«مزرعة» نديم مهنا... رهانٌ على سلام بطلته الطفولة

رسائل الفيلم إنسانية وقصته مستوحاة من الواقع

وسام حنا بطل الفيلم بامتياز (صور نديم مهنا)
وسام حنا بطل الفيلم بامتياز (صور نديم مهنا)
TT

«مزرعة» نديم مهنا... رهانٌ على سلام بطلته الطفولة

وسام حنا بطل الفيلم بامتياز (صور نديم مهنا)
وسام حنا بطل الفيلم بامتياز (صور نديم مهنا)

ينجح المخرج اللبناني نديم مهنا في تمرير رسالة إنسانية تتناول إشكالية العنصرية، في فيلمه الجديد «المزرعة»، بإطار جريء وسلس. بتطرّقه إلى العلاقة الشائكة بين الشعبين اللبناني والسوري، يضع تلك الإشكالية تحت المجهر بأسلوب سينمائي شيّق. لم يدخل في تفاصيل قد تزجّ المُشاهد في متاهات، بل يقدّم مادة غنية بالمشاعر الإنسانية تحافظ على التوازن بلا مبالغة.

يقول لـ«الشرق الأوسط»: «توقيت إطلاق الفيلم مناسب تماماً. نعيش اليوم نزاعاً لافتاً حول هذا الموضوع في لبنان، فالنازحون السوريون المتوافدون في السنوات الأخيرة يزداد عددهم، ويعيش بعضهم بشروط حياتية رديئة، بلا حلول على المدى القريب. ثمة صفقات تُعقد، ولبنان يدفع الثمن على جميع الأصعدة».

نديم مهنا والطفل الموهبة عبد الحي فرحات (صور المخرج)

ينقل مهنا تفاصيل عن يوميات النازحين، فنزور معه المخيّمات، ونتابع إيقاع حياتهم. يُدخلنا بيوتهم الفقيرة التي تتسرّب من جدرانها مياه الشتاء. وفي المقلب الآخر، يُلمح الفيلم إلى أنّ هؤلاء النازحين، ربما، يُذكّرون اللبناني بحقبات دموية حُفرت في أذهانهم.

يؤكد مهنا أنه أضاء على الموضوع بتوازن: «وقفتُ في الوسط، وتناولته من جوانبه. حاولتُ الإشارة إلى الفارق بين مزرعة نعيش فيها ضمن فوضى عارمة، وتلك التي تحمل معاني الحياة الحقيقية، وترتكز على الحب، والتسامح، وبراءة الأطفال، والطبيعة الجميلة، والألفة بين الناس».

ينطلق الفيلم في الصالات اللبنانية ابتداءً من 8 فبراير (شباط) الحالي. تدور قصته حول الشاب اللبناني وسام (وسام حنا)، الذي قضى والده الضابط على يد الجيش السوري في إحدى المعارك، مما ولّد لديه حقداً تجاه السوريين. وحين يتعرّف إلى الطفل السوري عبود، صاحب الخيال الواسع، الذي بات لاجئاً في لبنان بعدما دُمِّر منزله في سوريا، فيسكن وعائلته في مزرعة يمتلكها وسام؛ يحدُث التغيير الكبير في شخصيته، ليعود إلى إنسانيته ويتخلّى عن تعصّبه.

الممثل مالك محمد مع الطفل عبد الحي فرحات (صور نديم مهنا)

«المزرعة» من كتابة فؤاد يمّين، ورامي عوض، وأنطوني حموي، وإخراج مهنا وإنتاج شركته «إم إن برو»؛ ومن بطولة وسام حنا وميرفا القاضي، مع الطفل عبد الحي فرحات (عبود)، الموهبة اللافتة الجديرة بالتقدير. إلى هؤلاء، تحضُر مجموعة ممثلين، منهم ميشال حوراني، ورولا شامية، ومالك محمد، وعهد ديب، وأليكو داود، وأنطوانيت عقيقي، وطوني عاد.

يعالج الفيلم موضوعات التعصّب، والطبقيّة، وحقوق الطفل، والعلاقات الإنسانية، وحب الأرض، ويتخطّى بنصّ محبوك بأسلوب ذكي، التمييز العرقي والجنسية. ويُعدّ من الأفلام الاجتماعية الدرامية، التي تصلُح مشاهدته لجميع الأعمار.

يطلّ مهنا من خلاله على الحلم والأمل، ويترجمهما في لوحة السماء المُضاءة بالنجوم، حين يرسم وسام وعبود عربة خيالية بمثابة التوقيع غير الرسمي للفيلم. مهنا معروف بشغفه بالسيارات وقيادتها، وهو قدَّم برامج تلفزيونية عدّة في هذا السياق.

لافت أداء وسام حنا العابق بحرفية ملحوظة. يجسّد دوره كأنه كُتب له. يستعين خلاله بأدوات تمثيلية نابعة من شخصيته المحبّبة والقريبة من القلب، ويلوّنها بنفحة إنسانية حقيقية يتمتّع بها، فتصل الرسالة تلقائياً. ومن دون أي أداء مصطنع ركيزته البهرجة والوسامة وعرض العضلات، ينقل مشاعره الإنسانية ضمن أداء تصاعدي يستميل المُشاهد، فيتعاطف معه. تأتي كاميرا مهنا لترتقي بأداء حنا وغيره من الممثلين إلى الخط التمثيلي المنشود. وفيها اعتمد على تصوير سينمائي يعرف بـ«كلوز أب شوت»، وهي تقنية مُلهِمة لصنّاع الأفلام، تولد تواصلاً سريعاً وناجحاً بين المخرج والمُشاهد والممثل.

طوال 105 دقائق، يتابع المُشاهد القصة بلا ملل. الحبكة المشوّقة والأداء التمثيلي المتقن، يسرقان الانتباه حتى اللحظة الأخيرة.

ينطلق مهنا من اسم الفيلم، «المزرعة»، ليوحي لمشاهده بمعانٍ يحملها. فكلمة مزرعة تُشير إلى بلد تعمّه الفوضى، وتدلّ أحياناً على علاقات متضاربة بين البشر. في المزرعة تحضُر أجناس من الحيوانات لكل منها طريقة في العيش تفرضها على صاحبها. ولكن في «المزرعة»، لم ينسَ المخرج وَضْع طبيعة لبنان الخلّابة في المقدّمة، فيُعيدنا إلى علاقة الإنسان بأرضه، ويُطلعنا على مزيج العادات والتقاليد بين الريفَيْن اللبناني والسوري، فنشتمّ رائحة تراب الوطن، ونستعيد الجلسات الدافئة المفقودة اليوم إلى حدٍ كبير.

ميرفا القاضي أتقنت دور المرأة السطحية (صور نديم مهنا)

ينجح الطفل عبد الحي فرحات في فرض أدائه منذ مَشاهده الأولى. من خلاله وعبره، تدور أحداث القصة بإيقاع تصاعدي، ليلمَّ شمل مجتمعين متنافرين على مدى التاريخ الحديث. يُقرّب وجهات النظر، ويولّد المشاعر المناسبة ليلتئم الجرح العميق. براءة الأطفال يمكنها أن تصنع العجائب. وعبود، عن غير قصد، يوصل الرسالة تلو الأخرى، فيخفّف الغضب والحقد والتعصّب بحبّ عفوي ينبع من أعماقه.

جميع الممثلين، من بينهم ضيوف الشرف، قدّموا أدواراً مُكمّلة للفيلم. فميرفا القاضي تجسّد دور الشابة السطحية والعنصرية التي تحاول مجاراة مشاعر خطيبها وسام ولا تفلح في ذلك، فالطبع يغلب التطبّع. أما ميشال حوراني، ورولا شامية، وأنطوانيت عقيقي، وجوي حلاق، ومالك محمد، وعهد ديب، وشربل زيادة، فشكّلوا بحضورهم وأدائهم إضافة.

«المزرعة» يضع الإصبع على الجرح، ويُخلّص الإنسان من أحكام مسبقة تسكنه وتُنغّص حياته.


مقالات ذات صلة

الوسط الفني بمصر يودّع السيناريست عاطف بشاي

يوميات الشرق السيناريست المصري عاطف بشاي (صفحته على «فيسبوك»)

الوسط الفني بمصر يودّع السيناريست عاطف بشاي

ودّع الوسط الفني بمصر المؤلف والسيناريست المصري عاطف بشاي، الذي رحل عن عالمنا، الجمعة، إثر تعرضه لأزمة صحية ألمت به قبل أيام.  

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق أنجلينا جولي في مهرجان ڤنيسيا (إ.ب.أ)

«الشرق الأوسط» بمهرجان «ڤنيسيا-4»... ماريا كالاس تعود في فيلم جديد عن آخر أيام حياتها

إذا ما كانت هناك ملاحظة أولى بالنسبة للأيام الثلاثة الأولى التي مرّت على أيام مهرجان ڤنيسيا فهي أن القدر الأكبر من التقدير والاحتفاء ذهب لممثلتين أميركيّتين.

محمد رُضا (فينيسيا)
يوميات الشرق جمانا الراشد رئيسة مجلس أمناء «مؤسسة البحر الأحمر السينمائي» خلال مشاركتها في افتتاح مهرجان البندقية (الشرق الأوسط)

«البحر الأحمر السينمائي» تشارك في مهرجان البندقية بـ4 أفلام

تواصل «مؤسسة البحر الأحمر السينمائي» حضورها بالمهرجانات الدولية من خلال مشاركتها في الدورة الـ81 من مهرجان البندقية السينمائي بين 28 أغسطس و7 سبتمبر.

«الشرق الأوسط» (البندقية)
سينما جيمس ستيوارت في «انعطاف نهر» (يونيڤرسال)

كلاسيكيات السينما على شاشة «ڤينيسيا»

داوم مهرجان «ڤينيسيا» منذ سنوات بعيدة على الاحتفاء بالأفلام التي حفرت لنفسها مكانات تاريخية وفنية راسخة. ومنذ بضعة أعوام نظّمها في إطار برنامج مستقل

محمد رُضا‬ (ڤينيسيا)
سينما «بالرغم من» ‫(مهرجان ڤينيسيا السينمائي)

شاشة الناقد: فيلم افتتاح «ڤينيسيا» 81 مبهر وموحش

يختلف جمهور اليوم عن جمهور 1988 عندما خرج ما بات الآن الجزء الأول من هذا «بيتلجوس بيتلجوس». آنذاك كان الفيلم جديداً في الفكرة والشخصيات

محمد رُضا‬ (ڤينيسيا)

اختبار «اللهجة الفلاحي»... تندُّر افتراضي يتطوّر إلى «وصم اجتماعي»

لقطة من فيلم «الأرض» (أرشيفية)
لقطة من فيلم «الأرض» (أرشيفية)
TT

اختبار «اللهجة الفلاحي»... تندُّر افتراضي يتطوّر إلى «وصم اجتماعي»

لقطة من فيلم «الأرض» (أرشيفية)
لقطة من فيلم «الأرض» (أرشيفية)

مع انتشار اختبار «اللهجة الفلاحي» عبر مواقع التواصل في مصر بشكل لافت خلال الساعات الماضية، وتندُّر كثيرين على مفردات الاختبار التي عدَّها البعض «غير مألوفة» وتحمل معاني متعدّدة؛ تطوّر هذا الاختبار إلى «وصم اجتماعي» بتحوّل ناجحين فيه إلى مادة للسخرية، بينما تباهى خاسرون بالنتيجة، وعدّوا أنفسهم من أبناء «الطبقة الراقية».

وكتبت صاحبة حساب باسم بسمة هاني بعد نشر نتيجة اختبارها «اللهجة الفلاحي»، 5/ 20، عبر «فيسبوك»: «يعني أنا طلعت من EGYPT»، مع تعبير «زغرودة» للدلالة إلى الفرح.

ونشر حساب باسم المهندس رامي صورة لرجل يركب حماراً ويجري بسرعة وفرح، معلّقاً أنه هكذا يرى مَن نجحوا في اختبار «اللهجة الفلاحي».

وكتب حساب باسم سعيد عوض البرقوقي عبر «فيسبوك»: «هذا اختبار اللهجة الفلاحي... هيا لنرى الفلاحين الموجودين هنا وأقصد فلاحي المكان وليس الفكر».

ورداً على موجة السخرية والتندُّر من هذا الاختبار، كتب صاحب حساب باسم محمد في «إكس»: «هناك فلاحون يرتدون جلباباً ثمنه ألف جنيه (الدولار يساوي 48.62 جنيه مصري) ويمتلك بيتاً من هذا الطراز – نشر صورة لبيت بتصميم فاخر – ويعرف الصح من الخطأ، ويعلم بالأصول وهو أهل للكرم، تحية لأهالينا في الأرياف».

وأمام التحذير من تعرّض المتفاعلين مع الاختبار إلى حملات اختراق، كتب الإعلامي الدكتور محمد ثروت على صفحته في «فيسبوك»: «اختبار اللهجة الفلاحي مجرّد (ترند) كوميدي وليس هاكرز، ويعبّر عن جهل شديد في أصولنا وعاداتنا المصرية القديمة». فيما كتب حساب باسم إبراهيم عبر «إكس»: «أخاف المشاركة في الاختبار والحصول على 10/ 20. أهلي في البلد سيغضبون مني».

وتضمّ مصر عدداً من اللهجات المحلّية، وهو ما يردُّه بعض الباحثين إلى اللغة المصرية القديمة التي تفاعلت مع اللغة العربية؛ منها اللهجة القاهرية، واللهجة الصعيدية (جنوب مصر)، واللهجة الفلاحي (دلتا مصر)، واللهجة الإسكندراني (شمال مصر)، واللهجة الساحلية واللهجة البدوية. ولمعظم هذه اللهجات اختبارات أيضاً عبر «فيسبوك».

اختبار «اللهجة الفلاحي» يغزو وسائل التواصل (فيسبوك)

في هذا السياق، يرى أستاذ الأدب والتراث الشعبي في جامعة القاهرة الدكتور خالد أبو الليل أنّ «هذا (الترند) دليل أصالة وليس وصمة اجتماعية»، ويؤكد لـ«الشرق الأوسط» أنّ «إقبال البعض في وسائل التواصل على هذا الاختبار محاولة للعودة إلى الجذور».

ويُضيف: «صوَّر بعض الأعمال الدرامية أو السينمائية الفلاح في صورة متدنّية، فترسَّخت اجتماعياً بشكل مغاير للحقيقة، حتى إنّ أي شخص يمتهن سلوكاً غير مناسب في المدينة، يجد، حتى اليوم، مَن يقول له (أنت فلاح) بوصفها وصمة تحمل معاني سلبية، على عكس طبيعة الفلاح التي تعني الأصالة والعمل والفَلاح. محاولة تحميل الكلمة معاني سلبية لعلَّها رغبةُ البعض في التقليل من قيمة المجتمعات الزراعية لأغراض طبقية».

ويتابع: «مَن يخوض الاختبار يشاء استعادة المعاني التي تعبّر عن أصالته وجذوره، أما من يتندّرون ويسخرون من الفلاحين فهُم قاصرو التفكير. ومن يخسرون ويرون أنّ خسارتهم تضعهم في مرتبة اجتماعية أعلى، فهذا تبرير للفشل».

ويشير أبو الليل إلى دور إيجابي تؤدّيه أحياناً وسائل التواصل رغم الانتقادات الموجَّهة إليها، موضحاً: «أرى ذلك في هذا الاختبار الذي لا يخلو من طرافة، لكنه يحمل دلالة عميقة تردُّ الحسبان للفلاح رمزاً للأصالة والانتماء».

لقطة من فيلم «المواطن مصري» الذي تدور أحداثه في الريف (يوتيوب)

ويعيش في الريف نحو 57.8 في المائة من سكان مصر بعدد 45 مليوناً و558 ألف نسمة، وفق آخر إحصائية نشرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2022، بينما يبلغ سكان المدن نحو 40 مليوناً و240 ألف نسمة.

من جهتها، ترى أستاذة علم الاجتماع في جامعة بنها، الدكتورة هالة منصور، أنّ «الثقافة الشعبية المصرية لا تعدُّ وصف (الفلاح) أمراً سلبياً، بل تشير إليه على أنه (ابن أصول) وجذوره راسخة»، مضيفة لـ«الشرق الأوسط»: «يُسأل الوافدون إلى القاهرة أو المدن الكبرى عن أصولهم، فمَن لا ينتمي إلى قرية يُعدُّ غير أصيل».

وتُرجِع الوصم الاجتماعي الخاص بالفلاحين إلى «الهجرة الريفية الحضرية التي اتّسع نطاقها بدرجة كبيرة نظراً إلى ثورة الإعلام ومواقع التواصل التي رسَّخت سلوكيات كانت بعيدة عن أهل الريف».

وتشير إلى أنّ «السينما والدراما والأغنيات ترسّخ لهذا المنظور»، لافتة إلى أنه «من سلبيات ثورة 1952 التقليل من قيمة المهن الزراعية، والاعتماد على الصناعة بوصفها قاطرة الاقتصاد. وقد أصبحت تلك المهن في مرتبة متدنّية ليُشاع أنَّ مَن يعمل في الزراعة هو الفاشل في التعليم، وهذا لغط يتطلّب درجة من الوعي والانتباه لتصحيحه، فتعود القرية إلى دورها المركزي في الإنتاج، ومكانها الطبيعي في قمة الهرم الاجتماعي».

وعمَّن فشلوا في اختبار «اللهجة الفلاحي» وتفاخرهم بذلك بوصفهم ينتمون إلى طبقة اجتماعية راقية، تختم أستاذة علم الاجتماع: «هذه وصمة عار عليهم، وليست وسيلة للتباهي».