلبه عن الرب».

غلاف «نشيد الإنشاد» بترجمة أنسي الحاج
غلاف «نشيد الإنشاد» بترجمة أنسي الحاج

وسواء تعلق الأمر بالأب أو بالابن، فإن إلحاح الرواية التوراتية على قدرات الملكين الجسدية الفائقة يعكس في عمقه نفياً واضحاً لعصمة الأنبياء، بقدر ما يبدو تباهياً بفحولة الحاكم اليهودي مقابل «تأنيث» الآخرين، أفراداً كانوا أم شعوباً وجماعات. وإذ تركز السردية التوراتية على افتتان بلقيس بجمال سليمان وسعيها الحثيث للظفر به، تذهب السردية القرآنية بالمقابل إلى أن سليمان هو الذي بذل كل جهده للظفر ببلقيس. إلا أن اهتمامه بها لم يكن بدافع شغفه المفرط بجمالها الفاتن، بل بهدف إبعادها عن ديانتها الوثنية، وإعادتها إلى طريق الإيمان القويم. وهو الأمر الذي يؤكده ما جاء على لسان ملكة سبأ في الآية الكريمة «ربِّ إني ظلمتُ نفسي وأسلمتُ مع سليمانَ لله ربِّ العالمين».

وإذ يحرص «النشيد» على إظهار سليمان في صورة الملك الشاعر الذي تيمه العشق، يبدو هذا الحرص بمثابة تصحيح متأخر للصورة النمطية التي رسمتها له أسفار «العهد القديم» الأخرى. ولعل التناقض الواضح بين صورة سليمان في «سفر الملوك» وصورته في «نشيد الأناشيد» هو الذي حدا ببعض الدارسين إلى الاستنتاج بأن سليمان قد يكون نظم «النشيد» في فترة كهولته، أي بعد تراجع تطلُّبه الجسدي، وتقدُّم الروح لكي تحتل مكانها اللائق على ساحة الهيام والوجد. ومن الباحثين من ذهب إلى مسالك ومقاربات أخرى؛ حيث تساءل أنسي الحاج في تقديمه لـ«النشيد» الذي أعاد ترجمته بلغة عالية، عما إذا كان هذا الأثر الاستثنائي من كتابة سليمان نفسه، أم هو «مجموعة أشعار بابلية المصدر في غناء حب عشتار وتموز؟ وهل كتبه كتّابه تحت الروح الهيليني، أم لملموه من الأدب الإسكندراني ونقلوه إلى العبرية؟». كما ذهب البعض إلى قراءات أخرى، فرأوا فيه رمزاً لاتحاد يهوه بإسرائيل أو المسيح بكنيسته.

والواقع أن في النشيد ما يترك الباب موارباً إزاء أي جواب حاسم بشأن مؤلفه أو مؤلفيه الحقيقيين. ومع أن اسم سليمان يتكرر غير مرة في فصوله، مثل «أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، كشقق سليمان»، أو «الملك سليمان عمل لنفسه تختاً من خشب لبنان»، أو «كان لسليمان كرْم في بعل هامون»، فإن في ذلك ما يرجح كونه بطل «النشيد»، وليس كاتبه بالضرورة. كما أن الأصوات الثلاثة التي تتعاقب على الكلام، وهي الرجل والمرأة والجوقة، يمكن أن تقودنا إلى الاستنتاج بأن النص أقرب إلى طقس عشقي ذي طبيعة دينية، كتبه شاعر أو أكثر، وتم تقديمه في الهيكل الذي بناه سليمان من خشب الأرز، تمجيداً له وتعظيماً لشأنه.

وقد يكون التداخل الملغز بين صورتي الملك والراعي في فصول «النشيد» المختلفة، واحداً من العناصر الإضافية التي تترك في ذهن القارئ المزيد من البلبلة واللبس حول هوية كاتبه. إذ ثمة ما يشير إلى أن العاشقين كانا راعيين من عامة الشعب، مثل «يا من تحبه نفسي، أين ترعى أين تربض عند الظهيرة؟»، أو «أيتها الجميلة بين النساء، أبرزي في أثر الغنم، وارعي جداءك عند مساكن الرعاة». كما أن حث المرأة حبيبها على الهرب، بقولها في المقطع الختامي «اهرب يا حبيبي وكن كالظبي أو كغفر الأيّلة على جبال الأطياب»، لا يستقيم مع مقام الملك الذي كانت تهابه الشعوب والكائنات كلها، بل يبدو فعل الطلب موجهاً إلى الراعي، الذي قد يكون دخوله على خط العلاقة، تجسيداً لحنين المرأة إلى سليمان نفسه في صورته الرعوية الريفية، بعيداً عن سطوة الحكم وأبهة السلطة المدينية.

وإذا كان من المتعذر فصل النشيد عما سبقه من مؤثرات وروافد مختلفة، بخاصة حوارات «إنانا» و«ديموزي» ذات الطابع الإيروتيكي، التي تقيم تماهياً واضحاً بين طقوس الزراعة والخصب والفعل الجنسي، كما بيّن جيمس فريزر في «الغصن الذهبي»، وصموئيل كريمر في «طقوس الجنس المقدس»، فإن «النشيد» يكتسب أهميته من جمالياته الفنية والدلالية، ومن مناخاته المدهشة التي تجمع بين الشغف المحموم ورغبة الانصهار بالآخر:

اجعلني كخاتم على قلبك

كخاتم على ذراعك

لأن الحب قوي كالموت

والغيرة قاسية كالهاوية

مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ الحب

والأنهار لا تغمره

كما تتضافر في النشيد، الذي يعده زنون كوسيدوفسكي «واحداً من أروع وأندر القصائد الشعرية الشهوانية في الأدب العالمي كله»، الحواس الخمس مجتمعة، لتمنح العلاقة العاطفية ما يلزمها من أسباب النشوة الجسدية والثمل الروحي. فهو يحتشد بشتى الألوان التي يضيء كل منها جانباً خاصاً من جوانب الكرنفال العشقي. فالمرأة في «النشيد» يبدو شَعرها شبيهاً بقطيع ماعز على جبل جلعاد، وشفتاها كسمط من القرمز، وعنقها كبرج من العاج. أما الرجل من جهته، فهو لحبيبته عنقود حناء، وغدائره كسعف النخل حالكة كالغراب، ويداه حلقتان من ذهب، وجسمه مغشّى بالياقوت الأزرق.

وفي هذا العالم البدئي للعناصر والكائنات، لا يتبقى من فاصل يُذكر بين الإنسان والطبيعة، بحيث تصبح النباتات حالة من أحوال الجسد الإنساني، ويصبح البشر بدورهم امتداداً للأشجار والنباتات. وحيث يبدو الخريف والشتاء رديفين رمزيين للشيخوخة والموت، يتقمص الربيع بالمقابل صورة القيامة، متكفلاً بإعادة الحياة إلى نصابها، وبضخ الدماء الحارة في العروق التي جمدها الصقيع. ولعل أكثر ما يجسد هذه التوأمة بين طرفي الخلق هو قول الرجل العاشق منادياً امرأته المعشوقة:

قومي يا خليلتي يا جميلتي وتعالي

فإن الشتاء قد مضى والمطر مرَّ وزال

الزهور ظهرت في الأرض

والتينة أخرجت فجّها

والكروم أزهرتْ وفاح عَرْفُها

ومع عزف النشيد على وتر العلاقة المتداخلة بين الجسد والروح، كما بين الديني والدنيوي، يظهر الاحتفاء بحاسة الشم وكأنه ضربٌ من ضروب اللعب المقصود على وتر الانجذاب الجسدي، وتنسُّمٌ لهبوب الأزمنة المنقضية على حدائق الرغبات. وإذ تتكرر في النص عبارات من مثل «مَن هذه الطالعة من القفر مطيبة بالمرّ واللبان» و«خدّاه كخميلة الطيب» و«حلْقكِ كخمر طيبة»، نلاحظ في الوقت نفسه تركيزاً على التفاح ومذاقاته وروائحه المشتهاة، كما في عبارات «عَرْف أنفكَ كالتفاح» و«تحت شجر التفاح نبهتك» و«قوُّوني بالتفاح فقد أسقمني الحب». وإذا كان من البديهي أن نستعيد مع التفاح شجرة الخطيئة الأصلية وثمار الإغواء الشهواني، فإن الاستدعاء المماثل للرمان والكرمة والنخيل وغيرها، يعكس في عمقه الأخير حنيناً موازياً للعودة إلى الفردوس. فبمثل تلك العودة أمكن للعري أن يكتسي ثوبه الطهور، وللشهوة أن تنبثق عن أكثر المشاعر صلة بالعفة، وللمدنس أن يدخل في عباءة المقدس. وفي ظل ذلك الانصهار الكلي بين العناصر والكلمات، أمكن للعاشقين المدنفين أن يتحولا إلى نسخة ثانية عن آدم وحواء، سابقة على ارتكاب الخطيئة، وأمكن للجوقة الشبيهة بالكورس في المسرح الديني أن تسأل المرأة الوالهة «ما فضل حبيبك على الأحباء، أيتها الجميلة؟»، لتجيب الأخيرة بلا تردد:

حبيبي أحمر ونضر

غدائره كسعف النخل حالكة كالغراب

عيناه كحمامتين على أنهار المياه

وجسمه عاجٌ يغطيه اللازورد

ساقاه عمودا رخام على قاعدتين من إبريز

وطلعته كلبنان.


مقالات ذات صلة

حكايتا «شارع الأعشى»... مسلسل ينتهي بالدم ورواية بالغناء

ثقافة وفنون لمى الكناني في دور عزيزة

حكايتا «شارع الأعشى»... مسلسل ينتهي بالدم ورواية بالغناء

اخترت موضوعاً لهذه المقالة جزءاً صغيراً، فعلاً سردياً ربما لم يلفت انتباه كل مشاهدي «شارع الأعشى». جزء مهم لغرض المقالة، ولوجود تشابه بينه وبين عنصر آخر

د. مبارك الخالدي
ثقافة وفنون الإماراتي جمال مطر: محور روايتي يدور حول السلطة ومفهوم العدالة

الإماراتي جمال مطر: محور روايتي يدور حول السلطة ومفهوم العدالة

صدرت حديثاً عن دار النشر الباريسية العريقة «لارماتان»، ترجمة فرنسية لرواية «ربيع الغابة» للكاتب الإماراتي جمال مطر، حملت توقيع المترجمة المغربية وفاء ملاح،

شاكر نوري (دبي)
ثقافة وفنون العُمانية آية السيابي تكتب عن «الحياة في سجنِ النّساء»

العُمانية آية السيابي تكتب عن «الحياة في سجنِ النّساء»

صدرت حديثاً للقاصّةِ والروائيّةِ العُمانية آية السيابي روايةٌ جديدةٌ بعنوان «العنبرُ الخامسُ... الحياة في سجن النّساء»، عن دار «الآن ناشرون وموزعون»، بالأردن.

«الشرق الأوسط» ( الدمام)
ثقافة وفنون الذكاء الاصطناعي والمتخيَّل الفني... مجاراة أم مباراة؟

الذكاء الاصطناعي والمتخيَّل الفني... مجاراة أم مباراة؟

نقلتْ إلينا «ثقافية الشرق الأوسط» بتاريخ 5 - 4 - 2025 مباراة «ندِّيِّة» بين مساعد الذكاء الاصطناعي والكاتب الفرنسي هيرفي لوتيلي تحت عنوان «روائي فرنسي يواجه روب

جهاد مجيد
ثقافة وفنون قصص منحوتة من طين القرية وشقوقها

قصص منحوتة من طين القرية وشقوقها

يحوّل عاطف عبيد في مجموعته القصصية «راوتر شيخ البلد» فضاء قريته بشوارعها وأزقتها ومفارقات حياتها وبشرها إلى مادة خصبة للحكي، واصطياد القصص والحكايات،

جمال القصاص

حكايتا «شارع الأعشى»... مسلسل ينتهي بالدم ورواية بالغناء

لمى الكناني في دور عزيزة
لمى الكناني في دور عزيزة
TT
20

حكايتا «شارع الأعشى»... مسلسل ينتهي بالدم ورواية بالغناء

لمى الكناني في دور عزيزة
لمى الكناني في دور عزيزة

اخترت موضوعاً لهذه المقالة جزءاً صغيراً، فعلاً سردياً ربما لم يلفت انتباه كل مشاهدي «شارع الأعشى». جزء مهم لغرض المقالة، ولوجود تشابه بينه وبين عنصر آخر في المسلسل، ولأنه يشكل، أيضاً، صورة مصغرة لمقام سردي في رواية «غراميات شارع الأعشى». لا يشغل هذا الجزء سوى دقيقة وعدة ثوان من زمن سرد «عزيزة» (لمى الكناني) في الحلقة الأخيرة. وأعني «عزيزة» الصوت بلا جسد، التعليق الصوتي (voice-over)، الذي يأتي من خارج عالم الحكاية، ومن زمن غير زمن الأحداث فيها؛ وعلى نحو متقطع، يرافق المُشاهدَ من الدقائق الأولى إلى الدقائق، بل الثواني، الأخيرة من المسلسل، وليس «عزيزة» الشخصية، صاحبة «فيه شوط طق، فيه شوط مصري»، التي تعيش وتغني وترقص وتقلد سعاد حسني وتتصرف بتهور وتقع في الغرام بدون توقف في عالم الحكاية.

الصمت بعد «عرس الدم»

لو كنت عضواً في الفريق الذي يُشكِّل «المخرج الضمني» لـ«شارع الأعشى»، لجعلت الصمتَ يعقب فاجعة «عرس الدم»، مُنهياً به المسلسل، فلا يبقى في المشهد الأخير سوى صفحات دفتر مذكرات عزيزة والهواء يقلِّبها ويحركها، ثم تستقر مفتوحة وخالية من أي كتابة، في رمزية لنهاية مفتوحة، قد تطلق العنان لخيال المُشاهد ليكتب فيها النهاية التي يتخيلها، أو النهايات، فما إن يستقر على نهاية، حتى تظهر على شاشة خياله نهاية أخرى. سيكون المشاهد حينئذ في وضع يشبه إلى حد ما وضع قارئ رواية «غراميات شارع الأعشى» بنهايتها المفتوحة: «تمددت روحه (أبو فهد) في الغناء... صار وجه الجازي يظهر له من الضوء المنعكس في أعمدة الكهرباء المحاذية للشارع. يسوق سيّارته البويك على مهل... ويدخل من الشارع الملتوي متجهاً إلى بيته، وصوت الحب عالق في أذنه، ويبتسم وحده في السيارة، ويفكر في حبّة الخال السوداء ويغني وحده: (ماهقيت ان البراقع يفتنني)». وتنتهي الرواية بصوت محمد عبده. ويبقى ما يُحتمل حدوثه لـ«أبو فهد» والجازي مشرعاً للتخيلات والتآويل. أتساءل مبتسماً في هذه اللحظة، لماذا لم يختر «أبو فهد» أغنية أخرى يستمع إليها، أو لماذا لم تختر الروائية بدرية البشر أغنية مثل «أنا أشهد أن البدو حلوين حلوين/ وخفة الدم زودتهم حلاوة». وأضحك ضحكة صغيرة صامتة من الفكرة التي أخفقتُ في إبقائها خارج النص، مع الأغنية التي تعود تاريخياً إلى ما قبل زمن أحداث المسلسل بسنوات قليلة.

دفتر «عزيزة» يغري بإعادتها

أما في المسلسل، فيبدو أن الدفتر الملطخ بدم عواطف (آلاء سالم)، أوحى لـ«المخرج الضمني» فكرة إنهاء المسلسل بصوت «عزيزة» الساردة، حتى بعد أن تغادر «عزيزة» الشخصية في الداخل «شارع الأعشى»، وتغيبها ظلمة الطريق في رحلة الهروب.

اللافت أن «عزيزة» الساردة (voice-over narrator)، تبدو مختلفةً في الثواني الأخيرة. فلم تعد الذات/ الأنا الساردة التي تستمد مادة سردها وتعليقها من تجربتها، وتجارب من حولها، ومن الأحداث التي تشهدها وتتفاعل معها، كما يتجلى في الاقتباس التالي وفيه تصف، في بداية الحلقة الأولى، بدايات الأيام في حياة أسرتها: «كان يومنا يبدأ لما يُشغِّل أبوي الرادو... صوت إبريق الفواح يتداخل مع أصوات الأغاني اللي بينَّا وبينها بحور... من إذاعة لندن أصوات تملأ بيتنا وتفيض (على) شارع الأعشى».

يشعر المشاهد، و«عزيزة» تتكلم خلال الثواني الأخيرة، أنه يستمع إلى ساردة مختلفة، ساردة ذات معرفة تتجاوز الأحداث في ماضيها وماضي أسرتها، معرفة تحيط بما لم يحدث بعد، وبما يحتمل حدوثه في المستقبل، حين تعلق بنبرة تشي بتأكدها مما تقول: «بنات الأعشى باقين... حكاياتهم وأحلامهم هي اللي ما تموت... راجعين يعبون باقي صفحات دفتري... راجعين ومكملين مشوارنا... معكم». بالإضافة إلى تمدد حدود معرفة عزيزة لتبدو كساردة عليمة، يدرك المشاهد أنها، وخلال هذه الثواني بالذات، تملك وعياً ميتاقصياً، بأنها وبنات «شارع الأعشى» الأخريات شخصيات يعشن في حكاية، في عالم تخييلي، وأن حكايتهن لم تنته بعد، وأنهن عائدات في حكاية، وربما، حكايات أخرى، وتعي بذاتها ساردةً، وبأن هنالك متلقين ينصتون لما تقول، فتوجه كلامها إليهم: «راجعين ومكملين مشوارنا معكم... انتظرونا». لا أتذكر أنها خاطبت المشاهد مباشرة، وبهذه الطريقة من قبل، أو تلفظت بما يدل على وعي «ميتاقصي» بأنها والآخرين شخصيات خيالية في حكاية. في رأيي إن تلفظها الأخير فعل سردي نشاز، غير متسق نوعياً مع تعليقاتها السابقة. ربما يدل على ارتباك المخرج الضمني من ناحية، وعلى حرصه على إنهاء المسلسل بإعلان «برومو» لموسم ثانٍ من ناحية أخرى.

إلهام علي
إلهام علي

في انتظار بنات «شارع الأعشى»

سينتظر المشاهدون عودة بنات «شارع الأعشى»، ولكن هل تعود «عزيزة» الساردة، باختلافها الأخير، الذي اخترقت به أحد أعراف السرد الواقعي بإطلالتها الصوتية بإعلانٍ عن موسم ثان، يفترض ألا يعلم أحد به سوى المخرج الضمني؟ وهل تعود أيضاً بوعي ميتاقصي؟ أم أن تلك اللمحة «الميتاقصية» العابرة حدثت بدون قصد ووعي من المخرج الضمني؟

بالرغم من عنصر المفاجأة فيه، إن تحول «عزيزة» الساردة، ولو لثوانٍ في النهاية، أمر يمكن تَقَبُله إذا ما قورن بظهور الإرهابي المنشق جزّاع/منصور (نايف البحر) ومجيئه إلى «شارع الأعشى» للبحث عن أمه. ظهوره في واقع الحكاية يحدث بطريقة تشبه تطعيم شجرة بغصن من شجرة أخرى ولكن بأيدٍ غير ماهرة ومرتبكة؛ وإدخاله في عالم الحكاية متكلف وتنقصه السلاسة، وإيواؤه في بيت «أبو إبراهيم» (خالد صقر) تحت ذريعة وفاء «أم متعب» (إلهام علي) لأمه (ريم الحبيب)، واستمراراً للعب «أبو إبراهيم» دور «السنيد» (sidekick) لـ«أم متعب»، كلها أمور تتحدى قدرة المشاهد على تعطيل عدم التصديق. بدخول جزّاع فضاء وزمان الحدث ليكون حبيباً آخر لعزيزة تحقق معه حلمها في الهروب، يبدأ الترهل بالنفاذ إلى بنية المسلسل السردية والبطء إلى إيقاع حركة الأحداث إلى حد إثارة الملل في المشاهد.

تحولات صوت «عزيزة»

يشكل تحول «عزيزة» غير المسبوق إلى ساردة عليمة نقطة التقاء وتشابه بين المسلسل ورواية بدرية البشر. يُذَكر بتحول «عزيزة» الساردة بضمير المتكلم في الرواية إلى ساردة عليمة في فصول خمسة في الرواية (22، 13، 11،10 ،7). (ناقشت الموضوع في مقالة عن التقنية السردية في «غراميات شارع الأعشى»، نُشِرَت في صحيفة اليوم في 2016-05-07).

تراوح «عزيزة» في الفصول الخمسة بين سرد الشخصية (character narration) بضمير المتكلم بمحدودية المعرفة المرتبطة به تقليدياً في السرد الواقعي، والسرد العليم بضمير الغائب. فتروي في الفصل السابع، على سبيل المثال، حواراً قصيراً يدور بين الجازي ومزنة في بيت «أم متعب»، بينما هي فوق سطح بيتهم، وتنقل حواراً، لم تشهده، بين وضحى ومزنة في سوق الحريم، وكأنما تفتح في رأس ضاري كوة كالكوى الصغيرة في جدار سطح بيتهم تطل خلالها على أفكاره حين تروي: «بينما لا يجد في منزله سوى امرأة لا يلمس منها إلا حنانها، لأن قوتها الخفية تتحرك فقط في رأسها ولسانها. لا يعرف إلا هذه المرأة التي عملت طويلاً من أجلهم، فيرهقه شعوره بأنه عاجز عن تولي الأمر عنها» (الفصل 7، ص 66). ليس في هذا الفصل الذي يبدأ بصوتها «خرج والدي بعد صلاة العصر وركب سيارته، وقبل أن يدير محركها اكتشف أن مكان الراديو فارغ»، ما يدل على أن «عزيزة» تتوقف عن السرد، لتكمل الساردة العليمة المهمة. ويتكرر هذا المقام السردي في الفصول الأربعة الأخرى.

يرى عالم السرد البلاغي جيمس فيلان أن «سرد الشخصية أرض إنتاج خصبة للسرد المضاد للمحاكاة، غير الطبيعي، خصوصاً لاندلاعات المضاد للمحاكاة (antimimetic) المتفرقة داخل السرد الذي يكون المحاكي (mimetic) شفرته المهيمنة» (بويطقيا السرد غير الطبيعي، 197). يمكن القول إن اندلاعات المضاد للمحاكاة في أداء «عزيزة» بانتقالها من سرد الشخصية إلى السرد العليم هي «إفاضات/ paralepses» بلغة جيرار جينيت، أي سرود معلومات وأحداث تتجاوز محدودية معرفتها، ونقل ووصف ما لا يمكن لها إدراكه مثل أفكار ومشاعر ضاري، ليكون الناتج تمثيلاً سردياً مضاداً للمحاكاة (antimimetic narrative representation)، حسب تنظير علماء السرد غير الطبيعي مثل برايان ريتشاردسون وألبر جان. في رواية البشر، يتجاور المحاكي مع المضاد للمحاكاة، حيث يبدو الأخير تعبيراً عن تمرد على مواضعات السرد الواقعي.

هذه الكتابة حصيلة جولة ممتعة في «شارع الأعشى» في الرواية والمسلسل، وكأي كتابة لم تتسع لكل ما يراد كتابته، ما يعني أنها وكأي كتابة، أيضاً، تخلق الحاجة إلى كتابة أخرى تكملها. ربما تكون الكتابة الأخرى عن موسم ثان من مسلسل «شارع الأعشى»!

* ناقد وكاتب سعودي