نساء وجثث في أعمال فوكنر وموريسون وخال وآخرين

روايات تنتمي إلى أمكنة وأزمنة متباعدة نسبياً

نساء وجثث في أعمال فوكنر وموريسون وخال وآخرين
TT

نساء وجثث في أعمال فوكنر وموريسون وخال وآخرين

نساء وجثث في أعمال فوكنر وموريسون وخال وآخرين

ليست ممكنةً المجادلةُ في أن موضوع المقالة-العرض يُشَكِّلُ ظاهرة سردية أدبية في الإبداع السردي المحلي أو الإقليمي أو العالمي، إذ لا يعدو كونه ثيمةً تتكرر في ثلاث قصص وثلاث روايات تنتمي إلى أمكنة وأزمنة متباعدة نسبياً، وتقع الأحداث فيها في أمكنة وأزمنة مختلفة ومتباعدة نسبياً أيضاً. لكنه قابلٌ في الآن ذاته للاتساع ليكون ظاهرة في حال وجود نصوص سردية أو غير سردية موزعة على رقعة واسعة من العالم وتعالج الموضوع الذي أتطرق إليه.

القصص والروايات المشار إليها آنفاً: قصة ويليام فوكنر «وردة لإميلي»، ورواية «أغنية سليمان» لتوني موريسون، ورواية إسماعيل فهد إسماعيل «السبيليات»، ورواية «وشائج ماء» لعبده خال، و«حاملات الجثث» قصة ج. ج. سلفرمان، و«المرأة التي تحمل جثة» قصة تشي هوييْ (ترجمتها من اللغة الصينية جوديث هوانغ). يعرض كل نص منها امرأة - أو نساء كما في إحدى القصص- ترتبط بجثة، لأسباب وغايات بعضها يمكن إدراكها أو الحدس بها، وبعضها غير واضح حتى للشخصية نفسها. وتتباين ارتباطات الشخصيات بالجثث أو الرفات من ناحية تأثيرها عليها (الشخصيات) أو على من حولها، أو في فهم القارئ لها. بالمجمل تؤسس تلك الارتباطات بالجثث بعض ما يميز تلك الشخصيات عن غيرها في العمل نفسه، أو في أعمال أخرى.

عزلة وزرنيخ ونكروفيليا

عند الكتابة عن «وردة لإميلي»، يستحيل نسيان الجثة المحبوسة في الغرفة في الطابق العلوي لأربعين سنة في منزل الآنسة إميلي غريرسون. فبعد وفاتها تقاطر الناس إلى بيتها لإلقاء نظرة على جثمانها، الرجال بدافع «الاحترام تجاه معلم تذكاري قد هوى»، أما النساء فكان يحدوهن «الفضول لرؤية داخل منزلها الذي لم يره أحد... منذ ما لا يقل عن عشر سنوات خلت» (ترجمة سامر أبوهوّاش، 173).

بعد مواراة جثمانها الثرى، يقتحم المشيعون باب الغرفة المغلقة ليكتشفوا أنها مؤثثة كغرفة عرس، وعلى السرير جثة رجل، في وضعية العناق، وعلى الوسادة بجانبه «فجوة أحدثها رأس» وخصلة شعر رمادي قاتم. هنا يدرك القارئ، مثل أهل المدينة، أنها جثة مشرف العمال الشمالي «اليانكي» هومر بارون الذي رافقته إميلي حيناً من الوقت ثم اختفى، وظل اختفاؤه لغزاً. ويتذكر القارئ، أيضاً، الزرنيخ الذي حكى الصيدلاني للناس أنها اشترته، ورائحة العفن التي انبعثت من بيتها بعد ذلك. بلملمة هذه الخيوط تتشكل حكاية أنها قتلت بارون واحتفظت به ومارست «النيكروفيليا» معه.

خلال قراءته للنص، يتساوى القارئ مع أهل المدينة في عدم معرفة ما يحدث في بيتها بسبب توظيف فوكنر السارد بضمير المتكلم الشاهد الذي يتكلم بلسان مجتمعه، مما يُفْقِدُ القارئ التفوقَ المعرفي الذي يحدث عادةً في وجود السارد العليم فيما يسمى المفارقة الدرامية، حيث القارئ يعرف أكثر مما تعرفه الشخصيات، أو ما لا يمكنها معرفته.

امرأة ورفات وحمار

بعد انقضاء سنتين منذ وصولها وأبنائها وأحفادها وحميرهم التسعة للإقامة في الشمال، تقرر أم قاسم العودة وحدها إلى «السبيليات» في الجنوب؛ قريتهم التي أُخْليت من سكانها، مثل قرى أخرى، تنفيذاً لقرار القيادة العراقية إخلاء القرى والبلدات القريبة من ساحات المواجهة بين الجيشين العراقي والإيراني.

وتتوجه أم قاسم وأبو قاسم المريض وأولادهما وأحفادهما وحميرهم شمالاً، لينتهي بهم الترحال في «الطرف الجنوبي لمقبرة النجف الكبرى» (12)، حيث يقررون الإقامة، ولكن بدون أبو قاسم الذي وافته المنية في اليوم الثالث من سفرهم، فدفنوه بين نخلتين على جانب الطريق الدولية عند «المشارف الشمالية لمدينة الناصرية» (11).

تقرر أم قاسم العودة إلى «السبيليات» مدفوعة بالحب والاشتياق والحنين إلى مسقط رأسها، وذكريات الطفولة والصبا وحياتها مع أبو قاسم، إذ لم تحتمل البقاء في الشمال لأنها كانت تحس بالاختناق في الغربة، و«غير قادرة على تقبل واقع بقائها حيث الزمن مفتوح لا نهاية له». وتنطلق في رحلتها بصحبة حمارهم «قدم خير». وبعد سير يومين، تصل إلى قبر أبو قاسم وتنبشه لنقل رفاته، لأنه صارحها في إحدى زياراته لها في حلم بعدم ارتياحه في قبره بأرض قفر، ولن تطيب له الإقامة إلاّ في السبيليات.

تلف أم قاسم رفات زوجها وتيمم و«قدم خير» صوب السبيليات. رحلة امرأة ورفات وحمار، عنوانها الوفاء والحب والحنين إلى المكان الأول.

الجثة وتلك الرائحة في «وشائج ماء»

بين حليمة وأبيها الولي علاقة قوية، جعلتها لا تفكر في دفنه في مقبرة، بعيداً عنها. فأمرت ابنتها أروى بألاّ تخبر أحداً عن موته. وبعد غسله وتكفينه، استعانت بمجموعة من العُمّال الأفارقة لحفر قبر في الفناء، مُدّعيةً وجود أوانٍ نادرة في أكياس الخيش التي غطت بها جثمان أبيها. إصرار مليحة على الاحتفاظ بجثة أبيها يشبه إلى حد ما رفض إميلي فكرة دفن أبيها، قبل إذعانها في النهاية لتهديد القساوسة والأطباء «باللجوء إلى القانون والقوة». ويبدو أن ما لم يتحقق لإميلي مع جثمان أبيها تحقق مع هومر بارون الذي قتلته واحتفظت بجثته وفعلت معها ما فعلت كما يشي منظر الجثة في السرير. لكن مليحة لا يوجد من يمنعها من دفن أبيها في البيت، رغم الأذى والمعاناة اللذين يسببهما ذلك لأفراد أسرتها.

يروي حفيدها أمين عن معاناته من العفونة المنبعثة من قبر جد أمه ويُعبِّر عن استغرابه من قدرة تحمل رئتي جدته لتلك الرائحة، فلم يرها تتأفف أبداً. وبسبب رائحة بيتهم النتنة انهالت السخرية على سمعة أمه، كما عانى من ابتعاد أقرانه عنه. وبلغت المعاناة ذروتها في تحمل عناء الارتحال من بيت لآخر بسبب تأذي وشكوى الجيران من الرائحة، ما جعله لا يشعر بعلاقة حميمية مع ستة من البيوت التي سكنوها. أما في السابع، فالقبر فقد رائحته الكريهة وأصبح مزاراً. يبدو أن مليحة تحقق لها ما تريد.

انتشار الرائحة في الفضاء والمكان نقطة التقاء أخرى لرواية خال وقصة فوكنر.

حاملة الجثة والمجنون

من الشمال جاءت المرأة حاملة الجثة، يقول السارد مستهلاً قصة تشي هويي. ثمة تباين وتناقض واضحان في الشكل والمظهر بين المرأة والجثة: المرأة بشعرها الأبيض ووجهها الذي نبتت فيه الأخاديد والتجاعيد وجسمها الموسّم بالجروح والرضوض، بينما تبدو الجثة مصقولة وبرّاقة، بملابس فاخرة وألوان لامعة وزركشة ذهبية، فكأنها (الجثة) تعرض ثراءها، حسب قوله. منظر لافت كفاية لجذب الأنظار وإثارة الأسئلة الفضولية. فتتغير هوية الجثة حسب السائل ونوع السؤال.

لا تتذكر المرأة متى بدأت تحمل الجثة، العبء الذي لا تستطيع المشي بدونه، أو لا تريد التخلص منه أو لا تقدر على ذلك لأنها جثة أحد أقاربها، كما تقول لسائليها وآخرهم المجنون. لكنها تظهر في النهاية مبتهجة، تغني مع المجنون احتفالاً بالتخلص من الجثة عندما أثار كلامه فضولها فالتفت للخلف، لأول مرة، بقامة منتصبة لتنظر إلى الجثة، فانزلقت الجثة عن ظهرها. كان المجنون قد قال لها إن الجثة «ربها» الذي على ظهرها، نبت عليه العشب وأزهر وأثمر فاكهة.

تتباين ارتباطات الشخصيات بالجثث أو الرفات من ناحية تأثيرها عليها أو على من حولها، أو في فهم القارئ لها

مدينة حمّالات الجثث

في قصتها «حاملات الجثث»، تدفع ج.ج. سلفرمان بالثيمة-الفكرة إلى مستوى عال من الغرابة والقبح، بتصوير مدينة كاملة، الإناث فيها يتوزعن في ثلاث فئات: النساء اللاتي أعفين من حمل الجثث المحنطة لكبر سنهن، والنساء اللائي على رأس العمل-الحمل، ومن يتنظرن التكليف بالحمل المفروض مجتمعياً. كان الأمرُ عادةً في البداية ثم أصبح قانوناً يُنفَّذُ كل عام بإقامة طقس لتكليف الفتيات عندما يبلغن سناً معيناً. أما الذكور، الأولاد، فمعفون من حمل الجثث. تقول الفتاة الساردة: «الأولاد لا يحصلون على جثث. يتجولون بدون أعباء، يتمتعون بالحرية لفعل كل ما يريدون». أما الفتيات فَيُلَقّنّ أنهن محظوظات لتعلم معنى الحياة، والنظر إلى الموت في عيونه، ولفهم التضحية بعمق. إن حمل الجثث سيجعلهن أفضل.

قبل طقوس التكليف، تتكرر ما تسميها الساردة «جائحة» الظهور والأذرع والسيقان والأعمدة الفقرية المكسورة عمداً للتهرب من حمل الجثث، أو الهروب، والأخير أحد الخيارات التي تفكر فيها الساردة. تنتهي القصة بدفنها جثة خالها توأم أمها، العبء الذي حملته شقيقته إلى أن لم تعد قادرة على حمله.

وينتهي عرض حكايات حاملات الجثث، بـ«بايليت» موريسون، المرأة بدون سُرّة، صاحبة الاسم الخارج من الكتاب المقدس، الحكواتية و«المركز الأخلاقي» في الرواية، وأشياء أخرى. كانت تعتقد أن الكيس الأخضر الذي تحمله، طول الوقت، يحوي عظام الرجل الأبيض، وآخرون يظنون أن فيه ذهباً، لتعلم، قبل مقتلها، أنها كانت تحمل عظام أبيها.

* ناقد وكاتب سعودي


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.