لا جدال في أن العاصمة البريطانية لندن تعد في طليعة مدن العالم «الكوزموبوليتانية»، حيث تتعدد الثقافات وفي كثير من الأحيان تتزاوج وتنصهر. وخلال العام المقبل، بعدما يودّع العمدة الحالي والسياسي والإعلامي المحافظ بوريس جونسون، الذي كان جدّه لأبيه تركيًا مسلمًا اسمه عثمان كمال، سيخلفه الفائز من انتخابات يخوضها الحزبان الكبيران، حزب المحافظين وحزب العمال، بمرشحين شابين يجسدّان مجددًا هوية لندن وتعدديتها الدينية والثقافية واهتماماتها الاقتصادية والبيئة والاجتماعية.
أصلاً، لندن اعتادت على انتخاب شخصيات تتمتع بالجاذبية الشخصية الكبيرة، ولئن كان العمدة الحالي جونسون يُعدّ من أكثر الساسة المحافظين شعبية، وينظر إليه كثيرون على أنه الشخصية الأنسب لخلافة ديفيد كاميرون في زعامة الحزب، وبالتالي رئاسة الحكومة، فإن العمال سبق لهم أن انتخبوا كين ليفنغستون. وكان ليفنغستون، ذلك السياسي اليساري المتشدد اللامع، الرجل الذي صادم مارغريت ثاتشر في عزّ سطوتها، وبلغ تخوّفها من شعبيته وجاذبيته الجماهيرية حد اتخاذها قرار إلغاء المجلس البلدي الموحّد للندن الكبرى بمناطقها الـ15 والاكتفاء بالمجالس المحلية لكل من هذه المناطق.
تنبع أهمية منصب عمدة لندن من المكانة الاستثنائية للعاصمة البريطانية ذاتها. فليست كل مدينة في بريطانيا بمستوى لندن، سواءً من حيث حجمها السكاني، أو مكانتها المالية والاقتصادية والخدماتية والسياحية والثقافية، أو صورتها المميزة كـ«عاصمة عالمية»... لا تنافسها في هذا سوى حواضر قليلة بالكاد تعد على أصابع اليد الواحدة، مثل نيويورك وباريس وطوكيو وبرلين.
وبالتالي، يوفر منصب عمدة لندن لشاغله إطلالتين: إطلالة وطنية كونه رئيس أكبر سلطة محلية منتخبة على مستوى بريطانيا، وإطلالة دولية كون لندن إحدى «العواصم العالمية» القليلة التي تستقطب الرساميل والاستثمارات والسياح، ناهيك من مجتمعات الأعمال، وتجتذب بخدماتها المتطورة كل فئات المجتمع. خلال الأسابيع القليلة الفائتة حسم الحزبان البريطانيان الكبيران معركتيهما الداخليتين، ففاز عضو مجلس العموم البريطاني زاك غولدسميث، بفارق كبير، بترشيح حزب المحافظين الحاكم لمنصب عمدة العاصمة. وكان قد سبقه عضو مجلس العموم والوزير العمالي السابق صديق خان بالفوز بترشيح حزب العمال لهذا المنصب المرموق.
المرشحان «أربعينيان» ينتمي كل منهما إلى التيار التجديدي المعتدل في حزبه، وهما يمثلان دائرتين انتخابيتين في جنوب لندن. ولكن عند هذه النقطة تتوقّف المقارنات، إذ إن خلفيتيهما الاجتماعيتين تختلفان اختلافًا جذريًا.
* البرامج مطلبية
من يعرف مناخات السياسة البريطانية يدرك أن الناخب البريطاني إنما يقترع بناء على البرامج السياسية التي تطرحها الأحزاب، وهو وإن تأثر بعوامل شخصية هنا أو دينية هناك تظل المعايير معايير مطلبية ومصلحية في المقام الأول. وهذا الواقع يتضح أكثر في صفوف التيارين اليميني في حزب المحافظين واليساري في حزب العمال حيث يلعب الولاء الطبقي والمستوى المعيشي – لجهة الدخل – الدور الأساسي في أولويات المحازبين والحركيين الملتزمين.
وهكذا، بصفة عامة، تصوّت المناطق حيث تشكل الملكية العقارية الفردية نسبة غالبة من مجموع التوزع العقاري لحزب المحافظين. كذلك يتمتع هذا الحزب بتأييد سكان الضواحي الراقية خارج المدن الصناعية. أما حزب العمال فيحصل على النسبة أعلى من التأييد في المناطق والأحياء الفقيرة، حيث يكثر الإسكان الشعبي، وكذلك في البيئات الصناعية التقليدية، وحتى الأمس القريب في مناطق المناجم. وفي ضوء هذا الواقع يلاحظ أن في صميم برامج المحافظين السياسية والانتخابية تحفيز المبادرة الفردية ومكافأة الطبقة الميسورة والطبقة ما دون الوسطى بخفض الضرائب وخفض الإنفاق على الخدمات العامة وتحرير الرساميل في أيدي أصحابها. وفي المقابل، تحرص البرامج السياسية والانتخابية للعمال على تعزيز والإنفاق على الخدمات العامة التي تشكل شبكة أمان للفقراء والعاطلين عن العمل والعائلات الكبيرة من الطبقات الفقيرة ما دون الوسطى.
ولكن خلال الفترة منذ عام 1978 جرّب الحزبان الكبيران التطرّف والاعتدال. وأيضًا اقترب الحزبان في عدة مراحل زمنية من مواقع وسط الساحة، إذ لم يكن هناك فوارق آيديولوجية تذكر بين المعتدلين من الحزبين، مثل توني بلير العمالي المعتدل وديفيد كاميرون المحافظ المعتدل، بينما توجد فوارق هائلة بين الجناحين الراديكاليين فيهما.
* أهمية كسب غير الملتزمين
اليوم الحزبان يعدان العدة لخوض انتخابات المجلس البلدي للندن بشخصيتين تتمتعان بشعبية لا تنكر كل داخل حزبه. ويكاد يكون هناك شبه إجماع على أن أيًا منهما لا يعبّر عن الجماعات الراديكالية المتزمتة داخل الحزبين، وذلك لأن من مصلحة الحزبين كسب أوسع حيّز ممكن من جمهور الناخبين غير الملتزمين، وأولئك الذين يقترعون على أساس قضية مطلبية بعينها بمعزل عن الهوى الآيديولوجي.
وبالتالي، اختار المحافظون مرشحًا مهتمًا جدًا بالبيئة – بل هدّد بالوقوف ضد حزبه إذا تبنى الحزب خطط توسيع مطار هيثرو – لكي يسحب أصوات ناخبين يمكن أن يصوّتوا لمرشح حزب «الخضر». ومن جهتهم، اختار العمال مرشحًا ذا خبرة كبرى في الحكم المحلي (البلديات) والنقل، وهما قطاعات يمسان حياة الناس مباشرة، لأنهم يأملون أن يكسب نسبة عالية من الأصوات التي قد تذهب للديمقراطيين الأحرار، وكذلك «الخضر» وبعض القوى المطلبية الصغيرة.
* زاك غولدسميث.. الأرستقراطي الثري
زاك غولدسميث (40 سنة)، واسمه الكامل فرانك زكارياس روبن غولدسميث، ولد يوم 20 يناير (كانون الثاني) 1975 في العاصمة البريطانية لندن. وهو ابن رجل الأعمال الملياردير السير جيمس غولدسميث، المتحدّر من أسرة يهودية ألمانية ثرية، وزوجته الثالثة الليدي آنابيل فاين - تمبست ستيوارت، وهي سيدة أرستقراطية من أصول إنجليزية – آيرلندية.
تربّى زاك مع شقيقيه جيما وبن في قصر العائلة في الضواحي الجنوبية الخضراء للندن على ضفاف التيمس، ودرس ثم تخرج في كلية إيتون، إحدى أعرق وأرقى مدارس العالم الخاصة، غير أنه لم يتابع دراسته الجامعية، بل جال في مختلف أنحاء العالم ونمت عنده اهتمامات كبير بمسائل حماية البيئة. وبناءً عليه أسند إليه عمه إدوارد غولدسميث عام 1997 منصبًا تحريريًا في مجلة «ذي إيكولوجيست» البيئية التي كان العم قد أسسها وتولى نشرها. وفي العام التالي أسندت إليه رئاسة تحريرها وإدارتها، غير أنه عندما قرر خوض غمار السياسة عام 2006 تخلى عن منصبيه في المجلة، وإن ظل يكتب عن البيئة في عدد من الصحف والمجلات البريطانية الكبرى.
عام 2005 عينه رئيس الوزراء ديفيد كاميرون نائبًا لرئيس مجموعة «فريق سياسة نوعية الحياة» معاونًا لرئيسها الوزير السابق اللورد ديبين (جون سلوين – غامر). وعام 2010 رشحه حزب المحافظين لخوض الانتخابات عن دائرة ريتشموند بارك وفاز بالمعقد البرلماني، منتزعًا إياه من حزب الديمقراطيين الأحرار. وكرر فوزه بالمقعد في الانتخابات العامة الأخيرة في الربيع الفائت بغالبية كبيرة من الأصوات بلغت أكثر من 23 ألف صوت عن أقرب منافسيه. ولدى تحضير الحزب لانتخابات منصب عمدة لندن دخل غولدسميث حلبة المنافسة داخل الحزب وفاز بغالبية ضخمة أيضًا، إذ حصل على 6514 صوتًا مقابل 1488 صوتًا فقط لأقرب منافسه عضو البرلمان الأوروبي سعيد كمال. وهكذا تأهل لخوض المعركة في وجه مرشحي عدة قوى، في مقدمتها حزب العمال.
زاك غولدسميث، تزوّج مرتين، وهو أب لأربعة أولاد. وحاليًا يسكن في حي بارنز الراقي جنوب نهر التيمس بجنوب غربي لندن، وتقدّر المصادر أنه ورث عن أبيه بعد وفاته ثروة تقدّر بما بين 200 و300 مليون جنيه إسترليني. وتجدر الإشارة إلى أن شقيقته جيما غولدسميث - خان، التي اعتنقت الإسلام، كانت متزوجة بلاعب الكريكيت الباكستاني العالمي عمران خان، الذي اقتحم مثل شقيقها غمار السياسة في باكستان. وحصلت على شهادة الماجستير في الفكر الإسلامي المعاصر من معهد الدراسات الشرقية الأفريقية بجامعة لندن.
* صديق خان.. العصامي الطموح
بعكس التربية الأرستقراطية لآل غولدسميث، فإن المرشح العمالي صديق خان (45 سنة) رجل عصامي، كان أبوه المهاجر الباكستاني المسلم سائق حافلة وتعمل أمه في الخياطة، لكنه نجح في حياته المهنية والسياسية ليغدو عام 2008 ثاني مسلم في تاريخ بريطاني يصبح وزيرًا.
ولد صديق عمران خان يوم 8 أكتوبر (تشرين الأول) 1970 في لندن ونشأ في مجمع إسكان شعبي بحي إيرلزفيلد بجنوب المدينة. وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدرستين حكوميتين قبل أن يلتحق بجامعة شمال لندن لدراسة الحقوق. ومن ثم مارس صديق تدريس الحقوق، وكذلك زاول مهنة المحاماة بنجاح، بل وانتخب في عدة مواقع قيادية في الجمعيات الخاصة المهتمة بالحقوق المدنية.
من جانب آخر، انجذب صديق للسياسة، وخاض غمار العمل البلدي في صفوف حزب العمال، فانتخب عضوًا في المجلس البلدي لمنطقة وانزوورث بجنوب لندن عام 1994 ممثلاً حي توتينغ، واحتفظ بمقعده في المجلس حتى عام 2006. وعام 2005 دخل مجلس العموم لأول مرة بعد فوزه في الانتخابات عن دائرة توتينغ، واحتفظ بمقعده البرلماني عام 2010، ثم في الانتخابات الأخيرة خلال العام الحالي.
في أكتوبر 2008، بعد تعديل حكومي أجراه رئيس الوزراء حينذاك غوردن براون، عين صديق خان وزير دولة للجاليات والتجمعات المحلية، فبات ثاني مسلم يتولى الوزارة في بريطانيا.
وعام 2009 عين وزيرا للنقل ودخل مجلس الوزراء المصغّر. وهو اليوم، «وزير في حكومة الظل» العمالية لشؤون لندن. تمكن يوم 15 سبتمبر (أيلول) الماضي من حسم معركة ترشيح حزبه لمنصب العمدة حاصلاً على 48152 صوتًا، أي ما نسبته نحو 59 في المائة من الأصوات، متغلبًا على منافسته الأقوى الوزيرة السابقة تيسا جاويل التي حصلت على أكثر بقليل من 41 في المائة من الأصوات.
المرشح العمالي متزوج منذ عام 1994 وزوجته مسلمة اسمها سعدية، وهو أب لثلاثة أولاد.
* الأحزاب الأخرى
المعركة في لندن مفتوحة أمام عدة أحزاب ولا تقتصر بحال من الأحوال على المحافظين والعمال، ففي وسط الساحة الآيديولوجية هناك حزب الديمقراطيين الأحرار، الوسطي الليبرالي الذي ورث المبادئ الليبرالية من حزب الأحرار العريق. وفي يمينها هناك حزب «استقلال المملكة المتحدة» النازع للانفصال عن الاتحاد الأوروبي، والمناوئ بشدة للهجرة، وعلى يسارها يعد حزب «الخضر» البيئي إحدى أبرز قوى اليسار والقوى البيئية التي تتصادم أولوياتها مع التنمية السريعة وتخويل القطاع الخاص بكل شيء. أيضًا هناك جماعات هامشية متطرفة في اليمين واليسار، تجمعات مصلحية تدافع عن مطالب محلية أو آنية محددة، ولا ترضى بتذويبها أو تخفيفها في جدل سياسي عام يضيع بوصلتها ويضعف زخم الدفاع عنها.
ابنا ثري يهودي وسائق حافلة باكستاني مسلم.. يتنافسان على منصب عمدة لندن
معركة رئاسة بلدية العاصمة البريطانية تعكس تعدديتها الثقافية الغنية
ابنا ثري يهودي وسائق حافلة باكستاني مسلم.. يتنافسان على منصب عمدة لندن
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة