نار الحب الموزعة بين العذوبة والعذاب

طبيعته المتناقضة جعلته يختزل في داخله عناصر الوجود الأربعة

صادق جلال العظم
صادق جلال العظم
TT

نار الحب الموزعة بين العذوبة والعذاب

صادق جلال العظم
صادق جلال العظم

لطالما وجد الفلاسفة والدارسون والباحثون في شؤون الحب أنفسهم عاجزين تماماً عن تقديم تعريف حاسم ونهائي لهذا النزوع الإنساني الذي ندر أن أفلت أحد من شِباكه وأفخاخه. ليس فقط لأن مفهوم الحب وطبيعته ظلا على امتداد العصور عرضة للتبدل والاختلاف، وفقاً لتبدل المجتمعات وتطور بُناها المادية والثقافية ومفاهيمها الأخلاقية، بل لأن جزءاً غير قليل من هذا النزوع ظل فردياً بامتياز، وقادراً على الإفلات من المشترك السلوكي الجمعي، ليتخذ أشكالاً تتعدد بتعدد المحبين أنفسهم، وبتجاربهم العاطفية التي تمتلك كل منها بصمتها الخاصة ومسارها المختلف.

الواقع أن الطبيعة المحيرة للحب لا تنحصر في التجارب المتباينة للعشاق والمحبين، بل هي في إطارها الفلسفي والنظري تتخذ أبعاداً أكثر اكتظاظاً بالمفارقات، حيث يتخذ الحب صفة الشيء ونقيضه، وحيث تتقاطع داخل هذا الدافع الإنساني الملغز عناصر الوجود الأربعة، النار والماء والتراب والهواء، كما يندر أن تتقاطع في أي أقنوم آخر. وليس على الدارس المتقصي سوى أن يتوقف ملياً عند ما أنتجه البشر عبر تاريخهم الطويل من أساطير وملاحم وفنون وسرديات شعرية ونثرية، لكي يعثر على الأدلة والشواهد التي تضعه وجهاً لوجه أمام وجوهٍ وصورٍ للحب متغايرة إلى حد التناقض.

وإذا كان الفلاسفة والكتاب والفنانون قد ذهبوا منذ القدم إلى إقامة نوع من النسب الرمزي بين النار والحب، فلأنهم رأوا في هذا الأخير ما يؤجج داخل القلب الإنساني مشاعر شبيهة بالحرائق، يتعذر في مراحلها المتقدمة إخمادها والخروج منها. وقد حرص جيمس فريزر في كتابه «الغصن الذهبي» على تعقب الدلالات المختلفة للنار، سواء في بعدها الديني والماورائي، أو في أبعادها الأخرى المرتبطة بالحب وطقوس الجنس المقدس عند الشعوب القديمة. فقد كان الأقدمون، وفق فريزر، يعدّون النار مطهراً قوياً يستطيع أن يقضي على كل ما هو فانٍ في الإنسان، لكي لا تبقى منه في نهاية المطاف إلا روحه الخالدة. وقد يكون الارتماء في أحضان النار نوعاً من الاحتجاج على هجر الشخص المعشوق وصدوده، أو تخلصاً من لجاجة شخص مكروه، كما فعلت أليسار مؤسسة قرطاجة، بعد أن ضاقت بها السبل. كما أن الالتحاق بالحبيب الميت والانصهار برفاته هو الدافع الأهم الذي يملي على النساء المتزوجات أن يقذفن بأنفسهن بعد رحيل أزواجهن في أتون النيران، في بعض مناطق الكوكب ونواحيه.

على أن أي مقاربة عميقة للعلاقة التي تربط النار بالحب، لا يمكن أن تتم دون التوقف ملياً عند كتاب «النار والتحليل النفسي» للفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، الذي استطاع أن يتعقب تلك العلاقة من منظور الفلسفة والأسطورة والشعر، دون أن يغفل الموروثات والمعتقدات الشعبية المتصلة بهذا الشأن. فالنار كما يذهب صاحب «جماليات المكان»، لم تتولد من احتكاك حجرين أو قطعتي خشب، بل من احتكاك جسدين عاشقين، بما يجعلها ابنة الإنسان أكثر من كونها ابنة الأخشاب والأحجار. كما أن غزو النار هو ما فصل الإنسان عن الحيوان، حيث اللهب ينبثق من قلب الإنسان عاشقاً ومبدعاً في آن واحد. ولأن للنار هذه المكانة المؤسسة للحياة والفن، نستطيع وفق باشلار، أن نعدَّ بروميثيوس عاشقاً وشاعراً أكثر منه فيلسوفاً، ونستطيع أن نتيقن من أن الغيرة مما يمكن أن يصبح عليه البشر المتسلحون بالنار هي ما أوغر صدر الآلهة للانتقام من الإنسان، ودفعها لأن تنزل به عقابها الأبدي.

لويس أراغون

ولعل مقولة صادق جلال العظم المعروفة حول نسبية الزمن، وضرورة التمييز بين زمن الكثافة السريع الذي يمثله الحب، وزمن الامتداد البطيء الذي يمثله الزواج، هي تأكيد إضافي لما ذهب إليه باشلار، من أن «كل ما يتغير بطيئاً تفسره الحياة، وكل ما يتغير سريعاً تفسره النار». على أن الفيلسوف الفرنسي وهو يمعن في مواءمته بين أقنومي النار والحب، حرص في الوقت ذاته على التمييز بين النار الملتهبة التي تحرق كل شيء، كما هي حال نار الجحيم، وبين نار المواقد المنزلية الشتوية التي يكفينا أن نضع جمرة مقابل الأخرى، حتى تُشيع في دواخلنا نوعاً من الدفء الفردوسي الموزع بين العذوبة والعذاب، حيث الافتتان «يتم بصوت خافت تحت رماد الشتاء، فيما القلب، شبه نار مغطاة يستهلك نفسه ويغني».

وسواء اتخذ الحب مع بلوغه حالة الوجد والهيام صورة النار المتأججة، أو بدا على صورة نار خفيفة وملطفة، فهو قادر على رفد الأدب والفن ببعض أفضل تجلياته وأكثرها صلة بشغاف القلب وحرقة الكائن الإنساني. وقد تكون الشاعرة اليونانية سافو المولودة في القرن السابع قبل الميلاد، التي قضت انتحاراً بسبب قصة حب فاشلة، إحدى أكثر شاعرات العصور القديمة جرأةً وتعبيراً عن ضراوة الحب وفتنته، الأمر الذي حدا بفريدريك هيغل لأن يصف المرأة التي أحرقت الكنيسة القسم الأكبر من قصائدها بالقول «إن شعرها يُظهر لهيب الدماء المضني، أكثر من الشعور العميق للمزاج الذاتي». وقد استمر اللهيب إياه بتغذية الشعر الغربي في العصور الوسطى، بخاصة مع الشعراء الفرسان الذين عرفوا بالتروبادور، وصولاً إلى عصرنا الراهن، حيث يعلن أراغون في ديوانه «مجنون إلسا»:

الحب والموت لهما البريق إياه

أريد أن أرى طرَف ذاتي

أوقِدوا النار

فها إنني أُحب

ورغم أن الشعراء العرب الأقدمين لم يكن يعوزهم المزيد من النيران، وهم الذين عاشوا في حمأة الصحراء ولفحها الشمسي، فقد عبّرت قصائد عشقهم عما كابدوه من جمر المكابدات ولهب الشوق، الذي لا تكاد اللقاءات العابرة تخفف من وطأته، حتى يتسبب الفراق في تأجيجه مرة أخرى. وفي «مصارع العشاق» يروي أحمد بن الحسين السراج أن مُساور الوراق تلا على مسامع أحد مجانين بني عذرة، ممن اختلطت عقولهم بفعل الحب، بيتاً من الشعر يقول فيه:

وما الحب إلا شعلةٌ قدحتْ بها

عيونُ المها باللحظ بين الجوانحِ

وحين طلب الوراق من صاحبه المجنون أن يُجيزه، أجابه الأخير دون إبطاء:

ونار الهوى تخفى وفي القلب فعْلها

كفعل الذي جادتْ به كفُّ قادحِ

ومع أن بعض من وقعوا في شرك الحب، قد حاولوا الالتفاف على دوامته المحيرة، مبتكرين لأنفسهم مخارج عدة، بينها البحث عن حب بديل أو مشاغلة أنفسهم بالتهالك على الملذات والمتع الدنيوية الصرف، إلا أن محاولاتهم تلك قد باءت بالفشل، ولم تكن «الرشى» المتنوعة التي قدموها لإرضاء الجسد الشهواني، قادرة على إطفاء ما تعاظم في داخلهم من ظمأ القلب وحرائق الروح. وفي ذلك يقول محمد بن النضر الفهري:

زعموا أن من تشاغل باللذات عمّن يحبه يتسلّى

كذبوا والذي تساق له البُدْنُ ومن عاذ بالطواف وصلّى

إن نار الهوى أحرُّ من الجمر على قلب عاشقٍ يتقلّى

إلا أن الجانب الناري من الحب هو الذي يفسر بالمقابل عدم قدرته على الصمود طويلاً في وجه الزمن، حيث في حياة قصيرة وزائلة، ليس الثبات ولا الديمومة صفتين من صفات البشر، بل التحول والذبول والزوال، وحيث كل ما يشتعل بوتيرة شديدة وسريعة، لا بد له أن ينطفئ بالوتيرة نفسها. وإذ عدَّ بعض الدارسين أن القوة الافتراضية للعصف العاطفي الذي يثيره الحب في قلوب البشر لا تتجاوز على المستوى الزمني السنوات الثلاث، فإن البعض يرى أن النار قد تصاب بالعقم عندما تبلغ سناً بعينها، مثلها في ذلك مثل أي قوة منجبة. وإذا تُركت النار تعيش حياتها الطبيعية، هرمت وماتت كما يهرم ويموت الحيوان والنبات، حتى لو قمنا بتغذيتها.

مدركين هذه الحقيقة، عمل الشعراء والمبدعون، والعذريون منهم على خطين اثنين، يتعلق أولهما بجعل الغياب الطرف الثالث الذي لا بد من وجوده لمنع العلاقة بين الحبيبين من الترهل والانحسار، وإبقائها في حال التوهج المستمر. ويتعلق ثانيهما بالاستثمار الإبداعي النرجسي لحالة الفقدان، بحيث يُعاد تأليف المرأة المعشوقة من هذيانات التخيل الشعري وحمّى الرغبات المكبوتة، لا من التشكلات الزائلة للّحم والدم. ولم يكن قول جميل بن معمر «يموت الهوى مني إذا ما لقيتها، ويحيا إذا فارقتها فيعودُ»، سوى ترجمة صادقة لرغبته في استيلاد بثينة من رحم الحرمان وهواماته المتخيلة. ومع أن محيي الدين بن عربي قد ذهب لاحقاً إلى القول بأن «كل حب يسكن باللقاء لا يعوّل عليه»، فإن صاحب «الإشارات الإلهية» لم يكن على الأرجح يحمّل اللقاء المقصود، المعنى الذي يحمله الزواج، حيث في أغلب الحالات لا يتبقى من الحب سوى ما يتبقى من الجمر بعد تحوله إلى رماد. وهو عين ما قصده إريك فروم في كتابه «فن الحب»، حين قال «إن الإنسان يتوق إلى الحب الضائع، ويشغف به أشد الشغف. إذ ما الذي كان سيحدث لو أن جولييت بقيت مع روميو وتزوجت منه؟».



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.