رواية زهير الجزائري «أزرق. أبيض» الصادرة عام 2023 عن دار المدى، هي «نوفيلا» novella أو رواية قصيرة، وربما قصيرة جداً، لكنها تمتلك جميع مقومات البنية السردية الروائية. وعلى الرغم من واقعية الكثير من أحداثها واشتباكها مع المشهد السياسي العراقي بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، فإنها في الجوهر، «اليغوريا» رمزية عن محاولة المبدع، روائياً أو فناناً تشكيلياً أو مسرحياً للوصول إلى الجوهر الحقيقي للإبداع، وربما للشعرية (البويطيقيا)، التي يمثلها اللون الأزرق وإدراجها كتابياً على الورق (الأبيض) أو اللوحة التشكيلية أو المشهد المسرحي في ثنائية تفاعلية هي ثنائية الأزرق والأبيض.
والرواية من جانب آخر، رواية كابوسية بحس كافكوي أسود، وتتحول أحياناً إلى «كوميديا سوداء» Black Humour لامتصاص درجة العنف والرعب والموت، وتحويلها إلى موقف فكري تأملي يتداوله المتلقي للتفكير والمساءلة، وقد كانت زوجة الروائي على حق عندما قالت عن روايات زوجها الروائي: «إن الناس يدخلون كابوساً حين يقرأون رواياته». (ص9) أو عندما قالت له ابنته المحامية: «تخيفني كوابيسك فوق ما في حياتنا من كوابيس يومية». (ص25). فبطل الرواية وساردها المركزي، وهو روائي، كان يناضل من أجل أن يصل إلى نسغ الإبداع، وأن يلتقط الجملة الكتابية الأولى التي تظل مستعصية، وهاربة. كما يشاركه صديقاه الفنان التشكيلي والفنان المسرحي هذا النضال. إذْ غالباً ما يفلت فيه «الأزرق» من شراك «الأبيض» كتابياً بالنسبة للروائي، أو عند اكتمال اللوحة تشكيلياً، بالنسبة للرسام، أو عند ذروة المشهد المسرحي بالنسبة للمخرج المسرحي، في لعبة معقدة يتحول فيها الإبداع إلى غاية عصية على الإدراك، لكنها تظل هدف المبدع وغايته.
ويعيش بطل الرواية وساردها، تحت وطأة كابوس ينذر بحدوث انفجار قريب، مما يجعل الرواية أسيرة أفق توقع على حد تعبير الناقدين الألمانيين (ياوس) و(آيزر)، كما يتمثل هذا الانفجار على المستوى المرئي والواقعي في تلك القنبلة الصغيرة التي ألقاها شاب صغير في المسرح، واستقرت تحت قدمي المخرج المسرحي، الذي ظل ينتظر أن تنفجر في أية لحظة. أما على المستوى الأليغوري الترميزي فهي كناية عن حالة التفجر والاضطراب والعنف التي كان يعيشها الشارع العراقي بعد تصاعد الصراع الطائفي والإرهابي عامي 2006 - 2007. فالجو العام ملغوم بالموت والجثث والمتفجرات والعنف، حيث تجوب المدرعات الأميركية الشوارع كما تحلق طائرات الهليكوبتر في سماء بغداد.
ويعيش بطل الرواية حالة اغتراب حقيقي عن نفسه: «هذا ليس أنا» (ص 5) ويشعر أنه انفصل عن جسده: «ليس هذا جسدي». (ص5 - 6)
وبطل الرواية كما يتضح لنا، هو قناع لشخصية المؤلف زهير الجزائري، عندما يشير إلى أنه سبق له وأن نشر رواية عن «الخائف»، في إحالة لعنوان روايته «الخائف والمخيف»، وهذا ما يعزز الجوهر الميتا سردي metafiction للرواية منذ البداية، من خلال قصدية فعل الكتابة الروائية: «ينتظر وينتظر البداية المؤجلة أن تأتي». (ص6)
إذْ كانت لحظة اقتناص الكتابة تؤرقه وتدخله في كوابيس متصلة:
«حدق في بياض الورق، ينتظر، ينتظر البداية المؤجلة أن تأتي، وهو يوهم نفسه بأنها جاهزة في ذهنه تنتظر قدحة الزناد».
ويظل «يلوب» عند الجملة الأولى:
«النهار مضى هذا هو اليوم الثاني، وأنا ما أزال عند الجملة التي سأشطبها». (ص7)
ويشعر البطل بالإحباط، ولا جدوى الكتابة «ما الفائدة؟». (ص8) وهو يرى نفسه محاطاً بعالم من الجثث والمفخخات والانفجارات:
«موت، موت، موت... أما مللت من رواية الموت؟» (ص 10)
وتضطرب حياة البطل الزوجية، حيث يدمر الوضع السياسي المضطرب العلاقات الإنسانية والاجتماعية والأسرية.
ويشعر البطل أن خلاصه النفسي يكمن في اقتناص لحظة الصمت، حيث يقوده صديقه المخرج المسرحي إليها في صالة التمرين المسرحية على مسرحية «عطيل» لشكسبير. لكن لحظة الذروة التي يقدم فيها (عطيل) على قتل (ديدمونة) تهرب وينهار المشهد كلياً، مما يزيد من تأزم الوضع النفسي لصديقه المخرج المسرحي، إذْ اكتشف أن كل شيء في المسرحية صاخب حد الملل، وراح يشكك في قيمة ما يفعل «ما قيمة غيرة عطيل في بلد يمشي على الحافة بين انفجارين؟» (ص 12) ويمكن ملاحظة تعالق الحبكات الثلاث لشخصيات الرواية: الروائي الذي ينتظر جملة البداية، والمخرج المسرحي الذي يقف عاجزاً أمام لحظة الذروة في مسرحية «عطيل» أو الرسام الذي دخل المشهد الروائي في الاحتفال الذي أعدته زوجته لعيد ميلاده، والذي اقترن بذكرى مأساوية هي العاشر من محرم، وكأنها تقدم بذلك استباقاً سردياً، وربما نبوءةً عن موته الوشيك. (ص 15)
ويقرن الروائي حياة الرسام، ورمزية استشهاد الإمام الحسين في يوم عاشوراء، فهو يعد نفسه مقتولاً وهو يغامر برسم لوحة جدارية ضخمة «للقائد» على حصانه تحت مرمى نيران الحرب، بعد أن طلى الجدار بلونه المفضل الأزرق الشفاف. (ص6)
والمؤلف لا يريد أن تمر تجربة رسم لوحة القائد على حصانه بوصفها تمجيداً للحرب وللدكتاتورية، ولذا نراه يقدم مشهداً ساخراً يثير الضحك عن اللوحة من خلال إشارة القائد العسكري إلى الحصان في اللوحة: «هذا ليس حصان فارس، هذا حصان»... (ص17)
ومع ذلك فقد كان همُّ الرسام أن يرسم، ويرسم ليستعيد شيئاً يوشك أن ينساه، هو اللون الأزرق. (ص 17)، وهو تأكيد آخر على أن اللون الأزرق، بالنسبة للرسام، يمتلك ذروة اقتناص لحظة الإبداع والشعرية في العمل الفني.
ولم يشأ الروائي أن يترك الفضاء الروائي تحت رحمة المنظور الذكوري فقط، بل يدخل فيه النصف الآخر: الزوجات الثلاث للكاتب والمخرج المسرحي والفنان التشكيلي:
«خلال اجتماعهن تبدأ النساء بالشكوى من تعكر صفو أزواجهن». (ص8) لكن زوجة الرسام تعد نفسها محظوظة لأن الله أعطاها أجمل الرجال وأرقهم قلباً، لأنها عندما تغضب يأتيها مثل ملاك «فيدخل الأزرق إلى قلبي وأهدأ». (ص 19) وهنا تأكيد آخر على التأثير النفسي الإيجابي والملطف للون الأزرق على نفسية الزوجة، ويبرز تأثير اللون الأزرق حتى في الساعات الأخيرة من حياة الرسام، الذي أخبره الطبيب بأنه يعاني من مرض قاتل لا فكاك منه. ومن باب المواساة قرر الأصدقاء الثلاثة ومعهم صاحب الحانة الاستنجاد باللون الأزرق، وكأنه المنقذ من الموت، لذا قرروا أن يتحدثوا عن لونه المفضل: الأزرق، عندما أشار المخرج المسرحي إلى أن الأزرق كان علامته، ولذا كان يكنيه بالأزرق: «جاء الأزرق، اسألوا الأزرق، الأزرق كان هنا». (ص 28)
وينطوي توظيف لوني الأبيض والأزرق في هذه الرواية على دلالات رمزية متعددة. فاللون الأبيض يرمز إلى النقاء والبراءة والصدق، فيما يرمز اللون الأزرق، إلى الهدوء والصفاء والسمو، فهو لون السماء، ولون البحر. ودلالة الألوان في الأدب والفن والتصميم والديكور وعلم النفس تشغل اهتمام الباحثين والدارسين والعلماء والفلاسفة عبر التاريخ. إذْ سبق لأرسطو أن ربط الألوان بعناصر الوجود الأربعة، كما درس الرسام الإيطالي ليوناردو دافنشي دلالة الألوان، وذهب إلى أن اللون الأبيض هو أول الألوان البسيطة، وهو يمثل الضوء الذي من دونه ما كان يمكن رؤية لون. لكن التحليل العلمي للألوان لم يتحقق إلا على يد العالم إسحاق نيوتن عندما كشف عن الطبيعة الخفية للألوان، وأشار إلى أن جميع الألوان تتفرع من اللون الأبيض، فهو يمكن أن يحلل إلى سبعة ألوان بواسطة استخدام (المنشور) الزجاجي. ولا شك أن الألوان تلعب دوراً مركزياً في الفن التشكيلي والتصميم والإعلان التجاري والديكور، كما تمتلك رمزيتها الخاصة في الأدب عموماً، والشعر بشكل أخص. وتجنباً للإطالة سأقتصر على الإشارة على أنموذج شعري واحد لصيق الصلة بثنائية الأزرق والأبيض في قصيدة «ألوان السيدة المتغيرة»، للشاعر فاضل السلطاني، التي يوظف فيها اللون بطريقة تذكرنا بتجربة الشاعر الإسباني (لوركا). فاللون الأزرق يهيمن على المشهد الشعري منذ الاستهلال:
«زرقاء كنت تحت ذراعي
وكان الثلج الأزرق يمطر
زرقاء أنتِ، كأن السماء قبعتك».
لكن اللون الأبيض هو الآخر يشكل ثنائية واضحة مع اللون الأزرق:
«كنت أريد أن أرى عينيك
بين الأزرق والأبيض
لكني رأيت دمعتين في عينيَّ»
ونجد هذه الثنائية الشعرية تبرز في عنوان رواية الروائي العراقي حسن البحار الموسومة «بحر أزرق... قمر أبيض»، وهي قريبة إلى حدٍ كبير من دلالة الثنائية السردية في رواية زهير الجزائري «أزرق... أبيض».
وهذه الثنائية تتحكم إلى حدٍ كبير في مصائر شخصيات الرواية الثلاث: الروائي والرسام والمخرج المسرحي. لكننا نشعر، ونحن نستقرئ مشاعر الشخصيات الثلاث هذه أنها تحس بالعجز عن الوصول إلى لحظة الإبداع الشعرية، بسبب الواقع الخارجي المتفجر الذي يقف على برميل قابل للانفجار في أية لحظة، والإحساس بلا جدوى الإبداع الفني في عالم ملغوم بالموت والفناء. وربما كان الروائي يرمز إلى هذه الحالة سردياً بتلك القنبلة التي ألقاها الصبي في المسرح، التي توقفت بين قدمي المخرج المسرحي، الذي ينتظر أن تنفجر في أية لحظة، بعد أن شلّت قدرته على التفكير والحركة والإبداع معاً.
ما تقوله الرواية، تأويلياً، إن الإبداع يظل مقيداً ومشلولاً عندما يحاط بالمفخخات والقنابل والألغام والكوابيس والتابوت والموت.
فكما عجز الشاعر فاضل السلطاني أن يرى عيني حبيبته بين الأزرق والأبيض، كذلك يعجز المبدعون الثلاثة: الروائي والرسام والمخرج المسرحي من تحقيق اللقاء بين الأزرق والأبيض بسبب الرعب والموت والجثث التي تملأ الشوارع.
لا يريد المؤلف أن تمر تجربة رسم لوحة القائد على حصانه بوصفها تمجيداً للحرب وللدكتاتورية، ولذا نراه يقدم مشهداً ساخراً يثير الضحك عن اللوحة
والرواية تؤشر، من جانب آخر، بعداً ميتا سردياً واضحاً من خلال محاولات الروائي للإمساك بالجملة الأولى من الكتابة الروائية، لكنه يجد نفسه مضطراً للحذف والشطب مرات ومرات مع أن الشخصية الروائية واضحة لديه. ويمكن سحب مفهوم الميتا على المخرج المسرحي الذي يبذل جهده عبثاً للوصول إلى ذروة المشهد الذي يقتل فيه (عطيل) زوجته (ديدمونة)، كما ينسحب أيضاً على دأب الفنان التشكيلي لمعانقة اللون الأزرق، واكتمال حلمه النهائي، لكنه لم يكن مدركاً أن الموت قد رسم مصيره سلفاً، وأن لوحته الميتا - أزرق ستظل ناقصة.
رواية «أزرق... أبيض» للروائي زهير الجزائري لعبة سردية متقنة إلى حدٍ كبير، وفيها اقتصاد كبير في الكلمات لصالح لحظات الصمت التي كان المخرج المسرحي يتمنى أن تشكل المبنى الدرامي الأساسي للمشهد المسرحي الذي كان يفلت منه مراراً، ولذا فهي إضافة نوعية إلى تجربة الروائي الغزيرة، كما أنها إضافة طيبة للرواية العراقية الحداثية وهي تفتح أفاقاً جديدة للإبداع الروائي.