مع الأنصاري في توفيقيته (صراع الأضداد)! (1-2)

مساجلات مع القصيبي ومعارك أدبية حول الالتزام وكتاب الموجة الجديدة

محمد جابر الأنصاري
محمد جابر الأنصاري
TT

مع الأنصاري في توفيقيته (صراع الأضداد)! (1-2)

محمد جابر الأنصاري
محمد جابر الأنصاري

كان أبي يأخذني إلى الدور الرابع من بيتنا القديم. وهناك تنتصف لحظة لها جناحان! فعلى يساري تتوهج غابة النخل ريشاً أخضر. وعلى اليمين تنبسط زرقة الخليج، لازوردية تتماوج في عيني الطفلة، بتشكيلات مثيرة من أجنحة النوارس البيضاء، وشباك الصيادين، وحوريات البحر.

استكمالاً لبناء الصورة الأسطورية في مخيلتي عن عالم البحر، بلآلئه وأسماكه وجنياته، بسفنه وصياديه وغواصيه، طفقت أرسم السؤال ملحاحاً في صدر أبي... عن البحرين... فيشير بيده الساطعة... إنها هناك. ويضيف وهو يحملني على كتفه: بإمكانك أن تراها، بمجرد أن تتبع خط سير السفن الشراعية، المحملة بالتمر والموز واللوز والليمون، وهي تمخر عباب البحر إلى المنامة.

سألت أبي ذات مرة: ألم تذهب إلى البحرين؟ فأجابني: بلى... لقد زرتها بقصد العلاج في مستشفى الإرسالية الأميركي!! وقد قضى فيها شهراً أو يزيد، كان خلالها ممتلئاً بصور مدهشة غريبة عن سياقه الاجتماعي. فهناك وجد الناس يرتدون أزياء «عولمية» بهيئة لم يألفها، ويتكلمون بألسن مختلفة، حتى أن الاقتراض اللغوي من الهندية والفارسية والإنجليزية كاد يؤثر على فصاحة أبنائها العربية. الطرق هناك نظيفة، والأسواق منظمة، والوجوه تفيض بالحيوية والتحدي، فالناس معظمهم متعلمون، أصحاب هوايات، ورياضات، يقرأون ويلعبون، يمتطون الحمير، و«حصان إبليس»، ويركبون السيارات! يجدون في أوقات الجد، ويهزلون في أوقات الهزل.

علي عبد الله خليفة

يوماً بعد يوم، وسنةً وراء سنة، كان اسم البحرين يكبر في رأسي، ويمتلئ بها وجداني، وأنا أنصت إلى الحكايا عنها، في البيت والسوق والمقهى، حتى استجد بعد ذلك عامل له الأثر الحاسم في بناء الصورة وتفكيك المخيلة.

إنه الصوت الآتي عبر المذياع، وهو يحمل فخامة الأداء في صوت إبراهيم كانو وأشعار إبراهيم العريّض، وآراء حسن جواد الجشي، وأحاديث محمد جابر الأنصاري، وبرنامج علوي الهاشمي وبهية الجشي الأدبي.

إذن... فالبحرين على عتبة الاستقلال الوطني.

وهنا قررت اختراق هذا العالم المتخيل، وكنت أتخطى السابعة عشرة... راكباً السفينة من ميناء الخبر، في منتصف نهار قائض، لأقضي ساعات أربع بين أقفاص الدجاج، وقلات التمر، مع مجموعة من المسافرين، بينهم فلاحون عجزة من القطيف، وشباب من عمال شركة «أرامكو»، وفد هؤلاء وغيرهم على البحرين لقضاء حاجاتهم أو إجازاتهم الصيفية أو الأسبوعية، بين أقاربهم أو معارفهم في هذه الجزيرة السحرية العجيبة. غير أن الرحلة مع بكارتها لم تكن رومانسية! فحين وصلنا ميناء المنامة، لم تأخذنا السفن الشراعية الصغيرة إلى «الفرضة» كما فعل الزمان قبل قرن بأمين الريحاني الشاعر والأديب والرحالة الذي فتن بالشيخ المستنير إبراهيم بن محمد آل خليفة، الذي فصل فيه القول د. الأنصاري... وكذلك المفكر الألمعي د. نادر كاظم في كتابيهما عن هذه الشخصية المتنورة... لكني سنة 1971 لم أجد تلك النجوم الرقراقة المنعكسة على صفحة البحر، التي وصفها في كتابه «ملوك العرب»، ولم أر الحمير والأتن التي كانت تملأ الطرق والأسواق.

لقد وجدتني وكأنني في القطيف! فسوق السمك في المنامة هو سوق السمك في حي الشريعة، وفلاحو جد حفص هم فلاحو القديح، ونخل سترة هو نخل أم الحمام، وعين عذاري هي عين داروش، وعمال المحرق هم عمال الدمام، وشارع الشيخ عبد الله هو سوق الصكة.

إبراهيم العريض

إذن ما الذي استلفت نظري. في ذلك الصيف المبهر؟ إنه سينما أوال، ونادي العروبة، والمكتبات، وأسرة الأدباء والكتاب، وتلك الكوكبة المشرقة بالحيوية والإبداع. علوي الهاشمي، وعلي عبد الله خليفة، وقاسم حداد، ومحمد عبد الملك، ومحمد الماجد.

كان هؤلاء شعراء وقصاصو الموجة الجديدة يحتلون موقعاً جيلياً واقعياً حداثياً، أشب من جيل حسن جواد الجشي، ومحمد جابر الأنصاري وعبد الله الشيخ جعفر القديحي وغازي القصيبي وعبدالرحمن رفيع... بينما كان إبراهيم العريّض يحتل موقعه الرومانسي والانطباعي مجدداً وحده في مجال الشعر والدراما والنقد.

هكذا وجدته وأنا أتردد عليه ضحى كل يوم في متجر أحد أصدقائه في شارع الشيخ عبد الله، محاطاً بهالة أسطورية.

لم لا؟!

وقد تخطت سمعته ناقداً أدبياً ومترجماً لرباعيات الخيام حدود البحرين إلى آفاق العالم العربي... لكن من افتقدته هو محمد جابر الأنصاري، وكان محاطاً بهالة رئاسته لدائرة الإعلام (أي وزيرها) قبل استقلال البحرين، وكذلك المعارك الأدبية التي خاضها في الصحافة، بعد عودته من الدراسة الجامعية في بيروت، بعد ابتعاثه لدراسة اللغة العربية والأدب في جامعتها الأميركية، حيث جرت معركة أدبية بين محمد جابر الأنصاري والصحافي محمود المردي، الذي زرته في مكتب جريدته «الأضواء»، وقد انتصر الأنصاري للشعراء والقاصين الجدد من الشباب، الذين وصفهم المردي بـ«المتأدبين»! راداً عليه الأنصاري، مؤكداً أنهم أدباء وشعراء لهم تجاربهم المميزة، داعياً المردي إلى أن يركز على الشؤون الصحافية الخاصة بارتفاع أسعار البصل والطماطم ومشكلات البلدية، ويترك الشؤون الأدبية للمختصين!

غازي القصيبي

وقد أوضح علي الشروقي أنّ سعة الصدر التي تمتع بها الأستاذ محمود المردي كانت مميزة، فقد خصص ما يقارب ربع عدد صفحات الجريدة لهؤلاء الأدباء الشباب، وأصبح أكبر داعم لهم. بل إنه ملك من الشجاعة الأدبية بأنه كان ينشر المقالات التي كان فيها نقد شديد له شخصياً، من ضمنها المقال شديد اللهجة الذي كتبه الأنصاري، ينشرها كاملة بسعة صدر، دون أن يقتطع كلمة واحدة منها.

أما المعركة الأخرى فكانت بين الشاعر غازي القصيبي وأسرة الأدباء والكتاب. الذي ألغى عضويته فيها... وكان مثار هذه المعركة يتركز حول مفهوم الالتزام الذي روّجت له الأسرة. واحتج القصيبي في رده على القاص محمد الماجد على المعيارية السياسية التي تزن بها الأسرة الأدب، إذ إنها تهتم بأن يكون الأدب محملاً بالقضايا الوطنية والعربية والإنسانية، وإلا يصبح الأدب ترفاً. وكان غازي يكتب المقالات الساخرة الناقدة للشعارات الآيدولوجية، مذيّلة باسم «ابن عبد ربه». ثمّ أخذ يكتب مقالات أقل سخرية وحِدّة باسمه، ولم تعجب مثل هذه المقالات الساخرة مؤسسي الأسرة، على رأسهم الدكتور محمد جابر الأنصاري، فشنّوا هجوماً صحافياً نارياً على غازي القصيبي، عادين أنّ شعره مفتقد للحرارة - ربما بسبب وضعه الطبقي - تضامنوا للرد على كتابته الساخرة... هذا ما لمسته من حواري مع الشاعر علي عبد الله خليفة، الذي التقيته في تلك الزيارة، بدائرة الموانئ مرتدياً بذلته البحرية البيضاء... وحين سألته عن قاسم حداد، أخبرني ممتعضاً بأنه دخل في الغيبة الصغرى!

العجيب أنه بعد سنوات طويلة من هذه المساجلة بين د. محمد جابر الأنصاري وصديقه د. غازي القصيبي، أجرت مجلة «العربي» الكويتية سجالاً بين الصديقين، اللذين تعمقت علاقتهما الشخصية والفكرية كلما تقادم الزمن بهما، أن استمر الحوار بينهما حول «الالتزام»!

فهذا هو الأنصاري يستذكر ماضي معركته معه! فيقول لغازي:

في زمن الشباب الشعري والنقدي - عندما اختلفنا أنت وأنا حول مفهوم الالتزام وأهمية الشعر القصوى في حياة الشاعر - كنت تصر على أن الشعر جانب من جوانب حياتك، وأنك لا ترى أن الشاعر يتجرد كلياً للشعر أو يعتبره همه الأول، وأنه يمكن أن يكون أشياء أخرى في الحياة بالإضافة لكونه شاعراً. وخلال مسيرتك في الحياة أثبت هذا الرأي بالفعل، فكنت إدارياً وأكاديمياً ووزيراً وسفيراً بالإضافة إلى كونك شاعراً، ولكن تجربتك أثبتت أن الشاعر الذي جعلته يتعايش فيك مع الإداري والأكاديمي... إلخ، هو الذي كانت له الكلمة الفاصلة عندما برزت مسألة الأولويات في تقرير الهواية والمسيرة الحياتية، وأن الكلمة الشعرية كانت هي الكلمة. وأن الوجود الشعري كان هو الوجود. وأعني بالشعر هنا معناه الكياني كالتزام حياتي وكصفاء وقيمة وليس كفنٍّ محض. كيف تتفاعل مع زعمي هذا؟!

ويجيبه غازي:

لا يبدو أن نقاشنا المزمن حول «الالتزام»، ذلك الذي بدأ قبل ربع قرن سينتهي أبداً، رغم محاولاتك ومحاولاتي الدائمة للتقريب بين الموقفين. مشكلتي مع «الالتزام»، أني أراه صفة خارجة عن الشاعر، مسقطة عليه من طرف آخر (هو غالباً الناقد). عندما نقول إن شاعراً ما شاعر «ملتزم» فنحن نعني أنه «ملتزم» بما نعده نحن قِيماً ومُثُلاً يجب الالتزام بها. لا أتصور أن ناقداً يمينياً سيمجد «ملتزماً» شاعراً (يسارياً)، والأرجح أنه سيعتبره تخليّاً عن الالتزام الحقيق أو أن ناقداً يسارياً سيمجد التزام شاعر «يميني»، والأغلب أن يسمى «الالتزام» رجعية، أو بورجوازية. «الالتزام» منحة من النقاد الملتزمين - أو القراء الملتزمين - لذلك الإنتاج الذي يتواءم مع مواقفهم السياسية والدينية والفكرية.

عام 1976 جاء الأنصاري - ربما لأول مرة - إلى الرياض بدعوة من الرئاسة العامة لرعاية الشباب... وفوجئت بمدير علاقاتها العامة علي آل علي يدعوني إلى عشاء خاص في بيته تكريماً لزائرهم، الذي بدأ ينشر مقالاته الأدبية والثقافية فوق صفحات مجلة «الدوحة» القطرية في بداية انطلاقتها برئاسة الأديب الأكاديمي السوداني محمد إبراهيم الشوش... ومنذ اللحظات الأولى حلت كيمياء قبول متبادل بيني وبين الأنصاري، الذي كان وقتها يعمل على إنهاء أطروحته للدكتوراه في النزعة التوفيقية في الفكر العربي المعاصر... التي قدمها للمناقشة سنة 1979.

بعدها بسنوات أربع، سنة 1983، دعوته للمشاركة في كتابة مقال أسبوعي في إصدار جريدة «الرياض الأسبوعي» تناول فيه عديداً من القضايا الأدبية والفكرية والسياسية... وكان من أوائل الكتاب العرب الذين دعوا إلى إعادة علاقة المملكة مع الاتحاد السوفياتي قبل انهياره.

وأتذكر من مقالاته، نقده الشديد للناقد الأدبي المصري د. لويس عوض، بعد إصدار كتابه المتحامل ضد جمال الدين الأفغاني، وقد نشرها مقالات مسلسلة في مجلة «التضامن» الصادرة في لندن وقتذاك، إذ ذهب د. الأنصاري إلى أن لويس عوض ومن هم على شاكلته لا يريدون بهذه المقالات رأس الأفغاني... بل يريدون الرؤوس الكبيرة في نهضتنا العربية كلها، من الإمام محمد عبده إلى عبد الرحمن الكواكبي إلى مصطفى عبد الرازق إلى ساطع الحصري... بل يريدون رأس الفكرة العربية والإسلامية كلها، وقد صورت مقالات لويس عوض، جمال الدين الأفغاني، بأنه رجل غامض مشوه الهوية والانتماء، مزعزع العقيدة مشتت الفكر ومزدوج السلوك، مشيراً إلى أن فكر النهضة العربية، الذي بدأ بعد غزو نابليون مصر، مؤسس على سلوك خاطئ وفكر مرتبك، مفيدًا - أي د. الأنصاري - من مقالات رجاء النقاش، الذي زامل الأنصاري في الكتابة الشهرية بمجلة «الدوحة»، مفنداً أطروحة لويس عوض، بمقالاته التي جمعها في كتابه «الانعزاليون في مصر» آخذاً على عوض انتصاره ليعقوب صنوع - اليهودي الديانة - الذي تعامل مع الغزو الفرنسي، مُسّهلاً للفرنسيين تنفيذ خططهم الثقافية في مصر والمشرق العربي، وقد تحمس صنوع لظاهرة كمال أتاتورك في تركيا، بعلمنة المجتمع الإسلامي التركي.


مقالات ذات صلة

3 قطع برونزية من موقع مليحة في الشارقة

ثقافة وفنون 3 قطع برونزية من موقع مليحة في الشارقة

3 قطع برونزية من موقع مليحة في الشارقة

أسفرت عمليات التنقيب المتواصلة في موقع مليحة الأثري التابع لإمارة الشارقة عن العثور على مجموعات كبيرة من اللقى المتعدّدة الأشكال والأساليب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون «الشارقة الثقافية»: سيرة التجاني يوسف بشير

«الشارقة الثقافية»: سيرة التجاني يوسف بشير

صدر أخيراً العدد الـ«99»؛ يناير (كانون الثاني) 2025، من مجلة «الشارقة الثقافية»، وقد تضمن مجموعة من الموضوعات والمقالات والحوارات، في الأدب والفن والفكر

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
ثقافة وفنون باقر جاسم محمد

نقد النقد بصفته خطاباً فلسفياً

شهدت مرحلة ما بعد الحداثة صعودَ الكثير من المفاهيم والمصطلحات النقدية والثقافية والسوسيولوجية، ومنها مفهوم «نقد النقد»

فاضل ثامر
ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: عام الحرف اليدوية

مجلة «القافلة» السعودية: عام الحرف اليدوية

في العدد الجديد من مجلة «القافلة» لشهري يناير (كانون الثاني)، وفبراير (شباط) 2025، التي تصدر عن شركة «أرامكو السعودية»، تناولت الافتتاحية موضوع الأمثال الدارجة

«الشرق الأوسط» (الدمام)

3 قطع برونزية من موقع مليحة في الشارقة

3 كُسور برونزية من محفوظات هيئة الشارقة للآثار مصدرها موقع مليحة
3 كُسور برونزية من محفوظات هيئة الشارقة للآثار مصدرها موقع مليحة
TT

3 قطع برونزية من موقع مليحة في الشارقة

3 كُسور برونزية من محفوظات هيئة الشارقة للآثار مصدرها موقع مليحة
3 كُسور برونزية من محفوظات هيئة الشارقة للآثار مصدرها موقع مليحة

أسفرت عمليات التنقيب المتواصلة في موقع مليحة الأثري التابع لإمارة الشارقة عن العثور على مجموعات كبيرة من اللقى المتعدّدة الأشكال والأساليب، منها مجموعة مميّزة من القطع البرونزية، تحوي 3 كسور تحمل نقوشاً تصويرية، ويعود كلّ منها إلى إناء دائري زُيّن برسوم حُدّدت خطوطها بتقنية تجمع بين الحفر الغائر والحفر الناتئ، وفقاً لتقليد جامع انتشر في نواحٍ عدة من شبه جزيرة عُمان، خلال الفترة الممتدة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث للميلاد.

أصغر هذه الكسور حجماً قطعة طولها 4.5 سنتيمتر وعرضها 10 سنتيمترات، وتمثّل رجلاً يركب حصاناً وآخر يركب جملاً. يظهر الرجلان في وضعية جانبية ثابتة، ويرفع كلّ منهما رمحاً يسدّده في اتجاه خصم ضاع أثره ولم يبقَ منه سوى درعه. وصلت صورة راكب الحصان بشكل كامل، وضاع من صورة راكب الجمل الجزء الخلفي منها. الأسلوب متقن، ويشهد لمتانة في تحديد عناصر الصورة بأسلوب يغلب عليه الطابع الواقعي. يتقدّم الحصان رافعاً قوائمه الأمامية نحو الأعلى، ويتقدّم الجمل من خلفه في حركة موازية. ملامح المقاتلين واحدة، وتتمثّل برجلين يرفع كل منهما ذراعه اليمنى، شاهراً رمحاً يسدّده في اتجاه العدو المواجه لهما.

الكسر الثاني مشابه في الحجم، ويزيّنه مشهد صيد يحلّ فيه أسد وسط رجلين يدخلان في مواجهة معه. يحضر الصيّادان وطريدتهما في وضعيّة جانبية، ويظهر إلى جوارهم حصان بقي منه رأسه. ملامح الأسد واضحة. العين دائرة لوزية محدّدة بنقش غائر، والأنف كتلة بيضاوية نافرة. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان عن أسنان حادة. تحدّ الرأس سلسلة من الخصل المتوازية تمثل اللبدة التي تكسو الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة. الظهر مقوّس بشكل طفيف، ويظهر في مؤخرته ذيل عريض، تعلو طرفه خصلة شعر كثيفة. الجزء الأسفل من البدن مفقود للأسف، وما بقي منه لا يسمح بتحديد وضعية القوائم الأربع.

في مواجهة هذا الليث، يظهر صياد يرفع بيده اليمنى ترساً مستديراً. في المقابل، يظهر الصياد الآخر وهو يغرز خنجره في مؤخرة الوحش. بقي من الصياد الأول رأسه وذراعه اليمنى، وحافظ الصياد الآخر على الجزء الأعلى من قامته، ويتّضح أنه عاري الصدر، ولباسه يقتصر على مئزر بسيط تعلوه شبكة من الخطوط الأفقية. ملامح وجهَي الصيادين واحدة، وتتبع تكويناً جامعاً في تحديد معالمها. من خلف حامل الخنجر، يطل رأس الحصان الذي حافظ على ملامحه بشكل جلي. الأذنان منتصبتان وطرفهما مروّس. الخد واسع ومستدير. الفم عريض، وشق الشدقين بارز. اللجام حاضر، وهو على شكل حزام يلتفّ حول الأنف. تعلو هذه الصورة كتابة بخط المسند العربي الجنوبي تتألف من ستة أحرف، وهي «م - ر - أ - ش - م - س»، أي «مرأ شمس»، ومعناها «امرؤ الشمس»، وتوحي بأنها اسم علم، وهو على الأرجح اسم صاحب الضريح الذي وُجد فيه هذا الكسر.

تتبع هذه الكسور الثلاثة أسلوباً واحداً، وتعكس تقليداً فنياً جامعاً كشفت أعمال التنقيب عن شواهد عدة له في نواحٍ عديدة من الإمارات العربية وسلطنة عُمان

الكسر الثالث يمثّل القسم الأوسط من الآنية، وهو بيضاوي وقطره نحو 14 سنتيمتراً. في القسم الأوسط، يحضر نجم ذو 8 رؤوس في تأليف تجريدي صرف. وهو يحل وسط دائرة تحوط بها دائرة أخرى تشكّل إطاراً تلتف من حوله سلسلة من الطيور. تحضر هذه الطيور في وضعية جانبية ثابتة، وتتماثل بشكل تام، وهي من فصيلة الدجاجيات، وتبدو أقرب إلى الحجل. تلتف هذه الطيور حول النجم، وتشكّل حلقة دائرية تتوسط حلقة أخرى أكبر حجماً، تلتف من حولها سلسلة من الجمال. ضاع القسم الأكبر من هذه السلسلة، وفي الجزء الذي سلم، تظهر مجموعة من ثلاثة جمال تتماثل كذلك بشكل تام، وهي من النوع «العربي» ذي السنام الواحد فوق الظهر، كما يشهد الجمل الأوسط الذي حافظ على تكوينه بشكل كامل.

تتبع هذه الكسور الثلاثة أسلوباً واحداً، وتعكس تقليداً فنياً جامعاً، كشفت أعمال التنقيب عن شواهد عدة له في نواحٍ عديدة من الإمارات العربية وسلطنة عُمان. خرجت هذه الشواهد من المقابر الأثرية، ويبدو أنها شكلت جزءاً من الأثاث الجنائزي الخاص بهذه المقابر في تلك الحقبة من تاريخ هذه البلاد. عُثر على هذه الكسور في موقع مليحة، وفي هذا الموقع كذلك، عثر فريق التنقيب البلجيكي في عام 2015 على شاهد يحمل اسم «عامد بن حجر». يعود هذا الشاهد إلى أواخر القرن الثالث قبل الميلاد، ويحمل نقشاً ثنائي اللغة يجمع بين نص بخط المسند الجنوبي ونص بالخط الآرامي في محتوى واحد. يذكر هذا النص اسم «عمد بن جر»، ويصفه بـ«مفتش ملك عُمان»، ونجد في هذا الوصف إشارة إلى وجود مملكة حملت اسم «مملكة عُمان».

ضمّت هذه المملكة الأراضي التي تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحّدة، كما ضمّت الأراضي التي تعود إلى شمال سلطنة عُمان، وشكّلت استمرارية لإقليم عُرف في النصوص السومرية باسم بلاد ماجان. جمعت هذه المملكة بين تقاليد فنية متعدّدة، كما تشهد المجموعات الفنية المتنوّعة التي خرجت من موقع مليحة في إمارة الشارقة، ومنها الأواني البرونزية التي بقيت منها كسور تشهد لتقليد فني تصويري يتميّز بهوية محليّة خاصة.