مسؤولون سابقون يستعرضون لـ«الشرق الأوسط» سياسة واشنطن تجاه السودان

في الذكرى السنوية الأولى لاندلاع الحرب بين الجيش وقوات «الدعم السريع»

عناصر مسلحة تابعة للجيش السوداني (أ.ف.ب)
عناصر مسلحة تابعة للجيش السوداني (أ.ف.ب)
TT

مسؤولون سابقون يستعرضون لـ«الشرق الأوسط» سياسة واشنطن تجاه السودان

عناصر مسلحة تابعة للجيش السوداني (أ.ف.ب)
عناصر مسلحة تابعة للجيش السوداني (أ.ف.ب)

في الذكرى السنوية الأولى لبدء الحرب في السودان، تتخبط السياسة الأميركية في سعيها للتوصل إلى حل سلمي يضمن وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات الإنسانية إلى الملايين من السودانيين العالقين في خط النزاع.

فبعد أكثر من أشهر على توقف محادثات جدة، تأمل الولايات المتحدة في عودة الأطراف إلى طاولة المفاوضات الشهر الحالي، مع سعي المبعوث الجديد إلى السودان توم بيريللو، لدفع الطرفين المتنازعين على التفاوض بهدف إنهاء النزاع. وفي هذا الإطار، استعرضت «الشرق الأوسط» آراء مسؤولين أميركيين سابقين بشأن النزاع في السودان والسياسة الأميركية هناك.

ووصفت سوزان بايج، السفيرة الأميركية السابقة لدى دولة جنوب السودان، الوضع في السودان بـ«المروع»، معربة عن أسفها حيال غيابه عن التغطية الإعلامية حول العالم في ظل الأزمات الدولية المزدادة. وقالت بايج لـ«الشرق الأوسط»: «هناك كثير من الأزمات الأخرى في العالم، حيث توجد أيضاً حالات إنسانية صعبة وحروب جارية، لكن السودان مهم للغاية والناس هناك يعانون حقاً».

من ناحيته، يعد دونالد بوث المبعوث الخاص السابق إلى السودان ودولة جنوب السودان، أنه بعد عام من الصراع «يبدو أن الانقسامات في السودان تتعمق وتزداد صلابة». ويفسّر بوث لـ«الشرق الأوسط»، قائلاً إن «القوات المسلحة السودانية (الجيش) التي ظهر قادتها خلال حكم البشير الإسلامي بعد انقلاب عام 1989 تعتمد بشكل مزداد على دعم أنصار نظام البشير السابق، بما في ذلك (حركة العدل والمساواة)، وهي المعارضة الإسلامية السابقة في دارفور. إن مكاسب الجيش السابقة دفعت بالآخرين إلى زيادة دعمهم له، ولهذا فإن المجموعة الوسطية من العناصر المسلحة المحايدة تتقلص. وشروط الجيش لوقف إطلاق النار تتمثل في دعوة قوات (الدعم السريع) للاستسلام والتفكك. ومن ناحيتها، تعدّ قوات (الدعم السريع) والجنرال حميدتي أنهم لن يجدوا مكاناً لهم في السودان إذا انتصر الجيش والإسلاميون، ولهذا فلديهم حافز على القتال. سوف يستمرون في هذا طالما يحافظون على الدعم الخارجي. أما المجموعات المدنية السياسية ومجموعات المجتمع المدني التي تحاول البقاء على الحياد وتسعى لعملية انتقالية تقود إلى حكومة مدنية، فلا تزال مشتتة بسبب الخلافات السياسية والشخصية».

طفلان يحملان مساعدات في مدرسة تؤوي نازحين فروا من العنف في السودان 10 مارس 2024 (أ.ف.ب)

نوع العملية الانتقالية

وأوضح بوث أن «ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2019، عكست رفضاً للدولة الإسلامية، لكن الانقسام بين العلمانيين والإسلاميين أصبح أكثر عمقاً. بالإضافة إلى ذلك، يحدث الصراع الحالي في وقت يشهد فيه النظام الدولي تقلبات كبيرة، مع التأثير الكبير لكثير من اللاعبين الخارجيين في رسم كيفية تطور الصراع». ويختم بوث قائلاً إن «السودان بحاجة ماسة إلى حوار وطني شامل لرسم طريق إلى الأمام يمكن لمجموعة واسعة من السودانيين الاتفاق عليها. ثم يحتاج إلى أمر نادر الوجود، وهو قائد يتمتع بالكاريزما والمهارة السياسية اللازمة لرؤية مسار نحو تنفيذ الرؤية هذه وبناء شعور بالهوية الوطنية المشتركة».

ويعدّ بوث أن «القوات المسلحة ليست مهتمة بنوع العملية الانتقالية التي يسعى إليها المدنيون، ولهذا فهم يحاولون تقويض مصداقية المدنيين عبر الزعم أنهم، خصوصاً تحالف (تقدم)، يساندون قوات (الدعم السريع)». كما يشير بوث إلى أن كل طرف في النزاع يعدّ المساعدات الإنسانية تساعد الطرف الآخر، ولهذا فقد تصدوا لإيصالها.

وفي خضم هذه التجاذبات يتساءل بوث: «كيف يمكن لهذا الكابوس أن ينتهي؟ ربما بفوز طرف واحد رغم أن هذا مستبعد نظراً لتاريخ السودان في الحروب الأهلية. ربما تظهر جهود إقليمية ودولية موحدة تستطيع إقناع الجيش وقوات (الدعم السريع) بالموافقة على وقف لإطلاق النار بمراقبة خارجية وإيصال المساعدات الإنسانية. أو ربما ستؤدي المجاعة إلى إعادة ضبط تفكير الطرفين».

من ناحيته، يعدّ ألبرتو فرنانديز القائم بأعمال السفير الأميركي في السودان سابقاً، أن الوضع يبدو أنه على حاله من الناحية العسكرية «رغم التقدم الأخير من جانب الجيش خلال الشهرين الماضيين مقارنة بتقدم قوات (الدعم السريع) في ديسمبر 2023». ويضيف فرنانديز لـ«الشرق الأوسط» قائلاً: «هذا يعني استمرار وتفاقم الكارثة الإنسانية بحق الشعب السوداني. ورغم أن الجيش يتقدم الآن، فإن هذا لا يعد اتجاهاً حاسماً، سيكون هناك مزيد من القتال».

أما كاميرون هادسون كبير الموظفين السابق في مكتب المبعوث الخاص إلى السودان، فيؤكد أن التوصل إلى نهاية للحرب أصبح أكثر صعوبة من بداية النزاع. ويضيف في حديث مع «الشرق الأوسط» قائلاً: «لقد وصل الطرفان إلى نقطة يصعب فيها الاستسلام، لكن في الوقت نفسه لم يخسر أي طرف بما فيه الكفاية كي يتوقف تماماً عن القتال. بالإضافة إلى ذلك، لقد فقد المجتمع الدولي تركيزه ونفوذه، مما ترك البلاد في حالة من الفوضى. في هذه المرحلة، لا يمكن التحدث عن انتقال سياسي، بل يجب أن نركز على تجميد النزاع لدرجة يمكن فيها إيصال المساعدات الإنسانية. فإن لم يحدث ذلك فسيموت مزيد من الناس بسبب الجوع والأمراض التي يمكن علاجها... أكثر مما سيموتون جراء الحرب».

آثار مواجهات الجيش السوداني وقوات «الدعم السريع» في الخرطوم (رويترز)

طروحات وانتقادات

ومع استمرار النزاع من دون «نور في نهاية الأفق»، يلوح فرنانديز بخيارين يمكن لإدارة بايدن أن تعتمدهما لإنهاء النزاع، محذراً من «خطورتهما»: الأول إقناع الطرفين بأن التسوية المتفاوض عليها مع هدنة عاجلة هي المسار الوحيد للخروج من الحرب، أو التزام الولايات المتحدة بشكل حاسم بدعم طرف على حساب الآخر.

وأضاف فرنانديز أن المشكلة في هذه الأزمة أن «الطرفين يريدان الانتصار، خصوصاً الجيش الذي يعتقد أنه يحقق تقدماً الآن. لذلك فإن الطرف الأضعف هو من سيطلب الهدنة. إذن، هل تركز السياسة الأميركية على الهدنة والمساعدات الإنسانية والمفاوضات وغيرها، أم على النتيجة النهائية عبر دعم أميركي للقوات المسلحة على حساب الطرف الآخر لتحقق الفوز الميداني من دون معرفة ما سيحدث بعد ذلك؟ لو كانت هناك حلول سهلة لكانت حصلت».

من ناحيتها، وجهت بايج انتقادات لاذعة للإدارة الأميركية في تعاطيها مع ملف السودان، مشيرة إلى تأخرها مثلاً في تعيين سفير أميركي بالخرطوم، وقالت: «السياسة الأميركية في السودان ارتكبت كثيراً من الأخطاء وأضاعت كثيراً من الفرص. كثير من دبلوماسيتنا أصبح معسكراً، فقد اعتدنا على التعامل مع كل شيء عبر التركيز على مكافحة الإرهاب، ونرى كل الأمور من ذلك المنظار».

كما أعربت السفيرة السابقة عن خيبة أملها من عدم إعطاء المبعوث الخاص المعين توم بيريللو صلاحيات كافية تضمن حصوله على خط تواصل مباشر مع وزير الخارجية أنتوني بلينكن، مشيرة إلى أنه يقدم تقاريره من خلال مساعدة بلينكن، مولي فيي. وأضافت أن «فكرة وجود مبعوث خاص أنه يقدم زاوية فريدة من نوعها لا تقدمها بالضرورة مساعدة الوزير أو السفير. لذلك فإن أسلوب التعيين مخيب للآمال بعض الشيء».

لاجئون سودانيون يجمعون المياه من بئر في مخيم «أدريه» على الحدود السودانية - التشادية (إ.ب.أ)

غياب التصريحات القوية

كما تنتقد بايج غياب تصريحات قوية وواضحة من قبل الإدارة حول ما يجري في السودان، قائلة: «أين هي التقارير حول ما يحدث في المفاوضات؟ ما المواقف؟ ماذا حصل للاتفاق الذي تم التوقيع عليه والذي اتفق من خلاله الطرفان على احترام القانون الإنساني وعدم استهداف المدنيين؟ ماذا فعلنا حيال ذلك؟ كان من المفترض أن تكون هناك آلية تنفيذ. أين تقف هذه الآلية الآن؟».

وسلطت بايج الضوء على صعوبة إقناع الأطراف المتقاتلة بضرورة التوصل إلى حل تفاوضي، ففسرت قائلة: «العناصر المقاتلة دوماً تعتقد أنها تستطيع الفوز في ساحة المعركة. ومن الصعب دائماً إقناعها بوجوب التوصل إلى حل تفاوضي، لأنه بالنسبة لهم هذا يعني الخسارة. إن العسكريين غير مدربين على التفاوض وعلى المحادثات، لكن على تحقيق النصر العسكري».

لكن هادسون أشار إلى أن تعيين مبعوث خاص جديد ونشيط يعطي بعض الأمل بأن واشنطن قد تتمكن من البدء في تنظيم رد عالمي لوقف القتال والتطرق إلى الوضع الإنساني. وأضاف هادسون: «بالتأكيد، لم تعد الولايات المتحدة في موقع يمكنها بمفردها إجبار الأطراف على رمي أسلحتهم والتفاوض. لكن بالعمل مع دول أخرى تدعم هذا الطرف أو ذاك، يمكن لواشنطن استخدام نفوذها على أمل بناء ائتلاف دبلوماسي قادر على الضغط على الأطراف للسماح على الأقل بدخول المساعدات وتجنب أسوأ سيناريو إنساني».

ويعدّ بوث أن الولايات المتحدة أدركت مبكراً التهديد الكبير الذي سيشكله النزاع بين الجيش وقوات «الدعم السريع» على السودان وعلى المنطقة، «لذا فقد تفاعلت بسرعة مع السعودية لبدء محادثات جدة».

لكن المبعوث السابق يشير إلى أن هذه المساعي «تأثرت سلباً بثقة كل من القوات المسلحة السودانية وقوات (الدعم السريع) بأنهما تستطيعان الانتصار عسكرياً، نظراً لمستوى الدعم الخارجي الذي كانتا تتلقيانه». وقال بوث إن تعيين مبعوث خاص «أضاف زخماً جديداً لجهود الولايات المتحدة لتوحيد الدعم الإقليمي اللازم لحل تفاوضي ولإقناع قيادة الجيش وقوات (الدعم السريع) بضرورة إنقاذ السودان وشعبه».

مقاتلون من تجمع «قوى تحرير السودان» (أ.ف.ب)

عسكرة المجتمع أسوأ السيناريوهات

وفي مقابل مواجهة هذه التحديات، يعرب المسؤولون السابقون عن تخوفاتهم من أسوأ السيناريوهات في المرحلة المقبلة، فيقول فرنانديز إن «أسوأ مخاوفي هو ما يحدث بالفعل، أي عسكرة المجتمع وتجزئته على أسس سياسية وقبلية وعرقية، والضغط الشديد على المدنيين أو غير العسكريين أو غير الحزبيين للتوافق أو الاختفاء، وانتشار اليأس والجوع وسوء التغذية بين السودانيين».

من ناحيتها، تتخوف بايج من التهجير الجماعي، ليس فقط من دارفور، بل في كل الأمكنة الأخرى التي شهدت عنفاً عرقياً، وتتساءل: «متى سنتخذ إجراء قوياً؟ أنا قلقة بشأن عدد الأشخاص الذين سيتم تهجيرهم قسراً، وهذا يعد جريمة حرب. قلقة من جرائم أخرى ضد الإنسانية ونحن صامتون. أنا قلقة بشأن عدد الأشخاص الذين فقدوا حياتهم ومن تدمير بلدات وقرى بأكملها ومحوها تماماً. نحن لا نسمع عن كل ذلك».

أما هادسون فيعدّ السيناريو الأسوأ هو «الموت الجماعي لمئات الآلاف من المدنيين السودانيين، وأغلبهم من النساء والأطفال، الذين قد يموتون جوعاً وبسبب الأمراض في الأشهر المقبلة فقط، لأن المجتمع الدولي لا يستطيع إيصال المساعدات إليهم».

وأضاف: «بعد ذلك، الخوف هو أن القتال سيزداد سوءاً ويتوسع إلى مناطق جديدة، ما سيؤدي إلى وقوع الملايين من الضحايا والنازحين. على المدى الطويل، هناك خوف من انهيار تام للدولة، وبلد مقسم، ما سيخلق مساحة للقوى المتطرفة والإجرامية والقبلية للسيطرة على مناطق كبيرة من البلاد، ولاستباحة المجتمعات، واستهداف المدنيين وتصدير الاضطراب إلى منطقة واسعة من أفريقيا».

ويقول بوث إن أسوأ مخاوفه هو «استمرار القتال، ما سيجعل من الصعب على السودان أن يجد طريقاً لاستيعاب تنوعه بسلام، وبالتالي البقاء على قيد الحياة، أو حتى الازدهار كدولة موحدة». ويوفر المبعوث السابق نظرة تاريخية للنزاع في السودان، فيشرح قائلاً: «الانقسامات في السودان تتجاوز الخلاف بين الجيش وقوات (الدعم السريع). فالفظائع في دارفور تعكس صراع الأساليب الرعوية والزراعية والخلافات العرقية القديمة».


مقالات ذات صلة

«الجنائية الدولية»: ديسمبر للمرافعات الختامية في قضية «كوشيب»

شمال افريقيا علي عبد الرحمن الشهير بـ«علي كوشيب» المتهم بجرائم حرب في إقليم بدارفور (موقع «الجنائية الدولية»)

«الجنائية الدولية»: ديسمبر للمرافعات الختامية في قضية «كوشيب»

حددت المحكمة الجنائية الدولية ومقرها لاهاي 11 ديسمبر المقبل لبدء المرافعات الختامية في قضية السوداني علي كوشيب، المتهم بارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية بدارفور.

أحمد يونس (كمبالا)
الولايات المتحدة​ مسعفون من جمعية «الهلال الأحمر الفلسطيني» ومتطوعون في الفريق الوطني للاستجابة للكوارث (أ.ب)

الأمم المتحدة: عمال الإغاثة الذين قُتلوا في 2024 أعلى من أي عام آخر

أعلن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن عدد عمال الإغاثة والرعاية الصحية الذين قُتلوا في 2024 أعلى من أي عام آخر، بحسب «أسوشييتد برس».

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
شمال افريقيا سودانيون فارُّون من منطقة الجزيرة السودانية يصلون إلى مخيم للنازحين في مدينة القضارف شرق البلاد 31 أكتوبر (أ.ف.ب)

مقتل العشرات في هجوم لـ«قوات الدعم السريع» بولاية الجزيرة

مقتل العشرات في هجوم لـ«قوات الدعم السريع» بولاية الجزيرة، فيما تعتزم الحكومة الألمانية دعم مشروع لدمج وتوطين اللاجئين السودانيين في تشاد.

محمد أمين ياسين (نيروبي)
شمال افريقيا النيران تلتهم سوقاً للماشية نتيجة معارك سابقة في الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور (أ.ف.ب)

السودان: توغل «الدعم السريع» في النيل الأزرق والجيش يستعيد بلدة

تشير أنباء متداولة إلى أن الجيش أحرز تقدماً كبيراً نحو مدينة سنجة التي سيطرت عليها «قوات الدعم السريع»، يونيو (حزيران) الماضي.

محمد أمين ياسين (نيروبي)
شمال افريقيا عائلة تستريح بعد مغادرة جزيرة توتي التي تسيطر عليها «قوات الدعم السريع» في أم درمان بالسودان يوم 10 نوفمبر 2024 (رويترز)

السودان: 40 قتيلاً في هجوم لـ«قوات الدعم السريع» بولاية الجزيرة

أفاد طبيب بمقتل 40 شخصاً «بالرصاص» في السودان، بهجوم شنّه عناصر من «قوات الدعم السريع» على قرية بولاية الجزيرة وسط البلاد.

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)

القاهرة تعزز مشاركتها في قوات حفظ السلام بأفريقيا

بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
TT

القاهرة تعزز مشاركتها في قوات حفظ السلام بأفريقيا

بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)

تأكيدات مصرية على لسان وزير الخارجية، بدر عبد العاطي، بشأن «الدور النبيل» الذي تقوم به القوات المصرية ضمن بعثات حفظ السلام عبر «تعزيز السلم والأمن» في أفريقيا، وأنها تعكس «الالتزام المصري التاريخي بدعم الاستقرار في القارة السمراء».

تصريحات وزير الخارجية جاءت خلال زيارته للكتيبة المصرية ضمن قوات حفظ السلام في الكونغو الديمقراطية، التي تأتي أيضاً قبيل أسابيع من مشاركة جديدة مرتقبة مطلع العام المقبل في الصومال ضمن قوات حفظ سلام أفريقية، وسط تحفظات إثيوبية التي أعلنت مقديشو استبعاد قواتها رسمياً، وأرجعت ذلك إلى «انتهاكها الصارخ لسيادة واستقلال الصومال».

الزيارة المصرية للقوات التي يمر على وجودها نحو 25 عاماً، تعد بحسب خبراء تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، تأكيداً على «الحضور المتنامي للقاهرة، وتعزيزاً لمشاركاتها بالقارة السمراء»، مستبعدين أن تتحول أي تحفظات إثيوبية تجاه الوجود المصري بمقديشو لمواجهات أو تصعيد عسكري.

وبحسب ما كشفته «الخارجية المصرية» في أواخر مايو (أيار) 2024، «فمنذ عام 1960، عندما أرسلت مصر قواتها إلى عمليات الأمم المتحدة في الكونغو، خدم ما يزيد على 30 ألفاً من حفظة السلام المصريين في 37 بعثة لحفظ السلام في 24 دولة، وبصفتها واحدة من كبريات الدول التي تسهم بقوات نظامية في عمليات حفظ السلام، تنشُر مصر حالياً 1602 من حفظة السلام من النساء والرجال المصريين في عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام في الكونغو الديمقراطية والسودان وجنوب السودان والصحراء الغربية».

ووفق تقديرات نقلتها «هيئة الاستعلامات» المصرية الرسمية، منتصف يونيو (حزيران) 2022، تسترشد مصر في عمليات حفظ السلام بثلاثة مبادئ أممية أساسية، وهي «موافقة الأطراف والحياد، وعدم استعمال القوة إلا دفاعاً عن النفس، ودفاعاً عن الولاية».

بدر عبد العاطي يصافح كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)

وتاريخياً، شاركت مصر في قوات حفظ السلام بأفريقيا في «الكونغو أثناء فترة الحرب الأهلية من 1960 إلى 1961، ثم من نوفمبر (تشرين الثاني) 1999، وكوت ديفوار لمساعدة الأطراف الإيفوارية على تنفيذ اتفاق السلام الموقع بينهما في يناير (كانون الثاني) 2003، والصومال في الفترة من ديسمبر (كانون الأول) 1992 إلى فبراير (شباط) 1995، وأفريقيا الوسطى من يونيو 1998 إلى مارس (آذار) 2000، وأنغولا من 1991 وحتى 1999، وموزمبيق من فبراير 1993 إلى يونيو 1995، وجزر القمر من 1997 وحتى 1999، وبوروندي منذ سبتمبر (أيلول) 2004، وإقليم دارفور بالسودان منذ أغسطس (آب) 2004».

وضمن متابعة مصرية لقواتها، التقى بدر عبد العاطي، الجمعة، مع أعضاء كتيبة الشرطة المصرية المُشاركة في مهام حفظ السلام ضمن بعثة الأمم المتحدة لحفظ الاستقرار في الكونغو الديمقراطية خلال زيارته التي بدأت الخميس، واستمرت ليومين إلى العاصمة كينشاسا، لتعزيز التعاون بكل المجالات، وفق بيان صحافي لـ«الخارجية المصرية».

وقال عبد العاطي إن «مصر إحدى كبرى الدول المساهمة في قوات حفظ السلام الأممية»، مؤكداً أن «وجود الكتيبة المصرية في الكونغو الديمقراطية يعكس عمق العلاقات التاريخية بين البلدين وأهمية الشراكة الاستراتيجية مع دول حوض النيل الجنوبي». كما نقل وزير الخارجية، رسالة إلى رئيس الكونغو الديمقراطية، فيليكس تشيسيكيدي، من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تتضمن سبل تعزيز العلاقات، وإحاطة بما تم توقيعه من اتفاقيات تعاون خلال زيارته وتدشين «مجلس أعمال مشترك».

ووفق الخبير في الشؤون الأفريقية، عبد الناصر الحاج، فإن كلمة السر في مشاركة مصر بشكل معتاد ضمن قوات حفظ السلام في أفريقيا بشكل عام هي «طبيعة القوات المصرية حيث تتجلى الإمكانات العالية والخبرات التاريخية المتراكمة، ما جعل مصر دائمة المشاركة والحضور ضمن قوات حفظ السلام منذ أزمان بعيدة»، مؤكداً أن لمصر تجارب عدة في العمل ضمن بعثات حفظ السلام في كثير من دول أفريقيا التي شهدت نزاعات وأوضاع أمنية بالغة التعقيد، مثل ساحل العاج، والكونغو، وأفريقيا الوسطى، وأنغولا، وموزمبيق، وليبيريا، ورواندا، وجزر القمر، ومالي وغيرها.

جانب من كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في مهام حفظ السلام بالكونغو الديمقراطية (الخارجية المصرية)

الحاج أشار إلى أنه رغم أن الاضطرابات السياسية التي تشهدها كثير من دول أفريقيا «تزيد من تعقيد» عمل بعثات الأمم المتحدة الخاصة بحفظ السلام في أفريقيا، وعدم قدرة هذه البعثات على إحراز أي تقدم في ظل نقص المؤسسات الديمقراطية الفعالة في عدد من البلدان الأفريقية؛ فإن مصر تدرك جيداً مدى أهمية تكثيف حضورها الأمني في القارة السمراء، باعتبار أن «العدول عن المشاركة المصرية ضمن بعثات حفظ السلام، سوف يترك فراغاً عريضاً» ربما تستغله دول أخرى تنافس مصر في خارطة التمركز الفاعل في أفريقيا.

الخبير الاستراتيجي المصري، اللواء سمير فرج، أوضح أن هناك قوات لحفظ السلام تتبع الأمم المتحدة، وأخرى تتبع الاتحاد الأفريقي، وكل له ميزانية منفصلة؛ لكن يتعاونان في هذا المسار الأمني لحفظ الاستقرار بالدول التي تشهد اضطرابات ومصر لها حضور واسع بالاثنين، مؤكداً أن مشاركة القاهرة بتلك القوات يتنامى ويتعزز في القارة الأفريقية بهدف استعادة الحضور الذي عرف في الستينات بقوته، وكان دافعاً ومساهماً لتأسيس الاتحاد الأفريقي والحفاظ على استقرار واستقلال دوله.

وهو ما أكده وزير الخارجية المصري خلال زيارته للكتيبة المصرية بالكونغو الديمقراطية بالقول إن «المشاركة في بعثات حفظ السلام تعكس الالتزام المصري التاريخي بدعم الاستقرار في أفريقيا، والمساهمة الفاعلة في صون السلم والأمن الدوليين».

هذا التأكيد المصري يأتي قبل نحو شهر من المشاركة المصرية في قوات حفظ السلام الأفريقية، بالصومال، حيث أكد سفير مقديشو لدى مصر، علي عبدي أواري، في إفادة، أغسطس الماضي، أن «القاهرة في إطار اتفاقية الدفاع المشترك مع الصومال ستكون أولى الدول التي تنشر قوات لدعم الجيش الصومالي من يناير 2025 وتستمر حتى عام 2029. بعد انسحاب قوات الاتحاد الأفريقي الحالية»، قبل أن تعلن مقديشو، أخيراً «استبعاد القوات الإثيوبية رسمياً من المشاركة في عمليات البعثة الجديدة؛ بسبب انتهاكها الصارخ لسيادة واستقلال الصومال».

الرئيس الصومالي خلال توقيعه قانوناً في يناير الماضي يُبطل مذكرة تفاهم «أرض الصومال» وإثيوبيا (حساب الرئيس الصومالي على «إكس»)

ولم تعلق أديس أبابا رسمياً على هذا الاستبعاد، لكن تحدّث وزير الخارجية الإثيوبي السابق، تاي أصقي سيلاسي، في أغسطس الماضي، عن الموقف الإثيوبي بشأن البعثة الجديدة لقوات حفظ السلام في الصومال، حيث طالب بـ«ألا تشكّل تهديداً لأمننا القومي، هذا ليس خوفاً، لكنه تجنّب لإشعال صراعات أخرى بالمنطقة»، مؤكداً أن بلاده «أصبحت قوة كبرى قادرة على حماية مصالحها».

وعدَّ الخبير الاستراتيجي المصري أن استمرار الوجود المصري في قوات حفظ السلام على مدار السنوات الماضية والمقبلة، لاسيما بالصومال له دلالة على قوة مصر وقدرتها على الدعم الأمني والعسكري وتقديم كل الإمكانات، لاسيما التدريب وتحقيق الاستقرار، مستبعداً حدوث أي تحرك إثيوبي ضد الوجود المصري في الصومال العام المقبل.

فيما يرى الخبير في الشؤون الأفريقية أن الاستعداد القوي الذي أظهرته مصر للمشاركة ضمن بعثة حفظ السلام في الصومال، يأتي من واقع الحرص المصري على استتباب الأمن في هذه البقعة الاستراتيجية في القرن الأفريقي؛ لأن استتباب الأمن في الصومال يعني تلقائياً تأمين حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر، ومن ثم ضمان انسياب الحركة التجارية الدولية عبر قناة السويس. فضلاً عن أن مصر لن تنزوي بعيداً وتترك الصومال ملعباً مميزاً للقوات الإثيوبية، خصوصاً بعدما أبرمت إثيوبيا اتفاقاً مطلع العام مع إقليم «أرض الصومال» لاستغلال منفذ «بربرة» البحري المطل على ساحل البحر الأحمر.

وفي تقدير عبد الناصر الحاج فإن نجاح مصر في أي مشاركة فاعلة ضمن قوات حفظ السلام في أفريقيا، يتوقف في المقام الأول، على مدى قدرة مصر في انتزاع تفويضات واسعة من مجلس السلم والأمن الأفريقي لطبيعة عمل هذه البعثات، بحسبان أن إحدى المشكلات التي ظلت تسهم في إعاقة عمل بعثات حفظ السلام، هي نوعية التفويض الممنوح لها؛ وهو الذي ما يكون دائماً تفويضاً محدوداً وقاصراً يضع هذه البعثات وكأنها مُقيدة بـ«سلاسل».

وأوضح أنه ينبغي على مصر الاجتهاد في تقديم نماذج استثنائية في أساليب عمل قواتها ضمن بعثات حفظ السلام، بحيث يصبح الرهان على مشاركة القوات المصرية، هو خط الدفاع الأول لمدى جدواها في تحقيق غاية حفظ السلام.