غزة... توقيت الهجوم البرّي مرهون بردع إيران والمحافظة على نقطة توازن مع الشركاء

هل عادت واشنطن القوة الأساسية التي تدير صراعات المنطقة؟

دمار وركام وضحايا بفعل 20 يوماً من القصف الإسرائيلي (رويترز)
دمار وركام وضحايا بفعل 20 يوماً من القصف الإسرائيلي (رويترز)
TT

غزة... توقيت الهجوم البرّي مرهون بردع إيران والمحافظة على نقطة توازن مع الشركاء

دمار وركام وضحايا بفعل 20 يوماً من القصف الإسرائيلي (رويترز)
دمار وركام وضحايا بفعل 20 يوماً من القصف الإسرائيلي (رويترز)

مع إنهاء الحرب الدائرة في غزة أسبوعها الثالث، بدا من الواضح أنها لن تكون «جولة» عادية من جولات القتال، المتكررة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فإسرائيل أعلنتها حرباً «طويلة»، بينما يجهد الفلسطينيون لالتقاط الأنفاس ووقف الحرب، علّهم يخرجون بمحصلة سياسية، يمكن أن تشكل الحاضنة لمستقبل القطاع. وهذا، بعدما بات واضحاً أن شطب «حماس» من المعادلة هو قرار قيد التنفيذ، مع إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طرح فكرة تشكيل «تحالف دولي» لمقاتلة «حماس»، يشبه التحالف الدولي الذي يقاتل «داعش». منذ اليوم الأول لتفجّر الحرب، كان من الواضح أن الولايات المتحدة هي التي تولت زمام الرد على هجوم «حماس» الذي نسبت إليه أهداف عدة، من بينها محاولات «قلب الطاولة»، على المفاوضات الجارية في المنطقة، سواء في ملف التطبيع مع إسرائيل، أو الملف النووي الإيراني. والهجوم الذي هزّ صورة إسرائيل واستقرارها، كشف عن نقاط ضعف، كان يغطيها غرور غير محدود مع حكومة يمينية، بات من شبه المؤكد أنها لن تستمر مع رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو في الحكم، حتى لو تعمّقت يمينية المجتمع الإسرائيلي أكثر. فما هي الملفات المطروحة في هذه الحرب؟ وما هي تأثيراتها على المستويين الإقليمي والدولي، وكذلك على الولايات المتحدة التي تدخل الشهر المقبل سنتها الانتخابية؟

 

 

وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن (آ ب)

ذا كانت كل التقديرات تشير إلى أن الحرب الحالية في الشرق الأوسط ستكون طويلة، فلماذا التلويح باجتياح غزة، في حين يؤكد كثير من التقارير الأميركية أن إدارة بايدن تشعر بالقلق من افتقار إسرائيل إلى أهداف عسكرية قابلة للتحقيق في غزة، وأن قواتها ليست مستعدة بعد لشن غزو برّي بخطة مضمونة النجاح؟ وفي مباحثات مع المسؤولين الإسرائيليين منذ بدء هجمات «حماس» يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، قال المسؤولون الأميركيون إنهم لم يروا بعد خطة عمل قابلة للتحقيق. بل لمح الرئيس بايدن إلى ذلك علناً، خلال خطابه في تل أبيب الأسبوع الماضي، عندما حذّر من أن إسرائيل ستحتاج إلى «الوضوح بشأن الأهداف وتقييم صادق حول ما إذا كان المسار الذي تسلكه سيحقق تلك الأهداف، أم لا».

بحسب محللين وعسكريين أميركيين سابقين، أرسلت الولايات المتحدة فعلاً «وحدة عمليات خاصة»، في محاولة لاستكشاف أماكن الرهائن وإنقاذهم، وسط مساعٍ محمومة لتفادي التضحية بهم إذا ما تعذّر إطلاقهم عبر الوساطات الجارية بالتعاون مع بعض الدول، بينها قطر وتركيا ومصر والأردن، قبل أي اجتياح إسرائيلي واسع. ولكن، وفق العقيد الأميركي المتقاعد، دوغلاس ماك غريغور، مُنيت تلك العملية بالفشل بعد تعرض المجموعة لإصابات فادحة. وهو ما يشير إلى أن القوات الأميركية قد تكون دخلت في مرحلة متقدّمة من الجاهزية والاستعداد، في ظل تأكيدات «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية) أنه لم يُطلب من إسرائيل تأجيل العملية البرّية، وأن الأمر متروك لها لتحديد موعدها. وجاء هذا التوضيح على لسان الناطق باسم «البنتاغون» الجنرال بات رايدر، في أعقاب ما ذكره تقرير لصحيفة أميركية عن أن إسرائيل «وافقت على إرجاء الهجوم إلى أن يتسنى لواشنطن إرسال دفاعات صاروخية لحماية قواتها في المنطقة». وأضاف التقرير أن إسرائيل تأخذ في الاعتبار الجهود التي تبذل لتقديم المساعدات الإنسانية لغزة، والجهود الدبلوماسية الرامية لإطلاق الرهائن لدى «حماس».

ولكن، مع احتمال تعقّد المناخ الدولي، تخشى واشنطن من تزايد التهديدات التي تتعرّض لها القوات الأميركية بمجرد بدء الهجوم البرّي، ما جعلها تسرّع نشر نحو 10 منظومات للدفاع الجوي، تضاف إلى الأسطول البحري والجوي الموجود في المنطقة.

ملف إيران

ومع مسارعة واشنطن إلى إرسال حاملات طائراتها وقواتها إلى المنطقة، وإعلان دول أوروبية عدة عن خطوات مماثلة، وُجهت رسائل متعددة، وخاصة إلى إيران، مفادها أنه لا مساس بدولة إسرائيل، وأن إدارة ملفات الصراع في المنطقة ما تزال تحت سيطرتها. وهنا يبقى «اللاعبون الآخرون» مجرّد مشاهدين، بدليل الضعف الشديد الذي ظهرت فيه تلك القوى، وخصوصاً روسيا والصين، ما حال دون لعبهما أي دور فعال، سواء لنصرة الفلسطينيين، أو لتغيير النظام الدولي (شعارهم الاستراتيجي). وما يؤكد هذا الواقع أن ملف «تطبيع» العلاقات بين بكين وواشنطن ماضٍ وفقاً للبرنامج المتفق عليه، مع وصول وزير خارجية الصين إلى العاصمة الأميركية، بينما يلتقي حاكم ولاية كاليفورنيا غافين نيوسوم بالزعيم الصيني شي جينبينغ، تمهيداً لقمته المرتقبة مع الرئيس الأميركي جو بايدن.

البعض يرى هنا أنه على الرغم من الاقتناع بأن إيران لن تُقدم على أي عمل انتحاري، خارج نطاق «المناوشات» التي تنفذها ميليشياتها في المنطقة، فإن حدة التصريحات الأميركية تجاه طهران تشير إلى تخوّفها من احتمال حصول تصعيد غير متوقع. وفي أقوى تحذير «رادع» ومباشر من مسؤول أميركي رفيع لإيران، قال وزير الخارجية أنتوني بلينكن، يوم الثلاثاء، في الأمم المتحدة، إن الولايات المتحدة ستردّ «بسرعة وحسم» على أي هجوم على القوات الأميركية من إيران أو وكلائها. وتابع بلينكن: «الولايات المتحدة لا تسعى إلى صراع مع إيران، ولا نريد لهذه الحرب أن تتسع. لكن إياكم وخطأ مهاجمة إيران أو وكلائها أفراداً أميركيين في أي مكان... لأننا سندافع عن شعبنا». وتجاوز بذا التحذيرات الغامضة السابقة التي أطلقها بايدن بشأن «لا تفعل»، لثني «حزب الله» أو إيران عن التورط في الحرب بين «حماس» وإسرائيل.

 

القوى الداعمة لـ«حل الدولتين» هي الغائب الأكبر عن الاعتراضات داخل أميركا وخارجها

هذه الخطوة تلي اعتراف واشنطن بأن ميليشيات إيران نفّذت 13 هجوماً على القوات الأميركية في المنطقة خلال الأسبوع الماضي. الأمر الذي دفع الناطق باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي، يوم الاثنين، إلى القول إن إيران «في بعض الحالات تسهّل بشكل فعال هذه الهجمات، بهدف الحفاظ على مستوى معين من الإنكار هنا، لكننا لن نسمح لهم بذلك».

وبينما تريد إدارة بايدن ردع جبهة ثانية ضد إسرائيل من وكلاء إيران في لبنان وسوريا، فإن تجاهل الرد على هجمات إيران الكثيرة، تفادياً لوقوع خسائر في صفوف القوات الأميركية حتى الآن، غدا دعوة إلى إيران لمواصلة اختبار نيات واشنطن. وقد يؤدي هذا إلى جرّها إلى مجابهة تسعى لتجنبها. لكن ماذا لو قتل أميركيون، من دون أن تدفع إيران الثمن؟ إذ ذاك على إدارة بايدن أن تقدّر أن الخطوة الأضمن لاستقرار المنطقة ستكون استعادة أميركا دورها كـ«قوة ردع».

في المقابل، التحذيرات تثير لدى إيران أيضاً - بعدما لمست حجم ضعف «محورها الدولي» (الصين وروسيا) - مخاوف عميقة من أن تكون «دعشنة» ميليشياتها الشيعية هي الخطوة التالية، بعد «دعشنة» حماس. وهذا ما قد يفقدها أدواتها، بل يمكن أيضاً أن يؤدي إلى طرح مستقبل النظام برمته على بساط البحث.

العقيد (الكولونيل) دوغلاس ماك غريغور (آب)

المساعدات مقابل الرهائن

لقد تعهدت واشنطن بأنها ستضغط من أجل السماح للمساعدات الإنسانية بدخول غزة، مقابل جهود إطلاق الرهائن.

عملياً هذا يرسي معادلة منع «حماس» من استثمار «إنجازها» العسكري بتحقيق انتصارات سياسية، وأن فرضية مبادلة الرهائن بالسجناء غير مطروحة على بساط البحث. ولا حديث عن وقف لإطلاق النار، في هذه المرحلة. وحقاً، اضطر وزير الخارجية بلينكن للكلام عن فترات هدنة لأسباب إنسانية «يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار»، للسماح بوصول الغذاء والماء وغيرهما من الضروريات إلى غزة، وللمدنيين بالخروج من طريق الأذى. وعلى الرغم من تحاشيه تحديد أي مهلة لفترات الهدنة، من غير المتوقع أن تكون وقفاً نموذجياً لإطلاق النار.

في المقابل، مع تزايد أعداد الضحايا من المدنيين الفلسطينيين الذين تجاوزت أعدادهم 22 ألفاً بين قتيل وجريح، طلب قادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل «هدنة إنسانية» لتسهيل توصيل المساعدات وخلق ظروف أكثر أماناً للإفراج المأمول عن الرهائن، ليحصروا الأمر بهذا الجانب فقط. لكن الناطق باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، ذكر أن الإدارة تؤيد «فترات التوقف» في الصراع للسماح بتدفق المساعدات الإنسانية إلى غزة. لكنه رفض الدعوات المتزايدة لوقف إطلاق النار، بحجة أن مثل هذه الخطوة الآن لن تفيد سوى «حماس». وأضاف كيربي: «سنواصل التأكد من أن لدى إسرائيل الأدوات والقدرات التي تحتاجها للدفاع عن نفسها». ومع تأكيده أن واشنطن لم تناقش أي «خطوط حمراء» مع إسرائيل، تابع: «سنواصل محاولة إدخال هذه المساعدات الإنسانية، ومحاولة إخراج الرهائن والأشخاص من غزة بشكل مناسب»، ما يشير إلى أن مساراً طويلاً يتوجب قطعه، في ظل النتائج المتوقعة من هذه الحرب، على مستقبل المنطقة كلها.

هل تتوقّف الحرب؟

المسؤولون الأميركيون والإسرائيليون يرفضون الدعوات لوقف إطلاق النار كي يمنحوا الجيش الإسرائيلي الوقت الكافي للقضاء على «حماس». لكن الدعوات لإنهاء القتال تتزايد. ولخّصت ذلك كلمة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في خطابه أمام مجلس الأمن. إذ قال غوتيريش إنه «من المهم الاعتراف بأن هجمات (حماس) لم تحدث من فراغ» و«أن الفلسطينيين تعرضوا لـ56 سنة من الاحتلال الخانق». لكنه أضاف أن «مظالم الشعب الفلسطيني لا يمكن أن تبرّر الهجمات المروّعة التي تشنها (حماس)، مثل أن هذه الهجمات المروعة لا يمكن أن تبرّر العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني». بيد أن تبادل استخدام حق النقض في مجلس الأمن بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، كما جرى في الأيام الماضية، لا يزال في مراحله الأولى، الذي شهد في حروب سابقة تصويتاً مماثلاً، أدى في نهاية المطاف إلى إخراج قوات «منظمة التحرير» من لبنان عام 1982. وهو ما يرى البعض أنه قد يكون مصير قوات «حماس» في الفترة المقبلة.

 

 


مقالات ذات صلة

«من الحياة المريحة إلى الخراب»... قصة أسرة فلسطينية وعام من النزوح

المشرق العربي الفلسطيني نعمان أبو جراد وأسرته (أ.ب)

«من الحياة المريحة إلى الخراب»... قصة أسرة فلسطينية وعام من النزوح

قضى الفلسطيني نعمان أبو جراد وزوجته ماجدة وبناتهما الست العام الماضي بأكمله في نزوح على طول قطاع غزة، محاولين البقاء على قيد الحياة.

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي فلسطينيون بجوار جثث أقاربهم الذين قتلوا في غارة إسرائيلية بمستشفى شهداء الأقصى بدير البلح (أرشيفية - رويترز)

24 قتيلاً في قصف إسرائيلي على دير البلح وسط غزة

قال مكتب الإعلام الحكومي في غزة إن 24 شخصاً على الأقل لقوا حتفهم وأصيب 93 آخرون في ضربات جوية إسرائيلية على مسجد ومدرسة يؤويان مئات النازحين.

«الشرق الأوسط» (غزة)
شمال افريقيا فلسطينيون يتفقدون موقع الغارات الإسرائيلية على المنازل في خان يونس بجنوب قطاع غزة (رويترز)

«وساطة غزة» في عام... هدنة واحدة وجولات «متعثرة»

تحركات واتصالات واجتماعات على مدار عام، منذ 7 أكتوبر 2023، لإنهاء الحرب في غزة، لم تسفر إلا عن هدنة واحدة لمدة أسبوع.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
شؤون إقليمية البرلمان التركي (أرشيفية)

تركيا: جلسة برلمانية خاصة لحرب غزة وتطورات الشرق الأوسط

يعقد البرلمان التركي جلسة خاصة لمناقشات التطورات في منطقة الشرق الأوسط بعد عام من الحرب في غزة، وتصعيد إسرائيل عدوانها وتوسيعه إلى لبنان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي عائلات إسرائيليين محتجزين في غزة ترفع صورهم خلال احتجاج قرب مقر إقامة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في القدس يوم 30 سبتمبر (إ.ب.أ)

عائلات إسرائيليين محتجزين في غزة تنفّذ إضراباً عن الطعام

بدأ أفراد في عائلات الإسرائيليين المحتجزين في أنفاق حركة «حماس» بقطاع غزة إضراباً عن الطعام، متهمين حكومة بنيامين نتنياهو بأنها أهملت قضيتهم في ظل حرب لبنان.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)

«حرب لبنان» تظهر تغييراً كبيراً في نظرة أميركا تجاه إيران

القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)
القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)
TT

«حرب لبنان» تظهر تغييراً كبيراً في نظرة أميركا تجاه إيران

القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)
القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)

منذ اندلاع «حرب مساندة» غزة التي أطلقها «حزب الله» قبل نحو سنة، كانت المؤشرات كلها توحي بأن حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل رداً على «هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول)»، ستنتقل عاجلاً أو آجلاً إلى لبنان، في ظل إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه يخوض «حرباً ستكون طويلة لتغيير خريطة الشرق الأوسط». ومع ذلك، كانت معظم التحليلات تتكلّم عن «مأزق» إسرائيل «المأزومة»، وعن خلافاتها في الداخل ومع الخارج، ولا سيما الولايات المتحدة، ما سمح للبعض بالترويج أن أهداف هذه الحرب لم تتحقق، وقد لا تتحقق، سواء في غزة والأراضي الفلسطينية، أو في لبنان. لكن على أرض الواقع، كان من الواضح أن ما حقّقته إسرائيل حتى الآن من حربها على غزة يتجاوز كثيراً الردّ على «هجوم أكتوبر».

بعدما نجحت إسرائيل في تعزيز «صورة» ربط حربها التهجيرية في غزة بأنها «صراع وجود» مع إيران وأذرعها الساعين إلى تدميرها، وفّرت تلك الحرب للإسرائيليين أيضاً غطاءً دولياً واسعاً، ليس لإطالة حرب الإبادة ضد الفلسطينيين فقط، بل الانتقال أيضاً إلى حرب إبادة أخرى ضد لبنان.

هذا الأمر طرح تساؤلات عن حقيقة الموقف الأميركي تجاه أهداف إسرائيل، وعمّا إذا كانت حربها لتغيير «المشهد الإقليمي» ممكنة من دون موافقة أميركية. بيد أن الوقوف على المتغيرات الدراماتيكية التي طرأت على سياسة واشنطن يظهر تغييراً كبيراً في مقاربتها ونظرتها تجاه إيران، مع التغييرات التي طرأت على المشهد الدولي منذ اندلاع الحرب الأوكرانية.

«فرصة استراتيجية» لأميركا

قبل الدخول في ما عدّه البعض «تجاهلاً» من تل أبيب للمساعي الأميركية لفرض وقف لإطلاق النار في حربها المتصاعدة ضد «حزب الله»، روّجت تحليلات العديد من الصحف الأميركية ولا تزال لـ«خلافات» بين واشنطن وتل أبيب. إلا أن دينيس روس، المبعوث الرئاسي السابق في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، رأى أن ما جرى حتى الآن «يُعد فرصة استراتيجية لأميركا، ليس لتغيير المنطقة فقط، بل تغيير الوضع في لبنان أيضاً بعد اغتيال حسن نصر الله وإضعاف (حزب الله)». وخلال ندوة في «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى»، حضرتها «الشرق الأوسط»، يوم الأربعاء، وشاركت فيها دانا سترول، نائبة مساعد وزير الدفاع السابقة لشؤون الشرق الأوسط في إدارة بايدن، وديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الشرق الأدنى في إدارة ترمب، أضاف روس: «بات بمقدور أميركا اتخاذ إجراءات رادعة مباشرة، ليس ضد إيران فقط، بل المشاركة قبل ذلك في ضرب أذرعها مباشرة وملاحقتهم».

وبحسب روس، فإنه بعدما تمكّنت إسرائيل من ضرب و«تحييد» الخطر الذي يمثله «حزب الله» و«حماس»، يمكن لواشنطن الآن «ضرب وملاحقة الحوثيين، كإشارة إلى أننا قادرون على تعريض ما نعتقده نحن مصالح مهمة لها، وخصوصاً برنامجها النووي، وليس المصالح التي تعتقد إيران أنها مهمة بالنسبة لها فقط».

تغيير مسار المنطقة

من جهتها، قالت سترول، إن إرسال الأصول العسكرية الأميركية، منذ اندلاع الحرب قبل نحو سنة، وخصوصاً في الفترة الأخيرة «لا يُعبّر عن تصميم إدارة بايدن على مواجهة التهديدات الإقليمية، والدفاع عن إسرائيل، ومنع توسّع الحرب فقط، بل تغيير المسار في المنطقة أيضاً». وأضافت: «كل الأحداث التي وقعت منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) حتى الآن، بما فيها تصفية قوة (حماس) وضرب (حزب الله) وتوجيه ضربات لإيران، لم يكن بالضرورة مخطط لها. لكن اليوم، بعد كل الذي جرى، ينبغي أن نستغل ما حصل لنمضي في مسار مختلف، بما يعيد الاستقرار والسلام إلى المنطقة، وإعادة مسار العلاقات الإسرائيلية العربية إلى مسارها الذي انقطع بعد 7 أكتوبر».

من ناحيته، قال شينكر: «ثمة فهم خاطئ لتفسير ما تعنيه المطالبة بوقف إطلاق النار، سواء في غزة أو لبنان، وذلك لأن الأهداف التي وضعت لا يمكن تحقيقها من دون تغيير الديناميات السابقة». وأردف أنه بمعزل عن الإدارة الجديدة التي ستأتي بعد الانتخابات الأميركية، وسواء أكان الفائز فيها كامالا هاريس أم دونالد ترمب، لا شك أنه «سيكون من الصعب العودة إلى السياسات الأميركية السابقة تجاه إيران وأذرعها وبرنامجها النووي». وأكد أن أميركا «ستلعب دوراً رئيسياً في إعادة تشكيل وترتيب الأوضاع بعد حرب غزة، التي ستنتهي عاجلاً أم آجلاً، وكذلك في لبنان».

وهكذا، أمام هذه «الرؤية» التي تعكس حقيقة الموقف الأميركي للصراع الجاري، إن إصرار البعض على اعتباره إذعاناً وارتباكاً أميركياً أمام رغبات إسرائيل، قد يكون من الضروري قراءة «التحولات» التي طرأت على موقف إدارة الرئيس جو بايدن، منذ اندلاع الحرب.

تقديرات مختلفة للحرب في لبنان

كانت هناك تقديرات مختلفة داخل إدارة بايدن عن طبيعة الأخطار التي يمكن أن تواجهها «العملية» العسكرية التي أطلقتها إسرائيل ضد «حزب الله»، وعن قدراته العسكرية الحقيقية التي جرى تضخيمها. ولكن، بدلاً من تبيّن صحة تلك التقديرات، انتهى الأمر بتبنّي العديد من المسؤولين الأميركيين النجاح الذي حقّقته إسرائيل في سعيها - بزخم مذهل - إلى إضعاف «حزب الله». وهو ما بدا أنه يتناسب مع نمط إدارة بايدن، التي لطالما تدرّجت في التعبير عن مواقفها من الأحداث السياسية الخارجية.

إذ بعدما تحثّ إسرائيل على لجم اندفاعاتها، كانت لا تلبث أن تتراجع لاحقاً. وبعدما أوضح بايدن رغبته في «الوقف الفوري» للقتال في لبنان، وتحفّظه عن التوغّل البرّي، ظهر انقسام بين المسؤولين الأميركيين حول «الحكمة» من الحملة الإسرائيلية ضد «حزب الله»، خاصة منذ مقتل زعيمه حسن نصر الله، في 27 سبتمبر (أيلول) الماضي. ففي حين ركّز البعض كثيراً على المخاطر، قال آخرون إنه إذا أمكن توجيه ضربة قوية للحزب من دون إثارة صراع إقليمي أوسع يجذب إيران فإن ذلك قد يُعدّ نجاحاً.

واليوم، يذهب كثيرون إلى القول إن وجهة النظر الأخيرة هي التي تغلبت في النهاية، وعبّرت عنها تصريحات وزير الخارجية أنتوني بلينكن، «غير المعهودة» من كبير الدبلوماسيين، حين تكلّم عن «العدالة» التي نفّذت بحق نصر الله.

الضغط العسكري يدعم الدبلوماسية

يوم الاثنين الماضي، قال ماثيو ميللر، الناطق باسم الخارجية للصحافيين: «نحن بالطبع نواصل دعم وقف إطلاق النار، ولكن في الوقت نفسه، هناك أمران آخران صحيحان أيضاً: الضغط العسكري يمكن في بعض الأحيان أن يمكّن الدبلوماسية. وطبعاً، قد يؤدي أيضاً إلى سوء التقدير... يمكن أن يؤدي إلى عواقب غير مقصودة، ونحن نتحادث مع إسرائيل حول كل هذه العوامل الآن».

وحقاً، حتى الاتفاق الذي قيل إنه حصل بين أميركا وفرنسا وإسرائيل ودول عدة توصُّلاً إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في لبنان، لمدة 3 أسابيع، بدا أن واشنطن قد تخلت عنه.

هذا ما بدا بعدما رأى مسؤولون في إدارة بايدن أن إسرائيل تحاول توجيه ضربة حاسمة لـ«حزب الله» عبر اغتيال زعيمه، بعد الضربات الساحقة التي نفّذتها على امتداد الأشهر الماضية، وتوجّت بما سُمي بهجوم «البيجر»، وبتصفية العديد من قياداته العليا والوسطى.

ورغم اتهام بنيامين نتنياهو بأنه هو الذي عاد عن الاتفاق الذي وافق عليه، فإن «الصمت» الأميركي الذي تلا اغتيال نصر الله، كاد يؤدي إلى تأجيل حتى إلغاء زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى لبنان، التي أصرّ قصر الإليزيه عليها في نهاية المطاف، تعبيراً عن «غضب» فرنسا، الذي قابلته إسرائيل بقصف هدف في العاصمة بيروت، للمرة الأولى يوم الأحد الماضي.

الحسم في تفكيك بنية «حزب الله»

بعدها، يوم الاثنين، في إشارة واضحة لحسم التردد ودعم العملية الإسرائيلية، قال «البنتاغون» إن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن اتفق مع نظيره الإسرائيلي يوآف غالانت «على ضرورة تفكيك البنية التحتية الهجومية على طول الحدود الشمالية لإسرائيل، لضمان عجز (حزب الله) عن شنّ هجمات على غرار هجمات 7 أكتوبر على المجتمعات الإسرائيلية في تلك المنطقة». وأردف «البنتاغون» أن أوستن «راجع التطورات الأمنية والعمليات الإسرائيلية» مع غالانت، وأكد مجدداً «دعم الولايات المتحدة لحقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد إيران و(حزب الله) و(حماس) والحوثيين وغيرها من المنظمات الإرهابية المدعومة من إيران».

ورغم تأكيد أوستن على أهمية «التحول في نهاية المطاف من العمليات العسكرية إلى المسار الدبلوماسي لتوفير الأمن والاستقرار في أقرب وقت ممكن»، فإنه أوضح أن واشنطن في وضع جيد للدفاع عن أفرادها وشركائها وحلفائها في مواجهة تهديدات إيران والمنظمات الإرهابية المدعومة منها، وأنها عازمة على منع أي جهة فاعلة من استغلال التوترات أو توسيع الصراع. كذلك ناقش أوستن مع غالانت ما سمّاه «العواقب الوخيمة» التي ستتحمّلها إيران في حال اختارت شنّ هجوم عسكري مباشر ضد إسرائيل.

ومقابل تركيز إدارة بايدن كثيراً من مساعيها منذ ما يقرب من سنة على منع التصعيد بين إسرائيل و«حزب الله»، أعجب بعض المسؤولين بالإنجازات الإسرائيلية. ومع شلل الحزب وتراجع قدراته «الإقليمية»، بات هؤلاء يعتقدون أن الوضع بات الآن مختلفاً تماماً، مشيرين إلى أن إسرائيل في أقوى موقف لها منذ بدأ الجانبان تبادل إطلاق النار منذ 8 أكتوبر بعد فتح «جبهة الإسناد» لغزة.

ولكن، مع ذلك، قال مسؤولون كبار إنهم كانوا ينصحون إسرائيل بألّا تشنّ غزواً برّياً للبنان، ويحذرون من أن خطوة كهذه يمكن أن تأتي بنتائج عكسية، تتمثّل ببناء الدعم السياسي لـ«حزب الله» داخل لبنان وإطلاق العنان لعواقب غير متوقعة على المدنيين والتدخل الإيراني.

لا كلام عن وقف التصعيد

من جهة ثانية، مع الهجمات الصاروخية الإيرانية «المحسوبة» ضد إسرائيل، رداً على قتل إسماعيل هنية وحسن نصر الله، بدا لافتاً أن الرئيس بايدن لم يتكلّم - للمرة الأولى - عن ضرورة «وقف التصعيد» و«ضبط النفس». بل العكس، أكّد أن واشنطن «تدعم بالكامل» إسرائيل بعد الهجوم الذي جرى صدّه بدعم أميركي و«أثبت انعدام فاعليته»، وأن المناقشات مستمرة مع إسرائيل بشأن الردّ، مضيفاً أن «العواقب على إيران لم تُحدد بعد».

موقف بايدن لم يكن وحيداً، إذ اندفع المشرّعون الأميركيون من الحزبين مؤيدين مواقف أكثر حزماً من إيران، وداعين إلى تبني سلسلة من التدابير المحددة والمصمّمة لشلّ القوى العسكرية لطهران ووكلائها، وإلى تمرير تمويل إضافي لإسرائيل في أعقاب هجوم إيران.

وبالفعل، يرى كثرة من المسؤولين الأميركيين اليوم، أن إدارة بايدن تحوّلت من محاولة منع اتساع حرب غزة إلى إدارة «الحرب الشاملة»، في ظل رؤية غدت موحّدة مع إسرائيل تجاه الأهداف المأمول تنفيذها. وتساءلت صحيفة «النيويورك تايمز» عن المدى الذي يمكن أن تبلغه الحرب، وما إذا كانت الولايات المتحدة ستنخرط فيها بشكل مباشر، في ظل مخاوف من احتمال أن ترد إسرائيل على صواريخ إيران باستهداف منشآتها النووية، ما قد يؤدي إلى خروج الحرب عن السيطرة.

لكن بايدن عاد وأوضح، يوم الأربعاء، أنه لا يدعم أي استهداف إسرائيلي للبرنامج النووي الإيراني، فاتحاً المجال أمام تكهنات عن بدء مفاوضات للتوصل إلى تسوية بين الطرفين. وهذا، بالتوازي مع تقديم مزيد من المساعدات لإسرائيل لإنهاء الحرب ضد «حماس» في غزة، والتصدّي للهجمات التي تنفذها جماعة الحوثي في اليمن ضد إسرائيل والملاحة في البحر الأحمر والمضائق الدولية القريبة، ودعم غزوها البرّي للبنان «لتفكيك البنية التحتية» لـ«حزب الله».

تساؤلات مع تغيير أميركا نبرتها واستراتيجيتها

> وسط تحذيرات من أن يكون لبنان هو ساحة «الحرب الشاملة» بين إسرائيل وإيران، أشار مسؤول أميركي كبير إلى المشاورات الواسعة النطاق مع إسرائيل، بما في ذلك مع مكتب بنيامين نتنياهو لصوغ الاستجابة المناسبة، من دون أن يشير إلى «الخلافات» القديمة بين الرئيس جو بايدن ونتنياهو على طريقة تعامل إسرائيل مع حرب غزة، وانتقال المعركة إلى لبنان. وأضاف المسؤول: «لكن بعد دخول إيران المعركة بشكل مباشر، التي تشكل (تهديداً مدمراً) لإسرائيل، تغيّرت نبرة أميركا واستراتيجيتها». أما «النيويورك تايمز» فنقلت عن جوناثان بانيكوف، مدير «مبادرة سكوكروفت للأمن في الشرق الأوسط بالمجلس الأطلسي»، قوله إن «الحرب الشاملة حتى الحرب الأكثر محدودية، يمكن أن تكون مدمّرة للبنان وإسرائيل والمنطقة. ولكن من خلالها ستأتي فرص غير متوقعة أيضاً لتقويض النفوذ الإيراني الخبيث في المنطقة، من خلال عرقلة جهودها لإعادة تشكيل (حزب الله)، مثلاً. وبالتالي، ينبغي للإدارة الجديدة أن تكون جاهزة للاستفادة من هذه الفرص». لكن مع المفاجأة التي تعرّضت لها إسرائيل أخيراً خلال «توغّلاتها» البرّية، وسقوط العديد من جنودها بين قتيل وجريح من قبل مقاتلي (حزب الله)، طرح العديد من التساؤلات... منها عمّا إذا كانت ستعيد النظر بخططها العسكرية وبحساباتها فيما يتعلق بكيفية إقامتها «المنطقة العازلة» في جنوب لبنان، تطبيقاً للقرار 1701؟ وأيضاً، هل ستكثّف قصفها الوحشي والتدميري، بما يؤدي بتلك التوغّلات إلى احتلال جديد، أو تحويل المنطقة إلى «أرض محروقة»؟ وهل سيكون متاحاً مرة أخرى أمام الحزب واللبنانيين عموماً، إعادة تنظيم «مقاومة» ما، على قاعدة توافق سياسي ينهي سلطة «حزب الله» لمصلحة الدولة... أم أن المقوّمات مستعصية في ظل الانهيار السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه لبنان؟