مواقف متذبذبة للرئيس الفرنسي إزاء حرب إسرائيل على غزة

ضغوط دفعت ماكرون للتراجع عن «وقف إطلاق النار واستهداف المدنيين»

الرئيس الفرنسي السبت قرب قوس النصر بمناسبة ذكرى الهدنة مع ألمانيا في عام 1918 (أ.ب)
الرئيس الفرنسي السبت قرب قوس النصر بمناسبة ذكرى الهدنة مع ألمانيا في عام 1918 (أ.ب)
TT

مواقف متذبذبة للرئيس الفرنسي إزاء حرب إسرائيل على غزة

الرئيس الفرنسي السبت قرب قوس النصر بمناسبة ذكرى الهدنة مع ألمانيا في عام 1918 (أ.ب)
الرئيس الفرنسي السبت قرب قوس النصر بمناسبة ذكرى الهدنة مع ألمانيا في عام 1918 (أ.ب)

كثيرة الأخطاء التي ارتكبها الرئيس الفرنسي في نظر إسرائيل، ومن يقف بالمطلق إلى جانب حربها على قطاع غزة، تسببت بفتح النار عليه رغم كل المواقف التي عبَّر عنها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين أول)، والتي رأى فيها - وعلى الدوام - أن لإسرائيل «الحق المشروع في الدفاع عن النفس»، وأن «من حقها وواجبها تدمير (حماس)»، وهو أمر «لا مجال لمناقشته». لكن من بينها هناك «الخطيئة المميتة» التي وقع بها في مقابلته مع تلفزيون «بي بي سي»، ووزعت صبيحة السبت. وأهم ما جاء فيها انتقاده المباشر لاستهداف الجيش الإسرائيلي للمدنيين في غزة، وحجبه «الشرعية» عن هذه الممارسات.

وقال ماكرون في هذا الخصوص: «يتعرض المدنيون اليوم للقصف... هناك أطفال ونساء وكبار سن يتعرضون للقصف والقتل. لا يوجد سبب لذلك ولا شرعية؛ لذلك، نحث إسرائيل على التوقف». وإذا كانت إسرائيل تتلطى في عملياتها التدميرية وراء حقها في محاربة الإرهاب، فإن ماكرون نزع عنها هذا الحق، بتأكيده أنه «من المستحيل تفسير أننا نرغب في مكافحة الإرهاب بقتل أشخاص أبرياء». مذكراً القادة الإسرائيليين، بأن رد إسرائيل على «حماس» «يجب أن يحترم قواعد الحرب والقانون الدولي الإنساني».

طفل من الخدج داخل حضانة في مستشفى «الشفاء» بغزة (رويترز)

ولاستكمال الصورة وفهم «غضب» إسرائيل، تعني الإشارة إلى أن ماكرون دعا ولأول مرة مباشرة إلى وقف لإطلاق النار، بقوله السبت: «أذكر الجميع بالقانون الدولي. أدعو إلى وقف لإطلاق النار». وكان ماكرون قد اكتفى حتى مساء الجمعة، بالدعوة إلى «هدنة إنسانية تقود لوقف إطلاق النار»، ما يعني أنه قد قام بخطوة إضافية إلى الأمام.

تأكيد للمؤكد

ما جاء على لسان الرئيس الفرنسي لا يحمل جديداً بالنسبة لأي مراقب مستقل؛ لأنه بمثابة تأكيد للمؤكد إزاء حرب إسرائيل على غزة ذهب ضحيتها ما يزيد على 11 ألف قتيل بينهم آلاف الأطفال والنساء، وضعفهم، على الأقل، من المصابين الجرحى. لكن أهمية ما قاله ماكرون، وفق مصدر سياسي فرنسي، أنه «صدر لأول مرة عن رئيس دولة أو حكومة غربية»، وأنه «حاد عن الخط الإسرائيلي ــ الأميركي ــ البريطاني ــ الألماني»، فهو دعا إلى وقف إطلاق النار وهو ما ترفضه إسرائيل، لا بل إنها ترفض عملياً الهدنات الإنسانية رغم الدعوات العالمية التي تحثها على ذلك «بلاغياً»، ولكن دون أية ضغوط فعلية.

وتفيد المقارنة بين ما قاله ماكرون، وما صدر عن المستشار الألماني أولاف شولتس الذي يتبنى الموقف الإسرائيلي بالمطلق، إذ أعلن، الأحد، خلال نقاش نظمته صحيفة إقليمية ألمانية: «أقر بأنني لا أعتقد أن الدعوات إلى وقف فوري لإطلاق النار أو إلى هدنة طويلة (...) في محلها، لأن ذلك يعني في نهاية المطاف أن إسرائيل ستدع لـ(حماس) امتلاك صواريخ جديدة». أما بالنسبة للهدنة الإنسانية، فقد رأى أنها «قد تكون منطقية، وذلك على سبيل المثال، لإخراج الجرحى من قطاع غزة»، ما يبين حتى فتوره إزاءها.

رد إسرائيلي حاد

لم تتأخر الردود النارية على تصريحات ماكرون، وجاءت بداية من إسرائيل نفسها على لسان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، الذي أعلن رفضه مطلب وقف النار «وهذا ليس جديداً»، وكتب مغرداً على موقع «إكس»: «المسؤولية عن أي أذى للمدنيين تقع على عاتق (حماس)، وليس على إسرائيل»، التي «تقوم بكل ما بوسعها لتجنب إيذاء المدنيين، وتحثهم على مغادرة مناطق القتال...».

صورة لنتنياهو وماكرون خلال اجتماعهما الأخير في القدس (أ.ف.ب)

وذهب إلى حد تنبيه ماكرون بقوله إن «الجرائم التي ترتكبها (حماس) اليوم في غزة، سترتكبها غداً في باريس ونيويورك وفي كل أنحاءالعالم». وقال لاحقاً في مؤتمر صحافي إن تصريحات ماكرون «خاطئة لجهة الوقائع والموقف الأخلاقي». وبعده سارع وزير خارجيته إيلي كوهين، في بيان عبر الموقع نفسه، إلى تحميل «حماس وحدها» المسؤولية عما يحدث لمدنيي غزة، معتبراً أنه «العدو الأكبر للفلسطينيين» وزاعماً أن جيش بلاده «يتصرف وفق القانون الدولي».

وانتقلت الانتقادات إلى باريس حيث عجل المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا إلى استنساخ ما صدر عن نتنياهو حرفياً، إذ قال في بيان السبت إن «مسؤولية الأموات في غزة تقع على عاتق (حماس) وليس إسرائيل، تماماً كما أن مسؤولية القتلى في الرقة والموصل وقعت على عاتق (داعش) وليس على عاتق فرنسا»، في إشارة لمشاركة فرنسا في الحرب على «داعش» في إطار التحالف الدولي الذي أنشئ لهذه الغاية في عام 2014 بقيادة أميركية. ولم يكتف المجلس المذكور بالتنديد، بل طالب ماكرون بـ«توضيح» تصريحاته.

تناقض الرسائل

بدل أن يتمسك ماكرون بمواقفه «الشجاعة» التي عبَّر عنها للتلفزة البريطانية، إذا به يخطو سريعاً خطوة الى الوراء. ففي الرسالة المتأخرة ليل السبت التي وجهها للفرنسيين بمناسبة «المسيرة» المناهضة لمعاداة السامية بدعوة من رئيسي مجلس الشيوخ والنواب، أعاد ماكرون التأكيد على «حق إسرائيل في الدفاع» عن نفسها، مذكراً بأن هذا كان موقفه «منذ اليوم الأول»، ورافضاً أن يكون هذا الحق «موضع أخذ ورد».

المسيرة المناهضة لمعاداة السامية في باريس الأحد التي غاب عنها إيمانويل ماكرون (أ.ف.ب)

ووفق مضمون رسالته، فإن «القضاء على (حماس) ضرورة» ولكن يجب أن يترافق مع «معاودة الحوار السياسي، والحرص على حماية المدنيين والرهائن الذين ليس لهم أن يدفعوا ثمن جنون الإرهابيين الدموي». أما بالنسبة للمطالبة بوقف إطلاق النار، فقد تحولت مجدداً إلى «هدنة إنسانية يمكن أن تقود لوقف لإطلاق النار». وهذا الكلام في لهجته ومضمونه بعيد كل البعد عما قاله للتلفزة البريطانية.

يبدو أن ما سبق لم يكن كافياً بالنسبة لإسرائيل ولمناصريها فرنسياً، لذا أتبعه ماكرون باتصال هاتفي، الأحد، برئيس الدولة الإسرائيلية إسحاق هرتزوغ وبوزير الدفاع السابق بيني غانتس، وكلاهما التقاهما في تل أبيب يوم زيارته لإسرائيل في 24 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. والملاحظ أن ماكرون لم يتصل بنتنياهو الذي دأب على التواصل معه منذ 8 الشهر الماضي، ولم تصدر أية توضيحات بهذا الخصوص لا من باريس ولا من الجانب الإسرائيلي، لكن الأهم، طبيعة «التوضيحات» التي حرص ماكرون على تقديمها.

ووفق الرئاسة الإسرائيلية، فإن ماكرون «أوضح أنه لم تكن لديه نيّة اتهام إسرائيل بتعمد إيذاء مدنيين أبرياء في إطار الحملة ضد منظمة (حماس) الإرهابية». كذلك «أكد أنه يدعم بشكل لا لبس فيه حقّ إسرائيل وواجبها في الدفاع عن نفسها، وأعرب عن دعمه الحرب التي تشنها إسرائيل ضد (حماس)».

وإذ أشارت الرئاسة الإسرائيلية إلى أن «تصريحات ماكرون تسببت في كثير من الألم والانزعاج في إسرائيل»، فإن الأخير حصرها بـ«الوضع الإنساني الذي يظل قضية مهمة بالنسبة إليه وإلى كثير من الدول». وكان رد هرتزوغ الترحيب بـ«توضيحات» ماكرون الذي حرص على تقديمها إليه في اتصال مباشر، بيد أن كل هذه العناصر غابت عن البيان المطول الذي صدر عن قصر الإليزيه، الذي لم يتطرق بتاتاً للتصريحات للتلفزة البريطانية، إلا أنه بالمقابل، أشار إلى تأكيده على «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وعلى «تضامن فرنسا معها في حربها ضد الإرهاب». ولم ينس الإشارة «مجدداً إلى أن هذه المعركة يجب أن تتم وفقاً للقانون الإنساني الدولي مع مراعاة حماية السكان المدنيين»، وفقاً للإليزيه. واللافت أن أياً من وزراء ماكرون لم يهب للدفاع عنه وعن تصريحاته.

يصلّون صلاة الجنازة قبل تشييع أفراد عائلتيْ قديح والشرفي الذين قُتلوا في غارات ليلية على جنوب قطاع غزة الاثنين (أ.ف.ب)

تقول مصادر سياسية فرنسية إنه «يؤخذ» على ماكرون «انحرافه» عن الخط الداعم المطلق لإسرائيل، والخوف أن تشجع مواقف رئيس دولة مثل فرنسا دولاً غربية أخرى على الابتعاد عن «السردية الإسرائيلية». ومن ذلك أن وزير الخارجية الإيطالي دعا إلى إرسال قوة أممية إلى غزة على غرار «اليونيفيل» في لبنان، بينما دعا وزير بلجيكي إلى فرض عقوبات على تل أبيب على غرار العقوبات التي فُرضت على روسيا بعد انطلاق حربها على أوكرانيا.

كذلك فإن ماكرون، وفق المصادر المشار إليها، ارتكب خطأً كبيراً عندما دعا إلى مؤتمر دولي في باريس حصل الجمعة الماضي ليس لأنه جمع مليار دولار لدعم المدنيين في غزة، وهي وعود شفهية تحتاج إلى ترجمة عملية، بل خصوصاً «لأنه وفر منصة ثمينة لانتقاد إسرائيل وإسماع ذلك للعالم كله». وتجدر الإشارة الى أن الكلمات التي ألقيت بهذه المناسبة ومنها كلمة رئيس الحكومة الفلسطينية محمد أشتية وممثلي الوكالات الأممية كانت «جارفة» وأحياناً بدا الانزعاج على وجه ماكرون من سماعها. ثم إن اليمين الفرنسي بجناحيه التقليدي (حزب الجمهوريين) والمتطرف (التجمع الوطني)، إضافة إلى المنظمات وبعض الشخصيات اليهودية المهمة شنوا حملة شعواء على ماكرون؛ لأنه فضَّل التغيب عن المسيرة الكبرى التي شهدتها باريس بعد ظهر الأحد، علماً أنه استبق المسيرة برسالته المكتوبة للفرنسيين، وتأكيده أنه يشارك بها «بالفكر والقلب».

ما سبق يبين «تذبذب» سياسة ماكرون المتأرجحة بين الدعم المطلق لإسرائيل من جهة، والرغبة في التعبير عن مواقف أقل انحيازاً. وتجدر الإشارة إلى أن موجة انتقادات تعم وزارة الخارجية بسبب «الاصطفاف المطلق» إلى جانب إسرائيل والتخلي عن المبادئ التقليدية والإرث الديغولي في سياسة فرنسا الشرق أوسطية. وحدها الأيام والأسابيع القادمة ستبين ما إذا كان ماكرون قد تخلى «نهائياً» عن تمرده، أم أنه ما زالت لديه الرغبة والقوة بأن تلعب بلاده دوراً ما في التطورات الدراماتيكية الحاصلة اليوم في المنطقة وفي ما بعدها.


مقالات ذات صلة

«القسام»: مقتل أسيرة في هجوم إسرائيلي على شمال قطاع غزة

المشرق العربي مبنى مدمّر نتيجة القصف الإسرائيلي في جباليا بشمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

«القسام»: مقتل أسيرة في هجوم إسرائيلي على شمال قطاع غزة

أعلن المتحدث باسم «كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس» الفلسطينية، أبو عبيدة، اليوم (السبت)، مقتل أسيرة إسرائيلية في هجوم إسرائيلي على شمال قطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
شؤون إقليمية بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت (أ.ب)

إسرائيل ليست عضواً في «الجنائية الدولية»... كيف تلاحق المحكمة نتنياهو وغالانت؟

ما يجب أن نعرفه عن النطاق القانوني للمحكمة الجنائية الدولية، حيث تسعى إلى اعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو؛ ووزير دفاعه السابق، يوآف غالانت.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شؤون إقليمية صور للمحتجَزين لدى «حماس» (رويترز)

تقرير: إسرائيل لا ترى إمكانية التفاوض مع «حماس» إلا بعد الاتفاق مع «حزب الله»

التفاوض بشأن الرهائن الإسرائيليين تقلَّص منذ تعيين يسرائيل كاتس وزيراً للدفاع.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
شؤون إقليمية المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بهولندا (الموقع الرسمي للمحكمة) play-circle 02:06

ما حيثيات اتهامات «الجنائية الدولية» لنتنياهو وغالانت والضيف؟

مع إصدار الجنائية الدولية مذكرات اعتقال لرئيس وزراء إسرائيل نتنياهو ووزير دفاعه السابق غالانت والقيادي في «حماس» محمد الضيف، إليكم أبرز ما جاء في نص المذكرات.

«الشرق الأوسط» (لاهاي)
شؤون إقليمية عناصر من حركتي «حماس» و«الجهاد» يسلمون رهائن إسرائيليين للصليب الأحمر في نوفمبر 2023 (د.ب.أ)

انتقادات من الجيش لنتنياهو: عرقلة الاتفاق مع «حماس» سيقويها

حذر عسكريون إسرائيليون، في تسريبات لوسائل إعلام عبرية، من أن عرقلة نتنياهو لصفقة تبادل أسرى، تؤدي إلى تقوية حركة «حماس»، وتمنع الجيش من إتمام مهماته القتالية.

نظير مجلي (تل أبيب)

ما المتوقع عراقياً في استراتيجية إيران؟

إيرانية تمرّ أمام لوحة إعلانية مناهضة لإسرائيل كُتب عليها بالعبرية: «في الدم الذي سفكتَه ستغرق» (إ.ب.أ)
إيرانية تمرّ أمام لوحة إعلانية مناهضة لإسرائيل كُتب عليها بالعبرية: «في الدم الذي سفكتَه ستغرق» (إ.ب.أ)
TT

ما المتوقع عراقياً في استراتيجية إيران؟

إيرانية تمرّ أمام لوحة إعلانية مناهضة لإسرائيل كُتب عليها بالعبرية: «في الدم الذي سفكتَه ستغرق» (إ.ب.أ)
إيرانية تمرّ أمام لوحة إعلانية مناهضة لإسرائيل كُتب عليها بالعبرية: «في الدم الذي سفكتَه ستغرق» (إ.ب.أ)

كتب مرّة الصحافي الأميركي توماس فريدمان أن العالم أصبح مسطّحاً (Flat) بسبب الثورة التكنولوجيّة. هي نفسها الثورة التي جعلت العالم معقدّاً جدّاً، خاصة مع هجمة الذكاء الاصطناعي.

في مكان آخر، أراد الكاتب الأميركي فرنسيس فوكوياما إيقاف التطوّر التاريخيّ بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وبشّر بالليبراليّة الديمقراطيّة بوصفها نموذج أوحد لدول العالم.

يشهد عالم اليوم فوضى في كل المجالات. عادت القوميات والآيديولوجيات، وكثرت الحروب، الأمر الذي يُبشّر بمرحلة خطرة جدّاً قبل تشكّل نظام عالمي جديد، وعودة التوازنات الكونيّة.

باختصار، عاد الصراع الجيوسياسيّ إلى المسرح العالمي لكن مع ديناميكيّة سريعة جدّاً تسببت بها الثورة التكنولوجيّة، وفيها تبدّلت العلاقة العضوية بين الوقت والمسافة، إذ سُرّع الوقت وتقلّصت المسافة في الأذهان.

تسعى الدول عادة إلى تحديد مسلّماتها الجيوسياسيّة. وهي، أي المسلمات، قد تتقاطع مع مسلّمات الدول الأخرى خاصة القريبة جغرافياً. لكنها أيضاً قد تتضارب.

عند التقاطع الإيجابيّ يكون التعاون. وعند التضارب يقع الصراع وصولاً إلى الحرب. يحدّد خبراء الجيوسياسّة أهميّة دولة ما من خلال ثلاثة معايير هي: الموقع، والثروات المؤثرة في الاقتصاد العالمي، كما الدور الذي تلعبه هذه الدولة في النظام العالميّ. إذا توفّرت هذه الشروط كلها في دولة ما، فهي قوّة عظمى أو كبرى بالتأكيد.

إيرانيون يحرقون علماً إسرائيلياً في مظاهرة وسط طهران يوم 18 أكتوبر 2024 (رويترز)

الاستراتيجيّة الإيرانيّة في المنطقة

في عام 1985، وإبان الحرب العراقيّة - الإيرانيّة، وبعد تراجع قدرات العراق العسكريّة، طلب المرشد الإيراني الأول الخميني من الرئيس السوري السابق حافظ الأسد التعاون لإسقاط العراق وفتح الباب إلى القدس.

رفض الأسد الطلب لأن سقوط العراق يعني خسارة دولة عازلة لسوريا مع إيران. وهو، أي الأسد، وإن قبل بإسقاط العراق، فسوف يكون لاعباً ثانوياً (Junior) بسبب التفاوت في القدرات بين سوريا وإيران.

حقّقت الولايات المتحدة الأميركيّة حلم الخميني في عام 2003. سقط العراق، وبدأ المشروع الإيرانيّ الإقليميّ بالتشكّل. تعد إيران أن هذا المشروع من المسلّمات الجيوسياسيّة الأهم. فهو يحميها، ويحقق مردوداً جيوسياسيّاً أكبر بكثير من حجم الاستثمارات فيه.

لكن هذه المسلمات تضاربت مع العديد من مسلّمات القوى الإقليميّة، كما مع مسلمات الولايات المتحدة. وإذا كانت أميركا قادرة على التعويض الجيوسياسيّ في مواجهة المشروع الإيرانيّ، فإن التعويض غير ممكن لكثير من دول المنطقة. فما تربحه إيران قد يكون خسارة لهذه الدول لا يمكن تعويضها.

وبسبب هذا التضارب في المسلّمات، بدأ الصراع وصولاً إلى الحرب الحالية. فمع إسرائيل ضرب المشروع الإيراني الأمن القومي الإسرائيلي في العمق، إن كان في غزّة أو في لبنان. ومع دول المنطقة، تجلى المشروع الإيراني من خلال جماعات مسلحة قوية في العمق العربي، لا سيما في لبنان وسوريا والعراق.

المنطقة جيوسياسيّاً

تعد استراتيجيّة الاتجاه غرباً (Look West Strategy) أمراً ثابتاً بالنسبة لإيران، إن كانت في ظل الإمبراطورية الفارسيّة أو مع الدولة الإسلاميّة. فإيران لم تُّهدد من شرقها إلا مرّة واحدة من قبل أفغانستان عام 1722، وبعدها استعاد السيطرة نادر شاه.

أما من الغرب، فقد أسقط الإسكندر الأكبر، الإمبراطور داريوس الثاني. ومن الغرب أيضاً حاربها صدّام حسين، ومن بعده أتى الأميركيون، ثم تنظيم «داعش» بعد خروج الأميركيين.

ماذا يعني العراق لإيران؟

* يشكّل العراق مركز ثقل في وعي الأمن القومي الإيرانيّ. لا تريد إيران دولة عراقيّة قويّة معادية لها قادرة على تهديدها من الغرب. من هنا دعمها لجماعات مؤيدة لها تحاول توسيع نفوذها داخل الدولة العراقيّة. تلعب هذه الجماعات دوراً هجيناً. هي في الدولة، وهي خارجها في الوقت نفسه. ترتبط مالياً بخزانة الدولة العراقية، لكنها في الحرب والسياسة ترتبط بإيران.

* يعد العراق مركز ثقل لإيران من ضمن ما يُسمّى محور المقاومة. فهو جغرافياً نقطة الانطلاق للتأثير الإيراني في الهلال الخصيب. أما سوريا، فهي المعبر والممر من العراق إلى لبنان. فيها بنى تحتيّة تربط لبنان بالعراق، ثم إلى الداخل الإيرانيّ.

أنظمة صواريخ لـ«الحرس الثوري» خلال عرض جنوب طهران (أ.ب)

طوفان الأقصى بعد سنة ونيّف

على الورق، سقطت حركة «حماس» عسكرياً. تدخّل «حزب الله» للربط معها، فسقط هيكله التنظيمي. مع ذلك، لم يخسر الحزب حتى الآن، ولم تخسر «حماس» أيضاً. وبناء عليه لم تحسم إسرائيل الأمر نهائيّاً.

لكن الأكيد أن «حزب الله» لم يعد قادراً على لعب الدور الأهم الذي أعد له في الاستراتيجيّة الإيرانيّة. بالتالي، ستحاول إسرائيل والولايات المتحدة استغلال هذا الضعف. وإذا لم تعد إيران – على الورق - قادرة على استغلال جبهتها المتقدّمة ضد إسرائيل من خلال «حماس» و«حزب الله»، فإن هناك من يعتقد أنها ستركز اهتمامها السياسي والميداني في محيطها المباشر، حيث مناطق نفوذها في العراق، وهو أمر يسلّط الضوء بلا شك على ما يمكن أن تشهده الساحة العراقية في الفترة المقبلة، خصوصاً في ظل التهديدات الإسرائيلية بشن هجمات على فصائل عراقية تدعمها إيران.