في كُل كيلو متر وأنت تسير في جميع الاتجاهات، من القمة للوادي، وما بينهم من جبال وهضاب، هناك قصص وحكايات كثيرة، ومَعلم شامخ في تلك المسارات. يناظرك من أعلى تلة في أقصى الجنوب وأدناه، وما بين ذلك وخطواتك، أرخِ مسمعك للتاريخ وأنصت لحديث البطولات والزغاريد، ومتّع ناظريك وأنت تسير في أزقة المدينة، واستنشق الماضي وقصة مكوث «إبراهيم الخليل عليه السلام»، وأنت تجوب في محافظة ميسان جنوب غرب السعودية.
قبضت ميسان، على التاريخ من قرون مضت قبل الميلاد، فاحتوت على إرث كبير من بداية الزمن وفرشت أنهارها وأشجارها لكل الحالمين؛ فاستوطنها الكبار والمغاوير، وروت جبالها قبل مئات السنين العاملات في «مقاري النحل» فأصبح الجبل وما فيه متحفاً في قلب الطبيعة، تلك هي ميسان تتغلغل في التاريخ ما بين الحصون والقلاع، وقصة ألف عام ونيف لمرصد فلكي عتيق لم تُرو كل تفاصيله بعد.
هذا التاريخ منثور على كامل مساحة ميسان والتي لا تزيد على 4721.77كم2، ويمكن رصده في المواقع كافة داخل المدينة أو على أطرافها، لن تتعب من التجول في هذه المنطقة، فكل الدروب خضراء، انزع عند حمولتك واسترخِ تحت أغصان العنب وأشجار الرمان، واركض بين حقول القمح، وانسَ ما تبقى منك في هذا المكان واسرح بمخيلتك في عوالم اللانهاية وعش التفاصيل كما ينبغي.
الجبل الأبيض
من التفاصيل المنثورة في المدينة «الجبل الأبيض» والذي سُمي كذلك بـ«البثرة، وجبل إبراهيم» نسبة إلى «إبراهيم الخليل عليه السلام»، وفقاً لما أورده الرحالة والمؤرخ جمال الدين أبو الفتح «ابن المُجاور» في كتبه، والذي أشار إلى أن «إبراهيم الخليل» بنى على الجبل مُصلى، ويروي المهتم بالسياحة وتاريخ ميسان، محمد بن عيد المالكي، أن هذا الجبل يعد من أعلى القمم في سلسلة جبال السروات، ويبلغ ارتفاعه أكثر من 5 آلاف قدم، وفيه أربع قمم هي «تانه، والقُليب، والمزار، وبثرة».
وأضاف المالكي، أثناء حديثة لـ«الشرق الأوسط»: إن المنطقة تضم نقوشاً يرجع عمرها إلى أكثر من 7 آلاف عام، وفقاً لما رصده المختصون في الآثار، كما أنها تضم أيضاً أقدم سد مبني من الأحجار بطول 200 متر، وفي وسط جهته الغربية تقع قرية اُصفة، وتعدّ من أقدم القرى التراثية، وفيه صحون كثيرة كحصن «أبا العتم» وغيره، وبه موقع اسمه مربى الصقور وهو دائماً موقع للصقور المُهاجرة وفيه شوهد النمر العربي والذئب والضبع، وفيه تنوع أشجار معمرة وغابات كثيفة وآبار قديمة.
مسجد البجلي
ينسب المسجد للصحابي جرير بن عبد الله البجلي، الذي أسلم هو وقومه في رمضان من السنة العاشرة للهجرة، حيث تعود مراحل تأسيسه إلى العام نفسه الذي كان فيه حجة الوداع، كما يقع قبر الصحابي جرير بجانب المسجد خلف بيت الصلاة.
يتميز المسجد، وفقاً للمالكي، ببنائه على طراز السراة وقد بُني من الأحجار غير المنتظمة وسقفه من جذوع شجر العرعر والخرسانة وتبلغ مساحته الكلية نحو 350 متراً مربعاً، ويتسع لنحو 130 مصلياً، لافتاً إلى أن مسجد جرير البجلي التاريخي، اختير ضمن مشروع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لتطوير المساجد التاريخية في السعودية، والذي أصبح بعد التطوير يضم غرفة للإمام وبيتاً للصلاة في الجهة الشرقية وآخر في الجهة الغربية وخزان مياه ومستودعاً ودورات مياه وأماكن وضوء وبئراً ومقبرة.
المرصد الأثري
من الخصائص التي تحتضنها ميسان، أنها من أوليات المحافظات التي اعتُمد فيها على الرصد الفلكي الشمسي، من خلال مرصدها في قرية المجاردة، والذي يرجع تاريخه مع بروز علم الفلك، وكان ذلك ما قبل عام 319هـ - 932م، ما يحسب للمدينة لتقدم المدينة في حقب زمنية فائتة سابقة الكثير من أقرانها في الوطن العربي.
وأوضح المالكي، أن المرصد هو عبارة عن مزولة شمسية صخرية مرتفعة على قمة جبل كحيلة، ويتبعه مرزمان، الأول يقع جنوب شرق القرية على قمة جبلية مرتفعة تعرف بجبل النحاتة ويسمى مرزم القيظ ويتكون من أربع قوائم مبنية من الحجر وهو عبارة عن إرزام ظل المزولة عليه، فيما يتكون الثاني من مرزم الربيع ويقع شمال غرب بمدخل القرية وله نقوش محفورة على صخور يرصد إرزام ظل المزولة والمسافة بين المرزمين نحو 830م.
ولفت المالكي، إلى أن نقوشاً حُفرت على صخور الأول مخصصة لرصد دخول الربيع الزراعي، وبقية النقوش الخمسة يتابَع من خلالها مسار الظل المتجه إلى مرزم الربيع، ولهذا المرصد تقويم زراعي يصدر كل عام هجري يقوم بإعداده الراصد أو الحساب وفق آلية المرصد الزراعي الفلكي وهو يفيد المزارعين في معرفة مواسم الزراعة وفق متابعة الأحداث المصاحبة لكل نجم زراعي وعددها ١٥ نجما تتكرر في السنة مرتين ويقسم التقويم الزراعي إلى ستة فصول زراعيه، وهي الربيع أنثى والربيع ذكور والصيف والقيظ والخريف والشتاء، وذلك حسب عُرف المزارعين القدماء.
مقاري النحل
تقع مقاري النحل (مقرى الخرفي) بين السراة وتهامة والتي يذكر أن لها أكثر من 1000 عام على بنائها، كما يقول المالكي، الذي قال: إنها عبارة عن بناء هندسي جميل بمواصفات تصميم رائعة جداً لإنتاج العسل، حيث يوجد في المكان نحو 1100 خلية نحل مصممة من الحجارة بطريقة هندسية جميلة، وعلى مستويات تصل إلى 4 أدوار، وفي موقع يصعب الوصول إليه إلا من خلال مكان مخصص ولشخص خبير، يمكنه الدخول إلى هذا المكان العجيب... مقرى العسل مجهز بالحجارة الصلبة وأعمدة لإسناد الأدوار من الحجارة الضخمة وبشكل متوازن وأشكال قريبة من بعضها بعضاً.