داميان برتراند لـ«الشرق الأوسط»: أفضّل أن أجرِب وأفشل على ألا أحاول أبداً

الرئيس التنفيذي لدار «لورو بيانا» عازم على قيادتها بحسه التجاري وحواسه الخمس

واجهة «دبي مول» يزينها سيراميك التراكوتا بتماوج مستوحى من الكشمير (لورو بيانا)
واجهة «دبي مول» يزينها سيراميك التراكوتا بتماوج مستوحى من الكشمير (لورو بيانا)
TT

داميان برتراند لـ«الشرق الأوسط»: أفضّل أن أجرِب وأفشل على ألا أحاول أبداً

واجهة «دبي مول» يزينها سيراميك التراكوتا بتماوج مستوحى من الكشمير (لورو بيانا)
واجهة «دبي مول» يزينها سيراميك التراكوتا بتماوج مستوحى من الكشمير (لورو بيانا)

لن نبالغ إن قلنا إن دايمون برتراند، هو رجل الساعة في عالم الترف والفخامة، ليس لأن اسم «لورو بيانا» يرتبط بالنخبة من العاشقين لصوفها الناعم المعروف بـ«صوف الملوك»، ولا لأنه مرادف للأناقة الرفيعة والعملية على حد سواء، بل لأنه ومنذ التحاقه بالدار الإيطالية رئيساً تنفيذياً وهو لا يكف عن ضخِها بجرعات حيوية وديناميكية تناسب تطورات العصر.

كل هذا من دون أن يمس بأساساتها. بالعكس فتاريخها القائم على الألياف النادرة مثل الكشمير والفيكونا، خط أحمر بالنسبة له. في لقاء خص به «الشرق الأوسط» قال: «أعد نفسي حارساً أميناً على تقاليدها الحرفية؛ فـ«لورو بيانا» بالنسبة لي مصدر إلهام علَمتني أنك يمكن أن تخترق أقصى حدود الابتكار ما دامت جذورك راسخة وعميقة».

داميان برتراند الرئيس التنفيذي (لورو بيانا)

لم يكن الاتفاق على موعد للقائه سهلاً؛ فبحكم أسفاره الكثيرة تغير الموعد مرات عدة. كثرة أسفاره ما بين أقاصي جبال البيرو ومزارع منغوليا ونيوزيلندا وأستراليا جعلت منه عُملة نادرة في أوساط الموضة ووسائل الإعلام، فحتى الآن لم يُجر سوى عدد قليل من اللقاءات الصحافية التي تُعدّ على أصابع اليد الواحدة.

كان من المفترض أن يحدث لقاؤنا في ميلانو بعد زيارة لمعامل الدار الواقعة شمال إيطاليا، لكن تحقق أخيراً في محلها الفخم الواقع بـ«أفينو مونتين» بباريس. بمجرد أن تصافحه وتتبادل معه المجاملات الأولية التي عادة ما تسبق أي حوار لإذابة الجليد، تشعر بأنك أمام رئيس تنفيذي غير عادي. يكشف لي أنه يعشق السفر والترحال والانغماس في ثقافات الآخرين. تلمع عيناه أكثر وهو يضيف أنه متعطش للتعرف على المملكة العربية السعودية من قُرب، «فقد سمعت عنها الكثير ومشروعاتنا فيها مهمة».

واجهة محل «لورو بيانا» في «دبي مول» بعد التجديدات (لورو بيانا)

وُلد داميان برتراند في مرسيليا، لكنه عاش أكثر سنوات حياته خارجها متنقلاً بين أستراليا وكندا ولندن والبرازيل ونيويورك، والآن يوزع وقته بين فرنسا وإيطاليا. ربما هذا ما يجعل شخصيته تفوح بنكهة عالمية، «فكل مكان وكل تجربة أضافا إليَّ أشياء غيَّرتني على المستويين الشخصي والمهني على حد سواء» وفق قوله، مضيفاً: «من أهم عناصر النجاح في صناعة الترف فهْم ثقافات الآخرين واحترامها. إذا لم يتمتع الواحد منا بهذا فإنه في الوظيفة الخطأ».

من تصاميم الدار لربيع وصيف 2024 حيث تظهر بصمات داميان برتراند الحيوية عليها (لورو بيانا)

كان شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2021 هو تاريخ تسلمه مقاليد الدار، أي في أوجّ جائحة «كورونا»، ومع ذلك حوَّل كل تبعاتها وسلبياتها إلى مكاسب. خلال عامين فقط تجلّت بصمته ورؤيته في خطوط محددة وإطلالات متكاملة تتراقص على كلاسيكية معاصرة لا تعترف بزمن.

يشرح: «كانت الدار تحوي مساحة كبيرة للإبداع. كان عليّ فقط التسلح ببعض الشجاعة لأقودها إلى المرحلة التالية». أسأله عما إذا خامره أي شعور بالقلق بحكم أن إرث «لورو بيانا» غني، ومن شأنه أن يثقل كاهل أي قادم جديد، فيرد سريعاً: «أفضّل بطبعي أن أجرِب وأفشل على ألا أحاول أبداً». من حسن حظ الدار أنه جرَب ونجح.

من تصاميم الدار لربيع وصيف 2024 التي جسدت رؤية داميان برتراند للدار (لورو بيانا)

استغل داميان الجائحة لقراءة تحولات السوق. وقد أدرك مثلاً أنه من الصعب على المرأة أن تعود إلى الحذاء ذي الكعب المدبب والعالي بعد أن ذاقت واستحلت طعم الراحة. وفي الوقت نفسه لا تريد التنازل عن مظهر أنيق وراقٍ يحقق المعادلة الصعبة بين الاثنتين. عمل مع استوديو التصميم على طرح أزياء وإكسسوارات تعكس هذه المطالب، وهو ما تجسد في أحذية مبتكرة ومريحة من دون كعب، وقطع أزياء اشتهرت باسم «كوكونينغ» نفدت من الأسواق في غضون أسابيع قليلة لنعومة الكشمير الذي استُعمل فيها.

كانت الغرفة التي أجري فيها اللقاء في محل «لورو بيانا» بـ«أفينو مونتين» الباريسي، خاصة بالشخصيات المهمة. تناثرت على جوانبها دمى في إطلالات متناسقة من الرأس إلى أخمص القدمين، بما في ذلك الأحذية وحقائب اليد. كان هذا التنسيق مقصوداً؛ فهو يوضح الصورة التي سيكون عليها مستقبل الدار الإيطالية من وجهة نظره. كانت صورة مفعمة بالحيوية تتحدى سنوات عمرها التي ستُكمل المائة في 2024. يقول بتواضع إنه لم يحتج إلا لتغييرات بسيطة ارتقت بها إلى مستواها الديناميكي الحالي، سواء تعلق الأمر بالأزياء الرجالية أم النسائية. كلما أسهب في شرح رؤيته وتفاصيلها، تستنتج أن الرسالة التي يُريد إيصالها هي أنه لم يقم بعملية تجميل جذرية، ولا قدَّم لها قُبلة حياة، فـ«لورو بيانا» كانت دائماً متحركة تُطوِر من تقنياتها، لكن بأسلوب كلاسيكي إن لم نقل «ذكوري» من ناحية أن الأزياء النسائية لم تكن تحظى بنفس الأهمية، وهو ما عمل على تغييره.

من يعرفون داميان برتراند توقعوا منه هذه النقلة؛ فهو ليس غريباً على عالم الجمال والأناقة. مسيرته بدأت في شركة «لوريال» التي قضى فيها نحو 18 عاماً قبل أن ينضم إلى «ديور كوتور» في عام 2016 مديراً عاماً لجميع الأقسام. وربما هنا تكمن قوته رئيساً تنفيذياً؛ فهو هنا يعتمد على كل حواسه وليس على حسه التجاري والإداري فحسب.

هناك حركة دائماً لاكتساب مهارات جديدة تُثمر عن تقنيات متطورة في معامل الدار (لورو بيانا)

يتذكر أنه عندما رُشِّح رئيساً تنفيذياً لـ«لورو بيانا» الإيطالية لم يتردد، رغم اختلاف ثقافتها تماماً مع ما تَعَوَّدَ عليه في «ديور» الفرنسية. توقَع كل شيء إلا أن يقع في حبِها من أول زيارة إلى معاملها الواقعة في شمال إيطاليا. يقول: «أصابني الذهول. كانت عبارة عن خلية نحل يعمل فيها أكثر من 1000 حرفي بأعمار متفاوتة. بعضهم بدأ حياته في المعمل منذ 50 عاماً أو أكثر، ولا يزال يتمتع بحماس الشباب والاندفاع لاكتشاف تقنيات جديدة تزيد من رقة الألياف ونعومتها مع الحفاظ على عنصري الدفء والانتعاش».

كلما زادت ألياف الصوف نعومة ورقّة كان الأمر سبقاً لكن من دون التأثير على عنصريْ الدفء والانتعاش (لورو بيانا)

يتذكر أيضاً كيف أنهم، وبقدر ما كانوا مُتلقين متلهفين على اكتساب الخبرات، كانوا سعداء وهم يشرحون له كل صغيرة وكبيرة تتعلق بتخصص كل واحد منهم. «بين ليلة وضحاها شكَلنا فريقاً متناغماً بأهداف واحدة». من بين الابتكارات التي يفخر بها داميان وتمخَّض عن هذه النقاشات نوع من الدنيم تعاونت فيه «لورو بيانا» مع شركة يابانية متخصصة في هذا القماش، مُزِج بـ40 في المائة من الكشمير، الأمر الذي أكسبه مرونة ودفئاً لا يتوفران في الدنيم العادي. أطلق عليه اسم «كاش دينم (Cash Denim)»، ولم يُنْتَج سوى نحو 70 قطعة منه، لما يتطلبه من جُهد ودقة؛ فإنتاج 50 متراً منه فقط يستغرق يوماً كاملاً لإنتاجه. مجموعات كثيرة أخرى مثل «Cashmere Storm System®» حُرِصَ فيها على أن تتوافر على كل عناصر الترف والعملية، من مقاومة الماء ومنح الدفء إلى إضافة جيوب داخلية بوظائف متعددة، وغُلِّف بعضها بطبقة خاصة تقي من إشعاعات الهاتف. أما القاسم المشترك بينها حالياً، فهي التصاميم المُلتفة على الجسم بنعومة معاصرة.

نجح داميان في رسم صورة أنيقة لامرأة «لورو بيانا» من دون حاجة إلى «لوغو» (لورو بيانا)

لا يُخفي داميان أنه من بين الأشياء التي جعلته يتحمس لقيادة الدار الإيطالية، إلى جانب تاريخها الراسخ في أفخم أنواع الصوف بأنواعه، أنها كانت بمثابة صفحة بيضاء في مجال التصميم، ما يُتيح له أن يرسم عليها رؤيته بحرّية مطلقة بعيداً عن إملاءات الموضة الموسمية. الصورة التي رسمها يمكن أن يتعرف عليها الناظر بسرعة من خلال خطوطها وملمسها وألوانها الهادئة. يقول بنبرة يقين: «مستحيل مثلاً أن نضع أي (لوغو) على قطعة تخرج من معاملنا. وحتى في الحالات التي نضع فيها توقيعنا، فنحن نضعه بالداخل، وتحديداً في جهة القلب، بحيث لا يراه أو يشعر به سوى صاحب القطعة».

خطوط رشيقة وأنيقة في تشكيلة الدار لربيع وصيف 2024 (لورو بيانا)

يُكرر داميان مرات عدة أن «لورو بيانا» ليست دار أزياء، وبالتالي ليس مفروضاً عليها أن تواكب توجهات الموضة؛ فالأولوية تبقى دائماً للخامات والمواد، تليها التصاميم، وليس العكس: «نريدها أن تبقى في القمة كما عهدناها، تتوجه بصوفها النادر للعارفين وأصحاب الذوق الرفيع؛ فنحن لا ننسى في أي مرحلة من مراحل التصميم والإنتاج أن صوفنا هو (هدية للملوك)».

عندما أشير إلى أن التوقيت كان في صالحه بحكم أن الموضة الحالية ترفع شعار الفخامة الهادئة الخالية من أي «لوغو» أو زخارف، يرد بسرعة: «هذا الأمر لا ينطبق على (لورو بيانا) على الإطلاق، لأنها لم تركب أي موجة طوال تاريخها، وما يطلق عليه حالياً الفخامة الهادئة هو موجة مثلها مثل غيرها، تأتي وتذهب، بينما يبقى أسلوبنا نفسه... راقياً وحيوياً مهما تغيرت المواسم والفصول».

هناك شغف يُحرك كل العاملين في معامل الدار بإيطاليا لإكساب ألياف الصوف مزيداً من الفخامة والنعومة (لورو بيانا)

كان داميان طوال الحديث حريصاً أن يُذكرني بأنه حارس لتقاليد وحرفية الدار وليس ثورياً يرغب في التغيير. 3 خطوات يستند إليها لتحقيق معادلة مبنية على احترام شخصيتها وجيناتها الوراثية وقيادتها نحو المستقبل؛ أولاها التحفيز على مزيد من البحوث والابتكارات، وثانيتها الاهتمام بجانب الإكسسوارات لترسيخ تلك الإطلالة المتكاملة التي رسمها للدار. وأخيراً وليس آخرًا الإشراف شخصياً على ديكورات كل محلات الدار العالمية؛ فـ«لورو بيانا» قبل عامين ليست هي «لورو بيانا» الآن، وفق قوله: «أصبح لها الآن أقسام جديدة كالإكسسوارات، من حقها نيْل مساحة تليق بها».

منطقة الشرق الأوسط على رأس أولوياته. جدَّد محلات قديمة فيها، وينوي افتتاح أخرى. في دبي مثلاً قام بعمل تجديدات شاملة في محلي الدار في «دبي مول» و«مول أوف إمارات» استغرقت أكثر من عام لتأتي بشكل يتماهى مع البيئة المحيطة وثقافة المنطقة. من بعيد تتراءى واجهاتها كأنها مغطاة بأنسجة متماوجة بلون التراكوتا. تقترب أكثر فتكتشف أنه سيراميك صِيغَ بشكل إبداعي في مشغل متخصص في توسكاني وليس من الصوف، أو ما شابه من ألياف يسهل تطويعها بهذا الشكل. يلفت داميان نظري إلى أنه بقدر ما كان الملمس الناعم مهماً، كان عنصر الدفء في الأهمية نفسها حتى يناسب البيئة المحيطة». الاعتبارات نفسها أُخذت في تصميم المتجر الجديد في الكويت الواقع بمجمّع «أفينو مول». وطبعاً القادم في السعودية لن يقل قوة وفق قوله: «فهناك علاقة عابرة للأجيال تربطنا بها منذ زمن. وبتنا نلاحظ في الآونة الأخيرة أن الإقبال بات يشمل الأبناء والأحفاد أيضاً»؛ فالتصاميم الحيوية الآن انضمت إلى الألياف النادرة لتُعزز عنصر الفخامة المستدامة. وربما يكون هذا هو الإرث، أو بالأحرى البصمة التي يريد داميان أن يُخلَّفها في دار عمرها 100 عام.


مقالات ذات صلة

تانيا فارس أول لبنانية تفوز بجائزة الموضة البريطانية وجوناثان أندرسون يحقق ثلاثية ذهبية

لمسات الموضة تانيا فارس خلال تلقي كلمتها بعد حصولها على جائزة تقدير على إسهاماتها في دعم المصممين الناشئين (غيتي)

تانيا فارس أول لبنانية تفوز بجائزة الموضة البريطانية وجوناثان أندرسون يحقق ثلاثية ذهبية

حفل جوائز الموضة البريطانية السنوي من أهم فعاليات عالم الموضة وتُقدَّم فيه جوائز لأهم المصممين العالميين والشباب إلى جانب صناع الموضة والمؤثرين.

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة انطلقت الدورة الثانية من أسبوع الموضة المصري بورشات عمل وتدريب وعروض تبرز قدرات مواهب شابة (خاصة)

أسبوع الموضة المصري... آمال كبيرة في ترسيخ مكانته بالخريطة العالمية

يأتي أسبوع الموضة المصري ليكون خطوة مهمة في رحلة القاهرة لاستعادة دورها بوصفها عاصمة ثقافية وفنية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق فرض الجيل زد الملابس الواسعة والمريحة في أماكن العمل والجامعات والمدارس (بكسلز) play-circle 01:18

موضة الجيل زد... وسّع وسّع وارتدِ الأرخص

تتجه الأجيال الجديدة إلى توسيع الملابس، ولذلك أسباب كثيرة، منها ما هو نفسي، ومنها ما يعبّر عن ثورة اجتماعية على ثقافة الفلتر، والأحكام المسبقة على الجسد.

كريستين حبيب (بيروت)
لمسات الموضة بالنسبة للعمانيين فإن ذِكر «أمواج» واللبان أصبح مرادفاً لعُمان (أمواج)

لبان ظُفار من الشجرة إلى الزجاجة في وادي دوكة

يدار وادي دوكة بأسلوبٍ حديثٍ ومستدام، بتحديد مواقع آلاف أشجار اللبان، واستخدام تقنية التتبُّع الجغرافي، ليُصبح أول غابة ذكية في منطقة الخليج.

جميلة حلفيشي (صلالة - عُمان)
لمسات الموضة زهير مراد يفوز بجائزة الريادة وبقلوب النجمات

زهير مراد يفوز بجائزة الريادة وبقلوب النجمات

فاز المصمم اللبناني العالمي زهير مراد خلال حفل فاشن تراست أرابيا (FTA) في نسخته السابعة بجائزة تقدير لمساهمته في إثراء المشهد الإبداعي في المنطقة ودوره في…

«الشرق الأوسط» (الدوحة - قطر)

تانيا فارس أول لبنانية تفوز بجائزة الموضة البريطانية وجوناثان أندرسون يحقق ثلاثية ذهبية

تانيا فارس خلال تلقي كلمتها بعد حصولها على جائزة تقدير على إسهاماتها في دعم المصممين الناشئين (غيتي)
تانيا فارس خلال تلقي كلمتها بعد حصولها على جائزة تقدير على إسهاماتها في دعم المصممين الناشئين (غيتي)
TT

تانيا فارس أول لبنانية تفوز بجائزة الموضة البريطانية وجوناثان أندرسون يحقق ثلاثية ذهبية

تانيا فارس خلال تلقي كلمتها بعد حصولها على جائزة تقدير على إسهاماتها في دعم المصممين الناشئين (غيتي)
تانيا فارس خلال تلقي كلمتها بعد حصولها على جائزة تقدير على إسهاماتها في دعم المصممين الناشئين (غيتي)

في الوقت الذي كان فيه لبنان يحتفل بزيارة البابا روبرت بريفوست (ليو الـ14) التاريخية، كانت اللبنانية تانيا فارس تكتب التاريخ في مجال الموضة بوصفها أول لبنانية تفوز بجائزة التقدير الخاص (Special Recognition Award) عرفاناً لها بـ15 عاماً من مبادرة BFC Fashion Trust، وتقديراً لدورها في تأسيس هذه المبادرة.

تانيا فارس عبَّرت عن فخرها بكونها أول لبنانية تحصل على الجائزة (غيتي)

بكلمات تُعبّر عن فخرها بهويتها قالت تانيا وهي تتسلم الجائزة، إن لا شيء يضاهي سعادتها سوى فخرها بأصولها اللبنانية وكونها أول لبنانية تحصل عليها.

جدير بالذكر أن حفل جوائز الموضة البريطانية السنوي من أهم فعاليات عالم الموضة، حيث تُقدَّم فيه جوائز لأهم المصممين العالميين والشباب إلى جانب صناع الموضة والمؤثرين من رؤساء تنفيذيين ومصممين ومبدعين في مجالات فنية مختلفة أخرى. كما يحضره أفراد من الحكومة دعماً لصناعة تدر على البلد الملايين وتوظف الآلاف.

عمدة لندن صادق خان يتوسط المصممة روكساندا والنجمة كيت بلانشيت لدى وصولهم الحفل (رويترز - أ.ف.ب)

هذا العام، وفي أول ليلة من ديسمبر (كانون الأول)، وبين زخّات مطر خفيفة تلامس شوارع لندن، ازدانت قاعة رويال ألبرت هول بالبريق: أضواء مشعة ونجوم في فساتين مثيرة، وكأنها بهذا الكم من الأناقة الراقية، تطوي عاماً حافلاً بالإبداع والفن والتغييرات الجريئة.

منذ اللحظة الأولى وحتى قبل بدء الحفل، بدت الأجواء خارج القاعة واعدة. مشاهير من عالمي الفن والموضة تحدّوا الطقس اللندني وتألقوا على السجادة الحمراء. من شارون ستون وكيت بلانشيت وصادق خان، عمدة لندن، وهلمّ جراً من الأسماء الكبيرة، والتي كان عدد لا يستهان منها يأمل في أن يسمع اسمه من بين الفائزين.

أندرسون... ثلاثية ذهبية

من هؤلاء كان الآيرلندي جوناثان أندرسون، المدير الإبداعي الحالي في دار «ديور» والذي فاز بجائزة مصمم العام، محققاً بهذا إنجازاً قياسياً. فهذه المرة الثالثة التي يفوز بها باللقب على التوالي، وإن كان هذا العام يحمل قيمة إضافية بالنسبة له؛ لأنه فاز بالجائزة عن علامته الخاصة «جي دبليو أندرسون» وعن دار «ديور» التي التحق بها مؤخراً وقدم لها أول مجموعة من إبداعه منذ أشهر قليلة.

جوناثان أندرسون بعد تسلمه جائزة مصمم العام للمرة الثالثة على التوالي (غيتي)

وقف أندرسون وسط تصفيق حار، وقال بروح مرحة: «سأكون سريعاً... أعلم أن الجميع يرغب في الاحتفال». ثم عبّر عن شكره لدلفين أرنو، الرئيسة التنفيذية للدار وإلى فريقه قائلاً: «أؤمن بأن التعاون طريق النجاح». إنجاز أندرسون لا يقتصر على تحقيقه الرقم القياسي هنا، بل يمثل لحظة تحول مهمة لدار «ديور» التي من المتوقع أن يضخها بروح جديدة تجمع بين الحداثة والحرفية وبين الماضي والمستقبل.

جوائز تُكرّم الإبداع البريطاني

وفي سياق الجوائز التي تحتفي بالفعل الإبداعي البريطاني، فازت سارة بيرتون بجائزة مصمّمة الأزياء النسائية البريطانية للعام عن عملها في دار «جيفنشي»، التي التحقت بها مؤخراً، مؤكدة استمرار تأثيرها الراسخ في عالم الأزياء النسائية.

وعلى الجانب الآخر، توّجت غريس ويلز بونر بجائزة مصمّم الأزياء الرجالية البريطانية للعام عن علامتها Wales Bonner، بعد عام شهد حضوراً قوياً لها على منصات العرض وفي النقاشات الثقافية المرتبطة بالهوية والموضة، لا سيما بعد دخولها دار «هيرميس» خليفة لفيرونيك نيشانيان التي تولت القسم الرجالي لنحو 37 عاماً.

أما جائزة Vanguard، التي تُمنح للمواهب الواعدة، فكانت من نصيب المصمّمة ديلارا فندك أوغلو، التي واصلت خلال العام الماضي فرض نفسها بوصفها واحدةً من أكثر الأصوات الشابة إثارة للاهتمام في عالم الأزياء التجريبية.

برونييلو كوتشينيلي

شارون ستون وبرونيلو كوتشينلي قبل دخولهما قاعة الحفل (أ.ف.ب)

ومن بين الجوائز المهمة أيضاً في الأمسية، كانت جائزة الإنجاز المُتميز التي ذهبت هذا العام إلى المصمّم الإيطالي برونيلو كوتشينيلي، المعروف ببناء إمبراطورية عالمية للرفاهية الهادئة من مقره في قرية سولوميو الحالمة بوسط إيطاليا. وكان توم فورد هو الفائز بهذه الجائزة في العام الماضي؛ الأمر الذي يؤكد استمرار الاعتراف بالأسماء التي تركت بصمتها على الصناعة بأبعادها الإنسانية والحرفية.

الجانب الإنساني يسرق الأضواء

رغم أن أسماء الفائزين ببعض الجوائز كانت معلنة قبل الحدث، فإن اللحظات التي عاشها الضيوف داخل القاعة لم تفقد تأثيرها.

كانت أنوك ياي، الفائزة بجائزة عارضة العام، من أبرز هذه اللحظات. العارضة السودانية - الأميركية التي تصدرت أغلفة المجلات العالمية مثل «فوغ» فرنسا، وظهرت في حملات سان لوران وفيرساتشي، وقدّمت عطراً من تييري موغلر، اعتلت المسرح وهي تتلقى الجائزة من الفائزة السابقة أليكس كونساني. وقالت ياي بخفة ظل: «قيل لي إن مسيرتي لن تتجاوز ستة أشهر... ويبدو أنها كانت ستة أشهر طويلة، أليس كذلك؟»، ثم تحوّلت عباراتها رسالة تمس القلوب: «إلى كل الفتيات السود الصغيرات اللواتي يشاهدنني الآن... لونكن ليس لعنة. أنتنّ أقوى مما تتخيلن». كلمات جعلت القاعة تصمت في لحظة إجلال، قبل أن تنفجر بالتصفيق.

إبداع يربط الموضة بالثقافة

جائزة المبتكر الثقافي كانت من نصيب ليتل سيمز، الفنانة التي تجمع بين الموسيقى والتمثيل، والتي أهدت جائزتها «لنسختها الصغيرة» التي لم تكن لتتخيل هذا اليوم، لكنها «رأته حتى النهاية».

كما شهد الحفل منح جائزتي تقديراً خاصاً في هذا المجال لكل من دلفين أرنو وBFC Fashion Trust متمثلة في تانيا فارس بمناسبة مرور 15 عاماً على تأسيسه.

وحصلت لولو كينيدي ورافاييل مور على تكريم 25 عاماً من Fashion East، بينما ذهبت جائزة «لحظة باندورا الأسلوبية» للعام إلى سام وولف.

أما جائزة «إيزابيلا بلو للإبداع»، فقد مُنحت لكلٍّ من راي كاواكوبو، وأدريان جوفي، وديكون باودن عن Dover Street Market.

تخللت الحفل أنشطة فنية وترفيهية عدة عربوناً على لقاء الموضة والفنون (رويترز)

وهكذا اختُتمت أمسية جمعت بين الأزياء وعروض حية من الموسيقى والباليه، إضافة إلى القصص الإنسانية، وفي الوقت ذاته كرّست مكانة جوائز الموضة بين أكثر الأحداث تأثيراً في روزنامة الموضة العالمية. ليلة كتبت فيها لندن فصلاً جديداً، وكان بطلاها الأساسيان لبنانيةً وآيرلندياً.


أسبوع الموضة المصري... آمال كبيرة في ترسيخ مكانته بالخريطة العالمية

انطلقت الدورة الثانية من أسبوع الموضة المصري بورشات عمل وتدريب وعروض تبرز قدرات مواهب شابة (خاصة)
انطلقت الدورة الثانية من أسبوع الموضة المصري بورشات عمل وتدريب وعروض تبرز قدرات مواهب شابة (خاصة)
TT

أسبوع الموضة المصري... آمال كبيرة في ترسيخ مكانته بالخريطة العالمية

انطلقت الدورة الثانية من أسبوع الموضة المصري بورشات عمل وتدريب وعروض تبرز قدرات مواهب شابة (خاصة)
انطلقت الدورة الثانية من أسبوع الموضة المصري بورشات عمل وتدريب وعروض تبرز قدرات مواهب شابة (خاصة)

بين افتتاح المتحف المصري الكبير وفضول عالمي متزايد بسوق الموضة وصعود مصممين من أبناء البلد يطمحون لترك بصمتهم على العالم، يأتي أسبوع الموضة المصري ليكون خطوة مهمة في رحلة القاهرة لاستعادة دورها بوصفها عاصمة ثقافية وفنية. سلاحها، العودة إلى الجذور وإلى حكايات ملهمة إلى جانب توظيف خامات طبيعية محلية.

يبدو واضحاً أن معظم المصممين والمبدعين متمسكون بالجذور رغم تطلعهم للعالمية (خاص)

تحت عنوان «التطور» انطلقت الدورة الثانية من أسبوع الموضة المصري في احتفال يعكس خطوات واثقة بدأت تحققها صناعة الأزياء منذ إطلاق الحدث لأول مرة في عام 2023. في هذه الدورة برزت رغبة محمومة من قبل المصممين المشاركين في توظيف خامات طبيعية كالقماش والقطن. وطبعاً إحياء حرف يدوية تقليدية في مسار يُعبِد الطريق نحو مستقبل مستدام وهوية تصميم مصرية معاصرة.

فتحت الفعاليات أبوابها للجمهور داخل مبنى كونسوليا وبيت بدير في قلب وسط البلد، بعدما أعادت إحياءهما شركة Coterie الشريك الرئيسي لهذا العام.

من علامة «باز القاهرة» تصاميم مستوحاة من التراث بلغة معاصرة (خاص)

كان هناك حرص على أن تُجرى كل فعاليات الحدث في مكان محدد، حتى لا يضطر الحضور إلى التنقل بين الأماكن في زحمة سير القاهرة، وما يمكن أن يترتب عليه من تأخير وضغوط. ثم إن المكان يتوفر فيه كل شيء، بدءاً من فناء أخضر فيه مقهى إلى طوابق مختلفة يحتضن كل واحد منها فعاليات معينة. الطابق الخامس مثلاً خُصص لأعمال أبرز المصممين المصريين عبر معارض ومنصات تفاعلية وورش عمل، فيما خصصت الطوابق العليا، كمسرح لعروض الأزياء وصالونات للماكياج وتصفيف شعر العارضات.

هناك رغبة في العودة إلى الجذور واستعمال خامات طبيعية مستدامة (خاص)

لكن ما ميز أسبوع هذه الدورة أيضاً، تعدد برامج الحوارات، التي شارك فيها أكثر من 30 شخصية محلية ودولية مؤثرة، من ضمنهم الأرشيدوقة كاميلا فون هابسبورغ-لوتيرينغن والمصممة أمينة غالي من عزة فهمي، و كاميلا فراكاسو ديافيريا من White Milano

والباحثة التراثية شهيرة محرز وشرين رفاعي مؤسسة أسبوع الموضة الأردني.

وشاركت ثمانٍ من أبرز مؤسسات تعليم الموضة في مصر إما بعروض أو معارض تبرز أفكاراً مبتكرة لطلاب يدعمهم برنامج GTEX التابع للمركز الدولي للتجارة ومؤسسة دروسوس بعد عملية انتقاء دقيقة لكل واحد منهم.

كانت القاعات تنبض بالنقاشات حول الاستدامة، الملكية الفكرية، تعليم الحرف والتمويل. وفي ورش العمل، قدّم المصمم الأردني ليث معلوف عروضاً تطبيقية على الأقمشة، بينما شرح مشرفون من مبادرة MSNJ كيف أصبح الصبار خيطاً ناعماً يمكن إدخاله في أزياء صديقة للبيئة.

تقول سوزان ثابت، أحد مؤسسي الأسبوع، إن مصر تزخر بالموارد والمواهب، وتاريخ غني في مجال الموضة لا يعرفه كثيرون ويستحق التعريف به وتسليط الضوء عليه بعد أن طاله غبار الزمن.

المصمم بريهان أبو زيد من علامة «باز» (خاص)

من هذه الفكرة أو الرغبة تبدأ قصة أسبوع الموضة في مصر تحت عنوان «التطور».

كانت التصاميم تشبه دفاتر يوميات مفتوحة ترجم فيها الطلاب رؤية لعالم يريدون أن يكونوا جزءاً منه عن استحقاق.

لكن وراء الألوان والقصات والأضواء وتسريحات الشعر الأنيقة، يقف اقتصاد ضخم. فصناعة النسيج مثلاً من أهم ركائز الاقتصاد المصري، وكذلك القطن المصري الذي يعد علامة فارقة في المنتجات العالمية من ناحية جودته وفخامته. تقول سوزان: «هذا تحديداً ما يرتكز عليه أسبوع الموضة ليعيد صياغة هذه الصناعة، ليس فقط عبر تصدير الخامات، بل عبر خلق علامات مصرية قادرة على المنافسة عالمياً وتحمل مفهوم (صنع في مصر)».


لبان ظُفار من الشجرة إلى الزجاجة في وادي دوكة

بالنسبة للعمانيين فإن ذِكر «أمواج» واللبان أصبح مرادفاً لعُمان (أمواج)
بالنسبة للعمانيين فإن ذِكر «أمواج» واللبان أصبح مرادفاً لعُمان (أمواج)
TT

لبان ظُفار من الشجرة إلى الزجاجة في وادي دوكة

بالنسبة للعمانيين فإن ذِكر «أمواج» واللبان أصبح مرادفاً لعُمان (أمواج)
بالنسبة للعمانيين فإن ذِكر «أمواج» واللبان أصبح مرادفاً لعُمان (أمواج)

وأخيراً أصبح في المنطقة العربية مصنع عطور يُجرى فيه تقطير اللبان محلياً، بعدما كان السفر إلى مدينة غراس الفرنسية الخيار الوحيد. أهمية هذه الخطوة لا تقتصر على بناء صناعة متكاملة من الشجرة إلى العطر فحسب؛ بل تمتد أيضاً إلى خفض البصمة الكربونية، وإفادة المجتمعات المحلية، والحفاظ على الموارد الطبيعية للأجيال القادمة. واليوم بات بإمكان صُنَّاع العطور التوجه إلى صلالة، وتحديداً وادي دوكة، لمعاينة هذه النقلة في مجالهم عن قُرب، بعد أن كان المشهد محصوراً في صورة شاعرية لطقوس جمع اللبان وترحاله.

تسمع حكايات وتقرأ في كتب التاريخ الكثير عن منطقة ظفار وعلاقتها بالبخور واللبان. تترسخ في مخيلتك صورة شاعرية عن قوافل تجارية وثقافات متنوعة تمر منها إلى أوروبا وإلى آسيا، محملة بالبضائع النادرة، ولكن ما من وصف يضاهي الواقع.

يتم التعامل مع عملية استخراج اللبان بحذر حتى لا تتأثر الأشجار وتعطي الكثير (أمواج)

كانت الرحلة التي نظمتها دار «أمواج» للعطور بمناسبة افتتاح مصنعها الجديد «عين دوكة» لاستخلاص زيت اللبان، فرصة لاكتشاف هذا العالم عن قرب. أقل ما يمكن قوله عن الرحلة إنها بدأت بفضول وانتهت بانغماس في تاريخ قد يكون ضارباً في القدم، إلا أنه لم يفقد في أي مرحلة بوصلته نحو المستقبل.

ففي وادي دوكة، المدرَج على قائمة التراث العالمي لـ«يونيسكو»، تترامى أكبر محمية في العالم لأشجار «بوسويليا ساكرا»، مصدر راتينغ اللبان (إفراز عضوي) الذي شكَّل عبر آلاف السنين ركيزة لثقافات وتجارة وطقوس روحانية لا تُحصى. والآن تريد ظفار تسويقه للعالم بوصفه واحداً من أهم المكونات وأجملها في صناعة العطور، باستخراجه وتقطيره في عقر داره.

بخور المناسبات المهمة

هنا، خلف جبالها وبمحاذاة المنحدرات المنخفضة، وفي بطون الأودية والسهول، تنمو هذه الأشجار المتقشفة التي لا يثير شكلها النظر، إلا أنها بصبرها على مواجهة الرياح والرمال، لا تزال شامخة. جذوعها الخشنة لا تبخل براتينغ مميَّز جعل الإغريق يصفون المنطقة كلها بالبلاد السعيدة «أرابيا فيلكيس».

أنوف مشهورة مثل دومينيك روبيون وباسكال غورين وبيير غيروس وغيرهم انبهروا بطقوس استخراج اللبان (أمواج)

لم تكن الرحلة عادية وتقليدية من ناحية استضافتها وسائل الإعلام وحدها كما جرت العادة. نصف الحضور أو أكثر، كانوا «أنوفاً» عالمية من كبار العطارين، مثل: دومينيك روبيون، وباسكال غورين، وبيير غيروس، وغيرهم. أضفوا على التجربة بُعداً احترافياً. فهذه الأنوف تعوَّدت على أجود أنواع العود والياسمين والنباتات النادرة، ومن الصعب مفاجأتهم بالجديد، ومع ذلك كانوا منبهرين بالمكان وما تبوح لهم به هذه الأشجار من أسرار.

لم تفارق الابتسامة العطار بيير غيروس، فأخذني الحماس لأسأله أن يقارن لي بين هذا المكان وبين مدينة غراس الفرنسية وحقولها التي تعدُّ عاصمة العطور في العالم، فيرد مازحاً: «هناك وُلدت العطور من رحم روائح كريهة كانت تنبعث من دباغة الجلود، أما هنا فالعطر يولد من الأرض نفسها، من هوائها وشجرها ودفئها الصحراوي». هذا الإعجاب لا تلمسه لدى العطارين هنا فحسب؛ بل تلمسه في كل مكان ممزوجاً بفخر، كما تشي حكايات سكان المنطقة عن ارتباطها بالعطر.

بداية الحلم

طقوس محددة وأيادٍ محلية متمرسة تتقن التعامل مع الشجر لاستخراج أفضل ما فيه (أمواج)

كان السلطان الراحل قابوس بن سعيد صاحب فكرة تأسيس دار عطور فاخرة تُعرِّف العالم بالثقافة العمانية و«ذهبها الأبيض». كان ذلك في عام 1983 عندما أطلق مشروعاً كان طموحاً لدرجة الحلم: بناء صناعة محلية متكاملة لا تعتمد على الخارج، تبدأ في استخراج زيت اللبان وتنتهي بابتكار عطور تُعرف عالمياً بـ«هدية الملوك» تُصنع من الألف إلى الياء في أرض اللبان.

بعد أربعة عقود تقريباً، يكتمل هذا المشروع، بوضع حجر الأساس لمصنع «عين دوكة». مصنع لاستخلاص زيت اللبان من الراتينغ، وبه يتم إحياء حِرفة شكَّلت عبر العصور جوهر صناعة العطور في عُمان.

وادي دوكة... حكاية مستمرة

ثقافة اللبان ضاربة في التاريخ... ولكن البوصلة موجهة نحو المستقبل والعالم (أمواج)

في هذا الوادي المدرج على قائمة التراث العالمي لـ«يونيسكو» منذ عام 2000، تمتد أكبر محمية لأشجار «بوسويليا ساكرا» في العالم. أشجار منحت عُمان مكانتها بين الحضارات القديمة، ووفرت لإمبراطوريات عظيمة البخور للتطهير والاحتفال. فاللبان لم يكن مجرد بضاعة فواحة؛ بل لغة روحية وثقافية ودبلوماسية وحلقة وصل بين الشرق والغرب. لم يتردد الإغريق مثلاً -شأنهم شأن الرومان وغيرهم من الثقافات القديمة- في دفع أثمان باهظة لقاء الحصول على اللبان العماني تحديداً. فهو يحتوي على نسبة تتجاوز 70 في المائة من المركب العضوي العطري «ألفا بينين»، مما يجعله مختلفاً بفارق عن زيوت اللبان المستخرجة من المواقع الأخرى.

طقوس محددة وأيادٍ محلية متمرسة تتقن التعامل مع الشجر لاستخراج أفضل ما فيه (أمواج)

هذا التاريخ وُضع في الحسبان عند تصميم المكان؛ حيث يتجلَّى المعمار امتداداً للأرض التي تحتضنه؛ تتماهى ألوانه وتفاصيله مع طبيعة الوادي المدرج على قائمة التراث العالمي لـ«يونيسكو»، فيبدو من بعيد كصخرة ناعمة. ومع الاقتراب، تظهر هندسته الدائرية المستوحاة من التواصل بين الإنسان والطبيعة، تحتضن في قلبها حديقة لشجر اللبان، رمزاً للاستدامة واستمرارية الحياة.

يُدار المكان بأسلوبٍ حديثٍ ومستدام؛ إذ تم تحديد مواقع أكثر من خمسة آلاف شجرة لبان، باستخدام تقنية التتبُّع الجغرافي، ليصبح وادي دوكة أول غابة ذكية في منطقة الخليج. هذه الأشجار تُحصد وفقاً للمعايير الدولية لممارسات الحصاد الأخلاقي والمسؤول، وهو ما أكده اعتماد مؤسسة «فيروايلد» الدولية في أغسطس (آب) الماضي.

رينو سالمون المدير الإبداعي في «أمواج» يشرح تاريخ اللبان وأهميته وطرق استخراجه (أمواج)

يُعلِّق رينو سالمون، المدير الإبداعي في «أمواج»: «كانت رؤيتنا لعين دوكة واضحة منذ البداية. أردناه مكاناً يعكس جمال البساطة وعمق العلاقة بين الأرض والعطر. فالتصميم يبدو وكأنه ينمو من طبيعة المكان ويتناغم معها. ولذا؛ راعينا توفير مساحات مفتوحة لتضفي شعوراً خاصاً وتترك طابعاً يعبر عن شخصية الدار وطبيعة الأرض، وتتيح للحرفة العُمانية أن تكون جزءاً أساسياً من التجربة؛ حيث يرى الزائر كيف يتحوَّل اللبان من مادته الطبيعية إلى عطر بنغمات دافئة ومميَّزة».

ما بدأ بحصاد محلي تحول إلى صناعة عالمية (أمواج)

ما بدأت عطوراً خاصة جداً لتكون هدايا تليق بالملوك، أصبحت اليوم صناعة متكاملة الجوانب. فالدار توسعت، وكلما زاد نجاحها زادت طموحاتها. وللمرة الأولى في تاريخها، تجاوزت مبيعاتها 100 مليون دولار في الربع الأول من عام 2025. وعلى مستوى الإبداعات، حافظ عطر «جايدانس» (Guidance) على مكانته بصفته الأكثر مبيعاً، أما مجموعة «إسينسيس» فقد انضمت عطورها الثلاثة إلى قائمة أفضل 15 عطراً مبيعاً لدى «أمواج» خلال الفترة نفسها.