الجزائر.. ترتيبات «ما بعد الجنرال»

اللمسات الأخيرة التي أحدثها بوتفليقة على جهاز المخابرات تشغل الطبقة السياسية

عثمان طرطاق  -  محمد مدين
عثمان طرطاق - محمد مدين
TT

الجزائر.. ترتيبات «ما بعد الجنرال»

عثمان طرطاق  -  محمد مدين
عثمان طرطاق - محمد مدين

يلاحظ متابعو الشأن الجزائري، في الداخل والخارج، أن «جزائر ما بعد بوتفليقة» هو الموضوع الذي يشغل الطبقة السياسية والإعلام في الجزائر حاليًا. هذا الأمر سلطت عليه الأضواء فعليًا في أعقاب اللمسة الأخيرة التي أحدثها رئيس الجمهورية على جهاز المخابرات العسكرية، بعزل الفريق محمد الأمين مدين الشهير بـ«الجنرال توفيق». غير أن السؤال الأبرز في هذه القضية، هو هل سيتحدى الرئيس المرض ويستمر في الحكم رغم انسحابه من المشهد منذ أكثر من سنتين، أم سيضطر لاختيار من سيخلفه من داخل ما يعرف بـ«جماعة الرئاسة».

في الماضي القريب كانت شؤون الحكم والقرارات الكبرى في الجزائر يصنعها جنرالات الجيش، وهم بالتحديد وزير الدفاع وقادة النواحي العسكرية الستة وقادة القوات البرية والبحرية والجوية والدفاع عن الإقليم، ومعهم ضباط «مديرية الاستعلام والأمن»، التي تعد القلب النابض في المؤسسة العسكرية.
هؤلاء هم مَن أجبروا الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد على التنحّي مطلع عام 1992، على أثر الفوز الساحق الذي حققته «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» في أول انتخابات برلمانية منذ الاستقلال.

* بوتفليقة: «السلطة الأولى»
غير أنه منذ وصول عبد العزيز بوتفليقة إلى الرئاسة في عام 1999، والحرص الذي أبداه لتمكين الرئاسة من استعادة السلطات والصلاحيات التي استحوذ الجيش على جزء منها، في فترة الصراع الدامي مع الجماعات الإسلامية المسلحة، تغيَر كل شيء وبصفة جذرية.
هو بنفسه قال عشية انطلاق ولايته الأولى لقناة تلفزيونية فرنسية: «قولوا للجنرالات الجزائريين أن يلتهموني إن كان بمقدورهم ذلك!». أما غداة انتخابه فقال أمام الصحافة وبوضوح: «سوف لن أكون أبدًا ثلاثة أرباع رئيس». وفُهمت الرسالة حينذاك بأن بوتفليقة يريد حقًا أن يكون «السلطة الأولى في الجزائر»، والصوت الذي يعلو ولا يعلى عليه. ومنذ تلك اللحظة أدرك قادة المؤسسة العسكرية أنهم جلبوا لأنفسهم المتاعب عندما لجأوا إلى السياسي المخضرم وهو في منفاه الاختياري، ليعرضوا عليه حكم البلاد بعد استقالة الجنرال اليمين زروال من الرئاسة.
وبسط بوتفليقة نفوذه شيئًا فشيئًا، فأزاح مباشرة بعد انتخابات الرئاسة في عام 2004 رئيس أركان الجيش الفريق محمد العماري، الذي ارتبط اسمه بالحرب الضروس ضد الإرهاب. وكان العماري قد وقف ضد ترشح بوتفليقة لولاية ثانية، فأضحى التعايش بينهما مستحيلاً. أما المثير في تلك الانتخابات، فهو أن مدير المخابرات محمد مَديَن سار في البداية على نفس موقف العماري، لكنّه غيّر البوصلة في آخر لحظة، فعقد تحالفًا مع الرئيس هو ما مكّنه من الولاية الثانية. وجاءت المكافأة عام 2006 بترقية مَديَن – أو الجنرال «توفيق» – من رتبة لواء إلى رتبة فريق، وأصبح بالتالي، ثاني ضابط بعد الاستقلال الذي يقلَده الرئيس الرتبة العليا في الجيش بعد العماري.
وردَ «توفيق» لبوتفليقة الجميل بتزكية مسعى تعديل الدستور في 2008 الذي كسر ما كان يمنع الرئيس من الترشح لولاية ثالثة، ومن ثَم عزّز موقعه في الحكم عبر تقليص سلطات رئيس الحكومة الذي حوَله إلى وزير أول.
بعدها عيَن بوتفليقة اللواء أحمد قايد صالح رئيسًا للأركان، وأصبح في ظرف قصير سنده القوي في المؤسسة العسكرية ومن أكثر رجال الحكم وفاءً له. وخلال العامين الأخيرين نقل إليه الرئيس تدريجيًا كل السلطات والصلاحيات التي كانت بحوزة المخابرات، التي صنعت للجنرال «توفيق» القوة والنفوذ طيلة 23 سنة التي أمضاها في قيادة المخابرات.

* قرارات سريعة
كل المراقبين ومتتبعي الأحداث السياسية في فترة حكم بوتفليقة، ظلوا مشدوهين لقوة وسرعة القرارات التي اتخذها الرئيس بعد عودته من رحلة العلاج إلى فرنسا، على أثر إصابته بجلطة دماغية في 27 أبريل (نيسان) 2013. لقد عاد بوتفليقة إلى الجزائر على كرسي متحرّك بعد فترة علاج ونقاهة طالت 88 يومًا، وأثناء غيابه أثير جدل حاد حول «نهاية بوتفليقة»، وانطلقت التخمينات بخصوص مَن «اختاره توفيق ليكون خليفة لبوتفليقة». وفي خضم ذلك الجدل كان السعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس وكبير مستشاريه، يتردّد بين الجزائر وباريس حيث مستشفى الـ«فال دوغراس» العسكري الشهير، حيث كان الرئيس يتلقى العلاج، لينقل إليه كل كبيرة وصغيرة عمّا يقال عنه في الجزائر.
عن هذا الأمر بالتحديد، يذكر أحد وزراء الإعلام الـ13 الذين «استهلكهم» بوتفليقة خلال 15 سنة في الحكم، لـ«الشرق الأوسط»: «اغتاظ الرئيس كثيرًا لما قيل عنه في صالونات السياسة بالعاصمة، وما نقلته بعض الصحف عن نهايته المزعومة. البعض قال إن مدير المخابرات هو مَن كان وراء ذلك، لكن ذلك غير صحيح والرئيس يعلم أنها ليست الحقيقة، لكنه غضب من توفيق غضبًا شديدًا كونه لم يشغَل الأدوات التي بين يديه، ليمنع تداول إشاعات جاء في بعضها أنه توفي». وتابع الوزير السابق: «.. ربما كان توفيق يتوقع نهاية بوتفليقة لعلمه أنه فقد التحكّم بحواسه، وبالتالي، لن يستطيع مقاومة حالة الضعف التي وجد فيها، وأنه لن يترشح لانتخابات 2014. غير أن توفيق وكل من راهن على انسحاب بوتفليقة من الحكم، ربما لم يكونوا يعرفون حقيقة شخصية الرجل. فقد عاد إلى الحكم ليخلد فيه، وحتى إن خارت قواه ولم يعد قادرًا على الاستمرار سيختار هو من سيخلفه وليس العسكر». ثم أضاف: «مرض الرئيس غيَره تجاه توفيق، وقد كان لشقيقه ورئيس أركان الجيش قايد صالح، دور كبير في هذا التغيير. فالأول تصرّف دفاعًا عن أخيه الأكبر الذي يدعونه في العائلة (سيدي حبيبي) إجلالا وتقديرا له. والثاني تصرّف بدافع الرغبة في أن يصبح الرقم واحد في المؤسسة العسكرية من دون أن ينازعه توفيق في أي شأن يخصها، ولقد نجح في ذلك وإن كان لا يستطيع اتخاذ أي قرار دون مشورة الرئيس. وبإمكاني أن أجزم بأن صالح يطمع في أن يختاره بوتفليقة لخلافته».

* تفكيك «الجهاز»
بدأت القرارات الصاروخية في السقوط على رأس مدير المخابرات، الواحدة بعد الأخرى.
أولها وأخطرها كان حرمان «الجهاز» من الشرطة القضائية، العصا التي قادت تحقيقات في أكبر قضايا الفساد التي تورَط فيها مسؤولون بارزون في الدولة. وكان «ذنب توفيق الأعظم» أن شرطته حشرت أنفها في فضائح شركة المحروقات «سوناطراك»، وأفضى التحقيق إلى اتهام شكيب خليل وزير الطاقة المتنحّي حديثًا – في حينه – بالتورّط بعمولات ورشى دُفعت في إطار صفقة مع شركة «سايبام»، فرع عملاق الطاقة الإيطالي شركة إيني. وقدّم «توفيق» ملفًا عن الفضيحة إلى وزير العدل محمد شرفي، الذي أمر النيابة بإعداد مذكرة اعتقال دولية ضد شكيب خليل.
كل هذه التفاصيل جرت في فترة غياب بوتفليقة، وضد من؟ ضد صديق طفولته الذي ترجّاه في عام 1999 كي يغادر منصبه في البنك العالمي للإشراف على قطاع المحروقات بالجزائر. بل، والأدهى من ذلك، أن اسم السعيد بوتفليقة ورد في التحقيق على أساس أنه تقاضى رشوة مقابل التوسّط لدى مكتب دراسات عالمي ليأخذ حصّة من مشاريع نفطية في صحراء الجزائر.
وثارت ثائرة الرئيس عندما علم بأن أعزّ الناس إليه، شقيقه الأصغر، الذي يمارس وظيفة نائب رئيس جمهورية بشكل غير رسمي، مهدّد بالمتابعة وربما السجن. وعندها، قرر تنحية وزير العدل في أول تعديل حكومي، وزحزح ضباط المخابرات الذين أجروا التحقيق من وظائفهم بالعاصمة «فنفاهم» إلى مواقع في الولايات الداخلية، وأمر أيضًا بإبطال مذكرة الاعتقال بحجة أنها لم تستوفِ الشروط القانونية، كونها صدرت عن المحكمة الابتدائية، وليس من المحكمة العليا.. التي هي الجهة التي تقاضي أصحاب الوظائف السامية.
جاء بعدها إلغاء «وحدة الاتصال والبث» في المخابرات، التي كان يقودها «الكولونيل فوزي»، وعيّن «توفيق» في مؤسسات الإعلام. وأحال البعض على التقاعد الإجباري. ثم جرَد المخابرات من الإشراف على الأمن العسكري والرئاسي ومن التنصّت على مكالمات الوزراء والمسؤولين الكبار، وحلَ «مجموعة التدخل الخاصة» الأمنية، التي كانت القوة الضاربة للمخابرات أيام الصراع مع الإرهاب.
كل هذه الهياكل تم إلحاقها بقيادة الأركان، وبذلك أضحى قايد صالح «هيلمانًا» في الجيش. أما «الجهاز» فاحتفظ فقط بالأمن الداخلي والأمن الخارجي، أي بالحد الأدنى. ووصف الإعلام سلسلة الأحداث بـ«تفكيك جهاز المخابرات»، وعدَها بمثابة «عمل منظَم لإضعافه تحقيقا لغرض شخصي».
ويقول مراقبون تابعوا تلك التغييرات التي شهدتها البلاد، أن عملية «الضرب تحت الحزام» التي استهدفت «توفيق» بلغت المنعطف بمناسبة الهجوم غير المسبوق الذي وجهه رئيس حزب الأغلبية عمّار سعداني ضده. ففي مقابلة نارية مع صحيفة إلكترونية نشرت في فبراير (شباط) 2014، اتهمه بـ«إثارة القلاقل داخل الأحزاب» وبـ«العجز عن تجنيب الرئيس محاولة الاغتيال التي تعرض لها في 2007»، ودعاه إلى الاستقالة.
بقاء سعداني على رأس حزب الأغلبية، بعد هذا «الاعتداء» كان مؤشرًا قويًا على ضعف «توفيق». ويرى المراقبون أنفسهم أن أقوى ضربة تلقاها وبها وقّع الرئيس بوتفليقة «شهادة وفاته» كرئيس للمخابرات، كانت سجن رئيس قسم محاربة الإرهاب في المخابرات الجنرال حسّان يوم 27 أغسطس (آب) الماضي. فالرجل كان واحدًا من أبرز مساعديه، وتم الزج به في السجن ومنع محاميه من مقابلته. أما التهم الموجهة له فتبقى غامضة.

* توقّع عزل «توفيق»
تنبأ قطاع من المحللين على أثر هذه الأحداث، بأن تكون «الخطوة المقبلة تاريخية» عزل «توفيق»، وهو ما حصل فعلاً في 13 سبتمبر (أيلول) 2015. واستخلف بالرجل الثاني في المخابرات، مدير الأمن الداخلي سابقا اللواء عثمان طرطاق، المدعو «بشير» الذي عيَنه «توفيق» مساعدا له، غير أن بوتفليقة نحاه من المنصب عام 2014 وأحاله على التقاعد. لكنه عاد فجلبه إلى الرئاسة كمستشار أمني وكان يحضَره لخلافة «توفيق». وما يلفت الانتباه في هذا، أن «بشير» عاد إلى الخدمة بعد التقاعد، بينما أخرج «توفيق» إلى التقاعد بوضع حد لخدمته في الجيش.
الواقع انه لا يُعرف الشيء الكثير عن طرطاق، ما عدا كونه «شخصًا صلبًا مثل الصخر» لصلابته في مواجهة الجماعات المتطرفة أيام كان الإرهاب على وشك تحطيم الدولة. أما النتيجة التي توصل إليها المهتمون بهذه التطورات، فهي أن بوتفليقة تخلّص من شخص ضايقه كثيرًا، خاصة عندما تجرأ على التحقيق بشأن أخيه، وقدَر بأن الرئيس لا يصلح لولاية رابعة بسبب المرض.
غير أن أكثر ما يحير المراقبين حاليًا، هو كيف لرئيس ضعيف بدنيًا لم يخاطب الجزائريين منذ قرابة ثلاث سنوات ونصف بسبب المرض، أن يقدم على هذه المعركة ويخرج منها منتصرًا؟
الجواب عند البعض، أن بوتفليقة عزّز موقعه في الحكم بفضل «شراء ولاء» رئيس أركان الجيش (82 سنة) وكبار القادة العسكريين ممّن أبقاهم في مناصب المسؤولية، بينما يفترض أنهم تقاعدوا منذ سنين طويلة. ولم يتوقف «دهاء» بوتفليقة عند هذا الحد، بل إنه كسب ولاء قويًا وسط أكبر رجال الأعمال الذين دفعوا أموالاً طائلة في حملاته الانتخابية الأربع. وعلى رأس هؤلاء علي حداد، رئيس «منتدى رجال الأعمال»، وهو تكتل رساميل يضم نحو 20 رجل الأعمال قيمته تفوق 5 مليارات دولار أميركي.
هؤلاء يشكلون اليوم القوة المالية التي ترتكز عليها «جماعة الرئيس»، بينما تمثل رئاسة الأركان القوة المادّية، وهما، مجتمعَين، وظفهما بوتفليقة لتوجيه الضربة القاضية التي قهرت «توفيق».

* «مرحلة ما بعد بوتفليقة بدأت»
وقد عرض الدكتور حسني عبيدي، الباحث الجزائري ومدير «مركز الدراسات والأبحاث حول العالم العربي والمتوسط بجنيف»، رأيه في صحيفة محلية بخصوص مآلات الأحداث الأخيرة، فقال: «أعتقد أنه يجب عدم المبالغة في حجم إقالة الجنرال توفيق، لأننا حينها سنقع في مأزق الانتصارات الوهمية. لم يكن توفيق يشكّل كشخص تهديدًا لبوتفليقة، لكن استمرار الانسداد السياسي في الجزائر وغياب الرئيس (بداعي المرض) ومعه أي رؤية حقيقية لتسيير الدولة، مع تغول أصحاب النفوذ وضبابية عملية صناعة القرار في محيط الرئيس، إضافة إلى تغييرات حدثت في المؤسسة العسكرية والأمنية، (عوامل) تشكل سيناريو مخيفًا بالنسبة لمحيط الرئيس. لقد كان وضعًا يشجّع على تغيير مفاجئ في هرم السلطة أو انقلاب أبيض، خاصة أن الوضع الاجتماعي والاقتصادي في الجزائر منذ انهيار أسعار النفط متّجه نحو مرحلة حرجة».
وبرأي عبيدي فقد «بدأ التحضير لما بعد بوتفليقة، وهذه المرة دون توفيق ولكن بضمانات قوية بعدم التعرّض له ولمحيطه بأي سوء. توفيق رحل عن المشهد السياسي في صمت مثلما بدأ مشواره، لكن من المؤكد أنه لن يكون آخر من يرحل». وتابع الباحث المقيم في سويسرا: «كان بالإمكان أن تمرّ هذه الإقالة دون أن تحدث ضجيجًا. لكن كونها تحصل في نظام سياسي مغلق وتستهدف أحد المكوّنات الأساسية لهذا النظام، يجعل منها منعطفًا سياسيًا بامتياز. ولأن النظام السياسي في الجزائر، منذ الاستقلال بُني على المقاربة الأمنية، فإن خروج المسؤول الأول (حارس الكهف) عن المنظومة الأمنية يكتسي أهمية بالغة. بمعنى أن الجنرال توفيق، بحكم الفترة الزمنية التي قضاها على رأس الأجهزة، ترك بصماته على كل شيء: العقيدة الأمنية واختيار الرجال وطبيعة الولاء وطريقة إدارة شؤون البلاد. ولكن تمثل إزاحة توفيق تحديًا إضافيًا للرئيس ومحيطه. فالقطب الرئاسي ممثلاً في بوتفليقة، لن يتحجّج بعد اليوم بتعدّد مراكز القرار السياسي والاقتصادي. إنه مطالب بمشروع للمجتمع يمهّد لدولة يحميها دستور جامع، يضمن الاستقرار الأمني والتوزيع العادل للثروات والمشاركة السياسية. أما التحدّي الثاني فيكمن في قدرة الرئيس على إعطاء نفَس جديد للجهاز الأمني، ليكون مؤسسة تحفظ أمن الدولة وليس أمن النظام ورموزه».
«مرحلة ما بعد بوتفليقة»، حديث يجري تداوله حاليًا في الأوساط السياسية والإعلامية. ولكن هل يعقل أن يرحل الرئيس عن الحكم، بعدما خاط على مقاسه كل شيء: السلطة التنفيذية والسلطة القضائية والبرلمان والجيش برئاسة الأركان والمخابرات، وعالم المال والأعمال؟
في هذا الإطار، تقفز فرضيتان تبدوان الأقرب إلى المنطق: فإما أن يقرر الرئيس الاستمرار في الحكم متحدّيًا المرض والشكوك حول قدرته على تسيير دفة الحكم. وإما أن يختار مَن يخلفه ثم يعلن انتخابات مبكَرة. وفي هذا الإطار يرشح الملاحظون ثلاثة أشخاص: رئيس الوزراء عبد المالك سلاّل، ووزير الدولة مدير الديوان بالرئاسة أحمد أويحيى، و.. السعيد بوتفليقة.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.