الحب كمحرض إبداعي ومصدر للإلهام

تجلياته الخلاقة رفدت الأدب والفن بالكثير من الأعمال

تورغينيف
تورغينيف
TT

الحب كمحرض إبداعي ومصدر للإلهام

تورغينيف
تورغينيف

ليس بالأمر المستغرب أن يكون الحب ببعديه الجسدي والروحي أحد المناجم التي لا تنضب للإبداع، وأن يرفد الشعر والأدب عبر التاريخ بأكثر النصوص صلةً باضطرام القلب والشغف المحموم والتوهج التعبيري. وسواء كان إيروس طاقةً منبثقةً من الداخل الإنساني، كما ذهب البعض كهوميروس وفرويد، أو كان وحياً يرمي بسهامه الجارحة أناساً بعينهم، كما ذهب آخرون، فإن هذا الخليط الغريب من العسل والسم، كان ولا يزال قادراً على حقن متعاطيه بقدر غير قليل من أمصال الكتابة والتخييل والخلق الفني. وهو أمر تعود أسبابه إلى السلطة المطلقة للمعشوق، الذي لا يترك لعاشقه المتوله سوى اللجوء إلى الإفصاح عما يعتمل في أحشائه من المشاعر الجياشة، وأن يحول الآخر الذي تعذر امتلاكه إلى مُنادى بعيد في برية الفقدان.

وإذا كان فرويد قد ربط بشكل وثيق بين الحب والدافع الجنسي، فإنه أكد في الوقت ذاته على أن جزءاً غير قليل من نيران الرغبات العشقية يمكن «تصريفه» بواسطة الأنا الأعلى عبر الأدب والفن وسائر ضروب الإبداع. وقد استعان فرويد لإثبات بعض مقولاته في التحليل النفسي واللاوعي بروايات دوستويفسكي. وفي إثباته لعقدة أوديب لجأ إلى هوميروس، كما لجأ في أماكن أخرى إلى شكسبير، وإلى شخصية هاملت على وجه الخصوص.

ومع أن علاقة الحب الطبيعية هي علاقة تبادلية تتم على المستويين العاطفي والجسدي بين شخصين اثنين، فإن العاشق وفق رولان بارت هو وحده الذي يتكلم ويناجي نفسه، أما المعشوق فلا ينبس ببنت شفة. ولأنه في حالات الاستعصاء والتعذر، كما في «آلام فرتر» لغوته، مرصود للترحال والهرب والهجرة الأبدية، فإن العاشق الثابت والذاهل عن كل ما عداه، لا يجد وسيلة ناجعة لجمع شتات نفسه سوى اللغة، باعتبارها ربيبة الانتظار العقيم، وثمرة الغياب الأشهى.

رولان بارت

وإذ يرى بارت أن الحب يجعل كلاً من المرأة والرجل جلداً للآخر، في تماهٍ لافت مع الآية القرآنية الكريمة «هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن»، يذهب بالمقابل إلى أن اللغة في حالات الشغف القصوى، تتحول هي نفسها إلى جلد بديل. «إنني أحكّ لغتي بالآخر كما لو أن الكلمات هي الأصابع البديلة للملامسة»، يقول صاحب «شذرات من خطاب في العشق»، ليضيف قائلاً بأن العاشق المسكون بعفريت اللغة، يؤثر أن يتحول إلى كائن مازوشي مطرود من فردوس العلاقة العشقية، لتصبح الكتابة عن الحب المنتهي نوعاً من قيام المريض بتنظيم الحداد على معالجه النفسي. وفي حالات التأزم القصوى تصبح اللغة «شبيهة بصرخة عاتية خارجة من اللحد الذي لم يُحْكم إغلاقه».

ولم ينكر الشعراء والفنانون العشاق ما للنساء اللواتي أوقعونهم في شرك سحرهن من تأثير بالغ على إنجازهم الأدبي والفني، الذي كان من دون الحب سيفقد الكثير من طاقته وشحناته العصبية والتعبيرية. ففي حين يعترف شوبان بأن وجود جورج صاند إلى جانبه هو الذي جعل ألحانه تندفع بقوة من أعماق روحه، يؤكد سورين كيركغارد أن الحب دون سواه هو ما منح المعنى لحياته ولإبداعه، ثم يضيف ما حرفيته «إن نشاطي ككاتب يعود إلى المرأة التي أحببتها، بما جعل حياتي برمتها أشبه بالجبل المشيد على شرفها ومجدها وسأحمله معي في التاريخ. إنني لا أملك سوى رغبتي في أن أسحرها، ولهذا أنصحكم أن تجربوا الحب، لأنه مركز الوجود، وما يمنح الطبيعة الإنسانية تناغماً لا يُمحى».

فرويد

ومع ذلك فإن كيركغارد، الذي شكلت خطيبته ريجين أولسن المصدر الأهم لكتاباته، لم يتورع رغم تعلقه الشديد بها، عن الانفصال عنها بشكل مفاجئ ومؤلم، لتقترن بعد يأسها منه بخصمه اللدود فريدريك شليغل. ولم يكن السبب في ذلك تبدلاً في عواطف الفيلسوف الوجودي إزاء أولسن، بل كان رفضه الاقتران بها ناجماً عن خوفه من الرزوح تحت وطأة المؤسسة الزوجية، ورتابتها المفضية إلى نضوب مناجم إلهامه، شأنه في ذلك شأن المئات من الفلاسفة والكتّاب الآخرين.

على أن في الجانب الآخر من المعادلة، من جعل الحياة هدفه الأول، وقدّم الحب على الكتابة، كما فعل الكاتب الروسي إيفان تورغينيف. فقد أسرّ صاحبُ «الآباء والبنون»، الذي أحب مغنية الأوبرا المتزوجة بولين فياردو، ولم يتردد في ملازمته لها طيلة حياته دون أن يمسها، لصديقه فلوبير، بأن الحب لا الكتابة هو أولويته الحاسمة وعلة وجوده الأسمى. ثم تابع اعترافاته قائلاً «لو خُيّرتُ بين أن أصبح أعظم عبقري في العالم، أو أن أصبح بواباً أمام بيت بولين، لفضلتُ أن أكون بواباً على أن أكون عبقرياً».

وإذا كان تورغينيف يعلن انتصاره للواقع على اللغة وللحياة على الفن، فإن موقفه ذاك قد يكون ناجماً عن رغبته المقموعة في امتلاك المرأة التي شغف بها، بعد أن رفضت بولين إخراج علاقتهما العاطفية من سياقها الروحي، أو التضحية بزواجها من أجله. ومن حق المرء أن يتساءل عما إذا كان موقف تورغينيف سيظل هو نفسه لو أنه حقق رغبته بالزواج من بولين. فاللغة الخلاقة لا تنبت في الأعم الأغلب إلا في تربة الحرمان، وكثيراً ما تحضر بوصفها نائب الفاعل، أو البديل الرمزي عن الحياة المتحققة.

«إن الشفاه تغني حين تعجز عن التقبيل»، يقول أحد المفكرين. ولم يكن جاك لاكان بعيداً عن هذا المبدأ حين اعتبر أن فطام الفم الطفولي عن الثدي الذي يرضعه هو الشرط الأهم لتحريره وتمكينه من النطق. وإذ يصبح العشق نوعاً من النكوص الارتدادي باتجاه الطفولة، يشترك الطفل والشاعر العاشق في تحويل الكلام إلى طريقة مثلى لطلب الإشباع. وهو ما يفسر «لهج» الأول المتكرر باسم الأم غير القادرة، أو غير الراغبة بسدّ جوعه، والثاني باسم الحبيبة الغائبة والممعنة في الصدود والتمنع.

إن التوتر والمجازفة بأشكالهما الأكثر احتداماً هما ما يصهر الحب والإبداع في بوتقة واحدة ولأنهما يتغذيان من النار ذاتها

إن التوتر والمجازفة بأشكالهما الأكثر احتداماً هما ما يصهر الحب والإبداع في بوتقة واحدة. ولأنهما يتغذيان من النار ذاتها التي تجعل من الغياب حطبها ومادة اشتعالها الأكثر نجاعةً، فإن كلاً من العاشق والمبدع لا يستمرئ الوصول المطمئن إلى غايته، التي تشبه النقطة الختامية للنص، بل يتحول إلى صياد دائم لقلق النفس وعذابها المازوشي. وإذ يرى ابن حزم الأندلسي أن المحب يتعمد الهجر في بعض الأحيان ليرى صبر محبوبه عليه، أو يلجأ للتدلل خوفاً من الملل، مستدرجاً بطريقة أو بأخرى المعاناة التي تؤجج في داخله رغبة الكتابة، يؤكد مارتن هايدغر الفكرة نفسها، حيث عدَّ مغامراته العاطفية خارج الزواج بمثابة «وثبات هامة نحو الحقائق المخفية التي ينبغي اكتشافها». ولأنه لا رغبة توازي رغبة اكتشاف الآخر، فإن تلك المغامرات كانت الوسيلة الحتمية لإعادة تنشيط صيرورة الإبداع.

وفي بعض الأحيان يبتكر الشعراء والفنانون وسائل مختلفة لرفد نصوصهم وأعمالهم بما يلزمها من مساحات التوتر وجُذى التعبير، كأن يقعوا في حب نساء لم يلتقوا بهن أبداً، أو يرتجلونهن من بنات الأفكار وفضاءات التخيل. وقد يعمدون في أحيان أخرى إلى استبعادهن من الواقع اليومي القابل للفساد والتحلل، لكي يستردوهن في ألق الكتابة وبهاء المجاز. ولم يكن صادق جلال العظم مجافياً للحقيقة حين عدَّ أن شعراء بني عذرة قد آثروا بشكل متعمد النأي بأنفسهم عن الارتباط الزوجي بفتياتهم المعشوقات، لمنع نيران الشغف المولدة للشعر من الضمور والانطفاء. والدليل على ذلك أنهم أصروا على التشبيب الصريح بهن، رغم معرفتهم بتقاليد القبيلة التي تحظر على الشاعر الزواج من الفتاة التي «يشهّر» بها أمام الملأ. وهم حين فعلوا ذلك، كانوا في حقيقة الأمر ينتصرون للغة على الحياة، ويضحون بلحم الأنوثة الزائل لكي يربحوا النصوص التي تضمن لهم سبيلهم إلى الخلود. كما كانوا من جهة أخرى يتداوون بالشعر من سقام الحب ووطأة الحرمان. فالكتابة عن شيء ما تعني إبطاله في الواقع، أو تعني على الأقل التخفيف من مفاعيله وتبعاته الثقيلة، بما يعكسه قول المجنون:

وما أُشْرِفُ الإيقاعَ إلا صبابةً

ولا أُنشد الأشعار إلا تداويا

ولعل ما فعله أورفيوس في الأسطورة اليونانية، لم يكن ليبتعد كثيراً عما فعله العشاق الذين ضحوا بالحب على مذبح الفن. وإلا فكيف نفسر قراره بمخالفة وصية الآلهة بألا يلتفت إلى الخلف، بعد أن استجابت الأخيرة لمناشداته لها بإعادتها، وقد ماتت من لدغة أفعى، إلى الحياة؟ ألم تكن هذه الالتفاتة تعبيراً عن رغبته المضمرة في «إماتة» أوريديس الحقيقية لإحياء أوريديس المجاز، ولشحن موسيقاه بكل ما يلزمها من أسباب الحنين والعشق المستحيل وأطياف الرغبات المفقودة؟


مقالات ذات صلة

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».