«صراع الطارقَين» في فنزويلا... بين الضغوط والصفقات

مغتربان راديكاليان اقتربا من قمة السلطة قبل أن تفرّقهما المصالح

طارق صعب (آ ب)
طارق صعب (آ ب)
TT

«صراع الطارقَين» في فنزويلا... بين الضغوط والصفقات

طارق صعب (آ ب)
طارق صعب (آ ب)

مطلع الأسبوع الماضي، اهتزت دعائم الحزب الحاكم في فنزويلا عندما أعلن مكتب النائب العام اعتقال وزير النفط والنائب السابق لرئيس الجمهورية، طارق العيسمي، الذي كان، لأشهر قليلة خَلَت، من أعضاء الدائرة الضيّقة التي تحظى بثقة تامة من نيكولاس مادورو. وكان العيسمي قد استقال من منصبه بعد الكشف عن «تورطه» بفضيحة مالية ضخمة يقدّرها الخبراء بما يزيد على 21 مليار دولار، في شركة النفط الرسمية التي كان يشرف على إدارتها بصفته الحكومية.

في الحقيقة، منذ استقالة العيسمي، مطالع الصيف الفائت، كانت التساؤلات تتكاثر حول الأسباب التي حالت دون توجيه أي اتهامات إليه بعد انكشاف فضيحة الفساد التي طالت عدداً من كبار المسؤولين الذين أُحيل بعضهم إلى المحاكمة، في حين كان آخرون قد فرّوا من وجه العدالة، قبل أن تَصدر مذكرات التوقيف بحقهم. لكن، خلال الأسبوع الماضي، على بُعد أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية، المقررة أواخر يوليو (تموز) المقبل، وزّعت النيابة العامة، التي يرأسها طارق صعب، صوراً للعيسمي مقيّداً في ثياب المساجين، يواكبه عدد غفير من رجال الشرطة الملثّمين، وسرعان ما تناقلتها وسائل الإعلام الرسمية بشكل متكرر للدلالة على الأهمية التي يُوليها النظام لهذه الخطوة.

الرئيس نيكولاس مادورو (رويترز)

إلى جانب ما سبق، أعلن المدعي العام أيضاً اعتقال وزير الاقتصاد والمال السابق، الذي كان من بين الدائرة الضيّقة المحيطة بمادورو، وسبق أن عيّنه تشافيز رئيساً لصندوق التنمية الذي كان يُودِع فيه فائض المدخول النفطي، قبل أن يتحوّل إلى وكر للفساد، على حد تعبير صعب. وجرى اعتقال رجل أعمال وصفته النيابة العامة بأنه كان وسيطاً للعيسمي في الصفقات المالية غير المشروعة، إضافة إلى 54 متهماً من كبار الموظفين وبعض النواب المقربين من نائب رئيس الجمهورية ووزير النفط السابق.

ويُستفاد من المعلومات والرواية التي روّج لها النظام عن طريق النيابة العامة ووسائل الإعلام التابعة له، بعد أشهر من التكتم والصمت التام، أن دائرة النفوذين السياسي والمالي، التي كانت محيطة بطارق العيسمي، وفي مرمى المعارضة السياسية التي تتهمها بالفساد وتبذير أموال الدولة، قد سقطت نهائياً، وصارت هي أيضاً طريدة الحملة التي قرر مادورو شنّها على الفساد.

عملية التطهير الأعمق منذ وصول تشافيز

لا شك في أن عملية التطهير هذه هي الأعمق والأوسع منذ وصول تشافيز وحزبه إلى السلطة. إلا أنها موجهة أيضاً لإبعاد الشبهات عن مادورو الذي يَعدّ لتجديد ولايته في الانتخابات المقبلة، ولترسيخ نفوذ النائب العام طارق صعب الذي يشكّل منذ فترة «رأس الحربة القانونية» للنظام في وجه المعارضة. فطارق العيسمي لم يُعتقل ولم يُسق إلى المحاكمة لأسباب سياسية أو عقائدية، بل لأنه «أساء استخدام السلطة»، و«أسرف في أعمال الفساد والرشوة» التي كانت من الأسباب الأساسية التي أدّت إلى انهيار الاقتصاد وتدهور الأوضاع الاجتماعية والمعيشية، مع أن النظام يصرّ على الأسباب الخارجية لهذا الانهيار. وللعلم، إلى جانب الاتهامات التي كانت توجّهها المعارضة للعيسمي، كانت الولايات المتحدة قد أصدرت بحقه عدة مذكرات توقيف بتُهم الرشوة، وتبييض الأموال، وتسهيل الاتجار بالمخدرات.

طيلة 17 سنة، كان طارق العيسمي من السياسيين الأوسع نفوذاً في فنزويلا، والشخصية البارزة في المواقع القيادية. ولقد بدأ الرجل صعوده، إلى جانب هوغو تشافيز، ثم تولّى مراكز مهة في نظام نيكولاس مادورو حتى استقالته، العام الماضي، بعد بدء التحقيقات في فضائح الفساد حول شركة النفط التي كان يشرف عليها من منصبه الوزاري.

في حينه أعلن المدّعي العام طارق صعب أن اعتقال وزير النفط السابق جاء استناداً إلى التهم الموجهة إليه بالمشاركة في فضيحة الفساد المالي التي كشفتها الأجهزة بشركة البترول الرسمية. وأردف صعب: «أظهرت التحقيقات التي أجريناها ضلوع العيسمي المباشر في عمليات الفساد، وهو سيحاكَم بتُهم خيانة الوطن والاستيلاء على المال العام والتباهي بالنفوذ والسلطة». وهذه تُهم خطرة قد تؤدي إلى زجِّه في السجن لفترة ثلاثين سنة، حال ثبوتها. وكان العيسمي قد قدّم استقالته من وزارة النفط ومن قيادة الحزب الاشتراكي الموحّد الحاكم، بعد الإعلان عن بدء التحقيقات القضائية في عمليات بيع النفط الخام عن طريق صفقات بالعملات الإلكترونية المشفّرة.

من طارق العيسمي؟

أبصر طارق العيسمي النور عام 1974 في مدينة فيخيّا، من أعمال مقاطعة مريدا، في كنف عائلة درزية مهاجرة تعيش في كل من جنوب شرقي لبنان (قضاء حاصبيّا)، وجنوب سوريا (محافظة السويداء)، وهو مُجاز في الحقوق، ومتخصص في علم الجرائم. ولقد رافق هوغو تشافيز منذ وصول هذا الأخير إلى الحكم عام 1999 حتى وفاته مصاباً بالسرطان في عام 2013، وكان بين أبرز المرشحين لخلافته قبل مادورو، إذ كان عضواً في مجلس النواب، وتولّى مناصب قيادية عدة؛ منها نائب وزير الأمن القومي، ووزير الداخلية خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حكم تشافيز.

ثم إن مادورو هو الذي فتح أمام العيسمي أبواب السلطة العليا عندما عيّنه نائباً له في عام 2017 ، ثم وزيراً للصناعة والإنتاج الوطني في العام التالي، قبل أن يعيّنه وزيراً للنفط في عام 2020. وعندما أصدرت الولايات المتحدة أولى مذكرات التوقيف بحقه في عام 2019، واتهمته بتجارة المخدرات وغسل الأموال، دافع عنه الرئيس الفنزويلي بالقول إن «واشنطن تُلاحقه لأنه يتحدر من أصول عربية». وتابع: «أنا أعرفه جيداً، فهو شجاع، ووطني، وثوري واشتراكي لا غبار عليه».

«هناك من يعدّ أن سقوط العيسمي لم يكن بسبب ضلوعه في فضائح الفساد المالي نتيجة صراعات داخلية على قمة هرم السلطة»

هذا، وكانت الإدارة الأميركية قد اتهمت العيسمي بتسهيل نقل شحنات كبيرة من المخدرات إلى المكسيك والولايات المتحدة، انطلاقاً من قواعد عسكرية جوية وبحرية في فنزويلا، بالتواطؤ مع قيادات عسكرية كانت قد أدرجتها واشنطن أيضاً على قائمة المطلوبين إلى جانب العيسمي الذي وضعت واشنطن جائزة قدرها 10 ملايين دولار لمن يساعد على اعتقاله أو تسليمه. ويومذاك، ردّ العيسمي بنشره إعلاناً مدفوعاً في صحيفة «نيويورك تايمز» قال فيه إن السلطات الأميركية «خدعتها معلومات مضلّلة زوّدتها بها جهات لها مصلحة في منع إصلاح العلاقات بين البلدين»، وأنه عندما تولّى وزارة الداخلية حققت مكافحة المخدرات أفضل النتائج في تاريخها.

الملاحقة أميركياً... و«صراع سلطة» محلياً

غير أن المدّعي العام الفنزويلي صعب ذكر، في تصريحاته التي رافقت اعتقال العيسمي، أن هذا الأخير كان «الرئيس الفعلي للعصابة» التي كانت تدير عمليات الفساد، وأن خمسة من الشهود الذين كانوا ضالعين في تلك العمليات «اعترفوا»، خلال التحقيقات، بأن العيسمي وشركاءه كانوا يرسلون إلى الخارج حقائب محملة عملات وذهباً، بجانب تُهم أخرى. وأضاف صعب، فيما يشبه المرافعة ضد العيسمي: «أنه كان يستغلّ منصبه لتحويل مبالغ ضخمة لشركات وهمية يدّعي أنها متعاقدة مع الدولة»، ويذكّر خصومه في المعارضة بما جاء في الاعترافات التي أدلى بها كبير مهرّبي المخدرات في فنزويلا، وليد مقلّد - وهو أيضاً من أصول لبنانية - إلى السلطات الفنزويلية، ومنها أن العيسمي عندما كان نائباً لوزير الأمن القومي «كان يسهّل نقل شحنات الكوكايين عبر فنزويلا إلى المكسيك والولايات المتحدة».

واقع الأمر أن الذين يعرفون طارق العيسمي جيداً يقولون إنه كان «العدو الأول للمعارضة»، التي تتهمه بالوقوف وراء كل المؤامرات لتفرقتها وملاحقة قياداتها، وأنه يقارب العمل السياسي على أنه معركة حياة أو موت، إذ يتعامل مع خصومه بوصفهم أعداء يجب سحقهم بكل الوسائل المتاحة. ويتبيّن من مراجعة حسابه على «تويتر» كيف كان يهاجم خصومه بشراسة غير معهودة، ويحمل على الصحافيين الذين ينتقدونه.

وهناك من يعدّ أن سقوط العيسمي، الذي انقطعت أخباره وكان متوارياً عن الأنظار منذ استقالته، لم يكن بسبب ضلوعه في فضائح الفساد المالي الذي قوّض دعائم الاقتصاد الفنزويلي - الذي يصرّ النظام على أن انهياره كان بسبب العقوبات والحصار الاقتصادي - بل هو نتيجة صراعات داخلية على قمة هرم السلطة. المعنى أن إطاحته كانت جِزية لا بد من تأديتها أمام ضخامة الفضائح المالية، وربما أيضاً نتيجة صفقة مع الإدارة الأميركية ليست هي الأولى بين واشنطن ومادورو. ويبدو من هذه الصفقة أن المستفيد الأول منها هو المدّعي العام طارق صعب، الذي يتردد في الأوساط الفنزويلية أن الوقت أزف لترسيخ صعوده عندما يجدّد مادورو ولايته في انتخابات الصيف المقبل.

طارق العيسمي (بلومبيرغ)

صعب في الواجهة

ثوري منذ شبابه الأول، ومن أشدّ أنصار تشافيز تحمساً.

من مؤسّسي الحزب الاشتراكي الموحّد، ومنظمّ لمهرجانات موسيقى الروك، وتولى حاكمية عدة مقاطعات قبل تعيينه في منصب المدعي العام الأول.

هذا هو طارق صعب، أحد الشخصيات الأكثر إثارة للجدل في قيادة الحزب الذي يسيطر على الحكم في فنزويلا منذ 25 سنة. صعب مُجاز في الحقوق ومتخصص في القانون الجنائي وحقوق الإنسان، وهو يشغل هذا المنصب منذ عام 2017 بعد تعيينه في الجمعية الوطنية التأسيسية التي ابتدعها النظام في عزّ الأزمة السياسية لتحل مكان البرلمان المنتخب عام 2015 بغالبية مطلقة من المعارضة.

منذ ذلك التاريخ كان صعب «الدرع الأمامية» للنظام المكلفة بصدّ الاتهامات الموجّهة إليه بسبب أعمال القمع التي يمارسها ضد المعارضة السياسية وأقطابها، والجرائم التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية، وكانت موضع إدانات مباشرة وصريحة من المؤسسات الحقوقية الدولية، وفي طليعتها مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ومحكمة العدل الدولية.

وقد بدأ صعب يشقّ طريقه نحو الشهرة السياسية، مطلع عام 1989، عندما قاد حملة الدفاع عن ضحايا المجزرة التي ارتكبتها أجهزة الأمن اثناء قمعها التظاهرات الشعبية، احتجاجاً على الأوضاع المعيشية، وأدى القمع إلى وقوع عدد كبير من الضحايا بين قتلى وجرحى. في تلك الفترة كان صعب يتردد باستمرار على مكاتب تحرير الصحف ووسائل الإعلام المرئية التي كانت تستضيفه في برامجها، حتى أصبح من الشخصيات المألوفة لدى المواطنين.

وُلد طارق صعب في بلدة صغيرة بشرق فنزويلا، لعائلة درزية أيضاً هاجرت من لبنان، والتحق منذ صباه بجماعة الثوار الشهيرة التي كان يقودها دوغلاس برافو، ثم انخرط في عدد من التنظيمات اليسارية المتطرفة، قبل أن ينضمّ إلى الحركة التي أسسها هوغو تشافيز عندما قام بمحاولته الأولى الفاشلة للاستيلاء على السلطة.

إبان عهد تشافيز، كان ولاء صعب للنظام مطلقاً، وأسهم عبر أنشطته ومؤلفاته ومحاضراته في ترسيخ قاعدة النظام الشعبية حتى أطلق عليه تشافيز لقب «شاعر الثورة». ومع مجيء مادورو إلى السلطة استمر في ولائه المطلق للنظام الجديد الذي كافأه بتعيينه في منصب النائب العام الأول، الذي توقّع كثيرون أنه سيضع حداً لطموحاته السياسية؛ لما ينطوي عليه من صعوبات في عز الأزمة السياسية التي كانت البلاد تجتازها. وبالفعل، تعرّض صعب، بعد تعيينه، لسيلٍ من الانتقادات القاسية؛ لجنوحه دائماً نحو تأييد مواقف النظام، واتخاذه قرارات تخدم مصالحه وتُقصي رموز المعارضة وقياداتها عن فرص الوصول إلى مواقع المسؤولية السياسية.

لكن، بعد أشهر من توليه منصب النائب العام، وفي خضم الاحتجاجات التي عمّت فنزويلا، أعلن ابنه جبران تضامنه مع المتظاهرين الذين كانوا يحتجّون على اغتيال عدد من الطلاب في مواجهات مع الشرطة. ويومها ردّ على موقف ابنه بالقول «إنه موقف يستلهم المبادئ والقيم التي تربّى عليها»، ودعا إلى احترام ذلك الموقف الذي استخدمه خصومه لشن حملة شعواء ضده كادت تؤدي إلى سقوطه.ثم إنه تعرّض أيضاً لانتقادات شديدة من دول عدة، في طليعتها الولايات المتحدة التي اتهمته بتقويض دعائم النظام الديمقراطي، وانحيازه خلال التحقيقات حول تجاوزات الحكومة في مجال حقوق الإنسان. وراهناً، تتهم المعارضة السياسية صعب أيضاً بأنه يقف وراء القرارات التي أدّت إلى إبعاد كثيرين من قياداتها عن البلاد «بتُهم ملفّقة»، أو منع بعضهم من الترشح للانتخابات، كما حصل أخيراً مع ماريّا كورينا ماتشادو، المرشحة التي اختارتها أحزاب المعارضة لمنافسة مادورو في الانتخابات الرئاسية المقررة في يوليو (تموز) المقبل.


مقالات ذات صلة

ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

حصاد الأسبوع مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)

ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

بات «قوت الشعب» الليبي ومقدراته ورقة ضغط سياسي في لعبة الصراع على السلطة والنفوذ والمال بين «حكومتي» شرق ليبيا وغربها، وسط معركة تدور رحاها ظاهرياً حول شخص

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع عندما اختاره الرئيس سعيّد وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم رئيساً للحكومة يوم 7 أغسطس، أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية

كمال المدّوري... رئيس حكومة تونس الجديد أكاديمي مستقل أولويته «الأمن الاجتماعي»

فاجأ الرئيس التونسي قيس سعيّد المراقبين السياسيين داخل البلاد وخارجها، الذين كانوا يتابعون «مستجدات ملفات الانتخابات الرئاسية»، فأعلن قبل أسابيع من الموعد

حصاد الأسبوع الحبيب الصيد (الشرق الاوسط)

معظم رؤساء الحكومات التونسية ولدوا في منطقة «الساحل»

يتحدّر أغلب رؤساء الحكومات في تونس منذ أواسط خمسينات القرن الماضي من منطقة «الساحل» (وسط الشاطئ الشرقي لتونس)، موطن الرئيسين الأسبقين الحبيب بورقيبة

«الشرق الأوسط» (تونس)
حصاد الأسبوع مودي يصافح زيلينسكي إبان زيارته التاريخية لأوكرانيا (رويترز)

هل تتوسّط الهند لإحلال السلام بين أوكرانيا وروسيا؟

هل يسعى رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي للجلوس على طاولة المباحثات؟ بعد الزيارة

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع محمد يونس... حامل «جائزة نوبل للسلام» و«مصرفي الفقراء» يتولّى حكم بنغلاديش

محمد يونس... حامل «جائزة نوبل للسلام» و«مصرفي الفقراء» يتولّى حكم بنغلاديش

في محاولة لسد الفراغ القيادي في بنغلاديش، ولو بصفة مؤقتة، عُيّنَ محمد يونس الحائز على «جائزة نوبل» والخبير الاقتصادي، كبير مستشاري الحكومة المؤقتة المدعومة من

براكريتي غوبتا (نيودلهي)

ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
TT

ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)

بات «قوت الشعب» الليبي ومقدراته ورقة ضغط سياسي في لعبة الصراع على السلطة والنفوذ والمال بين «حكومتي» شرق ليبيا وغربها، وسط معركة تدور رحاها ظاهرياً حول شخص الصدّيق الكبير، رئيس المصرف المركزي. إذ أطاح «المجلس الرئاسي» (الغرب) الكبير، فأغلقت حكومة أسامة حماد (الشرق) حقول النفط رداً على قرار «الرئاسي» الذي اتُخذ بمعزل عن «مجلس النواب»، وعلى غير رغبته. هكذا، أصبح «المركزي»، القابع في مبنى تاريخي إيطالي التصميم يقع على الواجهة البحرية للعاصمة طرابلس، وكان يُعرف بـ«قصر الحكم» إبّان الحقبة الاستعمارية الإيطالية، رمزاً لتفاقم الانقسام بين المشير خليفة حفتر، القائد العام لـ«الجيش الوطني الليبي» في الشرق، ومحمد المنفّي رئيس «المجلس الرئاسي» في الغرب، وهذه معركة قد تلعب «الأوزان النسبية» للطرفين دوراً في حسمها. ومعها يشتعل الصراع بين الساسة على التحكّم بمصادر التمويل التي يشكّل المصرف المركزي «قلبها النابض». ويرى مراقبون الآن أن النزاع الحالي «قد يصبّ في مصلحة أطراف دولية تلعب أدواراً حالية في البلاد»، أو ربما يدفع أطرافاً أخرى إلى التدخل ومحاولة حلحلة الأزمة السياسية المستمرة منذ سقوط نظام الرئيس الراحل معمر القذافي عام 2011، لا سيما بعدما مسّت الأزمة مصالح الدول الكبرى في النفط الليبي.

المنفي مع الدبيبة (المجلس الرئاسي)

اندلعت المعركة عقب إعلان «المجلس الرئاسي»، يوم 20 أغسطس (آب) الحالي، تعيين محمد الشكري محافظاً للمصرف المركزي، وهو قرار رفض الصدّيق الكبير تنفيذه. ومن ثم، تنحى الشكري عازفاً عن قبول المنصب، في خطوة عدّتها مجلة «فورين بوليسي» الأميركية «انعكاساً لرغبة الشكري في ألا يكون محور صراع دموي بين سلطات ليبيا المتنازعة».

بعدها، لم تتوقف محاولات «الرئاسي» إقالة الكبير رغم تذكير الأخير بأن «تعيين محافظ المصرف المركزي، وفقاً للاتفاق السياسي والقانون رقم (1) لسنة 2005، يتبع السلطة التشريعية»، الأمر الذي أكّده مجلسا «النواب» و«الدولة». لكن في تحدٍ لـ«النواب» أعلن «الرئاسي» تعيين محافظ ومجلس إدارة جديد لـ«المركزي» وتكليف عبد الفتاح عبد الغفار رئاسته، رداً على إنهاء برلمان الشرق ولاية «الرئاسي» و«حكومة الوحدة الوطنية» المؤقتة، برئاسة عبد الحميد الدبيبة في الغرب. وبسرعة، سيطرت «لجنة تسليم واستلام الصلاحيات» المعيّنة من قِبل «الرئاسي» على مقرّ المصرف المركزي لتثبيت مجلس الإدارة الجديد برئاسة. ولقد ذكر عبد الغفار في أول تصريحاته الصحافية الأسبوع الماضي، أن «المصرف يعمل حالياً وفق المعايير الدولية، وعبر مجلس إدارة متكامل من ذوي الخبرات».

بالطبع، لم يلق هذا التصرف قبولاً لدى حكومة أسامة حماد (مقرها بنغازي) التي أعلنت حالة «القوة القاهرة» على جميع الحقول والموانئ النفطية، ووقف إنتاج النفط وتصديره حتى إشعار آخر. كذلك اشترط عقيلة صالح، رئيس «النواب»، عودة الكبير إلى عمله مقابل إعادة فتح حقول النفط واستئناف التصدير.

الدكتور يوسف الفارسي، أستاذ العلوم السياسية ورئيس حزب «ليبيا الكرامة»، قال لـ«الشرق الأوسط» إن الأزمة الحالية كما يبدو «ترجع إلى سياسة التقشف التي فرضها الكبير تجاه (الرئاسي) وحكومة (الوحدة)، مع تقنين الصرف لمواجهة عجز الموازنة. هذا ضيق الخناق عليهما، ليصدر قرار الإقالة الذي لا يعدّ من صلاحيات (الرئاسي)... إنها أزمة متوقعة في ظل وضع صعب تعيشه ليبيا وصراع مستمر بين الكيانات المختلفة».

لكن الصراع الحالي غير محصور بالمصرف المركزي، بحسب الخبير الاقتصادي الليبي وحيد الجبو، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إنه «يمتد أيضاً إلى المؤسسات الاقتصادية الكبرى كالمؤسسة الوطنية للنفط والمؤسسة الليبية للاستثمار... إنه صراع بين القوى السياسية المتنازعة على السلطة، لا سيما أن النفط والمال من أهم مراكز القوة، التي يحاول كل طرف أن ينتزعها لنفسه». وبينما يؤكد الجبر «بطلان» قرار الرئاسي بإقالة الكبير، فهو لا يمانع في تغيير محافظ المصرف؛ لأن «التغيير مطلوب، ولكن بموجب إجراء قانوني صحيح».

الحرب الروسية - الأوكرانية

استخدام سلاح النفط في الصراع ليس جديداً، فبعد شهرين من الحرب الروسية - الأوكرانية أُعلن عن حصار نفطي ليبي بسبب مطالبة الدبيبة بالاستقالة لصالح فتحي باشاغا، رئيس الوزراء المنافس في الشرق آنذاك. يومذاك، بدا أن الكبير والدبيبة حليفان، اتُهم رئيس حكومة «الوحدة» بـ«إساءة استخدام أموال الدولة بمساعدة المركزي»، وفق «فورين بوليسي» التي أشارت إلى «انتهاء الحصار في يوليو (تموز) 2022 من دون أن يحقق أي طرف هدفه».

وهو ما يوضحه عبد الهادي ربيع، الباحث المصري المتخصص في الشأن الليبي، مشيراً لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «الأزمة ليست وليدة اليوم، بل تعود جذورها لفترات سابقة حاولت خلالها سلطات شرق ليبيا تغيير محافظ المصرف المركزي بوجه رفض حكومة الغرب، قبل أن تنعكس الصورة أخيراً ويغدو الشرق متمسكاً بالكبير المرفوض من الغرب». وأرجع ربيع الأزمة الأخيرة إلى «نزع مجلس النواب صفة القائد الأعلى للقوات المسلحة عن المجلس الرئاسي، بالتزامن مع صرف الكبير ميزانية ضخمة لحكومة حماد في الشرق؛ ما أغضب حكومة الدبيبة في الغرب وجعلها تنقلب عليه».

عقيلة صالح (الشرق الاوسط)

من «معسكر القذافي» إلى قلب «الثورة»

الكبير، الذي عُيّن محافظاً لـ«المركزي» عام 2011، صار بالفعل، محور صراع بين السلطتين التنفيذيتين في البلاد. وهو خريج جامعة هارتفورد الأميركية، وكان محسوباً على نظام معمّر القذافي، قبل أن يصبح من أوائل «الثوار» ضد حكمه. فقد انضم إلى المجلس الانتقالي الليبي إثر نشاطه على الأرض، ومنه إلى المصرف المركزي. وطوال 13 سنة لعب الكبير دوراً محورياً في الإدارة السياسية - النقدية في البلاد.

مراقبون يرون أن الكبير دائماً يراهن على «الحصان الرابح»، ويوصف بأنه «آخر من تبقى من الثوار» و«القذافي الجديد»، وهو اتهام بين اتهامات وانتقادات عدة وُجّهت إليه، وبلغت حد التشكيك في جنسيته من قِبل «ثوار الزاوية» عام 2013. أيضاً تعرّض الرجل لاتهامات عدة إبّان عهد القذافي، وتجدّدت مع تعيينه محافظاً، لكنه تخطى الأزمة بمهاراته المعتادة التي أتاحت له في وقت سابق الانتقال من معسكر المحسوبين على نظام القذافي إلى معسكر «الثوار».

واشنطن على خط الأزمة

من جهة ثانية، يُلقب البعض الكبير بأنه «حليف واشنطن»، وربما كان هذا سبب دخول واشنطن على خط الأزمة الحالية، حين أعلنت سفارتها في ليبيا، الأسبوع الماضي، عن لقاء جمع ، الجنرال مايكل لانغلي، قائد القيادة الأميركية في أفريقيا، جيريمي بيرنت القائم بالأعمال، مع حفتر. ولقد حثّت واشنطن جميع الأطراف الليبية على «المشاركة بشكل بنَّاء في الحوار بدعم من بعثة الأمم المتحدة لدعم ليبيا». كذلك، أعلنت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، في اليوم نفسه، عزمها عقد اجتماع طارئ لحل أزمة المصرف المركزي؛ بهدف «التوصل إلى توافق يستند إلى الاتفاقيات السياسية والقوانين السارية، وعلى مبدأ استقلالية المصرف المركزي وضمان استمرارية الخدمة».

خليفة حفتر (روبترز)

تكمن أهمية المصرف المركزي الليبي في كونه يشرف على إدارة إيرادات النفط وميزانية الدولة

«سلاح المعركة»

تكمن أهمية المصرف المركزي في كونه يشرف على إدارة إيرادات النفط وميزانية الدولة، قبل إعادة توزيعها بين المناطق الليبية المختلفة، وكانت فترة الهدوء أخيراً ساهمت في رفع إنتاجه إلى نحو 1.2 مليون برميل يومياً. لكن إعلان المؤسسة الوطنية للنفط حالة «القوة القاهرة» في حقل الشرارة، أحد أكبر حقول النفط الليبية بطاقة إنتاجية تبلغ 300 ألف برميل يومياً، أثار مخاوف دولية بشأن خفض الإنتاج، وارتفاع أسعار الخام عالمياً.

وهكذا، بات النفط سلاحاً رئيسياً في معركة «فرض النفوذ» و«لي الذراع» بين شرق ليبيا وغربها، «يفرض استخدامه خسائر على الاقتصاد الليبي الذي يعاني عجزاً في الميزانية العامة وميزان المدفوعات»، بحسب الجبو، الذي قال إن «خزينة ليبيا ستواجه صعوبات في تسديد المتطلبات من مرتبات ودعم للوقود والكهرباء». أما الفارسي، فيرى أن استخدام سلاح النفط داخلياً قد يُثير «موجة غلاء مع تراجع سعر العملة المحلية مقابل الدولار، كما قد يضرّ بالاستثمارات، ويوثر على التعامل مع المصارف الأجنبية».

للعلم، تقع غالبية حقول النفط تحت سيطرة «الجيش الوطني الليبي»، الذي حذَّر قائده حفتر خلال الأسبوع الماضي، من «المساس بالمصرف المركزي»، بينما تُعدّ منطقة الواحات (بجنوب غربي ليبيا) من أبرز المناطق الغنية بالحقول النفطية في البلاد. ووفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي، فالمصرف المركزي هو الجهاز الوحيد المسؤول عن عائدات النفط، التي تشكل 95 في المائة من ميزانية ليبيا، وبالتالي مَن يتحكّم بالعائدات يتحكّم بالاقتصاد الليبي.

«لعبة شطرنج»

على صعيد متصل، وخلف الكواليس، يُعد المصرف «جزءاً من لعبة شطرنج جيوسياسية روسية»، وفقاً لجايسون باك، مؤسس «ليبيا أناليسيس»، الذي يرى في حديثه لـ«فورين بوليسي» أن إغلاق حقول النفط لن يغير طريقة عمل المصرف، بل يسمح لروسيا بتعزيز مصالحها في ليبيا. وعدّ باك «الأزمة مصطنعة ولا علاقة لها بقضايا المصرف الرئيسية». كذلك، ورد في المجلة عينها تحذير من أنه «إذا تجاهلت الجهات الدولية الرئيسية الفاعلة هذه الأزمة، فهي تترك بذلك ليبيا تحت رحمة روسيا».من جانبه، يرجح الجبو أن «يأتي حل الأزمة عبر ضغط المجتمع الدولي لعودة الكبير إلى منصبه، ومن ثم إجراء اتصالات ومباحثات بين مجلسي النواب و(الدولة) لاختيار محافظ جديد». مذكّراً في هذا الصدد بأن بيان السفارة الأميركية «ندد بإبعاد المحافظ وطالب بإرجاعه». وأيضاً، يرى الفارسي أن «أي حل للأزمة لن يتحقق بمعزل عن جهود المجتمع الدولي وضغوطه، لا سيما مع وجود أطراف دولية فاعلة في الأزمة». وهو يتوقع «حلّ الأزمة سريعاً، مع تشكيل لجنة حوار جديدة تدفع نحو الاستقرار وإجراء الانتخابات، بعدما طال الأمر وتعقد، وبات يمسّ قوت الليبيين ومصالح القوى الدولية في النفط والاستثمارات».