«العولمة والنص»... القصيدة في صالة «ترانزيت»

«العولمة والنص»... القصيدة في صالة «ترانزيت»
TT
20

«العولمة والنص»... القصيدة في صالة «ترانزيت»

«العولمة والنص»... القصيدة في صالة «ترانزيت»

تتخذ الناقدة والباحثة اللبنانية دكتورة نايلة أبي نادر من أعمال الشاعر اللبناني شربل داغر مدخلاً لمقاربة العلاقة بين قصيدة النثر وأسئلة اللحظة الراهنة، وذلك في كتابها «العولمة والنص» الصادر أخيراً عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب». وتتوقف المؤلفة بشكل خاص عند كتابه «ترانزيت» الذي لا يحتوي على مجموعة قصائد، كما أننا لا نجد فيه أي عنوان أو إشارة إلى تبويب أو تفصيل ينقل القارئ من موضوع إلى آخر، بل هو عبارة عن قصيدة ممتدة ما بين ضفتي الغلاف، وهي قائمة على حوار بين متكلمين كُثر منذ الصفحة الأولى وحتى النهاية.

وتوضح الباحثة أن هناك فعل خروج واضح من نمطية معينة نحو نص فاتح للمعابر ومتخطّ للحدود الموضوعة بين الأجناس الأدبية. هنا يطل الشاعر على العالم من قاعة ترانزيت في أحد المطارات، ليقيم علاقة جديدة بين النص والحاضر كما هو في الواقع المعاش. المكان الذي يدور فيه الكلام ليس مغلقاً ولا سرياً، إنما صالة مفتوحة للعابرين الذين ينتظرون مواعيد رحلاتهم. تتنقل القصيدة في مكان جديد وكأنها تخرج من حدود التقليد لتسافر إلى المكان الأرحب، فاختيار العنوان جاء ليعكس رغبة لدى الشاعر في كسر تقليد ما، والدخول في طقس الترحال، ليس فقط من مطار إلى مطار، ولا من بلد إلى بلد، إنما من جنس أدبي إلى آخر، ومن مقاربة إلى أخرى تفاجئك كما نمط الحياة الحاضرة.

وتتخذ القصيدة الممتدة شكل المسرح وتصبح مشهداً من الحياة، حيث تتوقف الرحلات لسبب طارئ وتتداخل أصوات المسافرين في انزعاج شديد؛ وتتوالى الأسئلة والأجوبة ما بين واقع مأزوم وخيال رحب.

يسترق الشاعر السمع بين المتكلمين الغرباء الذين تجمعوا في صالة الترانزيت دون أن يعرفوا بعضهم بعضاً ويدور الحوار بينهم هكذا:

متكلم: أنا أريد أن أصل إلى حياتي.

متكلم: أين تقع؟

متكلم: وجدتها ملقاة على هامش الحديقة في المرة الأخيرة.

متكلم: وأين كنت؟

متكلم: في غفلة عنها.

متكلم: وإذ تنتبه، وتستيقظ، ماذا تفعل؟

متكلم: أتحسر عليها.

متكلم: ولم لا تنتقل إليها؟

متكلم: لأنها تكون قد انتقلت من جديد.

يجد القارئ نفسه في مشهدية تعكس وقع حياة الإنسان المعاصر المستعجل والمسبوق دائماً، إذ إن الوقت يداهمه ولا مجال عنده لكي يفكر في حياته في المعنى الذي يضفيه على أيامه ولياليه بما فيها من ألم وخيبة وحب وفرح، فالحياة تهرب أمامنا ونحن نركض مجدين للحاق بها. هذا النمط بالتحديد قد تعمم بفضل العولمة وفتح الدول والقارات على بعضها.

وتلفت المؤلفة إلى أنه في هذا السياق من الصعب أن نميز بين الوصول والمغادرة، فنحن في منطقة «بين - بين». الشخصيات جاءت من الشرق، من الجنوب (من أقصى الشمال)، (من حيث لا تتوقعون)، (من باب حرف الشين). الوجهة: إلى أي مكان أو إلى لا مكان، لا شيء يجمع بينهم سوى الاحتجاز. برنامج الرحلات الواصلة جاء على الشكل الآتي:

الواصلة من: ممرات الاعتراف الأخير

موعد الوصول: عند خفوت الحركات

الباب: المؤدي إلى الفرج

ويصف الشاعر رحلة أخرى واصلة هكذا:

الواصلة من: القصيدة بمحركي استعارة

موعد الوصول: عند وصول القارئ

الباب: إذ يخرجان معاً

وهكذا، نحن أمام حالة مسرحة للقصيدة لا تنتهي، فالمسرح مفتوح دوماً على قوسي البدايات والنهايات، والمخرج متحفٍّ في ثوب الشاعر دائماً.



جمعة اللامي... خرج من السجن أديباً وصحافياً متميزاً

جمعة اللامي
جمعة اللامي
TT
20

جمعة اللامي... خرج من السجن أديباً وصحافياً متميزاً

جمعة اللامي
جمعة اللامي

لم يأتِ رحيل المبدع العراقي جمعة اللامي في السابع عشر من هذا الشهر مفاجئاً لمعارفه ومحبيه. إذ لم تحمل السنوات الأخيرة الراحة له: فقد سكنه المرض، وتلبدت الذاكرة بضغوطه، فضاع كثير من الوهج الذي تميزت به كتاباته. وتجربة جمعة اللامي فريدة؛ لأنه لم يكن يألف الكتابة قبل أن يقضي سنواتٍ عدة سجيناً في عصور مضت. لكنه خرج من هذه أديباً، وصحافياً متميزاً.

ربما لا يعرف القراء أنه شغل مدير تحرير لصحف ومجلات، وكان حريصاً على أن يحرر الصحافة من «تقريرية» الكتابة التي يراها تأملاً بديعاً في التواصل بين الذهن واللغة. خرج من تلك السنوات وهو يكتب الرواية والقصة. وكانت روايته «من قتل حكمت الشامي» فناً في الرواية التي يتآلف فيها المؤلف مع القتيل والقاتل. ومثل هذه المغامرة الروائية المبكرة قادت إلى التندر. فكان الناقد الراحل الدكتور علي عباس علوان يجيب عن تساؤل عنوان الرواية: من قتل حكمت الشامي؟ جمعة اللامي. لكن الرواية كانت خروجاً على الرواية البوليسية وإمعاناً في المزاوجة ما بين ماورائية القص وواقعتيه (ما بعد الكولونيالية). وسكنته روح المغامرة مبكراً. وكان أن كتب مسرحية بعنوان «انهض أيها القرمطي: فهذا يومك»، التي قادته أيضاً إلى محنة أخرى، لولا تدخل بعض معارفه من الأدباء والمفكرين. وجاء إلى القصة القصيرة بطاقة مختلفة جزئياً عن جيله. إذ كان جيل ما بعد الستينات مبتكراً مجدداً باستمرار. وكان أن ظهرت أسماء أدبية أصبحت معروفة بعد حين وهي تبني على ما قدمه جيلان من الكتاب: جيل ذو النون أيوب، وما اختطه من واقعية مبكرة انتعشت كثيراً بكتابات غائب طعمة فرمان، وعيسى مهدي الصقر وشاكر خصباك، وجيل عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي، والذين بنوا عليه وافترقوا عنه كمحمد خضير، وموسى كريدي، وأحمد خلف، وعبد الستار ناصر، وعدد آخر. وكان جمعة اللامي ينتمي إلى هذا الجيل، لكنه استعان بهندسة القصة لتكون بنية أولاً تتلمس فيها الكلمات مساحات ضيقة تنوء تحت وقع أي ثقل لغوي. ولهذا جاءت قصصه القصيرة بمزاوجة غريبة ما بين الألفة والتوحش، يتصادم فيها الاثنان، ويلتقيان في الأثر العام الذي هو مآل القص.

وعندما قرر اللامي التغرب وسكن المنفى، كان يدرك أنه لن يجد راحة البال والجسد. لكنه وجد في الإمارات ورعاية الشيخ زايد حاكم الدولة، وبعده عناية الشيخ الدكتور سلطان القاسمي ما يتيح له أن يستأنف الكتابة في الإبداع الأدبي وكذلك في العمود الصحافي. ولمرحلة ليست قصيرة كان «عموده» الصحافي مثيراً لأنه خروج على المألوف، ومزاوجة ما بين العام والشخصي، اليقظة والحلم، المادية والروحانية. وعندما ينظر المرء إلى مسيرة طويلة من الكد الذهني والجسدي فيها الدراية والعطاء، يقول إن الراحل حقق ذكراً لا تقل عنه شدة انتمائه لمجايليه وأساتذته وصحبه الذين لم يغيبوا لحظة عن خاطره وذهنه، كما لم يغب بلده الذي قيَّده بحب عميق يدركه من ألِفَ المنافي وسكن الغربة.

سيبقى ذكر جمعة اللامي علامة بارزة في أرشيف الذاكرة العراقية والعربية الحيّة.

 كانت روايته «مَن قتل حكمة الشامي؟» خروجاً على الرواية البوليسية وإمعاناً في المزاوجة ما بين ما ورائية القص وواقعتيه (ما بعد الكولونيالية)