العمالة اللبنانية محاصرة بين خياري الهجرة والبطالة

القطاع المصرفي يقترب من خسارة نصف موارده البشرية

خلال تظاهرة للعسكريين المتقاعدين للمطالبة بتصحيح رواتبهم قبل أيام في وسط بيروت (إ.ب.أ)
خلال تظاهرة للعسكريين المتقاعدين للمطالبة بتصحيح رواتبهم قبل أيام في وسط بيروت (إ.ب.أ)
TT

العمالة اللبنانية محاصرة بين خياري الهجرة والبطالة

خلال تظاهرة للعسكريين المتقاعدين للمطالبة بتصحيح رواتبهم قبل أيام في وسط بيروت (إ.ب.أ)
خلال تظاهرة للعسكريين المتقاعدين للمطالبة بتصحيح رواتبهم قبل أيام في وسط بيروت (إ.ب.أ)

لم يجد المهندس المعماري سمير، بعد أشهر طويلة من احتفال التخرج برفقة العشرات من أقرانه، فرصة لائقة للعمل في لبنان، لا في القطاع العام المغلق على التوظيف رسمياً بسبب تخمة عديدة، وعجوزات المالية العامة، ولا في القطاع الخاص المتعثر بأغلب أنشطته عموماً تحت وطأة التفاقم المتواصل للأزمات النقدية والمالية للعام الخامس على التوالي.

ويدرك، كما سواه من آلاف الخريجين الجدد من الجامعات سنوياً، أن الهجرة لم تعد خياراً طوعياً لطلب الرزق وكرامة العيش؛ بل إنها السبيل شبه الوحيدة لكل من استطاع تأمين فرصة عمل في الخارج، وبما يشمل معظم فئات الكفاءات العاملة بمداخيل متآكلة والمنضمين تباعاً إلى صفوف البطالة جراء عمليات الصرف من الخدمة في شركات ومؤسسات القطاع الخاص التي تعاني تقلصات حادة في إنتاجيتها وعوائدها.

ويمثل القطاع المالي نموذجاً صارخاً لواقع العمالة المشتّتة في قطاعات الاقتصاد اللبناني المنهك بإدارة التعامل الفاقد للتوازن مع انهيار نقدي حاد تعدت نسبته 98 في المائة، وتضخم أكثر حدّة تجاوزت تراكماته 6 آلاف في المائة، وبنتيجة دراماتيكية أفضت إلى تقلص الناتج المحلي من نحو 53 مليار دولار إلى نحو 16 مليار دولار، وفق تقديرات مؤسسات مالية دولية.

ففي الجهاز المصرفي وحده، انحدر عدد الفروع العاملة من 1065 إلى 740 فرعاً، وتلقائياً تقلصت أعداد الموظفين والعاملين، عبر الاستقالة وبالصرف الطوعي حيناً والقسري غالباً، من نحو 25 ألفاً إلى نحو 14 ألفاً، أي بنسبة تتعدى 40 في المائة خلال السنوات الأربع التالية لانفجار الأزمات في خريف عام 2019. وبالترافق، فقد عشرات الآلاف من مزودي الخدمات من التجهيز والتقنيات والبرمجيات وحتى النظافة والحراسة موارد ثمينة معلقة بالقطاع الناشط والذي كان يعدّ جوهرة الاقتصاد الوطني وقاطرة نموّه.

ويؤكد مسؤول مالي لـ«الشرق الأوسط» تعذّر تعويض خسارة الموارد البشرية ذات الكفاءة والماهرة في معظم القطاعات المترنحة وغير القادرة على احتواء التفاعلات السلبية للأزمات المستمرة بالتفاقم، والتي زادت ضغوطها أكثر بعد اندلاع حرب غزّة وتمدد المواجهات العسكرية إلى الحدود الجنوبية، فضلاً عن تردي مجمل الخدمات العامة وثقل الإرباكات الداخلية سياسياً وأمنياً والشلل الساري في مؤسسات القطاع العام.

ومع غياب الإحصاءات الدقيقة لأغلب مؤشرات الاقتصاد والإنتاج والعمالة في لبنان، يقدّر أن الموجة الأعلى لهجرة الكفاءات من كل الوظائف والاختصاصات، حصلت فعلياً، وبرقم سنوي قارب 80 ألفاً العام التالي للانفجار الكارثي في مرفأ بيروت منتصف عام 2020، وهي مستمرة بوتيرة مرتفعة من قبل أجيال الشباب وخريجي الجامعات وفاقدي الوظائف في القطاعات الإنتاجية، لا سيما في ميادين المال والاستثمار وإدارة المخاطر والتقنيات الحديثة والصناعة وسواها.

وفي توثيق محدث، ضمن تقرير «التشغيل والآفاق الاجتماعيّة في الدول العربيّة – اتجاهات عام 2024» الصادر عن منظمة العمل الدولية، والذي سلّطت من خلاله الضوء على وضع سوق العمل في المنطقة العربيّة، برزت مؤشرات صادمة عن سوق العمل في لبنان تحت لافتة انخفاض نسبة عدد الموظفين من إجمالي عدد السكان لتصل إلى 30.6 بالمائة في عام 2022 مقارنةً بنسبة 43.3 بالمائة في عام 2019.

وفي التحليل، فإن مجموعة الأزمات التي عصفت بالبلاد ألحقت أضراراً كبيرة بسوق العمل في لبنان، بحيث ارتفع معدّل البطالة من 11.4 بالمائة في عام 2019 إلى 29.6 بالمائة في نهاية عام 2022، كما فقد 27.7 بالمائة من الذين كانوا منخرطين في سوق العمل في عام 2019 وظائفهم.

وقد فاقم ارتفاع مستويات التضخّم من حدّة المشكلة ما أدّى إلى ظروف اجتماعيّة واقتصاديّة صعبة، إذ يواجه 85 بالمائة من اللبنانيّين صعوبات في تغطية التزاماتهم الماليةّ، بينما وصف 62 بالمائة منهم وضعهم المالي بالصعب جداً.

وأدّت الظروف القاتمة إلى موجة جديدة من هجرة الأدمغة خصوصاً في صفوف الأطباء والمهندسين والأكاديميين وروّاد الأعمال مع الإشارة إلى أنّ استطلاعاً أُجريَ في عام 2021 قد لفت إلى أنّ نسبة الأشخاص الذين عبّروا عن رغبة قويّة في مغادرة لبنان بشكل دائم قد وصلت إلى 63 بالمائة مقارنةً بمستوى 26 بالمائة ما قبل الأزمة.

ويجري تقدير موجة الهجرة بمثابة سيف بحدَّيْن بالنسبة للبنان؛ فهي تحرم البلاد من الموارد البشريّة، وفي الوقت عينه تتكفل بتواصل التدفقات الدولارية «الثمينة»، حيث تناهز التحويلات الوافدة مستوى 7 مليارات دولار سنوياً، وشكّلت شريان حياة للعائلات بنسبة 37.8 بالمائة من الناتج المحلّي الإجمالي في عام 2022، مسجلة بذلك أعلى مستوى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وثالث أعلى مستوى في العالم.

وفي السياق نفسه، علّق التقرير، الذي أوردت وقائعه دائرة الأبحاث في مجموعة «الاعتماد اللبناني»، بأن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أنّ البطالة الطويلة الأمد، أي الأشخاص الذين ظلوا عاطلين عن العمل مدة عام أو أكثر، قد وصلت إلى نسبة 48.9 بالمائة من إجمالي نسبة البطالة في عام 2022، مقارنة بنسبة 46.7 بالمائة في الأردن و39.5 بالمائة في فلسطين.

وأضافت منظمة العمل الدوليّة أن هذه البطالة لا تؤدي فقط إلى استنزاف مالي طويل الأمد للأفراد المعنيين وأسرهم، بل تؤدي أيضاً إلى فقدان المهارات، ما يقلّل من احتمالات العثور على وظيفة أخرى، وزيادة مشكلات الصحة العقليّة والمشكلات الاجتماعية.

ولاحظت أن مستويات البطالة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً، هي أكثر حدّة حيث بلغت 47.8 بالمائة في لبنان، مسجلة أعلى مستوى في العالم العربي في عام 2022 مقارنة بـنسبة 45.9 بالمائة في سوريا و42 بالمائة في الأردن و27.7 بالمائة كمتوسط في العالم العربي.

في السياق عينه، بلغت نسبة الشباب الذكور غير الملتحقين بالعمل والتعليم والتدريب مستوى 26.1 بالمائة في لبنان مقارنة بنسبة 24.3 بالمائة في فلسطين و22.1 بالمائة في العراق، علماً بأن لبنان يعاني أيضاً من تفاوت في مستويات الأجور بين المناطق المختلفة، مع ملاحظة اتسّاع هذه الهوّة في المناطق الأبعد عن العاصمة.

وبالأرقام، فأنّ نسبة 15.6 بالمائة من الموظفّين قد جرى تصنيفهم على أنّهم عمال من ذوي الأجور المنخفضة في بيروت وجبل لبنان في عام 2022، مع ارتفاع المعدّل إلى أكثر من 30 بالمائة في المحافظات المتبقيّة خصوصاً في عكّار حيث بلغ ذروته.

ويعاني سوق العمل في لبنان من انتشار ظاهرة ساعات العمل الطويلة للغاية، حيث يقع 32.9 بالمائة من السكان ضمن هذه الفئة، وهو أحد أعلى المستويات في المنطقة. ولا تقتصر مشكلات سوق العمل في لبنان على جانب الطلب فحسب، بل على جانب العرض أيضاً حيث أفادت 88 بالمائة من شركات التكنولوجيا بأنها تواجه صعوبة في العثور على موظّفين مناسبين.


مقالات ذات صلة

«حزب الله» يلوّح باستهداف منصات الغاز في إسرائيل خلال «الحرب الشاملة»

المشرق العربي صورة سبق أن وزعها إعلام «حزب الله» لباخرة الحفر «إنرغين» قرب حقل «كاريش» بين لبنان وإسرائيل (أ.ف.ب)

«حزب الله» يلوّح باستهداف منصات الغاز في إسرائيل خلال «الحرب الشاملة»

عاد «حزب الله» ليهدد باستهداف حقول الغاز في إسرائيل في حال قررت الأخيرة توسعة الحرب على لبنان، بعدما بلغت الضغوط والتهديدات من قبل الطرفين مراحل غير مسبوقة.

بولا أسطيح (بيروت)
المشرق العربي صندوق النقد الدولي بدأ منذ هذا العام بحجب التوقعات والبيانات المالية الخاصة بلبنان (رويترز)

لبنان مهدد بالانتقال إلى القائمة «الرمادية» لغسل الأموال في الخريف

عزّزت ظاهرة حجب البيانات المالية الخاصة بلبنان من قبل المؤسسات المالية العالمية ووكالات التصنيف الائتماني الدولية منسوب الريبة من سياسة عدم الاكتراث الحكومية.

علي زين الدين (بيروت)
المشرق العربي الدخان يتصاعد في جنوب لبنان إثر قصف إسرائيلي استهدف المنطقة (رويترز)

إسرائيل تتوعّد بتغيير الواقع الأمني عند الحدود... و«حزب الله» مستعد للمواجهة

يواصل المسؤولون الإسرائيليون تهديداتهم، متوعدين «بتغيير الواقع الأمني على الجبهة الشمالية»، وفق الجنرال أوري غوردين، الذي قال: «إن الهجوم سيكون حاسماً وقاطعاً».

كارولين عاكوم (بيروت)
المشرق العربي قائد الجيش العماد جوزاف عون (مديرية التوجيه)

باسيل يسعى لإسناد قيادة الجيش اللبناني بالوكالة للواء صعب

يسعى رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل لإسناد قيادة الجيش اللبناني بالوكالة للواء بيار صعب مستبقاً التمديد للعماد جوزاف عون.

محمد شقير (بيروت)
المشرق العربي رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل (رويترز)

باسيل متردد بفصل نواب خشية تضعضع داخلي في «التيار»

لم يحسم رئيس «التيار الوطني الحر» قراره بشأن فصل النائب آلان عون محاولاً أن يستوعب استباقياً أي ردود فعل ستؤدي لتقلص إضافي بعدد نواب التكتل.

بولا أسطيح (بيروت)

«تسخين» إيراني - أميركي شرق سوريا وغارات روسية مكثفة على مواقع «داعش»

حقل «كونكو» للغاز الذي استهدفته ميليشيات تابعة لإيران (موقع دير الزور 24)
حقل «كونكو» للغاز الذي استهدفته ميليشيات تابعة لإيران (موقع دير الزور 24)
TT

«تسخين» إيراني - أميركي شرق سوريا وغارات روسية مكثفة على مواقع «داعش»

حقل «كونكو» للغاز الذي استهدفته ميليشيات تابعة لإيران (موقع دير الزور 24)
حقل «كونكو» للغاز الذي استهدفته ميليشيات تابعة لإيران (موقع دير الزور 24)

بعد أقل من يومين على تحذيرات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للرئيس السوري بشار الأسد من اتجاه الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط نحو التصعيد، شنَّت قوات التحالف الدولي غارات جوية على مواقع ميليشيات رديفة للقوات الحكومية السورية تابعة لإيران في شرق سوريا، ليل الجمعة - السبت، وذلك رداً على استهداف قاعدة التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في حقل غاز «كونيكو» بريف دير الزور، فيما أفادت مصادر إعلامية السبت بقيام طائرة استطلاع وتجسس أميركية بمسح جوي في المنطقة الجنوبية والعاصمة دمشق وريفها وحمص حتى الساحل السوري ولبنان، كما شهدت الحدود السورية - العراقية، شمال شرقي محافظة الحسكة، تحليقاً مكثفاً لطائرات التحالف الدولي.

بالتوازي، شنَّت قوات الجو الروسية غارات مكثفة على مواقع لتنظيم «داعش» في بادية تدمر والسخنة في ريف حمص الشرقي، وفق ما ذكره «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، يوم السبت، لافتاً إلى أن هذه الغارات جاءت بعد فترة من تسجيل تراجع ملحوظ في الغارات الروسية على مواقع تنظيم «داعش»، قياساً إلى أكثر من 100 غارة جوية نفذتها على مواقع «داعش»، في بادية حماة وحمص ودير الزور والرقة، خلال شهر يونيو (حزيران) الماضي.

وترافقت الغارات الجوية الروسية المكثفة السبت مع حملة التمشيط التي تقوم بها القوات الحكومية بدعم من سلاح الجو الروسي من بادية حماة الشرقية، وصولاً إلى بادية الرقة الغربية، وبادية تدمر والسخنة وجبالها في ريف حمص الشرقي وتلال البشري وكباجب والتبني ومعدان، جنوب دير الزور، وفق ما ذكرته مصادر محلية قالت إن غارات السبت تركزت على منطقة السخنة، وصولاً إلى كباجب وجبال البشري الممتدة على طول البادية، وترافقت مع تحليق طائرات استطلاع روسية.

وكان الرئيس الروسي قد حذر من أن «الوضع يزداد توتراً في الشرق الأوسط»، خلال استقباله الرئيس السوري، يوم الأربعاء الماضي، في موسكو، معتبراً «المباحثات مع الأسد فرصة لبحث كل التطورات والسيناريوهات المحتملة»، وفق ما نقلته «وكالة الأنباء السورية (سانا)»، لافتة إلى أن الرئيس الأسد رد بأنّ كلاً من سوريا وروسيا «مرّ بتحديات صعبة واستطاعا تجاوزها دائماً»

وتوقعت المصادر ارتفاع درجة التسخين الإيراني - الأميركي شرق سوريا، حيث مراكز وجودهما الأقوى في سوريا والمنطقة، بهدف تعزيز كل منهما مواقعه، ولفتت إلى وجود مخاوف من استغلال تنظيم «داعش» التوتر الحاصل للعودة إلى نشاطه شرق سوريا، وربما هذا ما دفع الجانب الروسي إلى تكثيف غاراته على مواقع التنظيم بالتعاون مع القوات الحكومية، وفق المصادر التي رأت أن احتمال عودة نشاط «داعش» إلى سوريا والعراق سيخلط الأوراق ويدفع الأوضاع نحو المزيد من التعقيد.

مدير «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، رامي عبد الرحمن، قال إن الميليشيات الرديفة للقوات الحكومية السورية التي تتبع إيران تلقت أوامر بالتصعيد ضد القاعدة الأميركية في حقل كونيكو للغاز «بعينها»، وقد تم استهدافها يوم الجمعة بـعشرة صواريخ، ويوم الخميس بثلاثة.

وردَّت قوات التحالف على تلك الضربات السبت دون إيقاع خسائر بشرية، واعتبر عبد الرحمن تبادل الضربات الإيرانية - الأميركية «رسائل متبادلة بين الطرفين».

من جانبه، أفاد موقع «صوت العاصمة» بقيام طائرة استطلاع وتجسس أميركية من طراز RQ - 4B Global Hawk بمسح جوي استمر لأكثر من 21 ساعة متواصلة. وبحسب الموقع «تركز المسح في المنطقة الجنوبية والعاصمة دمشق وريفها وحمص حتى الساحل السوري ولبنان»، دون ذكر تفاصيل أخرى أو مصدر المعلومة، فيما قال موقع «الخابور» إن تحليقاً مكثفاً لطائرات التحالف الدولي جرى السبت على الحدود السورية - العراقية شمال شرقي الحسكة.