بول رايان.. رجل الأفكار الاقتصادية

رئيس مجلس النواب الأميركي الجديد يسعى لتوحيد الجمهوريين المعتدلين والمتشددين قبل الانتخابات

بول رايان.. رجل الأفكار الاقتصادية
TT

بول رايان.. رجل الأفكار الاقتصادية

بول رايان.. رجل الأفكار الاقتصادية

لم يأت انتخاب بول رايان رئيسا جديدا لمجلس النواب الأميركي مفاجأة داخل الأوساط السياسية في الولايات المتحدة. فعلى امتداد 17 سنة أمضاها رايان نائبا في المجلس عن مقاطعة جاينزفيل بولاية ويسكونسن، نجح في جذب الأضواء إليه بعد جهوده في ملفات اقتصادية مهمة وشائكة داخل الكونغرس.
فقد برز اسم رايان بعد وضعه مقترحات لتعديل برنامج الرعاية الصحية ورسم خطة محكمة لإعادة هيكلة قانون الضرائب، ومقترحات لتقليل النفقات وتوفير الضمان الصحي للمسنين. كذلك شغل رايان منصب رئيس لجنتين من أهم وأقوى لجان مجلس النواب الأميركي، هما لجنة الميزانية ولجنة المواصلات.

في عام 2012 اختاره ميت رومني مرشح الحزب الجمهوري لرئاسة الجمهورية ليكون نائبه من منطلق إعجابه بأفكاره القيادية، إلا أن رومني - كما هو معروف - خسر الانتخابات أمام الرئيس باراك أوباما ونائبه جو بايدن.
في الواقع، لم يسع النائب عن ولاية ويسكونسن إلى منصب رئيس مجلس النواب، بل سعى المنصب إليه بضغوط من قادة الحزب الجمهوري، الذين اعتبروا أن رايان يملك المؤهلات المطلوبة للمنصب، وأنه السياسي الأقدر على توحيد صفوف الجمهوريين المنقسمين على أنفسهم. وبالفعل، تردّد رايان في تولي المنصب، لكنه استجاب في النهاية لضغوط قادة الحزب بعد انسحاب النائب كيفن ماكارثي الذي كان الأقرب إلى المنصب. ثم إنه، قبل أن يقبل ترشيحه رسميا، طالب بأن يتّحد خلفه ساسة الحزب الجمهوري بكل أجنحته وتياراته، وأن يحصل على دعم تيار اليمين المتشدد والمحافظين داخل الحزب جنبا إلى جنب مع أصوات المعتدلين.
وحقا، نجح رايان (45 سنة)، الذي يصف نفسه بأنه من «صقور» الحزب - أي متشدديه - في قضايا الميزانية بحصد أصوات 236 صوتا من مجلس النواب بكامل هيئته (إجمالي 435 عضوا) خلال عملية الاقتراع التي أجريت أخيرا، وبذا غدا الرئيس الرابع والخمسين في تاريخ مجلس النواب الأميركي، بل، والرئيس الأصغر سنا بين كل من تقلدوا هذا المنصب الرفيع منذ الحرب الأهلية الأميركية، أي منذ 140 سنة. وللعلم، وفقا للدستور الأميركي، يُعد رئيس مجلس النواب الرجل الثالث في هرم السلطة في الولايات المتحدة بعد الرئيس ونائبه.
في كلمته الأولى أمام الكونغرس بعد انتخابه، ركّز رايان على أهمية عمل كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي معا، والاستماع إلى وجهات النظر المتعارضة، والتأكيد على أن النقاش والخلافات جزء ضروري من العملية التشريعية، داعيا إلى «قدر أكبر من الاحترام والعمل لجعل الشعب الأميركي أكثر وحدة وأكثر حرية».
وحقا، فإن فكرة توحيد الحزب والاتفاق على أرضية مشتركة هي القضية الأساسية التي تشغل بول رايان اليوم بعدما كادت تمزق الحزب الجمهوري خلافات طاحنة بين تياري المعتدلين والمتشددين، بلغت حد دفع رئيس مجلس النواب السابق جون بوينر إلى تقديمه استقالته في أعقاب الهجوم الضاري الذي شنه أعضاء متشددون في الحزب عليه، واتهامهم إياه بالتراخي والتخاذل والتلكؤ في الوقوف بحزم في وجه سياسات إدارة الرئيس أوباما وحزبه الديمقراطي.
جدير بالذكر أن الحزب الجمهوري عانى طويلا من صراع داخلي في ظل تنامي أصوات الجناح المتشدد من الجمهوريين لا سيما التجمع المحافظ الذي يطلق عليه اسم «حفلة الشاي». ولقد تسبب هذا الصراع الداخلي بكثير من الأزمات داخل الكونغرس، كان أبرزها إغلاق الحكومة الفيدرالية في أكتوبر (تشرين الأول) 2013 بعد فشل تيارات الحزب في الاتفاق على استراتيجية تجنب الإغلاق الحكومي.
ولذا دعا رايان إلى طي صفحة الماضي وبدء صفحة جديدة. وخلال الأيام القليلة الماضية خرج رايان في أربعة حوارات تلفزيونية يطالب الحزب بتوحيد الصفوف وتبنّي سياسات جيدة والالتفاف حول أفكار كبيرة. وقال رايان في برنامج «واجه الصحافة» على شبكة «إن بي سي» الأحد الماضي: «كان الحزب قويا في التكتيكات، لكنه خجول في الخروج بأفكار وسياسات، وهذا هو ما علينا القيام به». كذلك قال الرئيس الجديد لمجلس النواب: «ما علينا فعله هو الالتفاف حول مجموعة مشتركة من المبادئ وتطبيقها على المشاكل وإعطاء البلاد خيارا جريئا».
في المقابل، يرى محللون أن هدف رايان في توحيد الحزب الجمهوري وتحقيق التوافق في الآراء بين أعضائه سيكون تحديا كبيرا بالنسبة له. وهذا أمر يدركه الرئيس الجديد الذي قال في حواراته التلفزيونية بصراحة: «ليس لديّ سبب للاعتقاد أن الحزب الجمهوري سيظهر فجأة في حالة وحدة وطنية بين عشية وضحاها». بل ذهب بعض المحللين لأبعد من ذلك، قائلين إن رايان دخل بقدميه إلى «عش دبابير»، حيث سيواجه سلسلة من القضايا الخلافية التي يمكن أن تقوّض قبضته على مجلس النواب، وهذا في إشارة إلى أن الحزب الجمهوري يواجه أزمة وجودية مع المشاحنات والخلافات بين فصائله وطبقاته الآيديولوجية. وسيضطر رايان إلى خوض معارك مالية طاحنة داخل الحزب وخارجه، وهي المعركة التي قسمت الجمهوريين منذ حقق الحزب السيطرة على مجلس النواب في انتخابات عام 2010.
بالتحديد، أبرز تحدٍ يواجهه رايان هو تحفيز الحزب الجمهوري للخروج ببرنامج جيد للسياسة الضريبية، وتقديم بديل جيد لبرنامج الرعاية الصحية الذي طرحه الرئيس أوباما، المعروف باسم «أوباما كير». وهو التحدي الذي واجهه سلفه جون بوينر الذي حاول عبثا توحيد الحزب خلف مقترحات بديلة لبرنامج «أوباما كير»، وخرجت عدة مشاريع قوانين لكن الجمهوريين لم يتمكنوا من التوافق حول فكرة أو مقترح أو مشروع قانون.
رغم هذا، نجح بوينر قبل أن يترك منصبه في تمرير موافقة على ميزانية لمدة سنتين، وتمديد سقف الدين حتى عام 2017، مما مهد لرايان القدرة على بدء التفاوض بين مجلس النواب ومجلس الشيوخ حول سياسات التمويل للميزانية. وسيكون الآن أمام رئيس النواب الجديد العمل للتوصل إلى اتفاق بشأن مشروع قانون الاتفاق الشامل كي يصبح قانونا قبل انتهاء التمويل الحالي بحلول 11 ديسمبر (كانون الأول) والتصدي للقضايا الشائكة مثل قانون الرعاية الصحية بأسعار مناسبة، وتنظيم الأسرة، وإعادة العلاقات مع كوبا، وغيرها. وهنا لا بد من القول بأن رايان نفسه كان قد حاول توحيد الحزب للحصول على موافقته لاستخدام عوائد الضرائب على الشركات لتمويل قانون للطرق السريعة، لكنه لم يستطع تحقيق ذلك.
رايان وأوباما وماكونيل
من جهة أخرى، يترقب المحللون كيف ستكون العلاقة بين رئيس مجلس النواب الجديد، والرئيس أوباما، وشكل الديناميكية التي ستكون بينهما، ومساحات التعاون والاختلاف، ومدى التعاون بين موظفي الرئيس في البيت الأبيض وموظفي رئيس المجلس.
وفي هذا المجال، استبق رايان أي لقاءات مرتقبة مع أوباما معلنا في حواره مع شبكة «سي إن إن» أنه يرفض التعاون مع أوباما في ملف الهجرة، رافضا أي تعديل محتمل قبل عام 2017، وأردف: «لماذا نقر قانونا حول موضوع يثير انقساما مع رئيس لا يمكن الوثوق به؟».
لكن هناك ثنائيا آخر ستكشف الأيام مدى التقارب والتباعد بينهما، هما رايان وزعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ السيناتور ميتش ماكونيل (73 سنة). والسؤال المطروح هو ما إذا كان بمقدور الرجلين دفع جدول أعمال الحزب والمضي قدما في قضايا السياسة مع اقتراب انتخابات الرئاسة العام المقبل، بحيث يتجنب الحزب حالة الفوضى قبل التوجه للانتخابات. وفي هذا الصدد يقول روجر ويليامز، النائب عن ولاية تكساس: «أعتقد أنه ستكون هناك خطوط اتصال بين رايان وماكونيل خاصة أنهما يرتبطان بعلاقة مهنية ودية بكل المقاييس». مع هذا، يقول المقربون من رايان إنه يريد مواصلة الدفع بمبادراته، مثل إعادة هيكلة قانون الضرائب لتمويل مشاريع الطرق السريعة، في حين يعارض ماكونيل سرا وعلانية مناقشة تعديل قانون الضرائب لتمويل مشاريع الطرق، وهو يريد ضمه إلى مشروع قانون إصلاح ضرائب موسع، معتبرا أنه ليس هناك الوقت الكافي للتوصل إلى اتفاق على هذا التشريع الضريبي المعقد خلال الشهور المتبقية من حكم أوباما. لكن، إذا تمكن مجلسا الشيوخ والنواب من التوافق حول مشروع موحّد فإن هذا سيكون بمثابة فوز كبير لكل من رايان وماكونيل.
وحول التحديات الأخرى التي يواجهها رئيس مجلس النواب الجديد يقول البروفسور ماثيو غرين، أستاذ الدراسات البرلمانية بالجامعة الكاثوليكية في واشنطن: «أمام رئيس مجلس النواب بول رايان مهمتان رئيستان: فهو يحتاج إلى تهدئة الخلافات داخل حزبه وتهدئة مخاوف وقلق الناخبين حول الحزب، حتى يغدو بإمكان الحزب الجمهوري مساعدة مرشحه في السباق الرئاسي إلى البيت الأبيض».
ومن جانبه، يرى آرثر بروكس، رئيس معهد «أميركان إنتربرايز»، أنه «لا يوجد داخل الحزب الجمهوري من هو أفضل من رايان للقيام بمهمة توحيد الحزب، وهو الذي قدم خلال السنوات الماضية مقترحات حول تعديل الميزانية والضرائب، ومقترحات لعلاج مشاكل الفقر، وتقليص البرامج الحكومية، وتوسيع فرص الأفراد، وتحويل الرعاية الصحية إلى نظام القسائم. لذا فهو الشخص المثالي لقيادة مجلس النواب». ويضيف: «إن أفضل طريقة للنجاح هي توسيع القيادة، أي إعطاء المزيد من الفرص لوجهات النظر المعارضة، وعرض المزيد من الأفكار والرؤى. وهذا ما يحاول رايان القيام به، وأحد الأسباب التي دفعت أعضاء مجلس النواب للتصويت لصالحه. لقد وعد رايان بإدارة مجلس النواب من أسفل إلى أعلى، وليس من أعلى إلى أسفل (أي من قاعدة النواب إلى رئيس المجلس وليس العكس)». ويشير إلى أن رايان - الذي يتمتع بملامح رياضية تضيف مظهرا شبابيا للحزب الذي يعجّ بكبار السن كما يتمتع بقدرات بلاغية ومهارة في التعبير عن أفكاره وقناعات الفكرية بسهولة - يحظى بقبول المحافظين المتشددين، وفي الوقت نفسه يشيد الجمهوريون المعتدلون بطموحه وقدراته السياسية وأفكاره الاقتصادية.
سيرة شخصية
ولد بول ديفيز رايان في 29 يناير (كانون الثاني) 1970 في مدينة جاينزفيل بولاية ويسكونسن، بشمال الولايات المتحدة، لأب من أصول آيرلندية اسمه بول موراي رايان كان يعمل محاميا، وأم من أصل ألماني إنجليزي. وهو الولد الأصغر بين إخوته الأربعة. تربى رايان في بيئة منزلية ومدرسية كاثوليكية، إذ درس في مدرسة كاثوليكية في جاينزفيل، وكان نشطا في رياضات التزلج وكرة السلة وكرة القدم. غير أنه صدم في سن السادسة عشرة بمأساة وفاة والده إثر نوبة قلبية، وهو ما دفعه لممارسة الرياضة بكثافة.
حصل رايان على درجة البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة ميامي بمدينة أكسفورد في ولاية أوهايو، وعلى شهادة البكالوريوس في الآداب عام 1992. وخلال سنوات الدراسة عمل نادلا ومدربا للياقة البدنية، وانخرط في وظائف أخرى لتغطية مصاريفه الجامعية. وبعد التخرج شق رايان طريقه السياسي موظفا متدربا في الكونغرس بمكتب السيناتور بوب كاستن، العضو الجمهوري في مجلس الشيوخ عن ولاية ويسكونسن، ثم أصبح مساعدا له. وفي عام 1997 عاد رايان إلى ويسكونسن حيث عمل لمدة سنة مستشار تسويق لشركة البناء رايان إنكوربوريتد التي يمتلكها أقاربه.
انتخب رايان لأول مرة عضوا في مجلس النواب عام 1998، وأعيد انتخابه ثماني مرات ملحقا هزائم مريرة بمنافسيه من الديمقراطيين. وفي عام 2007 أصبح رايان عضوا بارزا في لجنة الميزانية بمجلس النواب، ثم انتخب رئيسا لها في عام 2011 بعد سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب. وخلال عمله في مجلس النواب رعى أكثر من 70 مشروع قانون وتعديلا، وكان من المؤيدين لتخفيضات الرئيس جورج بوش «الابن» الضريبية وخطط إنقاذ صناعة السيارات. وفي عام 2008 قدّم رايان «خريطة طريق» لمستقبل أميركا عرفت باسم «ميزانية رايان»، واقترح تخفيضات للضرائب عن طريق خفض معدلات ضريبة الدخل والقضاء على ضرائب الدخل على الأرباح الرأسمالية وأرباح الأسهم والفائدة وإلغاء الضريبة العقارية.
وأثناء عمله التشريعي صوت رايان ضد قانون الرعاية الصحية الذي طرحه الرئيس أوباما «أوباما كير» عام 2010، وشارك مع غيره من الجمهوريين اليمينيين المحافظين في وضع تدابير لتقييد الإجهاض وفرض عقوبات على الأطباء الذين يجرون عمليات الإجهاض، كما عارض كغيره من اليمينيين المحافظين زواج المثليين. ومنذ 2013 قاد جهودا لتعديل برامج لمكافحة الفقر داخل الولايات الأميركية. أما على صعيد السياسة الخارجية فكان رايان من الجمهوريين الذين صوتوا لصالح استخدام القوة العسكرية في العراق، كما أيد زيادة الإنفاق على الحرب في أفغانستان وفي الإنفاق على منظومات الأسلحة المختلفة.
رايان متزوج من المحامية جانا ليتل، ولديهما ثلاثة أطفال هم ليزا وتشارلز وسام. وهو يعد من الأتباع النشطين في كنيسة القديس جون (مار يوحنا) الكاثوليكية. كما يعرف عنه شغفه بموسيقى الهارد روك.
رئيس مجلس النواب الأميركي الجديد يصفه محبوه بأنه رجل الأفكار الجديدة، ويشيدون بمهارته في اختيار التوقيت المناسب لعرض أفكاره، ولقد وصفه الرئيس السابق جورج بوش بأنه «رجل الرؤى والأفكار».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.