«ما رأت زينة وما لم تر» في بضع ساعات في ذلك اليوم المأساوي

رشيد الضعيف يوثّق روائياً انفجار مرفأ بيروت

«ما رأت زينة وما لم تر» في بضع ساعات في ذلك اليوم المأساوي
TT

«ما رأت زينة وما لم تر» في بضع ساعات في ذلك اليوم المأساوي

«ما رأت زينة وما لم تر» في بضع ساعات في ذلك اليوم المأساوي

إذا كان الشعر والفن التشكيلي، قد شُغلا بانفجار مرفأ بيروت، الشهير وما تأتّى عنه من انكسارات، ونسف لملامح ثلث العاصمة بيروت، حصلت في غضون لحظات، فإن الرواية بقيت بعيدة عن تناول مآسي الناس، خلال هذه الكارثة وبعدها.

لا غرابة بعد مرور ثلاث سنوات ونيف على الانفجار الكارثي، أن يكون الروائي رشيد الضعيف هو الذي يتناول الموضوع. فهو محب لتأمل التفاصيل، وإعادة كتابة الأحداث العادية جداً، من خلال مجهره الخاص، وبأسلوبه الذي يجمع بين البساطة والطرافة والسخرية أحياناً.

غير أن الانفجار المشؤوم ليس حدثاً يومياً معتاداً، فهو استثناء حتى بين الانفجارات، وفي قدرته التدميرية، وظروفه السياسية. كل هذا لا يعني الروائي في كتابه الجديد «ما رأت زينة وما لم تر» الصادر عن «دار الساقي»، إنما هو رصد تفاصيل بضع ساعات، من حياة زينة التي تعمل في الخدمة المنزلية منذ ربع قرن، لزوجين يعاملانها بلطف ولياقة، ومن الجانب الآخر هناك ابنتها وأختها اللتان تعيش معهما في بيت واحد. بين منزل مخدوميها الأستاذ فيصل وزوجته الست سوسن، اللذين يقطنان في أحد أبراج منطقة الأشرفية، ومنزلها الذي تعيش فيها مع أختها ماري وابنتها بشرى، تمرّ زينة بمار مخايل الشارع المحاذي للمرفأ وهو الذي سيصيبه النصيب الأكبر من الدمار.

إذا كان رشيد الضعيف يحب وصف التفاصيل فهو هذه المرة يبني كل فكرة روايته على الإمعان في الوصف، بحيث يحوّل سرده إلى ما يشبه التوثيق ليوميات بيروتية، في اليوم الذي وقع فيه الانفجار، ومن ثم التحولات التي طرات على حياة الناس بعد هذا الحدث الضخم.

حين تقرأ في مطلع الرواية «الساعة الآن نحو الرابعة بعد الظهر في بيروت... زينة الخمسينية من العمر، في ثياب الخدمة تسقي الزرع على البلكون المطلّ على منظر بانورامي هائل: المرفأ في الوسط، ما بين الجهتين الجنوبية والشمالية من بيروت وضواحيها». سرعان ما يخطر لك، أن زينة ستطل بعد بعض الوقت من الشرفة للمرة الثانية، ليودي بها الانفجار، كما قرأنا عن مصيرين كثيرين في ذاك اليوم المأساوي.

لكننا سرعان ما نكتشف أن الأديب خصص نصف روايته هذه لوصف ما قبل الحدث، وما كان عليه حال الناس في معاشهم، قبل أن يتعرضوا لزلزال إجرامي ينسف ما تبقى من حياتهم.

زينة مع مخدومتها تتحدثان عن الانهيار الاقتصادي، عن فقدان الليرة قيمتها الشرائية، وصعوبة معرفة ما يحتاج إليه الإنسان من أوراق نقدية وهو يخرج من منزله، ليشتري احتياجاته.

وجود الشقة مقابل المرفأ يساعد على وصف المشهد البحري لبيروت الذي سينقلب كلياً بعد ذلك.

وكما يبتكر كل روائي حججه السردية، كي يأخذ النص بالاتجاه الذي يناسبه، فها هو الضعيف يجعل بطلته زينة بعد أن تركب سيارتها الـ«كيا» تعلق في زحمة سير، في شارع مار مخايل الضيق؛ مما سيتيح لها أن تتأمل ما يدور في المحال الصغيرة والمقاهي، وتسمع بعض الأحاديث، والهموم، والمناوشات بين الناس، ليرينا بعد ما يقرب من ساعة أن ما كان حياة وشباباً ودلالاً تحول جحيماً وقد أحرقت النيران، ما تبقى من أعمار، بعد أن قضمت الأزمة الاقتصادية الأرواح.

يحاول رشيد الضعيف أن يوفر العناصر كافة التي ترسم الصورة الكاملة للمأساة اللبنانية. زينة ما كانت لتعمل خادمة في منزل لولا اضطرار زوجها إلى السفر شاباً، وكانت حبلى بابنتها بشرى، لتغرق السفينة وهو على متنها ولا يُعثَر على جثته. «لو أنه لم يغرق في البحر، لكنا اليوم معاً في أميركا. كل يوم في هذه الأزمة التي نعاني منها أحلم بأن زوجي وصل بسلام، وشرع بالعمل، واستدعاني وبدأنا حياة جديدة».

هكذا المحنة لم تبدأ يوم 4 أغسطس (آب)، التراجيديا اللبنانية، تتوارثها الأجيال. ظروف تتوالى، وتتكرر، تدفع إلى الهجرة، تشتت العائلات، ويدفع ثمنها البعض من أرواحهم، كما هي حال زوج زينة. لكنه ليس وحده، مخدومتها أيضاً التي كبرت في السن، تعيش مع زوجها وحيدة، بعد أن هاجر ابنهما جاد إلى سان فرنسيسكو. وسنرى بعد ذلك، وعقب الانفجار، الابن الذي لا يستطيع أن يبحث عن والديه تحت الردم، بسبب بعد المسافة، ولا يعرف كيف يجدهما عبر التلفون.

من يهاجر من الشباب مشكلة، ومن يبقى، مثل بشرى، ابنة زينة مشكلة أكبر. هي في التاسعة عشرة من عمرها توقفت عن الذهاب إلى الجامعة، وبدأت البحث عن عمل، لكن بالطبع العثور على فرصة ليس بالأمر السهل، خاصة لهذه الصبية التي تصرف نهارها في متابعة المسلسلات أمام جهاز التلفزيون. في حين لم تعد والدتها قادرة على إعالة ثلاثة أشخاص في وقت واحد.

الرواية صغيرة، وهي لا تريد سوى تصوير ساعات قليلة فاصلة، من تاريخ بيروت عصر الرابع من أغسطس عام 2020. الزمن مقسّم إلى اثنين، قبل الحدث وبعده. أما الشخصية الرئيسية فهي زينة، والتركيز في الوصف على الشباب من خلال الابنة بشرى، لكن كل الأعمار، رغم قلة الأشخاص الذين نلتقيهم، ممثلون في هذه الصفحات. من بشرى التي تربطها علاقة متوترة بوالدتها، إلى الأخت ماري الستينية إلى الست سوسن وزجها الأكبر سناً.

مجموعة بشرية، من أعمار متباينة، بينها الشاب والكهل، الحي والميت والذي ينتقل إلى العالم الآخر، جميعهم يواجهون قدراً يتجاوزهم، بما بقي لهم من مقومات.

في رحلة الذهاب إلى بيتها، وقد أجبرتها زحمة السير بسيارتها على التوقف في شارع ما مخايل: «أول ما لفت انتباهها، هو أن نسبة الأعمار الشابة تزداد بين الناس». تتأمل أحوال المارة وأصحاب المقاهي والمطاعم، وتسرق اهتمامها أعمال «ترميم واجهة مبنى هي أمامه الآن، فهم يتقدمون بسرعة. لم يمض على بداية الورشة هذه شهر بعد، ولا شك أن شهراً آخر سيكون كافياً لإنجاز العمل».

زينة ليست على ما يرام من الصباح، ثمة نذر شؤم تتوالى، فقد كسرت فنجان شاي في مكان عملها، وها هي بسبب سهيانها واستغراقها في تأمل الشارع تصطدم بالسيارة التي أمامها، لينكسر الشرّ، كما قالت لها الست سوسن، لكن زينة بقيت متشائمة، تحاول أن تجد موقفاً لسياراتها دون جدوى. هذه المهمة المستحيلة التي تصطدم بها كل يوم، لتذهب إلى منزلها.

ليست رواية بقدر ما هي توثيق لا مكان للمفاجأة فيه... لأنها حصلت بحجم زلزال ضخم ويعرفها الجميع. يبقى السؤال: لماذا أراد رشيد الضعيف أن يكتب روايته على هذا النحو؟

تدخلنا الرواية في الأجواء العامة التي أحاطت بالحدث، الانهيار، والمعاناة المعيشية، أزمة المودِعين مع البنوك بعد أن مُنع السحب إلا بالقطارة، مشكلة الكهرباء التي تعاني منها زينة وأهل بيتها، صعوبة الحصول على الماء الساخن وبشرى ابنة زينة، مصابة بما يشبه وسواس النظافة؛ مما يزيد الأمر صعوبة على أهل الدار، مشكلة الإيجارات ومعاناة المالكين، بعد أن فقدت الليرة قيمتها.

عند منتصف الرواية تماماً، وقد عرض الكاتب لحال الناس يحدث الانفجار في لحظة مأساوية، حيث تكون الجارة قد أخرجت طفلها لتحممه على الشرفة، وزينة تتبادل معها الحديث.

يدخل الروائي في ما يشبه التحدي لجعل اللغة قادرة على مجاراة هول المشهد، وفظاعة الأحداث. عناية فائقة في الوصف، بل قل إن الرواية كلها كتبت ليصل الروائي إلى هذه اللحظة التي يصبح فيها الكلام أعجز من أن يصف الأهوال. مشهد الطفل الذي سقط لوح الزجاج عليه وفلقه فلقتين. «وبات الرأس بين يدي أمه، والجسد منفصلاً عنه، وماء الاستحمام تحول أحمر دماً» وبما أن الأم لم تستوعب ما حدث، انتفضت دون أن تفهم أو ترى، فقط نفضت عنها شيئاً يبدو أنه رأس طفلها الذي «هوى فوق المدينة ولم تستطع تحديد المكان الذي استقر فيه، بعد أن تدحرج. زينة بقيت معلقة تحت الباب. «ولأن زينة استقرت تحت الباب مغمياً عليها، لم تر الحائط ينهار على رسام الغرافيتي ويقتله». كما لم تر زينة «كيف شقت دفوف الزجاج الساقطة من أعالي البنايات رؤوس الناس وأجسادهم».

مار مخايل الذي رأته زينة قبل قليل بوداعته وفرحه ونبضه الشابي، يصبح غارقاً بالدماء والجثث. وهذا ما لم تره، لكن الكاتب يصفه لنا نيابةً عنها. «مبنى بكامله يتهاوى على العمال الذين يرممون واجهته، ويطمرهم جميعاً، فلا يعود يبين منهم شيء، واختفوا من الوجود، كأنهم لم يكونوا. هكذا هي أيضاً، المستشفى والممرضة التي كانت قد مرّت بها، والمقاهي والعابرون الأبرياء. كل هؤلاء لم تر زينة ما آل إليه حالهم، لكنها عندما انتشلت، كان عليها أن تهرع بسبب اتصال ابن مخدومتها من أميركا لتذهب وسط الأشلاء والدمار، وتقوم برحلة عذاب مأساوية لتصل إلى البيت الذي عرفته وعملت فيه طوال ربع قرن، لترى ما حلّ بالست سوسن والأستاذ فيصل.

ليست رواية، بقدر ما هي توثيق، لا مكان للمفاجأة فيه؛ لأنها حصلت بحجم زلزال ضخم ويعرفها الجميع. يبقى السؤال، لماذا أراد رشيد الضعيف أن يكتب روايته على هذا النحو؟ وكأنه يعيد رسم الحكاية روائياً، لمن يريد أن يقرأ أو يعتبر.


مقالات ذات صلة

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

كتب دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

يضم الكتاب مجموعة من البحوث والدراسات الأكاديمية وموضوعات وقراءات تتعلق بالجانب الاجتماعي - الاقتصادي

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
كتب بعض واجهات المكتبات

موجة ازدهار في الروايات الرومانسية بأميركا

الصيف الماضي، عندما روادت ماي تنغستروم فكرة فتح مكتبة لبيع الروايات الرومانسية بمنطقة فنتورا بكاليفورنيا

ألكسندرا ألتر
كتب الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

يتناول الناقد والباحث اليمني د. فارس البيل نشأة وجذور السرد الإبداعي في منطقة الخليج وعلاقة النص بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة

رشا أحمد (القاهرة)

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق
TT

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

صدر حديثاَ للباحث د. هاشم نعمة فياض، كتاب بعنوان «موضوعات اجتماعية - اقتصادية معاصرة مع التركيز على حالة العراق»، عن دار أهوار للنشر والتوزيع في بغداد، وهو يقع في 224 صفحة.

ويضم الكتاب مجموعة من البحوث والدراسات الأكاديمية وموضوعات وقراءات تتعلق بالجانب الاجتماعي - الاقتصادي مع التركيز على حالة العراق. ويعالج الكتاب قضايا مثل نمو سكان المناطق الحضرية في العراق وآثاره الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك يتناول الكتابات الماركسية الجديدة والنمو الحضري في البلدان النامية، اللاجئون العراقيون في أوروبا: تحليل مقارن، اتجاهات الهجرة الطلابية من البلدان العربية وتحولاتها، تزايد حاجة أوروبا للعمالة المهاجرة، العلاقة بين الخصوبة السكانية ومكانة المرأة في المجتمع، العراق مثالاً، وجفاف الدلتا في العراق وآثاره.

ومن المواضيع الأخرى صعود الليبرالية الجديدة وسقوطها، والعلاقة بين الديمقراطية والتنمية، والتعافي الاقتصادي بعد الجائحة، وعصر التنوير والجغرافيا، والجغرافيا والثقافة، وغيرها.

ويقول المؤلف إن هذه الموضوعات كُتبت أو تُرجمت في أوقات مختلفة، وارتأى جمعها في كتاب واحد لتكون في متناول الباحثين والقراء عموماً.

يركز الباحث على تحليل تطور نمو سكان الحضر في العراق زمانياً ومكانياً، ويمهد لذلك بخلفية نظرية تخص التحضر الهامشي وعلاقته بتوسع النظام الرأسمالي، ويتناول توزيع سكان الحضر على مستوى المحافظات، ويحلل مكونات النمو الحضري خصوصاً الهجرة الريفية - الحضرية إلى المدن الكبيرة مثل بغداد، ومدى مساهمتها في تضخم عدد سكانها، ويدرس الهجرة القسرية، ويتوقف عند التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية التي نتجت عن نمو سكان الحضر وما أفرزته من مشكلات كبيرة على مستوى أزمة السكن، خصوصاً السكن العشوائي والفقر والبطالة، ومساهمة ذلك بعد عام 2003 في تغذية الموقف السلبي من قبل الشباب تجاه الأحزاب الدينية والسياسية الحاكمة، وعلاقة ذلك باندلاع «انتفاضة تشرين 2019»، كما يعالج إشكالية هيمنة المدن الكبيرة على الشبكة الحضرية ونتائجها.

وبالنسبة إلى هجرة العراقيين يذكر الباحث أن هناك كثيراً من الأسباب المتشابكة التي تقف وراء موجات هجرة العراقيين القسرية في مراحل مختلفة من تاريخ العراق. ولعل أبرز الأسباب يكمن في فشل الدولة العراقية الحديثة والخلل في بناء الدولة - الأمة، وعدم الاستقرار السياسي نتيجة تعاقب الأنظمة المستبدة الفاقدة للشرعية التي وصلت إلى السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية، وإقامة نظام الحزب الواحد المتمثل في حزب البعث وانتهاجه سياسات القمع السياسي والفكري والتبعيث القسري والتمييز القومي والديني والمذهبي والمناطقي، والحروب الداخلية والخارجية التي ساهم هذا النظام في اندلاعها، وكذلك احتلال العراق في عام 2003 وما تبعه من تفكك مؤسسات الدولة وإقامة نظام يتبنى المحاصصة الطائفية والإثنية، وشيوع ظاهرة الإرهاب والفساد وارتفاع معدلات البطالة وتدني الخدمات الأساسية، مما دفع آلاف العراقيين وخصوصاً الشباب، إلى طلب اللجوء لأوروبا خاصة.