في كل عام يتكرر الموقف المحرج ذاته لكل المسلمين، متى يصومون؟ ومتى يعيّدون؟ مع أن رمضان مناسبة محبة واجتماع لا افتراق، وكذا العيد. ثمة خطأ واضح ولا بد أن نحفر بشكل أعمق لكي نعرف سبب هذا الخطأ. أعلنت دول عربية أن يوم الاثنين هو أول أيام رمضان وخالفتها دول عربية مجاورة، فقررت أن أول يوم في رمضان هو الثلاثاء. اختلفوا على قولين، وفي سنة مضت وصل الخلاف إلى ثلاثة أقوال، بسبب الاختلاف في حسبة الشهر السابق شعبان. دولنا العربية متجاورة ويستحيل أن يختلف فيما بينها ميلاد الهلال، المسافة فيما بينها تمنع بل تُحيل إمكانية هذا الاختلاف.
هناك أسباب عدة لهذا الواقع، منها السياسي والرغبة في الاستقلال الثقافي والفكري ومنها غير ذلك، لكن حجة الاختلاف في تحديد بداية الشهر هي اختلاف الرؤية، فنحن برأيهم ما زلنا أمة أمية لا تحسب ولا تكتب، ويجب أن يلتزم أهل كل قطر برؤيتهم الخاصة. استخدام الرؤية البصرية كان مقبولاً في زمن كنا فيه حقاً أمة أمية لا تحسب ولا تكتب، لكننا لسنا كذلك اليوم، ومن المشين لبلاد تمتلئ بالعلماء في كل فن، أن يوصفوا بأنهم اليوم لا يزالون أمة أمية. لا فخر في الأمية حتى نكرر هذه البُشرى!
بالنسبة إلى العالم المتحضر، القضية برمتها غير مهمة، فالحسبة القمرية غير معمول بها، وهم قد نزلوا في عام 1969 على القمر نفسه، القمر الذي ما زلنا نختلف في رؤيته من على الأرض. لكنهم حتماً سيعجبون من مستوى المعرفة عندنا وكيف أننا ما زلنا لا ندرك أن اختلاف ميلاد الهلال مستحيل فيما يتعلق بالدول المتجاورة. وربما أننا ندرك استحالة الاختلاف لكننا لا نريد الاتفاق.
الاختلاف سيقع بكل تأكيد عندما تكون المقارنة بين دول الجزيرة العربية وأمريكا أو أستراليا، لكن لا يمكن أن يقع إذا كان الحديث عن دولتين من دول الخليج، على سبيل المثال. هذا الخلاف يقع أيضاً بين دول المغرب العربي، كالجزائر والمغرب، على سبيل المثال. ولن نسأم نحن من الاستفهام الإنكاري: يختلفون وهم متجاورون؟ ومع استحالة اختلاف ميلاد الهلال؟ الجواب هو نعم.
ما هو الحل البسيط لهذه المشكلة؟ الأخذ بالحساب الفلكي.
يحتج بعض الناس بأنه لا يجوز لنا أن نعتمد في قضية دينية على علم أجنبي، لكن هذه حجة لا تقف على رجلين، فالعلم ليس له دين ولا عرق، هو نشاط إنساني يشارك فيه جميع البشر وقد شارك فيه العرب مشاركة مشرفة. علم الفلك علم حقيقي، وقد نشأ هذا العلم في بابل العظيمة في الألفية الثانية قبل الميلاد، وهناك قول قوي آخر بأنه ابتدأ في الفترة السومرية في الألفية الثالثة قبل الميلاد وبقي يتطور. صحيح أن هذا العلم اختلط بالعرافة والخرافة على أيدي قسم من رجال الدين، إلا أنه كان يسعى إلى تفسير الظواهر الطبيعية، ولم يلبث العلم الحقيقي أن نفى عن نفسه الخرافات والأساطير وأشع كشعاع الشمس. بعد العلم البابلي، بقرون طويلة ظهر علم الفلك الإغريقي، وكان قفزة عالية في تاريخ تطور العلم، والفلك بالذات، بسبب تحييده للعنصر الخرافي، وتركيزه على الأسباب المادية التي تقف وراء الظواهر.
فيما بعد، في الحضارة العربية الإسلامية، مع القرن الهجري الثاني وامتداداً حتى القرن الثامن، عرف العرب والمسلمون علم الفلك، وأصبحت لدينا مدارس متخصصة في هذا العلم، أهمها «مدرسة بغداد» التي ازدهرت في عصري هارون الرشيد وابنه المأمون، وأقيمت المراصد الفلكية في بغداد ودمشق، وصدر كتاب «الزيج المصحح» الذي اشتمل على رصدات دقيقة قاست انحراف الشمس في ذلك الزمن، ونتيجة لرصدهم للاعتدال الشمسي استطاعوا تعيين مدة السنة بكل دقة، وابتكر علماء الفلك البغداديون التقاويم لرصد أماكن الكواكب السيارة، وقد اشتهر منهم البتاني وأبناء موسى، واشتهر في بلاد المغرب ابن يونس المنجم.
بالنسبة لكل الفلكيين قديماً وحديثاً، القضية محسومة، فبعملية حسابية سيعرفون متى سيدخل رمضان هذه السنة، والسنة المقبلة وفي آلاف السنين المقبلة، وقد وصلوا إلى قناعة راسخة بأن علمهم دقيق للغاية، وأن نسبة الخطأ فيه هي واحد في مائة ألف.
لا بد من أن ننتبه إلى أمر في غاية الأهمية. نحن بهذا الموقف الذي يتكرر علناً أمام كل العالم نسجل موقفاً معادياً للعلم وللتحضر. هذا الموقف المعادي ليس بجديد، وهو حقيقي وإن حاولنا إنكار هذه الحقيقة، وقد تشكل هذا الموقف منذ أن رفضنا قانون السببية. هذا القانون ليس من الترف، فكل العلم وكلكله وقضه وقضيضه يقوم على مبدأ السببية، ومن دونه لا يمكن أن يقوم أي علم.
من جهة أخرى، العلم ليس بالضرورة عدواً للدين، لكنه بلا شك سيجد في طريقه من يعادونه ممن يزعمون في أنفسهم الوصاية على الدين، وسيبقى العلم ينتزع من هؤلاء بعض المساحة التي يقفون عليها. مساحة تلو مساحة حتى لا يبقى إلا ما هو أساسي في الدين، تلك المساحة التي لا تحتاج إلى تدخل رجل دين.
* كاتب سعودي