تعد حاجّة لحبيب وزيرة الخارجية والشؤون الأوروبية في بلجيكا أول امرأة من أصول عربية تصل إلى مثل هذا المنصب السامي في أوروبا، وهي على الرغم من قلّة خبرتها نسبياً في المجال السياسي فإنها نجحت بلفت انتباه وسائل الإعلام الدولية بعدة مواقف قوية، بينها إقدامها على قصّ شعرها تضامناً مع انتفاضة الإيرانيات، واستدعاؤها سفيرة إسرائيل لدى بلجيكا في أعقاب الغارات التي دمرت مكاتب وكالة التنمية البلجيكية (أنابل) في قطاع غزة. وفيما يلي، نبذة عن الوزيرة حاجّة لحبيب... وما هي حصيلتها على رأس السياسة الخارجية لبلجيكا؟
ولدت حاجّة لحبيب يوم 21 يونيو (حزيران) عام 1970 في بلدة بوسو القريبة من مدينة مونز الفرنكفونية في بلجيكا، ولا تبعد هذه البلدة، البالغ تعداد سكانها نحو 20 ألف نسمة، كثيراً عن الحدود الفرنسية.
وهناك ترعرعت في كنف أسرة بسيطة من أصول جزائرية مهاجرة. وعاشت في بوسو طفولة هادئة إلا أنها أصيبت وهي في سن الثانية عشرة بمرض الالتهاب الكبدي، فكانت لفترة غير قصيرة تمضي وقتها بين المستشفى والمدرسة، على أن ذلك لم يمنعها من التفوق في الدراسة والالتحاق بجامعة بروكسل الحرّة، حيث حصلت على شهادة الإجازة في الإعلام والتواصل في بداية عقد التسعينات.
البداية مع الإعلام
بعد التخرج عملت حاجة لحبيب صحافيةً في قناة «إر تي لياج» لخمس سنوات، ثم تحوّلت إلى مقدمة للنشرات في التلفزيون البلجيكي الفرنكفوني «آر تي بي إف»، فكانت أول صحافية متحّدرة من أجيال الهجرة تقدّم نشرة إخبارية في التلفزيون العمومي.
أيضاً عملت لحبيب مراسلة ميدانية في الشرق الأوسط، حيث غطّت أحداث «الانتفاضة الفلسطينية الثانية» ما بين 2000 و2005، والحرب في أفغانستان التي زارتها أكثر من عشر مرات ما بين 2001 و2009، كما غطّت ميدانياً العديد من الأزمات السياسية في دول أفريقية منها تشاد والسودان والكونغو.
ظلّت حاجّة لحبيب تمارس نشاطها الإعلامي لمدة ثلاثين سنة، أصبحت خلالها وجهاً معروفاً ومحبوباً في المشهد الإعلامي البلجيكي الفرنكفوني. وبالإضافة إلى ذلك، كانت «وزيرة الخارجية المستقبل» كاتبة سيناريو ومخرجة ومنتجة أفلام وثاقية كان أهمها «صبراً... صبراً ستدخلين الجنة» الذي عالجت فيه أوضاع النساء المهاجرات في بلجيكا. ولقد حاز هذا الفيلم جائزة في «مهرجان مرسيليا للأفلام الوثائقية»، وعُرض في قاعات السنيما لشهور طويلة، و«دُبلج» إلى خمس لغات. ويضاف إليه فيلم وثائقي آخر بعنوان «أفغانستان اختيار امرأة»، تناولت فيه وضع المرأة الأفغانية المنخرطة في النشاط السياسي من خلال تصويرها يوميات سيدتين تشغلان منصبين سياسيين في الحكومة الأفغانية. ثم إنها، إلى جانب السياسة، شملت أعمالها الوثاقية أيضاً مواضيع ثقافية؛ إذ كان آخر إنتاج لها عام 2019 يتناول حياة المغني البلجيكي المخضرم الشهير سالفادور أدامو.
بالتوازي، تقلّدت حاجّة لحبيب مسؤوليات أخرى في الوسط الثقافي والإعلامي، فشغلت منصب نائب رئيس «المجلس الأعلى للتعليم الإعلامي»، وترأست «مهرجان لياج المسرحي»، وتولت إدارة مشروع «بلجيكا عاصمة للثقافة الأوروبية عام 2030». وتُوجت لحبيب في عام 2001 بجائزة «برلمان المجتمع الفرنسي» في بلجيكا، ومُنحت لقب «المواطنة الفخرية لمدينة لياج البلجيكية» عام 2010، ثم في 2013، اختيرت «امرأة العام» في بروكسل.
خبرة سياسية محدودة
من جهة ثانية، على الرغم من احتكاك حاجّة لحبيب بالشخصيات السياسية بحكم نشاطها الإعلامي، فإنها لم تنشط بشكل مباشر في الدوائر السياسية، ولم يُعرف عنها ولها أي انتماء سياسي. ولذا، جاء تعيينها في منصب وزيرة الخارجية والشؤون الأوروبية يوم 15 يوليو (تموز) من عام 2022، خلفاً للوزيرة صوفي فيلميس - التي استقالت لأسباب عائلية - مفاجأةً للأوساط السياسية التي تفاوت فيها ردود الفعل ما بين مؤيد ومنتقد.
وفي حين رحّب معظم أعضاء الحزب الليبرالي الإصلاحي الحاكم بقرار رئيسه جورج لويس بوشيز بتكليف لحبيب بحقيبة الشؤون الخارجية، أعرب آخرون عن شكوكهم في قدرات الوزيرة الجديدة. وبلغ الأمر بكاتب الدولة للهجرة واللجوء، تيو فرانكان، إلى التعليق على منصّة «إكس» بأنه لا يعرف من تكون حاجّة لحبيب (!)... وتساءل عما إذا كانت تتقن اللغة الهولندية (اللغة الوطنية الثانية في بلجيكا)... وهل لها خبرة في العمل الدبلوماسي؟
كذلك نقلت وسائل الإعلام شهادات لبعض أعضاء الحزب الليبيرالي الإصلاحي الذين لم تعجبهم إجابة «الصحافية السابقة» لحبيب التي لمّحت إلى رفضها الانخراط في الحزب الليبيرالي (الذي اختارها لهذا المنصب)، حين صرّحت على إثر المؤتمر الصحافي الذي أعقب الإعلان عن تعيينها بأنها «ليست يسارية وليست يمينية، بل هي حرة بالأساس، وأنها كانت دائماً تسعى للتقريب بين ضفاف متناقضة، وهو ما ستسعى دائماً لتحقيقه».
أحد كوادر الحزب صرّح لصحيفة «لوسوار» البلجيكية تحت غطاء مجهول، قائلاً: «نحن أمام شخصية بعيدة كل البعد عن التيار الليبرالي. اختيارها هو محاولة لتلميع صورة الحزب وكسب لأصوات الأقليات، وفي مثل هذه الحالة يكون للشكل الأسبقية على الجوهر...». وتابع ملمحاً أن «اختيارها يخضع لحسابات انتخابية»، وبالأخص مع اقتراب موعدها في ربيع 2024.
أما المحلل السياسي داف سيناردي، فقال في تصريح لصحيفة «سودبراس» إنه «من المستحيل الاقتناع بأن وصول السيدة لحبيب إلى هذه الوظيفة السامية قد تحقق مع حفاظها على حيادها السياسي». ولكن، فيما عدا ذلك، رأى سيناردي «أن للوزيرة الجديدة إلماماً تاماً بملفات السياسة الخارجية، إضافةً إلى أنها تحظى باحترام الجميع... ما قد يساعدها على الاضطلاع بمهامها بنجاح، بعيداً عن الجدل الذي يرافق المسؤوليات السياسية الأخرى».
عاصفة قضية التأشيرات
في المقابل، منذ تكليف لحبيب بحقيبة الخارجية يوم 15 من يوليو 2022، واجهت الصحافية السابقة و«المبتدئة في دهاليز السياسة» ثلاث مرّات نواب البرلمان في مساءلة بثّتها كل وسائل الإعلام البلجيكية للبحث في مسؤوليتها عن منح تأشيرات لمسؤولين إيرانيين، من بينهم رئيس بلدية طهران علي رضا زكاني.
هذه القضية أخذت أبعاداً كبيرة كادت تُكلِّف الوزيرة منصبها وتعصف بالحكومة التي يقودها رئيس الوزراء ألكسندر دي كرو، إلا أن لحبيب احتفظت بمنصبها بفضل دعم غالبية النواب خلال تصويت في مجلس النواب. وللعلم، كان الليبيراليون، الذين تنتمي إليهم، قد تقدّموا بمذكرة دعم في مواجهة مذكرات حجب الثقة التي طرحتها المعارضة، بما فيها كتلة «الحزب الاشتراكي». وقد اتهمت مذكرة حجب الثقة الوزيرة «بتعريض حياة معارضين إيرانيين للخطر» من خلال السماح لـ14 مسؤولاً إيرانياً بالمشاركة في «المؤتمر الدولي لرؤساء البلديات» الذي عقد في العاصمة البلجيكية بروكسل في ربيع العام الماضي 2023، واصفة الوزيرة بـ«غير المسؤولة». لكن الوزيرة نفت مسؤوليتها، وأعلنت أمام النواب: «أنا آسفة بصدق للأزمة التي نجد أنفسنا فيها اليوم، وأطلب منكم أن تعذروني». وهنا نشير إلى أن أسئلة النواب ارتكزت على معلومات أوردتها صحيفة بلجيكية عن توقيف والدة إيراني شارك في مظاهرة نظمت في بروكسل، يوم 13 يوليو 2023، وأكدت الوزيرة على أثرها أنها طلبت من جهازي «أمن الدولة» و«مصالح الاستخبارات» التحقيق في هذه المعلومات.
زيارة مثيرة للجدل
مرة ثانية، واجهت وزيرة الخارجية البلجيكية حملة انتقاد شديدة. وهذه المرة كانت بسبب زيارتها إلى شبه جزيرة القرم خلال صيف 2021، أي قبل سنة من توليها حقيبة وزارة الخارجية. وبحسب صحيفة «سود أويست» الفرنسية، فإن لحبيب زارت القرم بتأشيرة روسية بناءً على دعوة من «مهرجان راشان سيزن» بهدف تصوير شريط وثائقي... إلا أن منتقديها اتهموها بأنها لم تعطِ فيه الكلام سوى للموالين لروسيا وتجاهلت الأوكرانيين.
بل إن المهرجان وُصِف أيضاً بـ«مبادرة دعائية» من الحكومة الروسية، وبتمويل من شركة «غازبروم»، إضافة إلى أن ابنة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كانت قد شاركت في تنظيمه.
هذا الموضوع أثير مجدداً إثر لقاء الوزيرة لحبيب بنظيرها الأوكراني دميترو كوليبا، حين شددت له على «تضامن بلجيكا الثابت مع كييف». وفي حوارها مع نظيرها الأوكراني شجبت الوزيرة بشكل خاص «الاحتلال غير القانوني» لشبه جزيرة القرم من قبل روسيا. لكن التساؤلات في العاصمة الأوكرانية كييف استمرت من منطلق الرغبة في الحصول على تفاصيل حول «الرحلة الثقافية» التي قامت بها لحبيب قبل سنة بوصفها صحافية إلى «مهرجان راشان سيزن» في شبه جزيرة القرم، وبالأخص، أن وسائل إعلامية ادعت أن جهات روسية تكفّلت بتأمينها وتغطية كلفتها، وطالبت عدة جهات سياسية الوزيرة بتقديم تفسيرات لهذه الزيارة المثيرة للجدل.
تبعاً لتداعيات هذه القضية، وأملاً في تهدئة الأوضاع، جعلت وزيرة الخارجية البلجيكية الجديدة أوكرانيا إحدى أولوياتها، معربة عن أملها في السفر بسرعة إلى كييف؛ للتعبير عن تضامن بلجيكا مع الشعب الأوكراني. وبالفعل، قالت على منصة «إكس» بمناسبة العيد الوطني لأوكرانيا: «هذا يوم مهم لشعب أوكرانيا. في يوم الدولة الأوكرانية، نقلت إلى دميترو كوليبا تضامننا الذي لا يتزعزع ومواقفنا الحازمة بشأن الوضع، والتزامنا بالحفاظ على دعم كييف». وأردفت: «إن بلدي يدرك جيداً أهمية هذا الاحتفال الذي بدأه الرئيس فولوديمير زيلينسكي العام الماضي. وفي الوقت نفسه، سيعمل الاحتفال، بلا شك، على رفع الروح المعنوية حيث تدافع أوكرانيا والأوكرانيون بشجاعة عن ممتلكاتهم ويكافحون من أجل بقاء دولتهم».
استطردت لحبيب مؤكدة رغبتها في الذهاب «قريباً» إلى كييف بالقول: «أنتهز هذه الفرصة لأكرّر تضامن بلدي الذي لا ينفصم ودعمه الكامل لأوكرانيا، فضلاً عن الصداقة العميقة التي توحد بلدينا»، ثم أضافت: «أوكرانيا دولة مستقلة وذات سيادة، فضلاً عن كونها عضواً مهماً وموثوقاً به في المجتمع الدولي، ولشعبها حق لا جدال فيه في اختيار مصيره». وذلك قبل أن تنهي: «يجب احترام سلامة أراضي أوكرانيا داخل حدودها المعترف بها دولياً احتراماً كاملاً، وهذه الحدود تشمل جميع أراضي أوكرانيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم و(منطقة حوض) الدونباس التي تخضع حالياً للاحتلال غير الشرعي للاتحاد الروسي، بشكل مباشر أو عن طريق الأنظمة العميلة».
مواقف ونجاحات
على صعيد آخر، كانت الوزيرة لحبيب قد لفتت الانتباه بمواقف قوية؛ كإقدامها يوم السادس من أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2022 في مشاهد تناقلتها وسائل الإعلام عبر العالم على قصّ خصلة من شعرها في جلسة مناقشة بمجلس النواب، وهذا في تكرار لما فعلته نائبة من أصول إيرانية كانت تجلس إلى جانبها. وفي الوقت ذاته، أعربت الوزيرة عن صدمتها لموت الشابة مهسا أميني في أثناء توقيفها في طهران، وصرّحت بأن ثماني دول أوروبية ستطالب بفرض عقوبات على أفراد الشرطة الذين تعرضوا بالعنف لهذه الفتاة.
وحقاً، أشادت وسائل الإعلام وأطراف سياسية كثيرة في أوروبا بالحصيلة الإيجابية للحبيب، بعد إشرافها على مفاوضات ناجحة مع أطراف إيرانية لتبادل أسرى. فيوم 26 مايو (أيار) 2023 أفرجت إيران عن عامل الإغاثة البلجيكي أوليفييه فانديكاستيل بعد اعتقاله لمدة 455 يوماً. وبعد أشهر من المفاوضات مع فريق وزيرة الخارجية عاد عامل الإغاثة إلى بلجيكا عبر سلطنة عُمان أيضاً مقابل عودة دبلوماسي إيراني أدين بتهمة الإرهاب وسجن في بلجيكا نحو خمس سنوات، كما أعلنت الحكومة البلجيكية أنها فاوضت أيضاً من أجل عودة رعايا أوروبيين ثلاثة كانوا محتجزين في إيران.وأخيراً، في موضوع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، كان لبلجيكا، وبالأخص لوزيرة خارجيتها مواقف قوية. وبينما رفضت الحكومة البلجيكية السير في ركاب كبريات الحكومات الأوروبية الغربية في تعليق الدعم لوكالة «الأونروا» الأممية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، استدعت الوزيرة لحبيب سفيرة إسرائيل لدى بلجيكا مسجِّلة احتجاجها على الغارات التي دمرت مكاتب «وكالة التنمية البلجيكية» (أنابل) في قطاع غزة، ومؤكِّدة أن استهداف المباني المدنية «أمر مرفوض تماماً».