«غياب مكتمل الحضور»... حوار المنفى والحنين مسرحيّاً

قطارات تأتي وترحل بانتظار الأمل والمجهول

«غياب مكتمل الحضور»... حوار المنفى والحنين مسرحيّاً
TT

«غياب مكتمل الحضور»... حوار المنفى والحنين مسرحيّاً

«غياب مكتمل الحضور»... حوار المنفى والحنين مسرحيّاً

يكرّس الكاتب الشهير ميلان كونديرا الفصل الأول من روايته التي تحمل عنوان «الجهل» للبحث عن جذور كلمة «الحنين للوطن» في مختلف لغات العالم. محاولاً أن يقف على أسرارها وبلاغتها وما تنطوي عليه من حكمة إنسانية. ويتوصل في النهاية إلى أن الحنين للوطن هو «الجهل» الذي اتخذه عنواناً لروايته عن المهاجرين.

يقول كونديرا: «يبدو الحنين كأنه مكابدة الجهل، أنا بعيد ولا أعرف كيف أصبح بلدي بعيداً ولا أعرف ما يحدث فيه». بمعنى أنه الجهل بما يحصل للأحبة والأهل والأصدقاء والعلاقات والأمكنة والأشياء في الوطن.

ولا يبدو أن المخرج والكاتب السوري فراس الراشد يبتعد كثيراً عن هذا المفهوم حينما قدم لنا لوحته، بالأسود والأبيض، عن الهجرة والجهل والانتظار في مسرحية «غياب مكتمل الحضور»، حيث يصرع الحنين للوطن، أو لنقل الجهل، بما حصل للحبيب المجهول، شخصيتي المسرحية وهما يمضيان العمر في المحطات.

يرجّح المرء وهو يشاهد مسرحية «غياب مكتمل الحضور» أن شخصيتي المسرحية، المرأة والرجل يعيشان غربة قاتلة خارج الوطن وينتظران حبيباً لن يلتحق بهما، لكنه من المرجح أيضاً، أنهما يعيشان الغربة ذاتها في الوطن بانتظار حبيب هاجر إلى الخارج بلا بوصلة وانقطعت أخباره.

تجري أحداث المسرحية في المحطات، حيث تبدأ حياة الشخصيتين تحت سقوفها وعلى أرصفتها، وتنتهي فيها أيضاً، بين صفير القطارات الرائحة والقادمة. ويظل السؤال معلقاً ما بين محطة وأخرى : لماذا لم يأت هذا الحبيب المجهول، ولماذا غاب كالشبح، وما الظروف التي أبقته في داخل (أو ربما خارج) الوطن. زيادة في الجهل (الحنين) وزيادة في التغريب لا تحمل الشخصيتان في المسرحية اسماً ولا يعرف المشاهد جنسيتيهما ولا اسم المحطة أو البلد الذي أتيا منه أو عاشا فيه، كأنهما في متاهة لا تنتهي.

يقدم لنا المخرج والكاتب المسرحي السوري فراس الراشد في مسرحيته لمحة من حياة السوريين في هجرتهم القسرية، إلا أنه يعرف عن وعي بأن ظروف الغربة متشابهة، وأن الانتظار هو سيد الموقف، ويحاول تبديد هذا الجهل المطبق، معالجاً موضوع الانتظار والغربة بطريقة لا فسحة فيها للأمل أو العودة. بل إن الهجرة، من وجهة نظره، كما يبدو، لا تكتفي بقتل الحنين والشوق وإنما تقتل الأمل والحب. وهو ما يختتم به المسرحية حينما يشتعل رأسا المرأة والرجل شيباً على كراسي المحطة ويكتشفان، بعد فوات الأوان، إنهما كانا ينتظران في الحقيقة بعضهما، وأن الحبيب المفترض ليس إلا «غودو» جديداً لن يظهر ولو كشبح. الشبح الذي أحبته المرأة حينما كانت شابة ولم يظهر في أي قطار.

لا يمكن تفسير قتامة الحالة في المسرحية إلا بالاعتراف بحقيقة أن البعض من المغتربين لم يأتلف مع المنفى أبداً، وغرق في أحزانه وإدمانه لها حتى الرمق الأخير. إنها «وحشة» و«صمت قبور»، بحسب حوار الشخصيتين. قطارات تأتي وترحل وهماً بانتظار الأمل، وبانتظار المجهول، وبانتظار القدر الذي حكم عليهما بحمل حقائب السفر.

لا مسرح بلا صراع وتناقض بين الشخصيات والظروف والبيئة المحيطة، لكن الصراع في هذه المسرحية يتمحور، لدي الشخصيتين، ضد عوامل الاغتراب والنفي. يقاتلان من أجل حياة أفضل في الخارج بعد أن أنهكما الوطن بحروبه الخارجية والداخلية، وقد كانا على انسجام فيما بينهما طوال فترة العرض المسرحي لولا زعيق القطارات الحزين.

يقول المخرج فراس الراشد متفكهاً: إن الصراع الحقيقي في العمل كان الصراع الجغرافي؛ لأنه كان عليهم التغلب على هذه المشكلة خلال أشهر من التمارين حتى يوم العرض. يعيش الراشد في مدينة هانوفر التي تبعد 350كم عن مدينة زولنغن، التي يعيش فيها الممثلان، وتم العرض الأول في مدينة كولون التي تبعد 40كم عن زولنغن. الأمر الذي يزيد من صعوبات العمل المسرحي في المنفى الذي مر به الراشد لأول مرة بعد هجرته. فالمسرح في المنفى، بحسب تصريحه، يعني العمل بلا جهة داعمة، وبخيارات قليلة من الممثلين، وبلا ورشات عمل وديكور. لكنه يؤكد أن لن يدع ذلك يحبط معنوياته، وسيسعى من أجل عمل جديد يتمنى أن يذلل فيها صعوبات العمل المسرحي في المنفى.

يستغرب المشاهد حينما يعرف أن الممثلين، لارا زنادري وأ ـ نور السيد يعتليان خشبة المسرح لأول مرة. ورغم ذلك كان أداؤهما جيداً يرتقي عن مستوى الهواة. من ثم، لا يمكن هنا إغفال حقيقة وجود موهبة كانت كامنة فيهما ولم تكتشف، لكنه يكشف أيضاً نجاح المخرج في صقل موهبتهما وتقديم عمل، صفق له الجمهور طويلاً، على مسرح بسيط وباستخدام إكسسوار وقطع ديكور بسيطة لا تتيح الكثير من الحركة.

رافق الفنان جمال البشعان العمل، الذي دام 50 دقيقة، بنغمات رقيقة من العود، كانت ترتفع وتنخفض مع إيقاع المشاهد وهدير القطارات.

عرضت المسرحية، برعاية الديوان الشرقي - الغربي، على مسرح «بيت كل العالم» في مدينة كولون على الراين في أيام كرنفال الراين الذي يستقطب مليون كرنفالي سنوياً. قبل العرض تمنى أحد إداريي «بيت كل العالم» للمسرحية أن تتحول غربة السوريين والعراقيين كرنفالاً ثانياً.

في الختام، قد يقتنع القارئ بالعلاقة بين الحنين للوطن والجهل التي يطرحها كونديرا في رواية «الجهل» بشكل مقنع، لكنه سيتساءل بخاصة حين يشاهد هذا العرض: هل سيتبدد الحنين للوطن إذا زال هذا «الجهل»؟


مقالات ذات صلة

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

ثقافة وفنون سانت إكزوبيري

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

يحتل الفن الجنائزي حيزاً واسعاً من ميراث أقاليم شبه الجزيرة العربية، وتتميّز جزيرة البحرين في هذا الميدان بنتاج نحتي تصويري يعود إلى القرون الميلادية الأولى

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

تتويج كمال داود بجائزة «الغونكور»، وهي أبرز تكريم أدبي فرانكفوني على الإطلاق، لم يكن مفاجأة، فمنذ أشهر توقّعت عدة تقارير فوز الكاتب الجزائري بالجائزة المرموقة

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون «اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر» عنوان لافت لمختارات نقلها عن الأردية المترجم هاني السعيد للشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد الذي يُعد أحد رواد قصيدة النثر في باكستان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرح

«الشرق الأوسط» (الشارقة)

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري
TT

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً. وسواء كانت الحروب عبر التاريخ تُشن بفعل الصراعات الإثنية والدينية والآيديولوجية والرغبة بالسيطرة والاستحواذ، أو اتخذت شكل الدفاع عن الحرية والمقاومة ضد الاحتلال، فإن نتائجها الوخيمة لم تقتصر على دمار المنازل والمباني والمعالم المادية للعيش، بل تعدت ذلك لتصيب الدواخل الإنسانية بالتصدع، ولتحدث انهياراً كاملاً في نظام القيم وقواعد السلوك، ولتضع علاقة الإنسان بنفسه وبالآخر في مهب الشكوك والتساؤلات.

همنغواي

على أن من المفارقات اللافتة أن تكون الحروب الضارية التي أصابت الاجتماع الإنساني بأكثر الكوارث فظاعةً وهولاً، هي نفسها التي أمدت الفلسفة والفكر والفن بالأسئلة الأكثر عمقاً عن طبيعة النفس البشرية، ودوافع الخير والشر، ونُظُم الاجتماع الأمثل، فضلاً عن دورها المهم في تغيير الحساسيات الأدبية والفنية، ودفعها باتجاه الحداثة والتجدد. وإذا كان السؤال حول الآثار التي تخلفها الحروب في مجالي الأدب والفن هو من بين الأسئلة التي لم يمل النقاد والمهتمون عن طرحها مع كل حرب جديدة، فإن الإشكالية التي يتم طرحها باستمرار تتعلق بدور الكتاب والمثقفين في زمن الحرب، وعما إذا كان هذا الدور يقتصر على إنتاج النصوص والأعمال الإبداعية، أم أن على الكتاب والفنانين أن يدافعوا بحكم انتمائهم الوطني والقومي والإنساني عن قضايا شعوبهم بشتى السبل والوسائل الممكنة.

وإذا كان هذا النوع من الأسئلة لا يجد له إجابات قاطعة، لأن كل شخص يرى من وجوه الحقيقة ما يلائم مواقفه وتوجهاته، فقد تمكّننا العودة إلى التاريخ من استجلاء بعض الحقائق المتعلقة بمواقف الشعراء والمبدعين من الحروب والنزاعات الأهلية، وبما قاموا به، خارج النصوص والأعمال الفنية، من أدوار وإسهامات. ولعل أول ما يحضرني في هذا السياق هو التجربة الرائدة للشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، خلال الحرب الدامية التي نشبت بين قبيلتي عبس وذبيان، التي عرفت عبر التاريخ بحرب داحس والغبراء. فقد حرص زهير على وصف الحرب بما يليق بها من نعوت، محذراً من نتائجها الكارثية عبر أبياته المعروفة:

وما الحرب إلا ما علمتمْ وذقتمُ

وما هو عنها بالحديث المرَجَّمِ

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً

تضْرَ إذا ضرَّيْتموها فتضرمِ

فتعرككمْ عرْك الرحى بثفالها

وتَلْقحْ كشافاً ثم تُنتجْ فتتئمِ

إلا أن زهيراً الذي رسم في معلقته إحدى أكثر اللوحات الفنية دلالة على فظاعة الحروب وهولها الكارثي، رأى أن من واجبه كإنسان وكفرد في جماعة، أن يحرض على نبذ العنف، ويدعو إلى تحرير النفوس من الأحقاد والضغائن. وهو إذ راح يمتدح كلاً من داعيتي الصلح، الحارث بن عوف وهرم بن سنان، فلم يفعل ذلك تملقاً أو طلباً للثروة والجاه، بل فعله انتصاراً لمواقفهما الأخلاقية النبيلة، ولما قدماه من تضحيات جسام بهدف إطفاء جذوة الحرب، وإحلال السلام بين المتنازعين.

تولستوي

ومع أن الحروب بأشكالها المختلفة قد شكلت الظهير الأهم للكثير من الأعمال الملحمية والروائية، فإن قيمة العمل المتولد عنها لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية في المعارك والمواجهات، بل موهبته العالية وتفاعله مع الحدث، وكيفية الانتقال به من خانة التوصيف السطحي والتسجيلي إلى خانة الدلالات الأكثر عمقاً للعدالة والحرية والصراع بين الخير والشر، وصولاً إلى الوجود الإنساني نفسه.

وإذا كان تاريخ الأدب بشقيه القديم والحديث حافلاً بالبراهين والأدلة التي تضيق الهوة بين الخيارين المتباينين، فيكفي أن نعود إلى هوميروس، الذي لم تحل إصابته بالعمى وعجزه عن المشاركة في الحروب، دون كتابته لملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة»، تحفتي الأدب الخالدتين. كما يمكن الاستدلال بتولستوي الذي لم تكن رائعته الروائية «الحرب والسلم» ثمرة مشاركته المباشرة في حرب نابليون على روسيا القيصرية، وهو الذي لم يكن أثناءها قد ولد بعد، بل ثمرة تفاعله الوجداني مع معاناة شعبه، ورؤيته النافذة إلى ما يحكم العلاقات الإنسانية من شروخ وتباينات. ومع أنه لم يجد بداً من الانخراط في الجندية في وقت لاحق، فإنه ما لبث أن تحول إلى داعية للمحبة ونبذ العنف، وتحقيق السلام بين البشر.

أما الجانب الآخر من الخيارات فتمثله تجارب كثيرة مغايرة، بينها تجربة الكاتب الأميركي آرنست همنغواي الذي قدم عبر حياته الحافلة، النموذج الأكثر سطوعاً عن العلاقة بين الكتابة والحياة، وهو الذي لم يكتف بوصف الحرب عن بعد، كما فعل كتاب كثيرون، بل عمد إلى الالتحام المباشر بميادينها المحفوفة بالمخاطر، الأمر الذي وفرته له مهنته كمراسل حربي للصحف التي عمل فيها. والواقع أن فائض القوة العضلي لهمنغواي، والتزامه الوطني والإنساني، لم يكونا الدافعين الوحيدين لمشاركته في الحروب التي خاضها، بل كان دافعه الأساسي متمثلاً في البحث عن أرض ملموسة لكتابة رواياته وقصصه المختلفة. وإذا كان انخراط الكاتب الفعال في الحرب العالمية الأولى هو الذي يقف وراء تجربته الروائية المبكرة «وداعاً أيها السلاح»، فإن مشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية دفاعاً عن الجمهوريين، وجنباً إلى جنب مع كتاب العالم الكبار، هي التي ألهمته رائعته الروائية اللاحقة «لمن تُقرع الأجراس».

وفي السياق نفسه يمكن لنا أن نضع تجربة الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري، الذي دفعه شغفه البالغ بالطيران إلى الالتحاق بقوات بلاده الجوية، ولم يثنه تحطم طائرته في إحدى الطلعات، عن الإمعان في مغامرة التحليق وصولاً إلى نهايته المأساوية عام 1944. غير أن ذلك التحليق بالذات هو الذي أتاح لسانت إكزوبيري أن يرسم عبر «الأمير الصغير» صورة لكوكب الأرض، بعيدة عن العنف ومترعة بالنقاء الطفولي.

قيمة العمل المتولد عن الحروب لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية فيها

ثمة بالطبع شواهد كثيرة، لا تتسع لها هذه المقالة، على الخيارات المتباينة التي اتخذها الكتاب والفنانون في أزمنة الحروب، والتي يتجدد السجال حولها مع كل حرب تقع، أو كل مواجهة تخوضها الشعوب مع غزاتها المحتلين. وإذا كان بعض المبدعين لا يرون علة لوجودهم سوى الإبداع، ولا يجدون ما يقدمونه لأوطانهم في لحظات محنتها، سوى القصيدة أو المعزوفة أو اللوحة أو سواها من ضروب التعبير، فإن بعضهم الآخر يرسمون لأنفسهم أدواراً مختلفة، تتراوح بين الدفاع عن الأرض، لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وبين التظاهر وإصدار البيانات المنددة بارتكابات الاحتلال ومجازره وفظاعاته، وصولاً إلى إسهام الكاتب الشخصي في التخفيف من معاناة شعبه، ورفده بأسباب المقاومة والصمود.

على أن أي حديث عن دور الكتاب والفنانين في زمن الحرب، لن يكون له أن يستقيم، دون الإشارة إلى عشرات الإعلاميين والمصورين والمراسلين في فلسطين ولبنان، الذين أسهمت تقاريرهم الميدانية الجريئة في إظهار الطبيعة الوحشية للاحتلال، وفي فضح ادعاءاته الزائفة عن الالتزام بقواعد الحرب الأخلاقية والإنسانية. وإذا كان من المتعذر تماماً استعادة أسماء الإعلاميين والمراسلين الكثر، الذين أصروا على المواءمة بين الواجبين المهني والإنساني، حتى لو كانت حياتهم نفسها هي الثمن، فيكفي في هذا السياق أن نتذكر الكاتبة والإعلامية اللبنانية نجلاء أبو جهجه، التي قامت بالتقاط صور مختلفة لجثث الأطفال المدلاة من سيارة إسعاف بلدة «المنصوري»، أثناء الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني عام 1996، فيما حرصت في الوقت ذاته على مد يد العون للجرحى المتبقين منهم على قيد الحياة. وفيما غادرت نجلاء هذا العالم، وقد أنهكها مرض عضال، قبل أيام معدودة، لن تكف العيون المطفأة للأطفال، عن ملازمة صوَرها المؤثرة، وتجديد عقدها مع الضوء، وتوزيع نظرات اتهامها الغاضبة بين عدالة العالم المفقودة ووجوه الجلادين.