وجه السياسة البلجيكية حاجّة لحبيب... مواقف قوية على الرغم من عراقيل بداية المشوار

أول وزيرة خارجية من أصول عربية في أوروبا

 لحبيب كانت أول مقدمة للنشرات من أصول مهاجرة في التلفزيون العمومي البلجيكي
لحبيب كانت أول مقدمة للنشرات من أصول مهاجرة في التلفزيون العمومي البلجيكي
TT

وجه السياسة البلجيكية حاجّة لحبيب... مواقف قوية على الرغم من عراقيل بداية المشوار

 لحبيب كانت أول مقدمة للنشرات من أصول مهاجرة في التلفزيون العمومي البلجيكي
لحبيب كانت أول مقدمة للنشرات من أصول مهاجرة في التلفزيون العمومي البلجيكي

تعد حاجّة لحبيب وزيرة الخارجية والشؤون الأوروبية في بلجيكا أول امرأة من أصول عربية تصل إلى مثل هذا المنصب السامي في أوروبا، وهي على الرغم من قلّة خبرتها نسبياً في المجال السياسي فإنها نجحت بلفت انتباه وسائل الإعلام الدولية بعدة مواقف قوية، بينها إقدامها على قصّ شعرها تضامناً مع انتفاضة الإيرانيات، واستدعاؤها سفيرة إسرائيل لدى بلجيكا في أعقاب الغارات التي دمرت مكاتب وكالة التنمية البلجيكية (أنابل) في قطاع غزة. وفيما يلي، نبذة عن الوزيرة حاجّة لحبيب... وما هي حصيلتها على رأس السياسة الخارجية لبلجيكا؟

 

 

ولدت حاجّة لحبيب يوم 21 يونيو (حزيران) عام 1970 في بلدة بوسو القريبة من مدينة مونز الفرنكفونية في بلجيكا، ولا تبعد هذه البلدة، البالغ تعداد سكانها نحو 20 ألف نسمة، كثيراً عن الحدود الفرنسية.

وهناك ترعرعت في كنف أسرة بسيطة من أصول جزائرية مهاجرة. وعاشت في بوسو طفولة هادئة إلا أنها أصيبت وهي في سن الثانية عشرة بمرض الالتهاب الكبدي، فكانت لفترة غير قصيرة تمضي وقتها بين المستشفى والمدرسة، على أن ذلك لم يمنعها من التفوق في الدراسة والالتحاق بجامعة بروكسل الحرّة، حيث حصلت على شهادة الإجازة في الإعلام والتواصل في بداية عقد التسعينات.

البداية مع الإعلام

بعد التخرج عملت حاجة لحبيب صحافيةً في قناة «إر تي لياج» لخمس سنوات، ثم تحوّلت إلى مقدمة للنشرات في التلفزيون البلجيكي الفرنكفوني «آر تي بي إف»، فكانت أول صحافية متحّدرة من أجيال الهجرة تقدّم نشرة إخبارية في التلفزيون العمومي.

أيضاً عملت لحبيب مراسلة ميدانية في الشرق الأوسط، حيث غطّت أحداث «الانتفاضة الفلسطينية الثانية» ما بين 2000 و2005، والحرب في أفغانستان التي زارتها أكثر من عشر مرات ما بين 2001 و2009، كما غطّت ميدانياً العديد من الأزمات السياسية في دول أفريقية منها تشاد والسودان والكونغو.

ظلّت حاجّة لحبيب تمارس نشاطها الإعلامي لمدة ثلاثين سنة، أصبحت خلالها وجهاً معروفاً ومحبوباً في المشهد الإعلامي البلجيكي الفرنكفوني. وبالإضافة إلى ذلك، كانت «وزيرة الخارجية المستقبل» كاتبة سيناريو ومخرجة ومنتجة أفلام وثاقية كان أهمها «صبراً... صبراً ستدخلين الجنة» الذي عالجت فيه أوضاع النساء المهاجرات في بلجيكا. ولقد حاز هذا الفيلم جائزة في «مهرجان مرسيليا للأفلام الوثائقية»، وعُرض في قاعات السنيما لشهور طويلة، و«دُبلج» إلى خمس لغات. ويضاف إليه فيلم وثائقي آخر بعنوان «أفغانستان اختيار امرأة»، تناولت فيه وضع المرأة الأفغانية المنخرطة في النشاط السياسي من خلال تصويرها يوميات سيدتين تشغلان منصبين سياسيين في الحكومة الأفغانية. ثم إنها، إلى جانب السياسة، شملت أعمالها الوثاقية أيضاً مواضيع ثقافية؛ إذ كان آخر إنتاج لها عام 2019 يتناول حياة المغني البلجيكي المخضرم الشهير سالفادور أدامو.

بالتوازي، تقلّدت حاجّة لحبيب مسؤوليات أخرى في الوسط الثقافي والإعلامي، فشغلت منصب نائب رئيس «المجلس الأعلى للتعليم الإعلامي»، وترأست «مهرجان لياج المسرحي»، وتولت إدارة مشروع «بلجيكا عاصمة للثقافة الأوروبية عام 2030». وتُوجت لحبيب في عام 2001 بجائزة «برلمان المجتمع الفرنسي» في بلجيكا، ومُنحت لقب «المواطنة الفخرية لمدينة لياج البلجيكية» عام 2010، ثم في 2013، اختيرت «امرأة العام» في بروكسل.

خبرة سياسية محدودة

من جهة ثانية، على الرغم من احتكاك حاجّة لحبيب بالشخصيات السياسية بحكم نشاطها الإعلامي، فإنها لم تنشط بشكل مباشر في الدوائر السياسية، ولم يُعرف عنها ولها أي انتماء سياسي. ولذا، جاء تعيينها في منصب وزيرة الخارجية والشؤون الأوروبية يوم 15 يوليو (تموز) من عام 2022، خلفاً للوزيرة صوفي فيلميس - التي استقالت لأسباب عائلية - مفاجأةً للأوساط السياسية التي تفاوت فيها ردود الفعل ما بين مؤيد ومنتقد.

وفي حين رحّب معظم أعضاء الحزب الليبرالي الإصلاحي الحاكم بقرار رئيسه جورج لويس بوشيز بتكليف لحبيب بحقيبة الشؤون الخارجية، أعرب آخرون عن شكوكهم في قدرات الوزيرة الجديدة. وبلغ الأمر بكاتب الدولة للهجرة واللجوء، تيو فرانكان، إلى التعليق على منصّة «إكس» بأنه لا يعرف من تكون حاجّة لحبيب (!)... وتساءل عما إذا كانت تتقن اللغة الهولندية (اللغة الوطنية الثانية في بلجيكا)... وهل لها خبرة في العمل الدبلوماسي؟

كذلك نقلت وسائل الإعلام شهادات لبعض أعضاء الحزب الليبيرالي الإصلاحي الذين لم تعجبهم إجابة «الصحافية السابقة» لحبيب التي لمّحت إلى رفضها الانخراط في الحزب الليبيرالي (الذي اختارها لهذا المنصب)، حين صرّحت على إثر المؤتمر الصحافي الذي أعقب الإعلان عن تعيينها بأنها «ليست يسارية وليست يمينية، بل هي حرة بالأساس، وأنها كانت دائماً تسعى للتقريب بين ضفاف متناقضة، وهو ما ستسعى دائماً لتحقيقه».

أحد كوادر الحزب صرّح لصحيفة «لوسوار» البلجيكية تحت غطاء مجهول، قائلاً: «نحن أمام شخصية بعيدة كل البعد عن التيار الليبرالي. اختيارها هو محاولة لتلميع صورة الحزب وكسب لأصوات الأقليات، وفي مثل هذه الحالة يكون للشكل الأسبقية على الجوهر...». وتابع ملمحاً أن «اختيارها يخضع لحسابات انتخابية»، وبالأخص مع اقتراب موعدها في ربيع 2024.

أما المحلل السياسي داف سيناردي، فقال في تصريح لصحيفة «سودبراس» إنه «من المستحيل الاقتناع بأن وصول السيدة لحبيب إلى هذه الوظيفة السامية قد تحقق مع حفاظها على حيادها السياسي». ولكن، فيما عدا ذلك، رأى سيناردي «أن للوزيرة الجديدة إلماماً تاماً بملفات السياسة الخارجية، إضافةً إلى أنها تحظى باحترام الجميع... ما قد يساعدها على الاضطلاع بمهامها بنجاح، بعيداً عن الجدل الذي يرافق المسؤوليات السياسية الأخرى».

عاصفة قضية التأشيرات

في المقابل، منذ تكليف لحبيب بحقيبة الخارجية يوم 15 من يوليو 2022، واجهت الصحافية السابقة و«المبتدئة في دهاليز السياسة» ثلاث مرّات نواب البرلمان في مساءلة بثّتها كل وسائل الإعلام البلجيكية للبحث في مسؤوليتها عن منح تأشيرات لمسؤولين إيرانيين، من بينهم رئيس بلدية طهران علي رضا زكاني.

هذه القضية أخذت أبعاداً كبيرة كادت تُكلِّف الوزيرة منصبها وتعصف بالحكومة التي يقودها رئيس الوزراء ألكسندر دي كرو، إلا أن لحبيب احتفظت بمنصبها بفضل دعم غالبية النواب خلال تصويت في مجلس النواب. وللعلم، كان الليبيراليون، الذين تنتمي إليهم، قد تقدّموا بمذكرة دعم في مواجهة مذكرات حجب الثقة التي طرحتها المعارضة، بما فيها كتلة «الحزب الاشتراكي». وقد اتهمت مذكرة حجب الثقة الوزيرة «بتعريض حياة معارضين إيرانيين للخطر» من خلال السماح لـ14 مسؤولاً إيرانياً بالمشاركة في «المؤتمر الدولي لرؤساء البلديات» الذي عقد في العاصمة البلجيكية بروكسل في ربيع العام الماضي 2023، واصفة الوزيرة بـ«غير المسؤولة». لكن الوزيرة نفت مسؤوليتها، وأعلنت أمام النواب: «أنا آسفة بصدق للأزمة التي نجد أنفسنا فيها اليوم، وأطلب منكم أن تعذروني». وهنا نشير إلى أن أسئلة النواب ارتكزت على معلومات أوردتها صحيفة بلجيكية عن توقيف والدة إيراني شارك في مظاهرة نظمت في بروكسل، يوم 13 يوليو 2023، وأكدت الوزيرة على أثرها أنها طلبت من جهازي «أمن الدولة» و«مصالح الاستخبارات» التحقيق في هذه المعلومات.

زيارة مثيرة للجدل

مرة ثانية، واجهت وزيرة الخارجية البلجيكية حملة انتقاد شديدة. وهذه المرة كانت بسبب زيارتها إلى شبه جزيرة القرم خلال صيف 2021، أي قبل سنة من توليها حقيبة وزارة الخارجية. وبحسب صحيفة «سود أويست» الفرنسية، فإن لحبيب زارت القرم بتأشيرة روسية بناءً على دعوة من «مهرجان راشان سيزن» بهدف تصوير شريط وثائقي... إلا أن منتقديها اتهموها بأنها لم تعطِ فيه الكلام سوى للموالين لروسيا وتجاهلت الأوكرانيين.

بل إن المهرجان وُصِف أيضاً بـ«مبادرة دعائية» من الحكومة الروسية، وبتمويل من شركة «غازبروم»، إضافة إلى أن ابنة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كانت قد شاركت في تنظيمه.

هذا الموضوع أثير مجدداً إثر لقاء الوزيرة لحبيب بنظيرها الأوكراني دميترو كوليبا، حين شددت له على «تضامن بلجيكا الثابت مع كييف». وفي حوارها مع نظيرها الأوكراني شجبت الوزيرة بشكل خاص «الاحتلال غير القانوني» لشبه جزيرة القرم من قبل روسيا. لكن التساؤلات في العاصمة الأوكرانية كييف استمرت من منطلق الرغبة في الحصول على تفاصيل حول «الرحلة الثقافية» التي قامت بها لحبيب قبل سنة بوصفها صحافية إلى «مهرجان راشان سيزن» في شبه جزيرة القرم، وبالأخص، أن وسائل إعلامية ادعت أن جهات روسية تكفّلت بتأمينها وتغطية كلفتها، وطالبت عدة جهات سياسية الوزيرة بتقديم تفسيرات لهذه الزيارة المثيرة للجدل.

تبعاً لتداعيات هذه القضية، وأملاً في تهدئة الأوضاع، جعلت وزيرة الخارجية البلجيكية الجديدة أوكرانيا إحدى أولوياتها، معربة عن أملها في السفر بسرعة إلى كييف؛ للتعبير عن تضامن بلجيكا مع الشعب الأوكراني. وبالفعل، قالت على منصة «إكس» بمناسبة العيد الوطني لأوكرانيا: «هذا يوم مهم لشعب أوكرانيا. في يوم الدولة الأوكرانية، نقلت إلى دميترو كوليبا تضامننا الذي لا يتزعزع ومواقفنا الحازمة بشأن الوضع، والتزامنا بالحفاظ على دعم كييف». وأردفت: «إن بلدي يدرك جيداً أهمية هذا الاحتفال الذي بدأه الرئيس فولوديمير زيلينسكي العام الماضي. وفي الوقت نفسه، سيعمل الاحتفال، بلا شك، على رفع الروح المعنوية حيث تدافع أوكرانيا والأوكرانيون بشجاعة عن ممتلكاتهم ويكافحون من أجل بقاء دولتهم».

استطردت لحبيب مؤكدة رغبتها في الذهاب «قريباً» إلى كييف بالقول: «أنتهز هذه الفرصة لأكرّر تضامن بلدي الذي لا ينفصم ودعمه الكامل لأوكرانيا، فضلاً عن الصداقة العميقة التي توحد بلدينا»، ثم أضافت: «أوكرانيا دولة مستقلة وذات سيادة، فضلاً عن كونها عضواً مهماً وموثوقاً به في المجتمع الدولي، ولشعبها حق لا جدال فيه في اختيار مصيره». وذلك قبل أن تنهي: «يجب احترام سلامة أراضي أوكرانيا داخل حدودها المعترف بها دولياً احتراماً كاملاً، وهذه الحدود تشمل جميع أراضي أوكرانيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم و(منطقة حوض) الدونباس التي تخضع حالياً للاحتلال غير الشرعي للاتحاد الروسي، بشكل مباشر أو عن طريق الأنظمة العميلة».

مواقف ونجاحات

على صعيد آخر، كانت الوزيرة لحبيب قد لفتت الانتباه بمواقف قوية؛ كإقدامها يوم السادس من أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2022 في مشاهد تناقلتها وسائل الإعلام عبر العالم على قصّ خصلة من شعرها في جلسة مناقشة بمجلس النواب، وهذا في تكرار لما فعلته نائبة من أصول إيرانية كانت تجلس إلى جانبها. وفي الوقت ذاته، أعربت الوزيرة عن صدمتها لموت الشابة مهسا أميني في أثناء توقيفها في طهران، وصرّحت بأن ثماني دول أوروبية ستطالب بفرض عقوبات على أفراد الشرطة الذين تعرضوا بالعنف لهذه الفتاة.

وحقاً، أشادت وسائل الإعلام وأطراف سياسية كثيرة في أوروبا بالحصيلة الإيجابية للحبيب، بعد إشرافها على مفاوضات ناجحة مع أطراف إيرانية لتبادل أسرى. فيوم 26 مايو (أيار) 2023 أفرجت إيران عن عامل الإغاثة البلجيكي أوليفييه فانديكاستيل بعد اعتقاله لمدة 455 يوماً. وبعد أشهر من المفاوضات مع فريق وزيرة الخارجية عاد عامل الإغاثة إلى بلجيكا عبر سلطنة عُمان أيضاً مقابل عودة دبلوماسي إيراني أدين بتهمة الإرهاب وسجن في بلجيكا نحو خمس سنوات، كما أعلنت الحكومة البلجيكية أنها فاوضت أيضاً من أجل عودة رعايا أوروبيين ثلاثة كانوا محتجزين في إيران.وأخيراً، في موضوع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، كان لبلجيكا، وبالأخص لوزيرة خارجيتها مواقف قوية. وبينما رفضت الحكومة البلجيكية السير في ركاب كبريات الحكومات الأوروبية الغربية في تعليق الدعم لوكالة «الأونروا» الأممية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، استدعت الوزيرة لحبيب سفيرة إسرائيل لدى بلجيكا مسجِّلة احتجاجها على الغارات التي دمرت مكاتب «وكالة التنمية البلجيكية» (أنابل) في قطاع غزة، ومؤكِّدة أن استهداف المباني المدنية «أمر مرفوض تماماً».

 

 


مقالات ذات صلة

رئيس صربيا يستبعد انضمامها للاتحاد الأوروبي قبل 2030

أوروبا الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش (رويترز)

رئيس صربيا يستبعد انضمامها للاتحاد الأوروبي قبل 2030

قال الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش اليوم (السبت) إنه يستبعد انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي في 2028.

«الشرق الأوسط» (بلغراد)
الخليج الشيخ محمد بن زايد آل نهيان مع شارل ميشيل رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي خلال اللقاء في أبوظبي (وام)

محمد بن زايد يبحث مع رئيس الاتحاد الأوروبي العلاقات الثنائية وقضايا المنطقة

بحث الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات، مع شارل ميشيل رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي، مختلف أوجه العلاقات بين الإمارات والاتحاد الأوروبي.

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
أميركا اللاتينية إدموندو غونزاليس مع زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو (أ.ف.ب)

كاراكاس تنتقل من الدفاع عن «فوز» مادورو إلى شن هجوم واسع على قادة المعارضة

بعد مضي شهر على الانتخابات الرئاسية الفنزويلية التي ما زالت نتائجها موضع خلاف عميق، وقد تسببت في أزمة تهدد بانفجار اجتماعي جديد.

شوقي الريّس (مدريد)
أوروبا جانب من أشغال المؤتمر الدولي حول أوكرانيا في بورغنستوك بسويسرا الأحد (رويترز)

هل تتخلى سويسرا عن حيادها التاريخي؟

بعد قرون من التمسك بالحياد وعدم التحالف، تواجه سويسرا تحدياً غير مسبوق يدفعها إلى إعادة النظر في موقفها الدفاعي التاريخي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد مخازن وأنابيب نفطية ضمن خط دروجبا في دولة التشيك (رويترز)

أوكرانيا تهدد بوقف مرور صادرات الطاقة الروسية إلى أوروبا

قال مسؤول أوكراني إن بلاده ستوقف شحن النفط والغاز الروسيين من خلال خطوط أنابيبها إلى الاتحاد الأوروبي في نهاية هذا العام.

«الشرق الأوسط» (كييف)

ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
TT

ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)

بات «قوت الشعب» الليبي ومقدراته ورقة ضغط سياسي في لعبة الصراع على السلطة والنفوذ والمال بين «حكومتي» شرق ليبيا وغربها، وسط معركة تدور رحاها ظاهرياً حول شخص الصدّيق الكبير، رئيس المصرف المركزي. إذ أطاح «المجلس الرئاسي» (الغرب) الكبير، فأغلقت حكومة أسامة حماد (الشرق) حقول النفط رداً على قرار «الرئاسي» الذي اتُخذ بمعزل عن «مجلس النواب»، وعلى غير رغبته. هكذا، أصبح «المركزي»، القابع في مبنى تاريخي إيطالي التصميم يقع على الواجهة البحرية للعاصمة طرابلس، وكان يُعرف بـ«قصر الحكم» إبّان الحقبة الاستعمارية الإيطالية، رمزاً لتفاقم الانقسام بين المشير خليفة حفتر، القائد العام لـ«الجيش الوطني الليبي» في الشرق، ومحمد المنفّي رئيس «المجلس الرئاسي» في الغرب، وهذه معركة قد تلعب «الأوزان النسبية» للطرفين دوراً في حسمها. ومعها يشتعل الصراع بين الساسة على التحكّم بمصادر التمويل التي يشكّل المصرف المركزي «قلبها النابض». ويرى مراقبون الآن أن النزاع الحالي «قد يصبّ في مصلحة أطراف دولية تلعب أدواراً حالية في البلاد»، أو ربما يدفع أطرافاً أخرى إلى التدخل ومحاولة حلحلة الأزمة السياسية المستمرة منذ سقوط نظام الرئيس الراحل معمر القذافي عام 2011، لا سيما بعدما مسّت الأزمة مصالح الدول الكبرى في النفط الليبي.

المنفي مع الدبيبة (المجلس الرئاسي)

اندلعت المعركة عقب إعلان «المجلس الرئاسي»، يوم 20 أغسطس (آب) الحالي، تعيين محمد الشكري محافظاً للمصرف المركزي، وهو قرار رفض الصدّيق الكبير تنفيذه. ومن ثم، تنحى الشكري عازفاً عن قبول المنصب، في خطوة عدّتها مجلة «فورين بوليسي» الأميركية «انعكاساً لرغبة الشكري في ألا يكون محور صراع دموي بين سلطات ليبيا المتنازعة».

بعدها، لم تتوقف محاولات «الرئاسي» إقالة الكبير رغم تذكير الأخير بأن «تعيين محافظ المصرف المركزي، وفقاً للاتفاق السياسي والقانون رقم (1) لسنة 2005، يتبع السلطة التشريعية»، الأمر الذي أكّده مجلسا «النواب» و«الدولة». لكن في تحدٍ لـ«النواب» أعلن «الرئاسي» تعيين محافظ ومجلس إدارة جديد لـ«المركزي» وتكليف عبد الفتاح عبد الغفار رئاسته، رداً على إنهاء برلمان الشرق ولاية «الرئاسي» و«حكومة الوحدة الوطنية» المؤقتة، برئاسة عبد الحميد الدبيبة في الغرب. وبسرعة، سيطرت «لجنة تسليم واستلام الصلاحيات» المعيّنة من قِبل «الرئاسي» على مقرّ المصرف المركزي لتثبيت مجلس الإدارة الجديد برئاسة. ولقد ذكر عبد الغفار في أول تصريحاته الصحافية الأسبوع الماضي، أن «المصرف يعمل حالياً وفق المعايير الدولية، وعبر مجلس إدارة متكامل من ذوي الخبرات».

بالطبع، لم يلق هذا التصرف قبولاً لدى حكومة أسامة حماد (مقرها بنغازي) التي أعلنت حالة «القوة القاهرة» على جميع الحقول والموانئ النفطية، ووقف إنتاج النفط وتصديره حتى إشعار آخر. كذلك اشترط عقيلة صالح، رئيس «النواب»، عودة الكبير إلى عمله مقابل إعادة فتح حقول النفط واستئناف التصدير.

الدكتور يوسف الفارسي، أستاذ العلوم السياسية ورئيس حزب «ليبيا الكرامة»، قال لـ«الشرق الأوسط» إن الأزمة الحالية كما يبدو «ترجع إلى سياسة التقشف التي فرضها الكبير تجاه (الرئاسي) وحكومة (الوحدة)، مع تقنين الصرف لمواجهة عجز الموازنة. هذا ضيق الخناق عليهما، ليصدر قرار الإقالة الذي لا يعدّ من صلاحيات (الرئاسي)... إنها أزمة متوقعة في ظل وضع صعب تعيشه ليبيا وصراع مستمر بين الكيانات المختلفة».

لكن الصراع الحالي غير محصور بالمصرف المركزي، بحسب الخبير الاقتصادي الليبي وحيد الجبو، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إنه «يمتد أيضاً إلى المؤسسات الاقتصادية الكبرى كالمؤسسة الوطنية للنفط والمؤسسة الليبية للاستثمار... إنه صراع بين القوى السياسية المتنازعة على السلطة، لا سيما أن النفط والمال من أهم مراكز القوة، التي يحاول كل طرف أن ينتزعها لنفسه». وبينما يؤكد الجبر «بطلان» قرار الرئاسي بإقالة الكبير، فهو لا يمانع في تغيير محافظ المصرف؛ لأن «التغيير مطلوب، ولكن بموجب إجراء قانوني صحيح».

الحرب الروسية - الأوكرانية

استخدام سلاح النفط في الصراع ليس جديداً، فبعد شهرين من الحرب الروسية - الأوكرانية أُعلن عن حصار نفطي ليبي بسبب مطالبة الدبيبة بالاستقالة لصالح فتحي باشاغا، رئيس الوزراء المنافس في الشرق آنذاك. يومذاك، بدا أن الكبير والدبيبة حليفان، اتُهم رئيس حكومة «الوحدة» بـ«إساءة استخدام أموال الدولة بمساعدة المركزي»، وفق «فورين بوليسي» التي أشارت إلى «انتهاء الحصار في يوليو (تموز) 2022 من دون أن يحقق أي طرف هدفه».

وهو ما يوضحه عبد الهادي ربيع، الباحث المصري المتخصص في الشأن الليبي، مشيراً لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «الأزمة ليست وليدة اليوم، بل تعود جذورها لفترات سابقة حاولت خلالها سلطات شرق ليبيا تغيير محافظ المصرف المركزي بوجه رفض حكومة الغرب، قبل أن تنعكس الصورة أخيراً ويغدو الشرق متمسكاً بالكبير المرفوض من الغرب». وأرجع ربيع الأزمة الأخيرة إلى «نزع مجلس النواب صفة القائد الأعلى للقوات المسلحة عن المجلس الرئاسي، بالتزامن مع صرف الكبير ميزانية ضخمة لحكومة حماد في الشرق؛ ما أغضب حكومة الدبيبة في الغرب وجعلها تنقلب عليه».

عقيلة صالح (الشرق الاوسط)

من «معسكر القذافي» إلى قلب «الثورة»

الكبير، الذي عُيّن محافظاً لـ«المركزي» عام 2011، صار بالفعل، محور صراع بين السلطتين التنفيذيتين في البلاد. وهو خريج جامعة هارتفورد الأميركية، وكان محسوباً على نظام معمّر القذافي، قبل أن يصبح من أوائل «الثوار» ضد حكمه. فقد انضم إلى المجلس الانتقالي الليبي إثر نشاطه على الأرض، ومنه إلى المصرف المركزي. وطوال 13 سنة لعب الكبير دوراً محورياً في الإدارة السياسية - النقدية في البلاد.

مراقبون يرون أن الكبير دائماً يراهن على «الحصان الرابح»، ويوصف بأنه «آخر من تبقى من الثوار» و«القذافي الجديد»، وهو اتهام بين اتهامات وانتقادات عدة وُجّهت إليه، وبلغت حد التشكيك في جنسيته من قِبل «ثوار الزاوية» عام 2013. أيضاً تعرّض الرجل لاتهامات عدة إبّان عهد القذافي، وتجدّدت مع تعيينه محافظاً، لكنه تخطى الأزمة بمهاراته المعتادة التي أتاحت له في وقت سابق الانتقال من معسكر المحسوبين على نظام القذافي إلى معسكر «الثوار».

واشنطن على خط الأزمة

من جهة ثانية، يُلقب البعض الكبير بأنه «حليف واشنطن»، وربما كان هذا سبب دخول واشنطن على خط الأزمة الحالية، حين أعلنت سفارتها في ليبيا، الأسبوع الماضي، عن لقاء جمع ، الجنرال مايكل لانغلي، قائد القيادة الأميركية في أفريقيا، جيريمي بيرنت القائم بالأعمال، مع حفتر. ولقد حثّت واشنطن جميع الأطراف الليبية على «المشاركة بشكل بنَّاء في الحوار بدعم من بعثة الأمم المتحدة لدعم ليبيا». كذلك، أعلنت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، في اليوم نفسه، عزمها عقد اجتماع طارئ لحل أزمة المصرف المركزي؛ بهدف «التوصل إلى توافق يستند إلى الاتفاقيات السياسية والقوانين السارية، وعلى مبدأ استقلالية المصرف المركزي وضمان استمرارية الخدمة».

خليفة حفتر (روبترز)

تكمن أهمية المصرف المركزي الليبي في كونه يشرف على إدارة إيرادات النفط وميزانية الدولة

«سلاح المعركة»

تكمن أهمية المصرف المركزي في كونه يشرف على إدارة إيرادات النفط وميزانية الدولة، قبل إعادة توزيعها بين المناطق الليبية المختلفة، وكانت فترة الهدوء أخيراً ساهمت في رفع إنتاجه إلى نحو 1.2 مليون برميل يومياً. لكن إعلان المؤسسة الوطنية للنفط حالة «القوة القاهرة» في حقل الشرارة، أحد أكبر حقول النفط الليبية بطاقة إنتاجية تبلغ 300 ألف برميل يومياً، أثار مخاوف دولية بشأن خفض الإنتاج، وارتفاع أسعار الخام عالمياً.

وهكذا، بات النفط سلاحاً رئيسياً في معركة «فرض النفوذ» و«لي الذراع» بين شرق ليبيا وغربها، «يفرض استخدامه خسائر على الاقتصاد الليبي الذي يعاني عجزاً في الميزانية العامة وميزان المدفوعات»، بحسب الجبو، الذي قال إن «خزينة ليبيا ستواجه صعوبات في تسديد المتطلبات من مرتبات ودعم للوقود والكهرباء». أما الفارسي، فيرى أن استخدام سلاح النفط داخلياً قد يُثير «موجة غلاء مع تراجع سعر العملة المحلية مقابل الدولار، كما قد يضرّ بالاستثمارات، ويوثر على التعامل مع المصارف الأجنبية».

للعلم، تقع غالبية حقول النفط تحت سيطرة «الجيش الوطني الليبي»، الذي حذَّر قائده حفتر خلال الأسبوع الماضي، من «المساس بالمصرف المركزي»، بينما تُعدّ منطقة الواحات (بجنوب غربي ليبيا) من أبرز المناطق الغنية بالحقول النفطية في البلاد. ووفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي، فالمصرف المركزي هو الجهاز الوحيد المسؤول عن عائدات النفط، التي تشكل 95 في المائة من ميزانية ليبيا، وبالتالي مَن يتحكّم بالعائدات يتحكّم بالاقتصاد الليبي.

«لعبة شطرنج»

على صعيد متصل، وخلف الكواليس، يُعد المصرف «جزءاً من لعبة شطرنج جيوسياسية روسية»، وفقاً لجايسون باك، مؤسس «ليبيا أناليسيس»، الذي يرى في حديثه لـ«فورين بوليسي» أن إغلاق حقول النفط لن يغير طريقة عمل المصرف، بل يسمح لروسيا بتعزيز مصالحها في ليبيا. وعدّ باك «الأزمة مصطنعة ولا علاقة لها بقضايا المصرف الرئيسية». كذلك، ورد في المجلة عينها تحذير من أنه «إذا تجاهلت الجهات الدولية الرئيسية الفاعلة هذه الأزمة، فهي تترك بذلك ليبيا تحت رحمة روسيا».من جانبه، يرجح الجبو أن «يأتي حل الأزمة عبر ضغط المجتمع الدولي لعودة الكبير إلى منصبه، ومن ثم إجراء اتصالات ومباحثات بين مجلسي النواب و(الدولة) لاختيار محافظ جديد». مذكّراً في هذا الصدد بأن بيان السفارة الأميركية «ندد بإبعاد المحافظ وطالب بإرجاعه». وأيضاً، يرى الفارسي أن «أي حل للأزمة لن يتحقق بمعزل عن جهود المجتمع الدولي وضغوطه، لا سيما مع وجود أطراف دولية فاعلة في الأزمة». وهو يتوقع «حلّ الأزمة سريعاً، مع تشكيل لجنة حوار جديدة تدفع نحو الاستقرار وإجراء الانتخابات، بعدما طال الأمر وتعقد، وبات يمسّ قوت الليبيين ومصالح القوى الدولية في النفط والاستثمارات».