المؤرخون اليهود الجدد يفنّدون التاريخ الرسمي

صفحة جديدة تفتح في تاريخ الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي

المؤرخون اليهود الجدد يفنّدون التاريخ الرسمي
TT

المؤرخون اليهود الجدد يفنّدون التاريخ الرسمي

المؤرخون اليهود الجدد يفنّدون التاريخ الرسمي

نعلم أن جلّ كبار المفكرين والمثقفين اليهود كانوا من أنصار التنوير والتحديث من القرن الثامن عشر حتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين. لذلك ساندوا كل الثورات المناهضة للظلم والاستبداد والرجعية، بل كانوا من قادتها وزعمائها. لكن حال ظهور دولة إسرائيل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، شرع هؤلاء في تغيير مواقفهم، وأطروحاتهم ليصبحوا معادين لمسارهم القديم.

ويمكن القول إنه منذ سنة 1947 التي شهدت الإعلان عن تأسيسها إلى سنة 1973 التي فيها اندلعت حرب رابعة بينها وبين الجيوش العربية، وفيها ذاق جيشها طعمَ الهزيمة المرة للمرة الأولى، عرفت دولة إسرائيل تماسكاً حديدياً، وتضامناً قوياً بين مختلف فئاتها وطبقاتها الاجتماعية القادمة من مختلف أنحاء العالم.

وهو أمر أثار إعجاب الكثير من المفكرين والفلاسفة الغربيين الذين جنّح الخيال بهم بعيداً ليتوهّموا أنها - أي إسرائيل، هي «جمهورية أفلاطون» التي طالما حلموا بها. وقد ازداد إعجابهم بها لما شرع شعبها في خوض معركة ضد الجفاف والمصاعب الطبيعية، مُعيداً الاخضرار والحياة إلى الصحراء القاحلة، ومُهيّئاً مدناً وقرى لأعداد كبيرة من اليهود الذين كانوا يعيشون في الشتات.

ومن خلال المدارس والجامعات ووسائل الإعلام ومراكز البحث والفكر، تمكّنت دولة إسرائيل من أن تغرس في قلوب وعقول أطفالها وشبانها المبادئ التي قامت عليها، وأن تقنعهم بأنهم «شعب الله المختار»، وأن الأساطير اليهودية القديمة حقائق تاريخية لا يمكن الدحضُ أو التشكيك فيها، باسطة أمام عيونهم المفعمة بالدهشة والذهول، بطولات اليهود وتضحياتهم الجسيمة في المعسكرات النازية، وأيضاً في الحروب التي خاضوها ضد العرب. أمّا المجازر التي ارتُكبت ضد الفلسطينيين، وطردهم من أراضيهم، وتشريدهم في الصحراء، وتزوير تاريخهم، وكل هذا كان ولا يزال يدخل ضمن «حق إسرائيل في الدفاع عن وجودها».

ولكي تؤكد لأطفالها وشبابها أن الأرض التي استولت عليها «أرض يهودية»، ابتكرت إسرائيل قصة أغرب من قصص الخيال.

وتقول هذه القصة إن يهودياً يُدعى أليعازر بن ياعير قال وهو يُقبّلُ الأرضَ قبل أن يلفظ أنفاسه بعد أن أصابته رصاصة من عربي في بداية تدفق اليهود على فلسطين: «إنه لشيء رائع أن يموت واحد مثلي من أجل أرض اليهود المقدسة». وقد حاول مثقفون يهود انتقاد بعض العيوب في الإعلام وفي مناهج التدريس، والإشارة إلى بعض الأكاذيب، إلا أن أصواتهم ضاعت في جلبة الانتصارات التي كانت إسرائيل تحققها في حروبها ضد العرب. والذين تمسكوا بمواقفهم، وجدوا أنفسهم متهمين بـ«تزوير التاريخ وقلب الحقائق».

وقد ظل الأمر على هذه الصورة حتى حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973. ففي نهاية تلك الحرب القصيرة، استيقظ سكان «الجمهورية المثالية» ليجدوا أنفسهم على حافة الهاوية، وليكتشفوا وهم في حالة من الذهول والهلع خواء أسطورة «الجيش الذي لا يُقهر»، وأكاذيب الحكام الذين يؤكدون لهم على مدار الساعة أنهم قادرون على أن يضمنوا لهم السلام والأمن والرفاهية.

يقول أيلان جرايلزامار، وهو مؤرخ إسرائيلي يُدرّس في جامعة بار إيلان: «كانت حرب (يوم الغفران) مصدر إعادة تقييم شاق وعسير لـ(المرحلة الذهبية) في تاريخ دولة إسرائيل.

وبسبب النتائج التي أفضت إليها هذه الحرب، فَقَدَ حزب العمل السلطة، وهو الحزب الذي ظل حائزاً على إجماع الإسرائيليين على مدى خمسين عاماً». هذا على المستوى السياسي.

أما على المستوى الثقافي والفكري، فقد برزت مجموعة من الجامعيين والباحثين والمؤرخين والأدباء أبدت رغبة في إعادة النظر فيما سُمي «المرحلة الذهبية»، باحثة عن الثغرات والسلبيات التي طبعتها.

وعقب الغزو الإسرائيلي للبنان في صيف 1982، تعمّقت الحركة النقدية للتاريخ الإسرائيلي، وبشأنها احتدّ الجدل خصوصاً عند ظهور من أصبحوا يسمّون منذ ذلك الحين «المؤرخين الجدد».

وعن هؤلاء يقول أيلان جرايلزامار: «بالنسبة لهؤلاء المؤرخين الجدد، ليس هناك شيء مُحرّم. وكل ماضي دولة إسرائيل لا بد أن يُوضع تحت مجهر البحث والتمحيص إذ إنه ليس هناك تاريخ حقيقي، وآخر مُزور. وأما التاريخ الرسمي فقد ألقي به في سلّة المهملات، بالإضافة إلى كل هذا، لم تعد هناك فكرة واحدة بالنسبة لهؤلاء المؤرخين مثلما كان الحال في (المرحلة الذهبية).

كما لم تعد هناك آيديولوجيا تأسيسية، بل هناك فقط وقائع وأحداث تمّ العثور عليها في خزائن الأرشيف تُقدّمُ للقارئ الذي يستطيع أن يفعل بها ما يشاء وما يريد». ويضيف أيلان جرايلزامار، قائلاً: «لجأ المؤرخون الصهاينة إلى استعمال كل الوسائل الممكنة وغير الممكنة لكي يغلّفوا الماضي بغطاء أسطوري وميثولوجي. وهو غطاء كاذب ومُلفّق بطبيعة الحال.

وخلافاً للتاريخ القديم (الحقيقي) قُدّمت قراءة جديدة للواقع والأحداث. وقد تبيّن من خلال ذلك أن الكثير من (الأبطال) الذين تحوّلت حياتهم إلى أساطير عجيبة غذّت خيال أجيال من الإسرائيليين، كانوا في الحقيقة قتلة ومجرمين وسفّاكي دماء. أما قادة طلائع الصهاينة الذين احتلوا الأراضي العربية فقد كانوا استعماريين عنصريين.

كما تبين أن القادمين من جحيم المعسكرات النازية لم يحظوا بالعناية، ولم يستقبلوا بحفاوة بالغة كما كان يُعتقد، بل تعرّضوا للكثير من المظالم، ولاقوا الإهمال والحيف». ويضيف أيلان جرايلزامار، قائلاً إن «حرب الاستقلال» التي خاضها الإسرائيليون ضد الفلسطينيين كانت فرصة للكثير من العسكريين لاقتراف مجازر فظيعة في القرى وفي المدن بهدف إجبار سكانها على إخلاء بيوتهم وأراضيهم.

وفي كتابه الذي حمل عنوان «حدث ذلك في فلسطين في زمن شقائق النعمان»، يُقدّمُ توم سيغيف الصحافي في جريدة «هاآرتس» قراءة جديدة للسياسة البريطانية في فلسطين في زمن الانتداب محاولاً الإجابة عن الأسئلة التالية: لماذا كان البريطانيون يرغبون في احتلال فلسطين؟ ولماذا أعلنوا عن وعد بلفور؟ ولماذا تمسّكوا بسياسة الاحتلال رغم رفض السكان المحللين لهم؟ ولماذا قرروا أخيراً ترك فلسطين؟ وقد جاءت أجوبة توم سيغيف عن الأسئلة المذكورة مثيرة للدهشة إذ إنه يثبت عكس التاريخ الرسمي أن العصابات الصهيونية مثل «الهاغنا» و«أرغون» ومجموعة «شتيرن» لم تلعب أي دور في إخراج البريطانيين من فلسطين، وأن هؤلاء فعلوا ذلك بمحض إرادتهم حين اتضح لهم أنه ليس هناك هدف استراتيجي من البقاء في فلسطين. ويضيف توم سيغيف أن القوة الوحيدة التي أجبرت البريطانيين على التخلي عن فلسطين هم العرب. وما يبقى مهماً ومثيراً للجدل بحسب المهتمين بظاهرة «المؤرخين الجدد» في إسرائيل هو أن هذه الظاهرة تعكس تيارات جديدة بدأت تخترق المجتمع الإسرائيلي منذ نهاية مطلع الثمانينات من القرن الماضي. ولعلها ستزداد قوة في المرحلة الحالية التي يشهد فيها المجتمع الإسرائيلي تمزقات رهيبة لم يسبق لها مثيل. كما أن الحركات والمجموعات اليمينية المتطرفة سوف تجد نفسها عاجزة هذه المرة عن نشر الأكاذيب والأساطير. ثم إن العلمانيين المستقرين في المدن الكبيرة، وعلى الساحل المتوسطي بالخصوص، والذين يرغبون في أن يعيشوا حياة على الطريقة الغربية أظهروا خلال الفترة الأخيرة نفوراً واضحاً من سياسة بنيامين نتنياهو الذي يجسّد المشروع الصهيوني في أعنف وأشنع مظاهره.

لذلك يمكن القول إن هناك صفحة جديدة تفتح في تاريخ الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. وهي صفحة لم يكن لها مثيل على مدى الثمانين سنة الماضية.


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

محمد طرزي: استلهمت واقع المهمشين في وطني من مقولة لنجيب محفوظ

Ca-culture1-22Dec-photo1  الكاتب محمد طرزي
Ca-culture1-22Dec-photo1 الكاتب محمد طرزي
TT

محمد طرزي: استلهمت واقع المهمشين في وطني من مقولة لنجيب محفوظ

Ca-culture1-22Dec-photo1  الكاتب محمد طرزي
Ca-culture1-22Dec-photo1 الكاتب محمد طرزي

لفت الكاتب اللبناني محمد طرزي الأنظار إليه بقوة مؤخراً؛ حيث فازت روايته «ميكروفون كاتم صوت» بجائزتي «كتارا» القطرية و«نجيب محفوظ للرواية العربية» التي تمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة، وذلك في مدة وجيزة لا تتجاوز 3 أشهر قبل نهاية العام الحالي. ما يضفي على هذه الرواية دلالة خاصة في مسيرته، وطموحه لكتابة نص له طابع اجتماعي ينهل من الواقع الاجتماعي في لبنان، ويرصد المتغيرات المجتمعية من منظور إنساني.

أقام طرزي بعدد من دول شرق أفريقيا، وأعاد اكتشافها روائياً، مستلهماً التاريخ العربي في تلك الأماكن، في ثلاثية بعنوان «الحلم الأفريقي»، ومنها «عروس القمر» و«جزر القرنفل» التي تتناول تاريخ زنجبار خلال فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان.

هنا... حوار معه حول روايته الفائزة وهموم الكتابة.

* تبدو المتناقضات كما لو كانت تشكل جوهر روايتك الأخيرة «ميكروفون كاتم صوت»، بداية من العنوان حتى النهاية. إلى أي حد تتفق مع هذا الرأي؟

- هي رواية المتناقضات بالفعل. العنوان نفسه يجسد التضاد والمفارقات التي لا تلبث أن تظهر مع الصفحات الأولى للكتاب؛ حيث يبرز شاب اسمه «سلطان»، يقيم في بيت متواضع مُطل على المقبرة، يسترزق من زوار القبور، ويطمح أن يصير أديباً. صديقه «حسن» ليس بعيداً عن تلك المفارقات، فهو يهرِّب المسروقات، يتورَّط في قضايا أخلاقية ملتبسة، وفي لحظات أخرى نجده نبيلاً عبثيّاً. أما «عفاف»، فتمتلك ملهى ليليّاً، تستقبل فيه بائعات الهوى، هي أيضاً فنانة تشكيلية، حتى وإن بدت لوحاتها تافهة.

* استلهمت الرواية من مقولة لنجيب محفوظ، كيف ذلك؟

- قرأتُ مقالة في إحدى الصحف، يتحدَّث فيها الكاتب عن الوطن، واستوقفني اقتباس لنجيب محفوظ: «وطن المرء ليس مكان ولادته؛ لكنه المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب». ظل هذا الاقتباس يلاحقني حتى سمعتُ –مصادفة- شابّاً عشرينيّاً، يردِّد، في أحد المقاهي، عبر هاتفه، أنَّ كلَّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل. في اليوم التالي أنهى الشابُّ حياته لأسباب لم يتبيَّنها أحد. ربطتُ الاقتباس بالعبارة التي قالها الشابُّ بصوت متهدِّج، فإذ بفكرة الرواية تتشكَّل في مخيلتي.

* ما علاقتك بأدب نجيب محفوظ عموماً؟

- قرأتُ «محفوظ» في عمر مبكر. اهتممتُ بعدها بالرواية التاريخية، فاطلعتُ على أبرز ما كُتب وتُرجم في التخييل التاريخي، حتى وجدتني أتبنى ذلك النمط الأدبي كاتباً. بعد الانهيار الشامل الذي ألمَّ بلبنان، قررتُ كتابة رواية اجتماعية تتلمَّس حياة اللبنانيين وتقارب بصورة وجدانية ما آلت إليه أمورهم. توجَّستُ من الخطوة؛ لأنني كنت أهم بدخول نمط أدبيٍّ لم أختبره من قبل؛ لكنني ما إن شرعتُ بالكتابة، حتى وجدتني أكتب بأريحية، بتأثير ربما بما قرأته من روايات اجتماعية عظيمة لمحفوظ. فكَّرتُ وقتها أن تلك هي قوة الأدب، تنمو في داخل المرء دون أن يشعر بذلك.

* إلى أي حد يحق للأجيال الجديدة أن تتمرد على محفوظ وتسعى لتجاوزه؟

- لكل جيل اهتماماته وتطلعاته، والأجيال الجديدة لن تصغي لأحد، وستقرر بنفسها من أي معين تنهل، ومن أي نهر تروي عطشها الأدبي والإنساني. أنا شخصيّاً من جيل أولئك الذين تظل مدرسة محفوظ حاضرة في أعمالهم، لما تمثله من نموذج فني فذٍّ، يوغل عميقاً في النفس البشرية برغم الإطار المحلي لرواياته.

* تشكل المقابر -كفضاء درامي- مقبض فكرة أساسية في «ميكروفون كاتم صوت»، ألم تخش هذه الأجواء التي قد ينفر منها بعض القراء؟

- لم أفكر في هواجس القراء من هذه الناحية، فالظروف المحيطة بالرواية هي التي اختارت المقبرة فضاء دراميّاً. وحين قصدتُ أهلَ الشابِّ الذي أنهى حياته، بعد ترديده في المقهى، عبارة أنَّ «كلّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل»، وجدتُ منزله مطلّاً على المقبرة، في زمن يعيش فيه شعبي على حافة الموت، فلم أجد حيّزاً مكانيّاً أفضل، أعبِّر من خلاله عمَّا حل بأولئك الذين لا ينشدون سوى الهروب من وطن غدا أشبه بالمقبرة.

* يرى البعض أن الرواية تقدم وجهاً صادماً غير متوقع للبنان... هل تعمدت ذلك؟

- هي رواية عن المهمَّشين الذين يعانون من النظام اللبناني القائم على تبادل الخدمات، بين الزعيم الطائفي والنخب الاقتصادية التي تدور في فلكه. نسجت تلك النخب علاقات مالية مشبوهة مع زعماء الطوائف، ما فتئت تتسبب في هدر المال العام، وإعاقة تشريع قوانين عصرية. بالرغم من كل ما يحصل، وجه لبنان المشرق موجود؛ لكن تجاهل إرادة الشعب في ظل الزبائنية الحزبية والطائفية، يشوِّه وجه وطني المشرق ويهدِّده بالتلاشي.

* فازت الرواية بجائزة «كتارا» قبل فوزها بجائزة «نجيب محفوظ» بفترة متقاربة للغاية؛ كيف استقبلت الجدل والانتقادات التي أثارها البعض حول تلك الجزئية؟

- شرَّفتني «كتارا» بضمِّي إلى لائحة الفائزين بها، وكذلك فعلت جائزة «نجيب محفوظ» للأدب. لعلَّ ذلك يحصل للمرة الأولى، ما لفت الانتباه وأثار التساؤلات، ولكنْ حقيقة أن ذلك يمثِّل سابقة، لا يعني أن لا حقَّ للرواية في نيل جائزتين، ما دامت تلك إرادة أعضاء لجنتي التحكيم، وفي سياق عدم مخالفة شروط الترشُّح؛ لأن رواية نجيب محفوظ لا تشترط عدم فوز العمل المقدم إليها بجائزة أخرى. الأهمُّ بالنسبة إليَّ، وسط هذا الجدل، أن الجائزتين العريقتين ساهمتا في منح الرواية صوتاً قويّاً، يتردَّد صداه حالياً لدى كثير من القرّاء.

* كيف ترى جدل الجوائز الأدبية في الثقافة العربية عموماً؟

- أُدرجتْ أعمالي على قوائم الجوائز المختلفة، وفازت بأربعٍ منها، ما ساهم في إيصالها إلى نقَّاد وقرَّاء جدد، بعضهم أصبحوا أصدقاء. بهذا المعنى، خدمت الجوائزُ مشروعي، وأرى أنها تخدم غيري من الكُتَّاب، وتساهم في تعزيز المشهد الثقافي العربي. الجدل وسط الكُتَّاب حول الجوائز مردُّه اعتقاد طبيعي لدى الكاتب أن كتابه جدير بالفوز. أتفهَّم هذا الشعور، فالكتابة عمل معقَّد، تستنزف طاقة الكاتب، ما يشعره أو يوهمه بأنه بصدد نصٍّ استثنائي، ليجيء تقييم اللجان مغايراً لرغبته. في نهاية المطاف، تقييم الأعمال الأدبية يعتمد على ذائقة لجان التحكيم، ما يعقِّد النقاش حول أحقية فوز هذه الرواية أو تلك.

* هل استطاع الأدب اللبناني التعبير عما تعيشه البلاد من تحولات عنيفة اقتصادياً واجتماعياً؛ فضلاً عن اشتعال المواجهة مع إسرائيل؟

- لم يعبِّر الأدب اللبناني بما يكفي عما تعيشه البلاد من تحوُّلات، ربما لأن الحدث لا يزال قائماً. ما يحملني على الظنِّ بأن ثمة أعمالاً في طور الكتابة أو النشر. لاحظتُ أن الأدب اللبناني يدور اليوم في فلك «الديستوبيا»، أو يتمحور حول القيم العالمية المتمثلة بالنسوية. بعض الأعمال أشارت إلى انفجار المرفأ في 4 أغسطس (آب) 2020. بالنسبة إلى المواجهة مع إسرائيل، فإن الأعمال الأدبية التي تناولت هذا الصراع القائم منذ أكثر من 75 عاماً، قليلة جدّاً، إذا ما قورنت بروايات الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً، وهو أمر مستغرب.

* هل يمكن أن تشهد الثقافة اللبنانية ازدهاراً لما يسمى «أدب الحرب»؟

- ازدهر أدب الحرب الأهلية اللبنانية وسط الأدباء، كما لم يزدهر أي نمط أدبي آخر. استوقفني إصرارهم على التركيز على تلك المرحلة من تاريخنا، برغم كل الحروب والأزمات التي مررنا بها. حرب يوليو (تموز) 2006 -على سبيل المثال- لم تترك بصمة قوية في الأدب اللبناني. لذلك، من الصعوبة التكهُّن حول دور الحرب الأخيرة في المشهد الأدبي.

* ما السر وراء أعمالك المتوالية عن شرق أفريقيا؟ وهل استطعت اقتناص جوهر القارة السمراء من الداخل؟

- لم أعرف شيئاً عن تاريخ العرب في شرق أفريقيا، قبل سفري إليها منذ أقل من عقدين. شكَّل اكتشافي الإرث العربي هناك صدمة ثقافية. فعمدتُ إلى التنقُّل بين دول المنطقة التي مثَّلت إمارات عربية لقرون من الزمن. ثم مع انكبابي على قراءة الكتب والدراسات التاريخية ذات الصلة، لاحظتُ أن لا وجود لروايات عربية حول تلك الحقبة، بخلاف الاهتمام الذي أولاه الأدباء العرب للأندلس. عددتُ شرق أفريقيا أندلساً منسيّاً. كان ذلك عام 2012، حين شرعتُ بكتابة «جزر القرنفل»، وهي رواية عن زنجبار، خلال فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان، أعقبتُها بثلاث روايات عن أماكن أفريقية أخرى، نالت نصيبها من الحضور العربي. بهذا المعنى، ليست الغاية من الكتابة عن أفريقيا اقتناص جوهر القارة السمراء، بقدر ما هي مسح الغبار عن الزمن العربي المنسي هناك.

* ألم تخشَ عند كتابتك عن أفريقيا أنك لست مواطناً أفريقياً لا تعرف المجتمعات المحلية جيداً، وبالتالي يمكن أن يفتقد النص العمق المطلوب؟

- بعد عشرين عاماً من الإقامة في أفريقيا، أشعر أنني أفريقي بقدر ما أنا لبناني عربي، ومع ذلك فإنني لم أكتب عن المجتمعات المحلية؛ بل كتبتُ عن تاريخ العرب في تلك المنطقة. بمعنى آخر: لم أبتعد كثيراً عن المجتمعات العربية، وإن كان الإطار المكاني للروايات أفريقيا السمراء.

* هل لديك فلسفة معينة في اختيار عناوين رواياتك؟

- بديهياً يجب أن يعبِّر العنوان عن كُنه الرواية، ولا ألجأ لعنوان لافت لجذب اهتمام القارئ، إلا إذا وجدته يعبِّر أكثر عن روح النصِّ وجوهره. مع الشروع بكتابة أي رواية أضع عنواناً مؤقتاً، على الأقل لحفظ الملف في الكومبيوتر، ولكنْ مع مواصلة السرد، تختار الرواية عنوانها بنفسها، وتفرضه عليَّ. في رواية «ميكروفون كاتم صوت»، لم أختر العنوان حتى الصفحات الأخيرة، حين وجدتْ «عفاف» نفسها محاصرة بالظلام، تخنقها روائح النفايات، بينما المكبرات تزعق بقوة حولها، مانعة إياها من التفكير أو الصراخ. في تلك اللحظة الدرامية، اكتشفنا سرَّ الميكروفونات معاً، وانفعل كلانا لاكتشافنا المتأخر.

* كيف ترى الانتقادات التي يوجهها البعض إلى الرواية التاريخية، من أنها تعكس نوعاً من الاستسهال لدى المؤلف؛ حيث إن معظم عناصر العمل متوفرة، وبالتالي تعد «خياراً آمناً»؟

- لعلَّ العكس هو الأصحُّ. كتابة الرواية التاريخية أصعب من كتابة الرواية الاجتماعية المستقاة من أحداث معاصرة، بحيث تكون شخصياتها تجسيداً لشخصيات حقيقية ومرئية. كما أن الرواية التاريخية تعود إلى حقبة زمنية أخرى، ما يحتِّم على الكاتب البحث عنها والتمحيص فيها، فضلاً عن تكبيله بحقائق تاريخية لا يمكن التملُّص منها. وقد تغدو المهمة أكثر تعقيداً في الرواية التي تتناول شخصيات تاريخية؛ لأن حرية الكاتب تصبح محدودة للغاية في رسم تلك الشخصيات، وتحديد مساراتها.

* كيف ترى علاقتك بالأجيال السابقة في الأدب اللبناني؟ وهل ترفع شعار: أنا أديب بلا أساتذة؟

- قدَّم لبنان أديبات وأدباء كباراً، عرفتُ بعضهم شخصيّاً، ورحل بعضهم قبل أن أحظى بهذه الفرصة. من الأعمال الأدبية البارزة التي تأثرتُ بها روايات جبور الدويهي، وأمين معلوف، وحنان الشيخ... للحق، إن كان لا بدَّ من شعار أرفعه، فإنني أرفع شعاراً معاكساً لما ذكرتِه في سؤالك.