بولندا تأمل في العودة إلى أوروبا مع استعادة توسك الحكم

بروكسل متفائلة بهزيمة اليمين المتشدد رغم استمرار القلق

حشد انتخابي وعرض عضلات في العاصمة وارسو لتحالف المعارضة البولندية الفائز (رويترز)
حشد انتخابي وعرض عضلات في العاصمة وارسو لتحالف المعارضة البولندية الفائز (رويترز)
TT

بولندا تأمل في العودة إلى أوروبا مع استعادة توسك الحكم

حشد انتخابي وعرض عضلات في العاصمة وارسو لتحالف المعارضة البولندية الفائز (رويترز)
حشد انتخابي وعرض عضلات في العاصمة وارسو لتحالف المعارضة البولندية الفائز (رويترز)

لم تحظ الانتخابات التي شهدتها بولندا الأحد الماضي بالكثير من الاهتمام، ومع ذلك، فإن متابعيها وصفوها بأنها كانت الانتخابات الأهم التي مرّت على البلاد منذ سنوات، وربما منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. السنوات الـ8 الماضية التي حكم خلالها حزب «القانون والعدالة» اليميني المتشدد بولندا، سجّلت تراجعاً كبيراً في مستوى الحريات العامة قياساً بمعايير الاتحاد الأوروبي، وبالتالي، دخلت الحكومة التي يرأسها ماتيوش ماروفييتسكي في مسار المواجهة الدائمة مع الاتحاد. بل، دفعت الأمور المفوضية الأوروبية إلى تجميد ما يقارب الـ35 مليون يورو كمساعدات سبق أن أُقرّت عام 2020 للدول الأعضاء لمواجهة تبعات جائحة «كوفيد - 19». وجاء قرار تجميد الأموال رداً على تغييرات قضائية أدخلتها الحكومة اليمينية، وعدّت المفوضية أنها تقوض الحريات وتؤثر على استقلالية القضاء. غير أن نتائج انتخابات الأحد الماضي أظهرت تقدّم ائتلاف يضم 3 أحزاب يقودها دونالد توسك، رئيس المجلس الأوروبي سابقاً وزعيم حزب «المنبر المدني» ورئيس الحكومة البولندية بين 2007 و2014. ومع أن حزب «القانون والعدالة» حصل على أكبر نسبة من الأصوات قاربت الـ37 في المائة، فإنه سيعجز عن تشكيل ائتلاف حكومي؛ لأن شريكه المحتمل لم يحصل على أصوات كافية تخولهما الحكم بغالبية مطلقة. وهكذا، فُتح الباب أمام توسك ليشكل إئتلافاً حاكماً يضم 3 أحزاب - من اليمين المعتدل والوسط واليسار المعتدل - كانت قد اتفقت قبل الانتخابات على التحالف سوية في وجه «القانون والعدالة».

عندما بدأت تظهر نتائج الانتخابات البولندية مساء الأحد، بدأت مفوضية الاتحاد الأوروبي في بروكسل ومعها دول أوروبية أخرى، خاصة ألمانيا، تتنفس الصعداء. ذلك أن برلين كانت قد تحوّلت هدفاً سهلاً لحزب «القانون والعدالة» البولندي الحاكم طوال الأسابيع الماضية. والسبب، أن الحزب اليميني المتشدد والشعبوي - المناوئ للتكامل الأوروبي والمعادي للهجرة - الذي حكم بولندا منذ عام 2015، لم يكتفِ بوضع البلاد على خط المواجهة مع بروكسل، بل مع برلين أيضاً.

المطالبة بتعويضات الحرب وخلال الأشهر الماضية طغت على العلاقة بين حكومتي الدولتين «الجارتين» ألمانيا وبولندا مسألة التعويضات عن خسائر الحرب العالمية الثانية، التي طالبت وارسو من برلين دفعها بمبالغ تزيد على تريليون يورو. وفي سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، قدّمت بولندا فاتورة لألمانيا في الذكرى الـ83 لهجوم ألمانيا النازية عليها، مطالبة بتعويضات بمبلغ 1.3 تريليون يورو. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المسؤولين الألمان يكرّرون دائماً الإقرار بمسؤولية بلادهم تجاه بولندا بسبب الجرائم التي ارتكبها النازيون هناك، إلا أن الحكومة الألمانية ترفض إعادة فتح ملف تعويضات الحرب وتقول: إنه ملف أُغلق ولن تعاد مناقشته. وكذلك، ترى أن المبلغ المطلوب من بولندا ضخم جداً، وبالتالي، وغير مقبول.

من جهة ثانية، لا تخيم فقط مسألة العلاقة التاريخية بين الدولتين «الجارتين» على طبيعة العلاقة الثنائية الحالية، بل تمتد إلى خلافات أخرى أساسية، منها على سبيل المثال السياسة الخارجية، وفي طليعتها مسألة التعامل مع روسيا.

وما يستحق الذكر، أنه قبل الحرب بين روسيا وأوكرانيا، كانت برلين تنظر إلى الحكومة البولندية على أنها شديدة العدائية تجاه موسكو، بينما يرى اليمين البولندي الحاكم - حتى الانتخابات الأخيرة - أن الحكومة الألمانية مقربة بشكل ساذج من روسيا.

ثم إبان أزمة اللاجئين عام 2015، اختلفت حكومتا برلين ووارسو حول مقاربة المشكلة التي قسمت أوروبا كذلك. وفي حين فتحت ألمانيا الأبواب أمام مئات آلاف اللاجئين، أغلقته بولندا ورفضت تقاسم «أعباء اللجوء واللاجئين». وأخيراً، في الأسابيع الماضية، هزّت بولندا فضيحة بيع تأشيرات «شينغن» للاجئين بهدف تسهيل دخولهم إلى ألمانيا؛ ما زاد العلاقات الثنائية تعقيداً، ودفع ببرلين إلى طلب توضيحات حول المسألة من وارسو. وفي هذه الأثناء، تحوّلت ألمانيا نفسها هدفاً سهلاً لهجمات حزب «القانون والعدالة» طوال الحملة الانتخابية، بل الحزب وجّه اتهامات لزعيم الائتلاف المنافس تاسك بأنه «عميل لألمانيا» وأنه «ينقاد خلفها من دون تفكير».

ترحيب حار بالنتائجبعدها، ولدى توالي إعلان نتائج الانتخابات، علّق السفير الألماني في وارسو رولف نيكل - الذي كان هو نفسه قد غدا هدفاً لتهم «القانون والعدالة» وهجماته - فقال بارتياح وسعادة لقناة ألمانية: إن «الناخبين في بولندا خلقوا ربيعاً في منتصف أكتوبر (تشرين الأول)».

ولم تلبث أن توالت ترحيبات مشابهة من نواب ألمان، فقال تيري راينتكه، النائب في البرلمان الأوروبي عن حزب «الخضر» المشارك في الحكومة الألمانية، إنه يتوقع أن تصبح «بولندا شريكاً بنّاءً... وأن يقوّي التغيير الذي ستحمله الحكومة الجديدة موقعها داخل أوروبا». إذ رأت كاتيا لايكرت، العضو في البرلمان الألماني عن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المعارض، أن نتائج الانتخابات في بولندا «تعطي أملاً لأوروبا». وكتبت على منصة «إكس» (تويتر سابقاً): «سيكون مهماً جداً أن يصبح لبولندا من جديد حكومة تؤيد الديمقراطية والاتحاد الأوروبي، وبالأخص، في وقت الأزمات الذي نمر به راهناً».

وسمعت أصداء مشابهة في بروكسل، حيث عمل دونالد توسك بين عامي 2014 و2019 وترأس المجلس الأوروبي - بعد مغادرته منصب رئيس وزراء بولندا بين 2007 و2014 -، وحيث كانت بولندا قد تحوّلت في السنوات الماضية شريكاً مزعجاً ودائم الانتقاد للمؤسسات الأوروبية ومُعرقلاً لقوانين أوروبية مهمة.

وحقاً، نقلت مجلة «بوليتيكو» عن دبلوماسي أوروبي قوله: إن نتائج الانتخابات البولندية «يجب أن تؤدي إلى عمل أكثر سلاسة داخل الاتحاد الأوروبي يعكس أسس الاتحاد وقيمه، خاصة لجهة المسؤولية والتضامن». وأردف الدبلوماسي للمجلة: إن «رفض سياسات الأحزاب اليمينية المتشددة يجب أن يكون مثالاً للآخرين، على أمل أن يدفع هذا الأمر بالاتحاد الأوروبي إلى أن يصبح أقوى في وجه التهديدات الجيو سياسية».

منعطف يشجع الاعتدالوفي الإطار نفسه، رأت عدة جهات أن انتصار ائتلاف توسك المعتدل على اليمين المتشدد الشعبوي الممسك في السلطة حتى هزيمته بالأمس، «إشارة أمل إلى الأحزاب الأوروبية المعتدلة» بعد موجة من انتصارات الأحزاب والقوى المتشددة والمتطرفة شهدتها دول عدة، منها إيطاليا والمجر وسلوفاكيا. ولقد رأت صحيفة «الغارديان» البريطانية أن نتائج انتخابات بولندا «ملفتة بشكل كبير، خاصة إذا ما وضعت في السياق الأوروبي».

وذكّرت الصحيفة، بالذات، بفوز الحزب اليميني المتطرف «حركة الإخوة الإيطاليين» (الفاشيون الجدد) بزعامة جورجيا ميلوني في إيطاليا، والزعيم اليميني الشعبوي فيكتور أوربان في المجر بولاية حكم رابعة قاضياً على ائتلاف 6 أحزاب معارضة، وأخيراً، فوز روبرت فيتسو (الشيوعي السابق والشعبوي المعادي للمسلمين حالياً) في سلوفاكيا الذي وصفته الصحيفة بأنه «شبيه أوربان».

ماتيوش ماروفييتسكي ... يدلي بصورته (إ.ب.أ)

وقارنت «الغارديان» فوز تلك الأحزاب وما حصل في بولندا، فذكرت أن حزب «القانون والعدالة» البولندي استنسخ واقعياً سياسات الأحزاب المتطرفة في الدول الأوروبية الأخرى، أي الاعتماد على أصوات المتقدّمين في السن، والناخبين خارج المدن الكبيرة من الشرائح الأفقر عبر مزيج من زيادة الإنفاق الاجتماعي والخطاب الشعبوي. وتابعت الصحيفة البريطانية بأن «هذا التكتيك لم ينجح في بولندا، التي شهدت الانتخابات فيها إقبالاً على التصويت غير مسبوق وصل إلى 74 في المائة مقارنة بـ62 في المائة فقط عام 2019، بل إن العاصمة وارسو سجّلت هذه المرة نسبة تصويت زادت عن الـ85 في المائة». واستطردت لتوضح، أن الانتخابات الأخيرة لم تحدّدها أصوات «كبار السن»، بل أصوات الشباب الليبراليين الذين صوّتوا بأعداد كبيرة بعدما نجح توسك في تحريكهم.

وعود توسك لناخبيهخلال الحملة الانتخابات تعهّد دونالد توسك بتأييد زواج المثليين، والسماح بالإجهاض، وهذان موضوعان يحصلان على تأييد الشباب الليبراليين ومعارضة الكبار في السن الذين يكونون عادة محافظين أكثر، ولا سيما في بلد كاثوليكي شديد المحافظة. وشرحت الصحيفة، بأن توسك حرص، من جانب آخر، على الترويج لسياسات اقتصادية تنافس وعود الحزب الحاكم. إذ روّج - مثلاً - لزيادة المساعدات الاجتماعية، والإبقاء على سن التقاعد على حاله، وزيادة مرتبات الموظفين الحكوميين... وغيرها من السياسات التي تشير إلى رفضه اعتماد مبدأ تقليص الانفاق.

من جهتها، قارنت مجلة «بوليتيكو» بين فوز توسك مقابل فوز زعماء شعبويين في دول أخرى، لتستنتج أن «كسب الانتخابات يحتاج إلى موهبة». وأشارت إلى أن توسك «محاور جيد وقادر على التواصل مع الناخبين، كما أنه يعرف كيف يستخدم وسائل الإعلام الحديثة». وتابعت: إن حزب «المنبر المدني» الذي كان توسك من مؤسسيه، «انهار بعدما غادر إلى بروكسل عام 2015 ولكنه الآن قد بُعثت فيه الحياة من جديد».

دونالد توسك... راسماً شارة النصر بإصبعيه (رويترز)

توسك... وملف الهجرة و«المسلمين»

> على الرغم من التفاؤل الأوروبي، قد لا يكون دونالد توسك «الشريك الأوروبي» الذي يطمح إليه الكثيرون. فالرجل أثبت خلال الحملة الانتخابية أن آراءه المتعلقة بالهجرة واللجوء ما عادت تختلف كثيراً عن آراء شعبويي اليمين الذين قارعهم في الانتخابات الأخيرة.

ومع أن حزب «القانون والعدالة حاول مهاجمة توسك في هذه النقطة إبان الحملة الانتخابية، محذّراً الناخبين من أنه «سيدخل آلاف اللاجئين إلى بولندا ويحوّلها إلى لامبيدوزا (جزيرة الاستقبال الإيطالية) ثانية»، فإن الرجل نفسه انتقد سماح الحكومة بدخول أعداد كبيرة من المهاجرين «من دول مسلمة». بل إنه تكلّم عن ضرورة إعادة فرض «السيطرة على حدود» البلاد. وشكّل كلامه هذا قبل أشهر من الانتخابات مفاجأة، ونقيضاً لمواقف سابقة له انتقد فيها الخطاب الشعبوي للحزب الحاكم حول اللاجئين والمهاجرين.

وحول المسلمين، كان توسك يشير إلى مشروع قانون كانت تعمل عليه الخارجية البولندية يتيح لمواطني دول من بينها دول مسلمة، التقدم للحصول على التأشيرات مباشرة من الخارجية - عوضاً عن المرور عبر القنصليات - وهو أمر ما كان متاحاً فقط لمواطني بيلاروسيا. ولقد سعت الخارجية لإدخال التعديلات بحجة ضرورة تسهيل دخول اليد العاملة المطلوبة في العديد من المجالات في بولندا.

وفي تعليق على المشروع، قال توسك في فيديو نشره على «إكس» (تويتر سابقاً) منتقداً زعيم الحزب الحاكم ياروسلاف كاجينسكي: «لقد أدخل 130 ألف مواطن من هذه الدول العام الماضي، وهذا أعلى بـ50 مرة عن عام 2015 - الذي كان العام الأول بعد خروج حزب توسك من السلطة -... فلماذا يهاجم (أي كاجينسكي) المهاجرين واللاجئين، وفي الوقت نفسه، يريد أن يدخل مئات الآلاف من هذه الدول؟».

ما يجدر ذكره، أن بولندا رفضت في السنوات الـ8 الماضية أن تأخذ حصتها من اللاجئين في أوروبا، وقد سجّلت أعلى نسبة مهاجرين في تاريخ البلاد. وفي الأشهر الماضية كان الأوكرانيون هم غالبية اللاجئين، ولكن كان هناك أيضاً أعداد كبيرة من اللاجئين من الشرق الأوسط وآسيا.

وآنذاك تعرّض توسك لانتقادات من الأحزاب التي تحالف معها لتشكيل حكومة لاحقاً في حال الفوز بالانتخابات. وقال أدريان زاندبيرغ، أحد زعماء اليسار: إن «الرهان مع اليمين المتطرّف حول الهجرة مثل مصارعة خنزير في الوحل... هذا ليس أمراً يمكن أن يكسب أصواتاً؛ إذ حاولت أحزاب كثيرة في أوروبا ذلك، وبالنتيجة كان الرابح الوحيد هم الفاشيون».

أيضاً، انتقد توسك عضو سابق في حزبه، وهو من أصل نيجيري اسمه جون غودسون، وكان الوحيد من أصول أفريقية الذي أصبح نائباً عام 2010. إذ كتب غودسون على «إكس» مغرداً: «توسك أكد أن بولندا دولة ترحب بالمهاجرين. دونالد، ما الذي تغير؟».

عليه، يبقى أن يثبت الزعيم العائد ما إذا كانت مواقفه تلك من المهاجرين حقيقية أم كانت لأهداف انتخابية. وهي في حال كانت حقيقية، قد تجد بولندا نفسها في موقع صدام جديد مع الاتحاد الأوروبي الذي يسعى لإصلاح قانون اللجوء داخل الاتحاد كي يصبح توزيع اللاجئين أكثر عدلاً. فحالياً تعتمد الدول على ما يعرف بـ«اتفاقية برشلونة» التي تنص على أن يتقدم طالب اللجوء بأوراقه في أول دولة داخل الاتحاد الأوروبي يصل إليها؛ ما يعني أن إيطاليا واليونان تتحمّلان العبء الأكبر بسبب موقعيهما الجغرافيين على البحر المتوسط.

في مطلق الأحوال، يرى البعض أن التغييرات التي حصلت في بولندا خلال السنوات الـ8 لن يكون سهلاً قلبها رأساً على عقب. وحول هذا الواقع كتب «معهد كارنيغي للأبحاث» أنه رغم اعتراف حزب «القانون والعدالة» بخسارته، لا يجب توقع «انتقال سلس» للسلطة.

وتابع المعهد أن الرئيس الحالي أندريه دودا - المفترض أنه مستقل ولكنه بقي في منصبه منذ تولي «القانون والعدالة» للسلطة، ما زالت لديه سنتان قبل انتهاء ولايته. وحسب المعهد، يستطيع دودا أن يعارض ويعطل إطاحة توسك التغييرات التي أدخلتها الحكومة الحالية، ووضعت بولندا في مواجهة مع الاتحاد الأوروبي.

أوكرانيا... قد تتنفس الصعداء

> انتصار المعتدلين في بولندا يريح القيادة الحالية في أوكرانيا إلى جانب الدول الأوروبية. وعلى الرغم من أن بولندا كانت حليف كييف الأول منذ بداية الحرب مع روسيا، فإن العلاقات سرعان ما توترت خلال الأشهر الماضية، خاصة، بسبب الخلافات حول تصدير الحبوب. ثم أن الحملات الانتخابية شهدت استهدافاً من بعض السياسيين في حزب «القانون والعدالة» لأوكرانيا، وتعهدات بأن وارسو لن تمدها بالسلاح بعد الآن، بل ستركز على تسليح نفسها.

في أي حال، ومع أن هذا الكلام يمكن تفسيره بأنه يتعلق أكثر بأجواء الانتخابات، يشير المتابعون إلى أن الزعيم البولندي «العائد» دونالد توسك معروف، منذ أيامه في بروكسل، بأنه «من الصقور» الذي يدعون لسياسات أكثر تشدداً مع روسيا.

كذلك، في عام 2014، عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، كان توسك من موقعه كرئيس للمجلس الأوروبي يعمل بجهد بالغ على إقناع الدول الأوروبية بالتشدد أكثر مع روسيا. ووفق المصادر العليمة، كان يحاول إقناع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل (آنذاك) بتشييد سياستها تجاه موسكو كذلك، من دون أن ينجح.

لهذه الأسباب؛ يرى المراقبون السياسيون أن عودة توسك إلى السلطة في بولندا سيكون مؤشراً إيجابياً لأوروبا التي تنظر بقلق إلى تقلص الحماسة الأميركية لدعم أوكرانيا مقابل توجيه واشنطن تركيزها أكثر على الشرق الأوسط والحرب بين اسرائيل و«حماس».

أيضاً، يأمل البعض أن يتمكن الزعيم البولندي من إعادة وارسو للعب دور قوي داخل الاتحاد الأوروبي، بعد سنوات من التهميش بسبب سياسات الحكومة الحالية. وبالفعل، كتبت مجلة «بوليتيكو»: إن «الترويكا الأوروبية المتمثلة ببرلين وباريس ووارسو هي الأمل الأفضل لأوروبا إذا أرادت أن تكون جدّية في ما يتعلق بأمنها»، في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا. وأضافت أنه في حال «تراجع الدعم الأميركي لحلف شمال الأطلسي (ناتو) وأوكرانيا، سيتوجب على أوروبا تعويض ذلك». ورأت، من ثم، أن التحول في السياسة في بولندا فرصة جديدة لتحقيق هذا الهدف، وبخاصة أن أوروبا تناقش باستمرار مسألة الاستقلالية الأمنية عن واشنطن، ولكن من دون تقدم. وعليه، عدّت أن توسك «أنقذ الديمقراطية في بولندا وبمقدوره أيضاً أن يقوي الوحدة الأمنية الأوروبية».


مقالات ذات صلة

الاتحاد الأوروبي يعتزم فرض عقوبات تستهدف «أسطول الظل» الروسي

أوروبا صورة أصدرها حرس الحدود الفنلندي أمس تُظهر سفينة تابعة له خلال مهمة حراسة ناقلة نفط في البحر (أ.ف.ب)

الاتحاد الأوروبي يعتزم فرض عقوبات تستهدف «أسطول الظل» الروسي

توعَّد الاتحاد الأوروبي بفرض مزيد من العقوبات على السفن الروسية بعد فتح هلسنكي تحقيقاً بتخريب ناقلة نفط أبحرت من روسيا كابلاً كهربائياً يصل بين فنلندا وإستونيا.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
المشرق العربي طفل سوري يقف تحت صورة عملاقة للرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد مطلية بالعَلم الجديد في دمشق الخميس (أ.ب) play-circle 01:00

اعتراف روسي غير مباشر بالتغيير في سوريا

وجَّه وزير الخارجية الروسي رسائل عدة حول مواقف بلاده تجاه التغييرات في سوريا، توحي باعتراف روسي غير مباشر بالتغيير في سوريا، ولم يتطرق إلى وجود الرئيس المخلوع.

رائد جبر (موسكو)
شؤون إقليمية وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر (د.ب.أ) play-circle 03:14

إسرائيل تسعى دبلوماسياً إلى تصنيف الحوثيين تنظيماً إرهابياً في أوروبا

أصدرت إسرائيل تعليمات لبعثاتها الدبلوماسية في أوروبا بالسعي إلى تصنيف جماعة الحوثيين المتحالفة مع إيران باليمن تنظيماً إرهابياً.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
الاقتصاد حفارات النفط تعمل بالقرب من كالغاري في مقاطعة ألبرتا الكندية (أ.ب)

النفط يرتفع في مستهل تعاملات الأسبوع... والخام الأميركي يقترب من 70 دولاراً

ارتفعت أسعار النفط خلال جلسة الاثنين، بعد أن أظهرت بيانات أميركية تباطؤ التضخم بأكثر من المتوقع؛ مما أنعش الآمال في مزيد من تيسير السياسات النقدية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
أوروبا أوربو وكريسترسون وميلوني وكالاس وميتسوتاكيس خلال اجتماعهم في فنلندا اليوم (أ.ف.ب)

رئيس الوزراء الفنلندي: روسيا تشكل «تهديداً دائماً» للاتحاد الأوروبي

عَدَّ رئيس الوزراء الفنلندي بيتيري أوربو، اليوم الأحد، أن روسيا تشكل «تهديداً دائماً وخطراً» للاتحاد الأوروبي.

«الشرق الأوسط» (هلسنكي)

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».