ما العلاقة بين نجمة «بوب» والإعلام وهوليوود وواشنطن؟

بايدن وترمب و«البنتاغون» وتايلور سويفت في مباراة «السوبر بول»

تايلور سويفت تشجّع من المدرجات (رويترز)
تايلور سويفت تشجّع من المدرجات (رويترز)
TT

ما العلاقة بين نجمة «بوب» والإعلام وهوليوود وواشنطن؟

تايلور سويفت تشجّع من المدرجات (رويترز)
تايلور سويفت تشجّع من المدرجات (رويترز)

قلما حظيت المباراة النهائية لكرة القدم الأميركية «السوبر بول»، كما حظيت المباراة الأخيرة، باهتمام وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وجاء ذلك على خلفية دلالاتها السياسية والرسائل «المخفية» التي تحملها.

في العادة كان البث التلفزيوني لمباراة «السوبر بول»، الحدث الرياضي الأعلى مشاهدة خلال السنة، مساحة للتنافس التجاري والإعلاني والثقافي، حيث تنفق فيه مئات ملايين الدولارات، لاستقطاب جمهور كبير، يصعب جمعه في أي مناسبة أخرى. وعادة ما تشتري العلامات التجارية مواقع إعلانية للبطولة، كدليل على ازدياد شعبية كرة القدم بين النساء والشباب معاً. وساعد نجوم «البوب» والشخصيات المؤثرة مثل تايلور سويفت وأليكس إيرل، في تحقيق ارتفاع غير مسبوق في تقييمات اتحاد كرة القدم الأميركي لهذا الموسم.

الرؤساء نجوم في المباراة

منذ عام 2009، درج الرؤساء الأميركيون على تسجيل مقابلات تلفزيونية مع واحدة من شبكات التلفزيون الرئيسية، التي تبث حصرياً مباراة «السوبر بول»، كي تُعرض المقابلة قبل المباراة وخلالها، على الرغم من بعض الاستثناءات. إذ قاطع الرئيس السابق دونالد ترمب عام 2018، شبكة الـ«إن بي سي» التي كانت تملك حق البث حصرياً. وفي العام الماضي، رفض الرئيس الحالي جو بايدن الظهور على قناة «فوكس نيوز»، التي يناصب مقدّمو البرامج الكبار فيها، من أمثال شون هانيتي، العداء السياسي له. إلا أن مباراة هذا العام بدت مختلفة ومحيرة في الوقت نفسه. ومع أن الشبكة التي ستبثها حصرياً، هي «سي بي إس» التي سبق لبايدن أن ظهر معها في مباراة 2021، وشارك في مقطعين طويلين من برنامجها الشهير «60 دقيقة»، عامي 2022 و2023، غير أنه رفض هذا العام الظهور معها. وقال بن لابولت، مدير الاتصالات بالبيت الأبيض، في بيان: «نأمل في أن يستمتع المشاهدون بمشاهدة المباراة فقط».

لقطة من مباراة "السوبر بول" 2024 (رويترز)

ذاكرة بايدن وزلاته

تفاسير عدة أعطيت لامتناع بايدن عن الظهور مع الشبكة (سي بي إس) «غير المعادية» سياسياً له. بل كان من الممكن أن يستغل «البث الأكثر متابعة جماهيرية» للكلام عن كثير من الأخبار التي يمكنه التعليق عليها... من «الفوضى العارمة» لدى الجمهوريين بعد نكساتهم في مجلس النواب لعزل وزير الداخلية، إلى فشلهم في تمرير حزمة مساعدات مستقلة لإسرائيل، مروراً بتراجعهم عن اتفاق الحدود في مجلس الشيوخ. كذلك كان بإمكانه الترويج لسياساته الخارجية، من حرب غزة إلى الضربات على الميليشيات المدعومة من إيران، فضلاً عن تقرير الوظائف الإيجابي وحال الاقتصاد وتراجع التضخم.

والحقيقة، أن بايدن كان بأمس الحاجة لتعزيز حملته، في ظل التراجع المستمر لأرقام قبوله، مع اقتراب منافسه الجمهوري ترمب، للفوز بترشيح الحزب الجمهوري. وعدّ امتناعه، تخوفاً من النتائج العكسية التي قد ترتد عليه، جراء تلك السياسات نفسها. وما زاد الطين بلّة، «هفوات» ذاكرته الضعيفة، التي جاء تقرير المحقّق الخاص في قضية احتفاظه بوثائق سرّيّة، ليؤكد أنها أعجز من أن تمكنه من المثول أمام هيئة محلفين لمحاسبته. وبالمناسبة، بايدن كان أقل رئيس أميركي يجري مقابلات إعلامية مفتوحة، وأجرى آخر مقابلة مهمة مع شبكة تلفزيونية رئيسية، في أكتوبر (تشرين الأول) مع شبكة «سي بي إس».

«البنتاغون» وسويفت «عملية نفسية»

لكن الجدل حول مباراة «السوبر بول»، لا يقف عند هذا الحد. ورغم نجاح مسؤولي الأمن القومي في الرد على «نظريات المؤامرة»، التي عادة ما تستهدف المؤسسات السياسية والدولة «العميقة» - خصوصاً دور وزارة الدفاع (البنتاغون) - فاقت كل التوقعات الشائعات الأخيرة عن وجود «مؤامرة خفية» متورط فيها «البنتاغون» لإدارة «عملية نفسية» غايتها إعادة انتخاب بايدن عبر استخدام شعبية نجمة «البوب» الشهيرة، تايلور سويفت.

فمهاجمة «البنتاغون» كانت على الدوام «تدريباً إعلامياً» بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري... بدءاً من حرب فيتنام ووصولاً إلى حركة «ماغا» (لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى) شعار ترمب. وخلال السنوات الأخيرة، أصبحت وزارة الدفاع بمثابة «كيس ملاكمة» تدريبي لليمين المتطرف، إذ يتهم المشرّعون المحافظون مراراً وتكراراً كبار المسؤولين، بإعطاء الأولوية «لسياسات التنوع والشمول» على حساب إعداد الجيش للحرب، وهو اتهام ينفيه مسؤولو «البنتاغون». وللعلم، أوقف السيناتور الجمهوري اليميني المتشدد تومي توبرفيل، مئات الترقيات العسكرية العليا لمدة سنة تقريباً، بسبب اعتراضه على سياسة «البنتاغون» المتمثلة في دفع تكاليف سفر أعضاء الخدمة، لإجراء عمليات الإجهاض وغيرها من الرعاية الإنجابية.

شون هانيتي (آ ب)

تراجع الثقة بالجيش

كذلك استجاب قادة «البنتاغون» بشكل مباشر لادعاءات من «فوكس نيوز»، وردّوا على التعليقات الجارحة التي أدلى بها الإعلامي تاكر كارلسون حول «القوات النسائية»، (في إشارة إلى المثليين والمتحوّلين جنسياً من عناصر الجيش الأميركي)، ورحبوا بإقالته لاحقاً من الشبكة. وفي السنوات الأخيرة، كافح قادة «البنتاغون» لتحقيق زيادة في التجنيد، الذي تراجع بسبب الاقتصاد التجاري المزدهر، بحسب البعض. لكنه تزامن أيضاً مع اتجاه الأميركيين إلى فقدان الثقة في القوات المسلحة. وقال تقرير حديث لمؤسسة «راند»، إن «تقدير الرأي العام يتذبذب، متأثراً بعوامل مثل نهاية الحرب في أفغانستان، والاستقطاب المزداد بين عامة الناس، وزيادة تسييس المؤسسة العسكرية».

ولكن، منذ 6 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، اكتسبت «نظريات المؤامرة» زخماً كبيراً في وسائل التواصل الاجتماعي اليمينية المتشددة، بعد اختيار تايلور سويفت شخصية العام لمجلة «تايم». وفي الشهر الماضي، قدّمت شبكة «فوكس نيوز» مقطعاً حول هذه «المؤامرة»، عبر بث مقطع من مؤتمر لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، قيل إنه يدعم النظرية القائلة إن سويفت كانت جزءاً من «عملية نفسية للبنتاغون» تهدف لمكافحة المعلومات عبر الإنترنت. وعلى الرغم من رد «البنتاغون» في حينه على هذا الادعاء، واصلت الشائعات الانتشار على وسائل التواصل الاجتماعي. وراهناً، تعمل منصات اجتماعية ومواقع إخبارية يمينية متشددة منتمية إلى «ماغا»، للترويج لفكرة مفادها أن علاقة سويفت - التي أيّدت بايدن في عام 2020 - مع اللاعب ترافيس كيلسي، أحد نجوم فريق نادي «كانساس سيتي تشيفز»، الذي فاز بمباراة «السوبر بول» بتغلبه على فريق نادي «سان فرنسيسكو فورتي ناينرز»، هي جزء من «عملية نفسية» لـ«البنتاغون»، لإعادة انتخاب الرئيس بايدن، والتلاعب بطريقة ما في نتيجة المباراة. وهنا يذكر أنه سبق لكيلسي الظهور في إعلان لشركة الأدوية العملاقة «فايزر» للترويج للقاحات «كوفيد - 19» والإنفلونزا، وعد اليمين الأميركي ذلك جزءاً من «مؤامرة» من قبل اتحاد كرة القدم الأميركية والحزب الديمقراطي لتأييد بايدن في «السوبر بول».

منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي اكتسبت «نظريات المؤامرة» زخماً كبيراً في وسائل التواصل الاجتماعي اليمينية المتشددة

تلاعب وسائل التواصل الاجتماعي

أندرو سيليباك، البروفسور بجامعة فلوريدا، الذي يدرّس دورات حول وسائل التواصل الاجتماعي، والتقاطع بين الإعلام والسياسة، يرى «قدراً كبيراً من الشكوك في علاقات المشاهير». ويعزو هذه الشكوك إلى ثقافة مبنية على التحايل، موضحاً: «وسائل التواصل الاجتماعي هي في جوهرها تلاعب بالصورة الذاتية، إلى جانب انعدام ثقة على نطاق واسع في المؤسسات بشكل عام».

أما فيما يخص سويفت، فثمة مجموعة من العوامل جعلتها هدفاً لـ«نظريات المؤامرة» التي تجتاح الإنترنت الآن. وفضلاً عن التشكيك بعلاقات المشاهير، يتهمها البعض بتضمين «رسائل مخفية» في كلمات أغانيها ومنشوراتها على تطبيق «إنستغرام». وخلال السنوات الأخيرة، بدأت سويفت في التعبير عن مواقفها السياسية، التي تسببت في تراكم «نظريات المؤامرة اليمينية» ضدها. فقد أيدت اثنين من الديمقراطيين في ولايتها تينيسي (اليمينية المحافظة) مُشهِرة دعمها للقضايا الليبرالية. وفي عام 2020، نشرت صورة لها على «تويتر» (إكس حالياً)، حاملة صينية من بسكويت «بايدن - هاريس».

ومن ثم، غدت مواقفها والهجمات عليها، مادة خصبة للحديث عن الروابط بين وسائل الإعلام وهوليوود والسلطة في واشنطن، والعلاقة مع الناخبين. وفعلاً، في سبتمبر (أيلول) الماضي، نشرت سويفت قصة على «إنستغرام» دفعت 35 ألف شخص إلى التسجيل للتصويت على موقع «فوت.اورغ». والواقع أن الديمقراطيين يراهنون عليها لرفع مشاركة الناخبين في ولاية فلوريدا، حيث تعد لحفل غنائي فيها قبل أقل من شهر على انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، علها تساعدهم في استعادة السيطرة عليها. ويأمل هؤلاء في أن يأتي الخطاب المناهض لها بنتائج عكسية... فيدفع مجموعة كبيرة من معجبيها الشباب إلى مراكز الاقتراع.


مقالات ذات صلة

محمد عفيف... صوت «حزب الله» وحائك سياسته الإعلامية

المشرق العربي المسؤول الإعلامي في «حزب الله» محمد عفيف خلال مؤتمر صحافي بالضاحية الجنوبية لبيروت (أ.ف.ب) play-circle 00:40

محمد عفيف... صوت «حزب الله» وحائك سياسته الإعلامية

باغتيال مسؤول العلاقات الإعلامية في «حزب الله» محمد عفيف تكون إسرائيل انتقلت من اغتيال القادة العسكريين في الحزب إلى المسؤولين والقياديين السياسيين والإعلاميين.

بولا أسطيح (بيروت)
يوميات الشرق «SRMG Labs» أكثر الوكالات تتويجاً في مهرجان «أثر» للإبداع بالرياض (SRMG)

«الأبحاث والإعلام» تتصدّر مهرجان «أثر» للإبداع بـ6 جوائز مرموقة

حصدت «SRMG Labs»، ذراع الابتكار في المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام (SRMG)، 6 جوائز مرموقة عن جميع الفئات التي رُشّحت لها في مهرجان «أثر» للإبداع.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق تضم المنطقة المتكاملة 7 مباني استوديوهات على مساحة 10.500 متر مربع (تصوير: تركي العقيلي)

الرياض تحتضن أكبر وأحدث استوديوهات الإنتاج في الشرق الأوسط

بحضور نخبة من فناني ومنتجي العالم العربي، افتتحت الاستوديوهات التي بنيت في فترة قياسية قصيرة تقدر بـ120 يوماً، كواحدة من أكبر وأحدث الاستوديوهات للإنتاج.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
العالم سيارة عليها كلمة «صحافة» بالإنجليزية بعد تعرض فندق يقيم فيه صحافيون في حاصبيا بجنوب لبنان لغارة إسرائيلية في 25 أكتوبر (رويترز)

اليونيسكو: مقتل 162 صحافياً خلال تأديتهم عملهم في 2022 و2023

«في العامين 2022 و2023، قُتل صحافي كل أربعة أيام لمجرد تأديته عمله الأساسي في البحث عن الحقيقة».

«الشرق الأوسط» (باريس)
المشرق العربي صحافيون من مختلف وسائل إعلام يتشاركون موقعاً لتغطية الغارات الإسرائيلية على مدينة صور (أ.ب)

حرب لبنان تشعل معركة إعلامية داخلية واتهامات بـ«التخوين»

أشعلت التغطية الإعلامية للحرب بلبنان سجالات طالت وسائل الإعلام وتطورت إلى انتقادات للإعلام واتهامات لا تخلو من التخوين، نالت فيها قناة «إم تي في» الحصة الأكبر.

حنان مرهج (بيروت)

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)
TT

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)

تلعب وسائل الإعلام المرئية المحلية دورها في تغطية الحرب الدائرة اليوم على لبنان.

نوع من «التجنيد الإجباري» فرضته هذه الحالة على المحطات التلفزيونية وموظفيها ومراسليها، فغالبيتهم يمضون نحو 20 ساعة من يومهم في ممارسة مهامهم. وبعضهم يَصِلون ليلهم بنهارهم في نقل مباشر وموضوعي، وآخرون يضعون دمهم على كفّ يدهم وهم يتنقلون بين مناطق وطرقات تتعرّض للقصف. أما رؤساء التحرير ومقدِّمو البرامج الحوارية اليومية، فهم عندما يحوزون على ساعات راحة قليلة، أو يوم إجازة، فإنهم يشعرون كما السمك خارج المياه. ومن باب مواقعهم ومسؤولياتهم الإعلامية، تراهم يفضلون البقاء في قلب الحرب، وفي مراكز عملهم؛ كي يرووا عطشهم وشهيّتهم للقيام بمهامهم.

المشهدية الإعلامية برمّتها اختلفت هذه عن سابقاتها. فهي محفوفة بالمخاطر ومليئة بالصدمات والمفاجآت من أحداث سياسية وميدانية، وبالتالي، تحقن العاملين تلقائياً بما يشبه بهرمون «الأدرينالين». فكيف تماهت تلك المحطات مع الحدث الأبرز اليوم في الشرق الأوسط؟

الدكتورة سهير هاشم (إنستغرام)

لم نتفاجأ بالحرب

يصف وليد عبود، رئيس تحرير الأخبار في تلفزيون «إم تي في» المحلي، لـ«الشرق الأوسط»، حالة الإعلام اللبناني اليوم بـ«الاستثنائية». ويضيف: «إنها كذلك لأننا في لبنان وليس عندنا محطات إخبارية. وهي، بالتالي، غير مهيأة بالمطلق للانخراط ببث مباشر يستغرق ما بين 18 و20 ساعة في اليوم. بيد أن خبراتنا المتراكمة في المجال الإعلامي أسهمت في تكيّفنا مع الحدث. وما شهدناه في حراك 17 أكتوبر (تشرين الأول) الشعبي، وفي انفجار مرفأ بيروت، يندرج تحت (الاستنفار الإعلامي) ذاته الذي نعيشه اليوم».

هذا «المراس» - كما يسميه عبود - «زوّد الفريق الإخباري بالخبرة، فدخل المواكبة الإعلامية للحرب براحة أكبر، وصار يعرف الأدوات اللازمة لهذا النوع من المراحل». وتابع: «لم نتفاجأ باندلاع الحرب بعد 11 شهراً من المناوشات والقتال في جنوب لبنان، ضمن ما عرف بحرب المساندة. لقد توقعنا توسعها كما غيرنا من محللين سياسيين. ومن كان يتابع إعلام إسرائيل لا بد أن يستشفّ منه هذا الأمر».

جورج صليبي (إنستغرام)

المشهد سوريالي

«يختلف تماماً مشهد الحرب الدائرة في لبنان اليوم عن سابقاته». بهذه الكلمات استهل الإعلامي جورج صليبي، مقدّم البرامج السياسية ونشرات الأخبار في محطة «الجديد» كلامه لـ«الشرق الأوسط». وأردف من ثم: «ما نشهده اليوم يشبه ما يحصل في الأفلام العلمية. كنا عندما نشاهدها في الصالات السينمائية نقول إنها نوع من الخيال، ولا يمكنها أن تتحقق. الحقيقة أن المشهد سوريالي بامتياز حتى إننا لم نستوعب بسرعة ما يحصل على الأرض... انفجارات متتالية وعمليات اغتيال ودمار شامل... أحداث متسارعة تفوق التصور، وجميعها وضعتنا للحظات بحالة صدمة. ومن هناك انطلقنا بمشوار إعلامي مرهق وصعب».

وليد عبود (إنستغرام)

المحطات وضغوط تنظيم المهام

وبالفعل، منذ توسع الحرب الحالية، يتابع اللبنانيون أخبارها أولاً بأول عبر محطات التلفزيون... فيتسمّرون أمام الشاشة الصغيرة، يقلّبون بين القنوات للتزوّد بكل جديد.

وصحيحٌ أن غالبية اللبنانيين يفضّلون محطة على أخرى، لكن هذه القناعة عندهم تتبدّل في ظروف الحرب. وهذا الأمر ولّد تنافساً بين تلك المحطات؛ كي تحقق أكبر نسبة متابعة، فراحت تستضيف محللين سياسيين ورؤساء أحزاب وإعلاميين وغيرهم؛ كي تخرج بأفكار عن آرائهم حول هذه الحرب والنتيجة التي يتوقعونها منها. وفي الوقت نفسه، وضعت المحطات جميع إمكاناتها بمراسلين يتابعون المستجدات على مدار الساعات، فيُطلعون المشاهد على آخر الأخبار؛ من خرق الطيران الحربي المعادي جدار الصوت، إلى الانفجارات وجرائم الاغتيال لحظة بلحظة. وفي المقابل، يُمسك المتفرجون بالـ«ريموت كونترول»، وكأنه سلاحهم الوحيد في هذه المعركة التنافسية، ويتوقفون عند خبر عاجل أو صورة ومقطع فيديو تمرره محطة تلفزيونية قبل غيرها.

كثيرون تساءلوا: كيف استطاعت تلك المحطات تأمين هذا الكمّ من المراسلين على جميع الأراضي اللبنانية بين ليلة وضحاها؟

يقول وليد عبود: «هؤلاء المراسلون لطالما أطلوا عبر الشاشة في الأزمنة العادية. ولكن المشاهد عادة لا يعيرهم الاهتمام الكبير. ولكن في زمن الحرب تبدّلت هذه المعادلة وتكرار إطلالاتهم وضعهم أكثر أمام الضوء».

ولكن، ما المبدأ العام الذي تُلزم به المحطات مراسليها؟ هنا يوضح عبود في سياق حديثه أن «سلامة المراسل والمصور تبقى المبدأ الأساسي في هذه المعادلة. نحن نوصيهم بضرورة تقديم سلامتهم على أي أمر آخر، كما أن جميعهم خضعوا لتدريبات وتوجيهات وتعليمات في هذا الشأن... وينبغي عليهم الالتزام بها».

من ناحيته، يشير صليبي إلى أن المراسلين يبذلون الجهد الأكبر في هذه الحرب. ويوضح: «عملهم مرهق ومتعب ومحفوف بالمخاطر. لذلك نخاف على سلامتهم بشكل كبير».

محمد فرحات (إنستغرام)

«إنها مرحلة التحديات»

وبمناسبة الكلام عن المراسلين، يُعد إدمون ساسين، مراسل قناة «إل بي سي آي»، من الأقدم والأشهر في هذه المحطة. وهو لا يتوانى عن التنقل خلال يوم واحد بين جنوب لبنان وشماله. ويصف مهمّته خلال المرحلة الراهنة بـ«الأكثر خطراً». ويشرح من ثم قائلاً: «لم تعُد هناك خطوط حمراء أو نقاط قتال محددة في هذه الحرب. لذا تحمل مهمتنا التحدّي بشكل عام. وهي محفوفة بخطر كبير، لا سيما أن العدو الإسرائيلي لا يفرّق بين طريق ومبنى ومركز حزب وغيره، ويمكنه بين لحظة وأخرى أن يختار أهدافه ويفاجئ الجميع... وهذا ما وضع الفرق الصحافية في خطر دائم، ونحن علينا بالتالي تأمين المعلومة من قلب الحدث بدقة».

وفق ساسين، فإن أصعب المعلومات هي تلك المتعلقة بالتوغّل البرّي للجيش الإسرائيلي، «فحينها لا يمكن للمراسل معرفة ما يجري بشكل سليم وصحيح على الأرض... ولذا نتّكل أحياناً على مصادر لبنانية من جهة (حزب الله)، و(اليونيفيل) (القوات الدولية العاملة بجنوب لبنان) والجيش اللبناني والدفاع المدني، أو أشخاص عاشوا اللحظة. ومع هذا، يبقى نقل الخبر الدقيق مهمة صعبة جداً. ويشمل ما أقوله أخبار الكمائن والأسر، بينما نحن في المقابل نفتقر إلى القدرة على معرفة هذه الأخبار، ولذا نتوخى الحذر بنقلها».

«لبنان يستأهل التضحية»

في هذه الأثناء، يتكلم مراسل تلفزيون «الجديد» محمد فرحات «بصلابة»، عندما يُسأل عن مهمّته الخطرة اليوم.

محمد كان من بين الفريق الإعلامي الذي تعرّض لقصف مباشر في مركز إقامته في بلدة حاصبيا، وخسر يومذاك زملاء له ولامس الموت عن قرب لولا العناية الإلهية، كما يقول. ويتابع: «لقد أُصبت بحالة إنكار للمخاطر التي أتعرّض لها. في تلك اللحظة عشت كابوساً لم أستوعبه في البداية. وعندما فتحت عيني سألت نفسي لبرهة: أين أنا؟»، ويضيف فرحات: «تجربتي الإعلامية ككل في هذه الحرب كانت مفيدة جداً لي على الصعيدين: الشخصي والمهني. من الصعب أن أُشفى من جروح هذه الحرب، ولكني لم أستسلم أو أفكر يوماً بمغادرة الساحة. فلبنان يستأهل منا التضحية».

العلاج النفسي الجماعي ضرورة

أخيراً، في هذه الحرب لا إجازات ولا أيام عطل وراحة. كل الإعلاميين في مراكز عملهم بحالة استنفار. ولكن ماذا بعد انتهاء الحرب؟ وهل سيحملون منها جراحاً لا تُشفى؟

تردّ الاختصاصية النفسية الدكتورة سهير هاشم بالقول: «الإعلاميون يتعرضون لضغوط جمّة، وفي الطليعة منهم المراسلون. هؤلاء قد لا يستطيعون اليوم كشف تأثيرها السلبي على صحتهم النفسية، ولكن عند انتهاء الحرب قد يكون الأمر فادحاً. وهو ما يستوجب الدعم والمساندة بصورة مستمرة من مالكي المحطات التي يعملون بها». وأضافت الدكتورة هاشم: «ثمة ضرورة لإخضاعهم لجلسات علاج نفسية، والأفضل أن تكون جماعية؛ لأن العلاج الموسمي غير كافٍ في حالات مماثلة، خلالها يستطيعون أن يساندوا ويتفهموا بعضهم البعض بشكل أفضل».