تساؤلات الإنسان المعاصر: كيف نواجه صيرورة الكينونة؟

أصبحت تمس مصيره ولا تعترف بخصوصيات الآخرين

تساؤلات الإنسان المعاصر: كيف نواجه صيرورة الكينونة؟
TT

تساؤلات الإنسان المعاصر: كيف نواجه صيرورة الكينونة؟

تساؤلات الإنسان المعاصر: كيف نواجه صيرورة الكينونة؟

من دون شك، إن عالمنا المعاصر المتميز بسيطرة العلم والتكنولوجيا من جهة وبسيطرة موازين القوى العسكرية والاقتصادية من جهة أخرى، بدأ يشهد تحولات كبرى على جميع الأصعدة بحيث أصبحت الحدود بين الدول والمجتمعات شبه وهمية، وأصبح الأقوياء يفرضون مفاهيمهم وقيمهم على أنها كونية ولا يعترفون بخصوصيات الآخرين الثقافية والدينية والأخلاقية. أمام هذا الواقع، أصبح الإنسان المعاصر أمام هذا التدفق في مجال الصيرورة الذي أخذ يصيب الكينونة في صلبها، ويقلب الكثير من القيم الإنسانية ويضع الإنسان المعاصر أمام التساؤلات الكبرى حول مصيره ومصير كينونته الفردية في إطار الكينونة المطلقة، التي أخذت تطيع الفيلسوف اليوناني هيرقليطس صاحب شعار التغير الدائم، بحيث لا يمكننا أن نسبح في النهر نفسه مرتين. وأمام هذا الواقع، إن إشكالية الإنسان والمواجهات التي أثارتها وتفرعت عنها أخذت مكانة مهمة في الفلسفة المعاصرة، وأثارت وما زالت تثير العديد من الأسئلة، سواء منها القديمة أو الحديثة، التي تتمحور حول مسألة الإنسان، إن من ناحية مكانته في الكون أو من ناحية دوره في التاريخ وفي المجتمع البشري. لا شك في أن لكل عصر أسئلته؛ بيد أن الأسئلة الأساسية للفلسفة تحاول أن تأخذ أشكالاً وصيغاً جديدة وتطرح مهمات على الفكر البشري تتناسب مع مستوى تطوره وحاجاته. ومن الملاحظ أن إشكاليات الإنسان المعاصر ما زالت تبرر الحاجة إلى الفلسفة، وتفرض ممارسةً جديدةً للفلسفة تضع النقد العقلاني لكل عقلانية تعدُّ نفسها مسيطرةً من جانب واحد، محل الفلسفات والمناهج الإطلاقية الدوغمائية التي تعمي بصيرة الإنسان وتوقف التاريخ وتزيّف الوعي وتخفي التناقضات بدلاً من المساهمة في وعيها ومعايشتها أو تجاوزها. وفي سبيل المساهمة في التساؤل فإننا سوف نحاول طرح بعض التساؤلات التي ما زالت تشغل فكر الإنسان المعاصر الذي يأمل من الفلسفة بلورتها، والإجابة حولها لتنطلق إلى أسئلة جديدة بعد إغناء التراث الفكري والثقافي العام للإنسانية بمساهمتها المعاصرة في محاولة كشف صيرورة الكينونة وفك رموزها وأسرارها، إذ إن الكينونة تحب أن تتخفى دائماً وأن الإنسان، بصفته وعياً حراً، لا يمل من طرح الأسئلة.

ومن أهم الأسئلة التي تشغل فكر الإنسان المعاصر يبقى سؤال المعرفة والوجود الواقعي والعلاقة المتوترة والمتحركة بينهما، حيث إن الوجود يظهر كما لو أنه يتحدى معرفتنا به؛ فكلما اعتقدنا أننا نعرفه يفرض علينا تحديات جديدة أعقد من سابقاتها.

1- سؤال التقنية والعلم وعلاقتهما بالإنسان، حيث يبدو أن حلفاً قوياً يقوم بينهما يميز عصر التقنية ولا يكف عن إلقاء مهمات جديدة على الفكر البشري ويهدد وجود الفرد الإنساني كقيمة وكغاية، فتغدو التقنية وكأنها هي الغاية مما يستدعي الكشف عن كينونة وماهية التقنية بوصفها لا سلبية ولا إيجابية بحد ذاتها، بل هي سلبية أو إيجابية بقدر ما تكون في وجهة استعمالها من قبل الإنسان الذي اخترعها وأصبح أسيراً لها في العديد من الحالات.

2- سؤال القيم والمعايير، حيث إننا نشهد من حين إلى آخر انقلابات في سلّم القيم والمعايير في المجتمعات المختلفة وننسى أحياناً أن الإنسان هو القيمة والمعيار.

3- سؤال الحق والقوة، حيث نشهد تباعداً كبيراً بين مفهومي الحق والقوة نظرياً وبين الترجمة العملية لهذين المفهومين، حيث تفرض القوة نفسها كحق؛ والسؤال هو: كيف يمكن للبشر أن يتوقعوا الظروف المناسبة والتكتيكية لخلق حالات من التوازن بين القوة وبين الحق؟ وكيف يمكن إقناع القوي بأن الحق هو مجرد وهو ضرورة وحاجة أنطولوجية لاستمرار الإنسان كقيمة وكغاية؟

4-سؤال السلطة من جميع جوانبها، حيث يميل مفهومها ليأخذ مكانةً أنطولوجية في جميع الميادين: في العلم والتكنولوجيا والاقتصاد والدين والسياسة والأشكال الاجتماعية وعالم المال... وفي الفلسفة.

5- سؤال العقلانية واللاعقلانية والحدود المطاطة والغامضة والمتداخلة بينهما، حيث يحكمك اللامعقول أحياناً باسم العقل وحيث أحياناً أخرى تنزلق في اللامعقول إما هرباً من المعقول وإما محاولاً استنفاد حدود العقل القصوى لتلامس حدود اللاعقل، وإما إرادةً في الاختلاف والتمايز فتصير عاقلاً على طريقتك ومجنوناً على طريقة العقلانية السائدة والمسيطرة.

6- سؤال الميتافيزيقا: هل استطاع الفكر الفلسفي تجاوز الميتافيزيقا؟ أم ما زلنا في مرحلة اكتمالها وإنجازها؟ وبالتالي إنهاؤها؟

7- سؤال الاختلاف والوحدة، وهذا يتفرع عن سؤال الميتافيزيقا ومحاولات تقويضها أو تجاوزها، بمعنى: هل أن الأشياء تعود جميعها إلى مبدأ وحيد وتتشابه جميعها في كونها تعود إلى الوحدة أم أن لها الحق في الاختلاف وفي تعددية الأصول والمصادر، وبالتالي يفقد مبدأ الواحد أو الجوهر مكانته وتفقد الميتافيزيقا موضوعها؟

8- سؤال الحداثة وما بعد-الحداثة، حيث يتم التساؤل إذا ما كان على الإنسان أن يواجه إشكاليات جديدة تجاوزت المشاكل التي خلقتها ثورة الحداثة تقنياً وفكرياً. يعني: هل اكتمل مشروع الحداثة؟ وهل يخرج الإنسان من عصر الحداثة؟ وهل هذا الخروج يعدُّ انتكاسة أم أنه فرصة جديدة لتطوير إمكانية الإنسان في السيادة على الكون؟ أم أنه يمثل قفزة في المجهول وانفجاراً كبيراً لقنبلة صنعها الإنسان بيديه وانفجرت وهو يتسلى بها كما الأطفال يحطمون ألعابهم؟ هل نحن في آخر مراحل العدمية التي بشرنا بها نيتشه؟ وهل أتى زمن الإنسان الأعلى المختلف الذي يتجاوز إنسان الماضي والحاضر؟

9- سؤال نهاية التاريخ: هل أخذ الإنسان معناه وحقق غاية التاريخ ووصل إلى المطلق وصار يعيش في قمة التاريخ بحيث لم يعد عليه بعد الآن سوى ترتيب أوضاعه القائمة لأنه لن يكون أفضل مما كان؟

10- سؤال الأخلاق يمثل أيضاً همّاً قوياً لدى الإنسان المعاصر، إذ إنه يتساءل حول إمكانية استعادة أخلاق كانط الشاملة المجردة، التي تقوم على اعتبار الإنسان غايةً وليس وسيلة. كما يتساءل إذا ما كان باستطاعته أن يؤسس لأخلاق نظرية ترد على تحديات عصر التقنية والرأسمال وسيطرة قيم القوة والتسلط وتزييف وعي الإنسان.

11- سؤال الدين: أمام المخاطر التي يشعر بها الإنسان المعاصر وأمام التساؤلات الكبرى حول قدرة العقل البشري على معرفة أسرار الوجود، يعود الدين ليحاول تحويل وجهة العقل البشري إلى الإيمان بالله وبالكتب السماوية من أجل راحة الإنسان في الدنيا وفي العالم الآخر. ولكن، لا بد من التساؤل عن الدور الذي يمكن أن تلعبه الآيديولوجيا الدينية في مواجهة سلطة العقلانية وإلى أي حد يمكن لهذه المواجهة أن تصل خاصةً بعد ظهور العامل الديني بقوة في حقل الصراع السياسي وبعد توظيف الشعور الديني في محاربة السيطرة الناتجة عن التفوق التقني للعقلانية، وذلك من اجل التحرر السياسي والاقتصادي للشعوب التي ترى هويتها في خطر أمام الحلف المهيمن للقوى المتفوقة تقنياً وعلمياً وعسكرياً واقتصادياً.

وأخيراً وليس آخِراً، سؤال الأسئلة: إنه سؤال الذات المعاصرة، سؤال الإنسان المعاصر الذي يبحث عن ذاته من خلال مواجهته للمشاكل الجديدة التي يخلقها بذاته وهو في صيرورته في بناء المشروع الإنساني، متميزاً بذلك في أنه إنسان اللحظة، وبأنه الإنسان (بالحرف الكبير) كما يتجلى في هذه اللحظة المعاصرة، لا أكثر ولا أقل، من خلال تخطيه لنفسه بتجاوز المشكلات التي يطرحها على ذاته كشرط لتميّزه.



محمد طرزي: استلهمت واقع المهمشين في وطني من مقولة لنجيب محفوظ

Ca-culture1-22Dec-photo1  الكاتب محمد طرزي
Ca-culture1-22Dec-photo1 الكاتب محمد طرزي
TT

محمد طرزي: استلهمت واقع المهمشين في وطني من مقولة لنجيب محفوظ

Ca-culture1-22Dec-photo1  الكاتب محمد طرزي
Ca-culture1-22Dec-photo1 الكاتب محمد طرزي

لفت الكاتب اللبناني محمد طرزي الأنظار إليه بقوة مؤخراً؛ حيث فازت روايته «ميكروفون كاتم صوت» بجائزتي «كتارا» القطرية و«نجيب محفوظ للرواية العربية» التي تمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة، وذلك في مدة وجيزة لا تتجاوز 3 أشهر قبل نهاية العام الحالي. ما يضفي على هذه الرواية دلالة خاصة في مسيرته، وطموحه لكتابة نص له طابع اجتماعي ينهل من الواقع الاجتماعي في لبنان، ويرصد المتغيرات المجتمعية من منظور إنساني.

أقام طرزي بعدد من دول شرق أفريقيا، وأعاد اكتشافها روائياً، مستلهماً التاريخ العربي في تلك الأماكن، في ثلاثية بعنوان «الحلم الأفريقي»، ومنها «عروس القمر» و«جزر القرنفل» التي تتناول تاريخ زنجبار خلال فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان.

هنا... حوار معه حول روايته الفائزة وهموم الكتابة.

* تبدو المتناقضات كما لو كانت تشكل جوهر روايتك الأخيرة «ميكروفون كاتم صوت»، بداية من العنوان حتى النهاية. إلى أي حد تتفق مع هذا الرأي؟

- هي رواية المتناقضات بالفعل. العنوان نفسه يجسد التضاد والمفارقات التي لا تلبث أن تظهر مع الصفحات الأولى للكتاب؛ حيث يبرز شاب اسمه «سلطان»، يقيم في بيت متواضع مُطل على المقبرة، يسترزق من زوار القبور، ويطمح أن يصير أديباً. صديقه «حسن» ليس بعيداً عن تلك المفارقات، فهو يهرِّب المسروقات، يتورَّط في قضايا أخلاقية ملتبسة، وفي لحظات أخرى نجده نبيلاً عبثيّاً. أما «عفاف»، فتمتلك ملهى ليليّاً، تستقبل فيه بائعات الهوى، هي أيضاً فنانة تشكيلية، حتى وإن بدت لوحاتها تافهة.

* استلهمت الرواية من مقولة لنجيب محفوظ، كيف ذلك؟

- قرأتُ مقالة في إحدى الصحف، يتحدَّث فيها الكاتب عن الوطن، واستوقفني اقتباس لنجيب محفوظ: «وطن المرء ليس مكان ولادته؛ لكنه المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب». ظل هذا الاقتباس يلاحقني حتى سمعتُ –مصادفة- شابّاً عشرينيّاً، يردِّد، في أحد المقاهي، عبر هاتفه، أنَّ كلَّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل. في اليوم التالي أنهى الشابُّ حياته لأسباب لم يتبيَّنها أحد. ربطتُ الاقتباس بالعبارة التي قالها الشابُّ بصوت متهدِّج، فإذ بفكرة الرواية تتشكَّل في مخيلتي.

* ما علاقتك بأدب نجيب محفوظ عموماً؟

- قرأتُ «محفوظ» في عمر مبكر. اهتممتُ بعدها بالرواية التاريخية، فاطلعتُ على أبرز ما كُتب وتُرجم في التخييل التاريخي، حتى وجدتني أتبنى ذلك النمط الأدبي كاتباً. بعد الانهيار الشامل الذي ألمَّ بلبنان، قررتُ كتابة رواية اجتماعية تتلمَّس حياة اللبنانيين وتقارب بصورة وجدانية ما آلت إليه أمورهم. توجَّستُ من الخطوة؛ لأنني كنت أهم بدخول نمط أدبيٍّ لم أختبره من قبل؛ لكنني ما إن شرعتُ بالكتابة، حتى وجدتني أكتب بأريحية، بتأثير ربما بما قرأته من روايات اجتماعية عظيمة لمحفوظ. فكَّرتُ وقتها أن تلك هي قوة الأدب، تنمو في داخل المرء دون أن يشعر بذلك.

* إلى أي حد يحق للأجيال الجديدة أن تتمرد على محفوظ وتسعى لتجاوزه؟

- لكل جيل اهتماماته وتطلعاته، والأجيال الجديدة لن تصغي لأحد، وستقرر بنفسها من أي معين تنهل، ومن أي نهر تروي عطشها الأدبي والإنساني. أنا شخصيّاً من جيل أولئك الذين تظل مدرسة محفوظ حاضرة في أعمالهم، لما تمثله من نموذج فني فذٍّ، يوغل عميقاً في النفس البشرية برغم الإطار المحلي لرواياته.

* تشكل المقابر -كفضاء درامي- مقبض فكرة أساسية في «ميكروفون كاتم صوت»، ألم تخش هذه الأجواء التي قد ينفر منها بعض القراء؟

- لم أفكر في هواجس القراء من هذه الناحية، فالظروف المحيطة بالرواية هي التي اختارت المقبرة فضاء دراميّاً. وحين قصدتُ أهلَ الشابِّ الذي أنهى حياته، بعد ترديده في المقهى، عبارة أنَّ «كلّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل»، وجدتُ منزله مطلّاً على المقبرة، في زمن يعيش فيه شعبي على حافة الموت، فلم أجد حيّزاً مكانيّاً أفضل، أعبِّر من خلاله عمَّا حل بأولئك الذين لا ينشدون سوى الهروب من وطن غدا أشبه بالمقبرة.

* يرى البعض أن الرواية تقدم وجهاً صادماً غير متوقع للبنان... هل تعمدت ذلك؟

- هي رواية عن المهمَّشين الذين يعانون من النظام اللبناني القائم على تبادل الخدمات، بين الزعيم الطائفي والنخب الاقتصادية التي تدور في فلكه. نسجت تلك النخب علاقات مالية مشبوهة مع زعماء الطوائف، ما فتئت تتسبب في هدر المال العام، وإعاقة تشريع قوانين عصرية. بالرغم من كل ما يحصل، وجه لبنان المشرق موجود؛ لكن تجاهل إرادة الشعب في ظل الزبائنية الحزبية والطائفية، يشوِّه وجه وطني المشرق ويهدِّده بالتلاشي.

* فازت الرواية بجائزة «كتارا» قبل فوزها بجائزة «نجيب محفوظ» بفترة متقاربة للغاية؛ كيف استقبلت الجدل والانتقادات التي أثارها البعض حول تلك الجزئية؟

- شرَّفتني «كتارا» بضمِّي إلى لائحة الفائزين بها، وكذلك فعلت جائزة «نجيب محفوظ» للأدب. لعلَّ ذلك يحصل للمرة الأولى، ما لفت الانتباه وأثار التساؤلات، ولكنْ حقيقة أن ذلك يمثِّل سابقة، لا يعني أن لا حقَّ للرواية في نيل جائزتين، ما دامت تلك إرادة أعضاء لجنتي التحكيم، وفي سياق عدم مخالفة شروط الترشُّح؛ لأن رواية نجيب محفوظ لا تشترط عدم فوز العمل المقدم إليها بجائزة أخرى. الأهمُّ بالنسبة إليَّ، وسط هذا الجدل، أن الجائزتين العريقتين ساهمتا في منح الرواية صوتاً قويّاً، يتردَّد صداه حالياً لدى كثير من القرّاء.

* كيف ترى جدل الجوائز الأدبية في الثقافة العربية عموماً؟

- أُدرجتْ أعمالي على قوائم الجوائز المختلفة، وفازت بأربعٍ منها، ما ساهم في إيصالها إلى نقَّاد وقرَّاء جدد، بعضهم أصبحوا أصدقاء. بهذا المعنى، خدمت الجوائزُ مشروعي، وأرى أنها تخدم غيري من الكُتَّاب، وتساهم في تعزيز المشهد الثقافي العربي. الجدل وسط الكُتَّاب حول الجوائز مردُّه اعتقاد طبيعي لدى الكاتب أن كتابه جدير بالفوز. أتفهَّم هذا الشعور، فالكتابة عمل معقَّد، تستنزف طاقة الكاتب، ما يشعره أو يوهمه بأنه بصدد نصٍّ استثنائي، ليجيء تقييم اللجان مغايراً لرغبته. في نهاية المطاف، تقييم الأعمال الأدبية يعتمد على ذائقة لجان التحكيم، ما يعقِّد النقاش حول أحقية فوز هذه الرواية أو تلك.

* هل استطاع الأدب اللبناني التعبير عما تعيشه البلاد من تحولات عنيفة اقتصادياً واجتماعياً؛ فضلاً عن اشتعال المواجهة مع إسرائيل؟

- لم يعبِّر الأدب اللبناني بما يكفي عما تعيشه البلاد من تحوُّلات، ربما لأن الحدث لا يزال قائماً. ما يحملني على الظنِّ بأن ثمة أعمالاً في طور الكتابة أو النشر. لاحظتُ أن الأدب اللبناني يدور اليوم في فلك «الديستوبيا»، أو يتمحور حول القيم العالمية المتمثلة بالنسوية. بعض الأعمال أشارت إلى انفجار المرفأ في 4 أغسطس (آب) 2020. بالنسبة إلى المواجهة مع إسرائيل، فإن الأعمال الأدبية التي تناولت هذا الصراع القائم منذ أكثر من 75 عاماً، قليلة جدّاً، إذا ما قورنت بروايات الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً، وهو أمر مستغرب.

* هل يمكن أن تشهد الثقافة اللبنانية ازدهاراً لما يسمى «أدب الحرب»؟

- ازدهر أدب الحرب الأهلية اللبنانية وسط الأدباء، كما لم يزدهر أي نمط أدبي آخر. استوقفني إصرارهم على التركيز على تلك المرحلة من تاريخنا، برغم كل الحروب والأزمات التي مررنا بها. حرب يوليو (تموز) 2006 -على سبيل المثال- لم تترك بصمة قوية في الأدب اللبناني. لذلك، من الصعوبة التكهُّن حول دور الحرب الأخيرة في المشهد الأدبي.

* ما السر وراء أعمالك المتوالية عن شرق أفريقيا؟ وهل استطعت اقتناص جوهر القارة السمراء من الداخل؟

- لم أعرف شيئاً عن تاريخ العرب في شرق أفريقيا، قبل سفري إليها منذ أقل من عقدين. شكَّل اكتشافي الإرث العربي هناك صدمة ثقافية. فعمدتُ إلى التنقُّل بين دول المنطقة التي مثَّلت إمارات عربية لقرون من الزمن. ثم مع انكبابي على قراءة الكتب والدراسات التاريخية ذات الصلة، لاحظتُ أن لا وجود لروايات عربية حول تلك الحقبة، بخلاف الاهتمام الذي أولاه الأدباء العرب للأندلس. عددتُ شرق أفريقيا أندلساً منسيّاً. كان ذلك عام 2012، حين شرعتُ بكتابة «جزر القرنفل»، وهي رواية عن زنجبار، خلال فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان، أعقبتُها بثلاث روايات عن أماكن أفريقية أخرى، نالت نصيبها من الحضور العربي. بهذا المعنى، ليست الغاية من الكتابة عن أفريقيا اقتناص جوهر القارة السمراء، بقدر ما هي مسح الغبار عن الزمن العربي المنسي هناك.

* ألم تخشَ عند كتابتك عن أفريقيا أنك لست مواطناً أفريقياً لا تعرف المجتمعات المحلية جيداً، وبالتالي يمكن أن يفتقد النص العمق المطلوب؟

- بعد عشرين عاماً من الإقامة في أفريقيا، أشعر أنني أفريقي بقدر ما أنا لبناني عربي، ومع ذلك فإنني لم أكتب عن المجتمعات المحلية؛ بل كتبتُ عن تاريخ العرب في تلك المنطقة. بمعنى آخر: لم أبتعد كثيراً عن المجتمعات العربية، وإن كان الإطار المكاني للروايات أفريقيا السمراء.

* هل لديك فلسفة معينة في اختيار عناوين رواياتك؟

- بديهياً يجب أن يعبِّر العنوان عن كُنه الرواية، ولا ألجأ لعنوان لافت لجذب اهتمام القارئ، إلا إذا وجدته يعبِّر أكثر عن روح النصِّ وجوهره. مع الشروع بكتابة أي رواية أضع عنواناً مؤقتاً، على الأقل لحفظ الملف في الكومبيوتر، ولكنْ مع مواصلة السرد، تختار الرواية عنوانها بنفسها، وتفرضه عليَّ. في رواية «ميكروفون كاتم صوت»، لم أختر العنوان حتى الصفحات الأخيرة، حين وجدتْ «عفاف» نفسها محاصرة بالظلام، تخنقها روائح النفايات، بينما المكبرات تزعق بقوة حولها، مانعة إياها من التفكير أو الصراخ. في تلك اللحظة الدرامية، اكتشفنا سرَّ الميكروفونات معاً، وانفعل كلانا لاكتشافنا المتأخر.

* كيف ترى الانتقادات التي يوجهها البعض إلى الرواية التاريخية، من أنها تعكس نوعاً من الاستسهال لدى المؤلف؛ حيث إن معظم عناصر العمل متوفرة، وبالتالي تعد «خياراً آمناً»؟

- لعلَّ العكس هو الأصحُّ. كتابة الرواية التاريخية أصعب من كتابة الرواية الاجتماعية المستقاة من أحداث معاصرة، بحيث تكون شخصياتها تجسيداً لشخصيات حقيقية ومرئية. كما أن الرواية التاريخية تعود إلى حقبة زمنية أخرى، ما يحتِّم على الكاتب البحث عنها والتمحيص فيها، فضلاً عن تكبيله بحقائق تاريخية لا يمكن التملُّص منها. وقد تغدو المهمة أكثر تعقيداً في الرواية التي تتناول شخصيات تاريخية؛ لأن حرية الكاتب تصبح محدودة للغاية في رسم تلك الشخصيات، وتحديد مساراتها.

* كيف ترى علاقتك بالأجيال السابقة في الأدب اللبناني؟ وهل ترفع شعار: أنا أديب بلا أساتذة؟

- قدَّم لبنان أديبات وأدباء كباراً، عرفتُ بعضهم شخصيّاً، ورحل بعضهم قبل أن أحظى بهذه الفرصة. من الأعمال الأدبية البارزة التي تأثرتُ بها روايات جبور الدويهي، وأمين معلوف، وحنان الشيخ... للحق، إن كان لا بدَّ من شعار أرفعه، فإنني أرفع شعاراً معاكساً لما ذكرتِه في سؤالك.