«في سماء مشمسة حتى أصغر السُّحُب تترك تأثيرًا».. هكذا وصف ميخائيل باكونين، أحد روّاد الراديكالية الثورية في أوروبا، الحالة السياسية داخل كيانات «القارة العجوز» خلال عقد الستينات من القرن التاسع عشر.
لفترة ما كانت أوروبا تعيش بسلام، وقد توحّدت نخبها الحاكمة على تفاهمات الضرورة، كي لا نقول الرغبة، بديمومة «الأمر الواقع».
عام 1848، بدا وكأن النخب المحافظة الحاكمة حريصة على منع حدوث أي تغيير ذي شأن. كذلك كانت تلك النخب متخوّفة من نوبات راديكالية من العنف تجسّدت أكثر ما تجسّدت بحركات فوضوية شبحية، كان من أبرز رموزها الروسي ميخائيل باكونين ومواطنه بيتر كروبوتكين. أما «السحابة الصغيرة» التي لمّح إليها باكونين في مقولته المذكورة آنفًا فكان يمكن أن تأتي على شكل قنبلة يرميها فوضوي متطرّف على عربة أحد الأعيان، أو تفجير يستهدف محطة سكك حديدية مزدحمة بالركاب. وكانت آمال النفخ في الجمر المدفون تحت رماد 1848 قد أبقت أعداء صيغة «الأمر الواقع» نشطين في الشارع، بل جعلتهم أكثر راديكالية وتشدّدًا.
ومع الوقت، أدّت ضغوط الراديكاليين على السياسات الأوروبية، التي رسم معالمها «مؤتمر فيينا» ورسوخ أشكال «الدولة - الأمة»، إلى نشوب الحرب الفرنسية – الروسية عام 1870، وبعد سنة واحدة «كومونة باريس» – أو «ثورة باريس الشعبية» – وولادة الحركة الثورية في روسيا القيصرية.
في حينه، حاولت أوروبا مواجهة ضغط الراديكاليين، عبر ثلاثة توجهات:
التوجّه الأول، الذي يمكن تسميته «التوجه الإمبريالي»، اعتمدته بعض الدول، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا - فرنسا بعد الهزيمة في معركة سيدان – وقام على توجيه زخم طاقة الاضطراب والقلاقل نحو مشاريع «بناء الإمبراطوريات» عالميا. ولقد وفّر «مؤتمر برلين» الذي كان خلفه دهاء الزعيم البريطاني بنجامين دزرائيلي «خارطة طريق» لتقاسم الإمبراطوريات الأوروبية الاستعمارية مناطق العالم بأسره.
التوجّه الثاني، هو الذي اعتمدته قوى جديدة مثل «الرايخ الألماني»، وتصحّ تسميته بـ«التوجّه القومي» إذ إنه تمثّل بدعوة الراديكاليين للمساهمة في بناء نماذج «الدولة - الأمة» الجديدة باسم «القومية».
التوجّه الثالث، هو «التوجّه الديمقراطي الاجتماعي»، ذلك أن التطوّرات المُشار إليها سابقا تزامنت مع ولادة النقابات العمالية في أوروبا، التي كانت قد انطلقت أصلا كأدوات ثورية، غير أنها انتهت كعوامل ضامنة لاستقرار «الأمر الواقع». ومع أنه ظل هناك أشخاص، مثل كارل ماركس، يحلمون بشبح يقض مضاجع أوروبا، فإن هؤلاء عملوا في نهاية المطاف على «مأسسة» الحركات الراديكالية اليسارية عبر الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية. وفي المقابل، اكتشف آخرون مثل فرديناند لاسال وكارل كاوتسكي وغيرهما من آباء «الدولية الأولى» الفوائد الجمة للخروج بنصيب معقول من كعكة السلطة عن طريق الانتخابات ضمن إطار السياسات البرلمانية. وهكذا، لم يبق من دعاة «اللامساومة» و«الثورة الكاملة» سوى «الشعبويين» الذين هم على شاكلة سيرغي نيتشاييف.
وفي الحصيلة النهائية، بفضل توليفة من «الإمبريالية» و«القومية» و«الديمقراطية الاجتماعية»، وعلى الرغم من عقود من الراديكالية العنيفة، تحقّق التفاهم الأوروبي على «الأمر الواقع» الذي صمد على امتداد القارة حتى مستهل ما يوصف بـ«العصر الحديث» اعتبارا من عام 1913.
هذا الوضع سقط مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، والمفارقة أن التوجّهات الثلاثة، أي «الإمبريالية» و«القومية» و«الديمقراطية الاجتماعية»، التي صنعت «الأمر الواقع»، عادت فأسهمت في صنع «النظام الأوروبي».. وكانت قد أسهمت أيضا في اندلاع الحرب.
* صدمة الثورة
«النظام الأوروبي» تعرّض لصدمة كبرى عام 1917 هي الثورة البلشفية الشيوعية في روسيا التي أعطت القوى المناوئة لـ«الأمر الواقع» أرضية صلبة، على الأقل في ساحة اليسار. ومن ثَم، لمجابهة التهديد البلشفي اضطرت السياسات الأوروبية للتحرّك يسارا. ولقد تجسّد ذلك بدخول الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية (أو الاشتراكية المعتدلة) عددا من حكومات القارة، وظهور حزب العمال في بريطانيا، والإصلاحات الراديكالية التي اعتمدتها حكومة تحالف «الجبهة الشعبية» في فرنسا.
بيد أن الضغوط، التي تراكمت وتكثّفت إبان الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، ثم بعد «معاهدة فرساي»، أنتجت شكلا جديدا من أشكال الراديكالية.. ولكن في ساحة اليمين هذه المرة. ففي إيطاليا، أسّس بينيتو موسوليني «الحركة الفاشية» وفق خطاب جوهره أن إيطاليا وإن كانت وقفت في صف «الحلفاء» إبان الحرب العالمية الأولى (مع بريطانيا وفرنسا وباقي الحلفاء) فإنها لم تخرج بنصيب موازٍ لنصيبي البريطانيين والفرنسيين بعد تقاسم كعكة المستعمرات.
أما بالنسبة لألمانيا التي هُزِمت في تلك الحرب، فقد نهضت فيها الراديكالية الجديدة من ركام اليسار الراديكالي الذي سحقته السلطات وصفّت قادته بعد اتهامهم بالتآمر مع «العدو البلشفي». وحقا، خلال وقت قصير، ظهرت حركة راديكالية يمينية جديدة تجسّدت بالحزب النازي تحت زعامة أدولف هتلر. بل حتى في فرنسا وبريطانيا، حيث بدا لفترة ما أن وهج الراديكالية خبا، وجدت الفاشية والنازية مناصرين.
* الحرب العالمية الثانية
جاء التحدي الراديكالي الثاني لـ«النظام الأوروبي» مع نشوب الحرب العالمية الثانية التي انتهت بهزيمة ساحقة للراديكالية اليمينية (النازية والفاشية)، واستيعاب الراديكالية اليسارية (الشيوعية السوفياتية) في صيغة «الأمر الواقع» عبر الاتحاد السوفياتي، حليف «الحلفاء» بين عامي 1941 و1945. ومع سقوط نصف اليابسة الأوروبية تحت هيمنة الاتحاد السوفياتي، وبروز الأحزاب الشيوعية كقوى فاعلة ونشطة في عدة دول غربية مثل فرنسا ولإيطاليا، بدا وكأن راديكالية اليسار صارت حقًا جزءًا من «الأمر الواقع»، وهو ما حفّز على إعداد قوة محافظة يمينية مقابلة لحفظ توازن.. وهكذا أبصر النور «حلف شمال الأطلسي» (الناتو)، في مواجهة «حلف وارسو».
غير أن قوى جديدة أخذت تتحدّى الوضع العام، مختزنة في ذواتها طاقات راديكالية، وترفع شعارات ودعوات قومية وأحيانا تقسيمية انفصالية صريحة، منها حركات القوميين الباسك والكتالونيين في إسبانيا، والحركة الاستقلالية الكورسيكية – ولبعض الوقت الحركة البريتونية – في فرنسا، والتنظيمات الجمهورية الآيرلندية بإقليم آيرلندا الشمالية. ولقد لجأت بعض هذه الحركات والتنظيمات في تحدّيها الجديد إلى الإرهاب والعنف، الذي بلغ أقصاه في ممارسات «الألوية الحمراء» الإيطالية و«فصيل الجيش الأحمر» في ألمانيا الغربية، و«العمل المباشر» (آكسيون ديريكت) في فرنسا وبلجيكا.
وفي هذه الأثناء، عانت الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية من إشكالية الإصلاح في خضمّ سعيها الدؤوب للتميّز عن كل من الشيوعية السوفياتية والرأسمالية المحافظة. وكان أول حزب يبادر بشجاعة لحسم مواقفه ومرئياته الحزب الديمقراطي الاجتماعي في ألمانيا الغربي، الذي اعتمد خلال المؤتمر الذي عقده عام 1959 في منتجع باد غودسبرغ، قرب العاصمة بون، برنامجا يهدف إلى نظام يقوم على فكرة «السوق الاجتماعية».
* وداعًا للماركسية!
كانت فكرة الديمقراطيين الاجتماعيين الألمان التخلّي عن الهدف الماركسي القاضي بإنشاء نظام اقتصادي مخطط مركزيا، ولكن مع مفهوم «السوق» الرأسمالية بنكهة اجتماعية. وحقًا، لم يلبث عدد من الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية الأصغر حجما أولا في السويد، ثم هولندا، أن لحق بالتجربة الألمانية.
في بريطانيا حاول حزب العمال، بزعامة هيو غايتسكيل، اقتباس تجربة الديمقراطيين الاجتماعيين الألمان غير أنه فشل، وكان وراء فشل التجربة وفاة غايتسكيل عام 1963 وكتلة أدعياء اليسار بقيادة هارولد ويلسون.
أما في فرنسا، فلم تناقش الحركة الاشتراكية - التي تبلورت أصلا من القسم الفرنسي من «الدولية الأولى للعمال» لكي تشكل الحزب الاشتراكي - هذا الموضوع بجدية، ولم تطوّر قاعدتها الآيديولوجية، أما أولئك الذين أغرتهم تجربة الديمقراطيين الاجتماعيين الألمان، فاختاروا بكل بساطة ترك الحزب لتأسيس تجمعات أخرى. ولكن خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي، قاد فرنسوا ميتران الاشتراكيين الفرنسيين إلى الحكم لأول مرة خلال عقدين من الزمن، وبدأ عهده ببعض المناورات ذات النكهة الماركسية كتأميم بعض الصناعات، بل وتأسيس وزارة للتخطيط. كذلك ضم إلى وزارته وزراء شيوعيين مع «برنامج مشترك». إلا أن ميتران عاد، ليكشف «واقعيته» الخفية، ويبيّن للملأ أنه أقرب إلى الديمقراطيين الاجتماعيين الألمان منه إلى الفضاء الشيوعي. وكانت فكرته تقوم على الزعم بأنه من اليسار لكن مع ممارسة الحكم من مواقع يمين الوسط. هذه الفكرة وجدت لها أصداء إيجابية في عدة دول أوروبية، منها اليونان حيث حكم الديمقراطيون الاجتماعيون (اشتراكيو «باسوك») لعقود، وكذلك في «إسبانيا ما بعد حقبة فرانكو» حيث كان فيليبي غونزاليس تلميذا نجيبا لميتران.
عودة إلى بريطانيا، مني حزب العمال تحت قيادته اليسارية الرافضة للإصلاح بثلاث هزائم انتخابية، بينما كانت جماعة ماركسية متصلبة عرفت بـ«النزعة الصارمة» (ميليتنت تندنسي) تسيطر على مفاصل عديدة في جهاز الحزب، لا سيما على مستوى التنظيمات المحلية والنقابات. ولم تنته سطوة هذا التيار اليساري إلا مع توني بلير، الذي استغل التداعيات الانتخابية الكارثية للحزب تحت هيمنة اليسار للسير به نحو تجربة الديمقراطيين الاجتماعيين الألمان في باد غودسبرغ. ومثل ميتران، حكم بلير بريطانيا من يمين الوسط، بل أحيانا من قلب اليمين، وأثمر خياره هذا فوز حزب العمال لأول مرة في تاريخه بثلاث انتخابات عامة متتالية، كما أثمر اقتصادا مزدهرا وسلاما اجتماعيا واستقرارا داخليا غير مسبوقين بعد اضطرابات عقد السبعينات، وفترة حكم مارغريت ثاتشر.
طوال ركون «النظام الأوروبي» إلى التفاهم المُستكين كان يشهد تحدّيات راديكالية.. إما من اليسار أو من اليمين، وأحيانا من الاتجاهين في آن معا. فهل علينا إذن أن نستغرب التحدي الراهن لصيغة «الأمر الواقع»؟ الإجابة عند كثرة من المحللين هي: لا.
* المشروع الأوروبي
«المشروع الأوروبي» بشكله الراهن يرمز إليه مباشرة كيان «الاتحاد الأوروبي» (بدوله الـ28)، والعملة الموحّدة (اليورو)، واتفاقيات شينغن التي تتيح حرية الحركة بين 25 دولة أوروبية. غير أن كثيرين ممّن هم في معسكر اليسار يرون هذا «الاتحاد»، بصورة متزايدة، مجرّد آلة تتحكّم بها القوى الاقتصادية العالمية، والمصارف والمؤسسات والشخصيات المالية، الحريصة على مصالحها وأرباحها القصيرة الأجل. ويتضايق اليساريون جدًا من أن «الرأسماليين العالميين»، الذين تسبّبوا بالأزمة المالية العالمية عام 2008 بسياساتهم الإقراضية الجشعة والمتهورة، يضعون اللوم، بوقاحة فظيعة، على «الشعوب» بحجة أنها «تتمتع بضمانات مبالغ فيها».
والحقيقة أن ممارسات النخب الجديدة وفلسفتها قامت على عصر النفقات، وخفض المديونيات العامة، والاقتطاع من الخدمات العامة. وعلى امتداد نحو سبع سنوات كانت كل الحكومات الأوروبية تقول الشيء نفسه، وتنتهج عمليا السياسة نفسها من دون مردود إيجابي ملحوظ.
ثم إن الزعم أن بمقدور «السوق» أن تضبط أوضاعها من تلقاء نفسها، ما عاد يحظى بالاحترام كما في الماضي. وكانت النتيجة توافر مجال واسع جديد للراديكالية، حتى إن حزب «سيريزا» اليساري الحديث التأسيس فاز بالانتخابات اليونانية، قبل أن يزجّه تواضع خبرته في الشؤون الدولية في مواجهة مع «الاتحاد الأوروبي» بقيادة ألمانيا.. الحريصة على المحافظة على «الأمر الواقع». وها هو «سيريزا» (يعني اسمه «الجذور») يعاني من انقسام داخلي يهدّد بتهميشه.
اليسار الراديكالي في فرنسا، الرافض أيضًا للنهج الحالي في «الاتحاد الأوروبي»، منقسم إلى أربعة أجنحة، وليست لديه فرصة لكسب انتخابات في وقت قريب، مع أنه كفيل بتدمير فرص الاشتراكيين بالفوز في الانتخابات الرئاسية والعامة المقبلة.
* جيريمي كوربن
أما انتخاب جيريمي كوربن، قبل أيام زعيما لحزب العمال البريطاني، فيعني أن الاشتراكية المشذّبة المعتدلة التي تبنّاها ميتران وبلير، ويمارسها حاليا فرنسوا هولاند، ما عادت قادرة على اجتذاب الجماهير وتجييشها. وهذا، مع أن كوربن ليس ماركسيا ولا يصح اعتباره من جماعة «ميليتنت تندنسي» الراديكالية. وهو لن يلعب ورقة «الصراع الطبقي» لأن قاعدته الانتخابية والسياسية في لندن ومحيطها تضم مثقفين وتكنوقراطيين من الطبقة الوسطى وما فوقها. لكن كوربن بدأ من موقع قوة لأنه تحدّى التفاهم العريض حول «الأمر الواقع» المأزوم.
تاريخيا، كوربن يشكل نقيضا مباشرا لمفهوم باد غودسبرغ، لكنه على المدى القصير قد ينشّط الحياة السياسية البريطانية، ويفرض تغييرات منتظرة على نهج التقشّف والاستسلام لفكرة «قداسة» السوق.
وليس كوربن وحده في الميدان اليوم. ذلك أن له أتباعا ونظراء على امتداد أوروبا، بما في ذلك ألمانيا نفسها حيث يفكر اشتراكيون بالتنكّر لأفكار باد غودسبرغ والشيوعية معًا، وفي اسكوتلندا، حيث حقق الحزب القومي الاسكوتلندي انتصاره الكبير الأخير على العمال بصفته القوة الرئيسة لليسار. أيضًا، في إسبانيا برز حزب «بوديموس» (ومعنى اسمه «نستطيع»)، الذي ولد من رحم «حركة 15 مايو» الشعبية كأحد أقوى أحزاب البلاد، ونجح في كسب بلديات بعض أكبر مدن البلاد، على رأسها العاصمة مدريد وثاني كبرى المدن برشلونة. بل تشير استطلاعات الرأي إلى أن «بوديموس» قد يفوز بالانتخابات العامة المقبلة، ومن ثم يشكل حكومة إئتلافية بفضل شعبويته الاشتراكية.
«بوديموس»، الذي يقوده الزعيم الجذاب بابلو إيغليسياس تورون، تأثر كثيرا بالحركة التي أطلقها شتيفان هيسل، العالم والدبلوماسي والكاتب الألماني - الفرنسي الراحل، عام 2011. ويومذاك أدان هيسل في مؤلفه الصغير «إينديي فو» (وترجمته بالعربية «ثُر» أو «اغضب») نظام «الرأسمالية الجديدة» المتفلّت من كل ضوابط الذي أفرز إجحافا وفسادا وكوارث بيئية وموجات لجوء وحروبا. ومع أن «غاضبي» هيسل أو «ثائريه أخفقوا في بناء هياكل حزبية فإنهم ألهموا عددا من الجماعات اليسارية لرفع لواء الراديكالية ضد «الأمر الواقع».
إلا أن التهديد الذي يواجه «النظام الأوروبي» لا يأتي من اليسار فحسب. فثمة قوى يمينية راديكالية تشكل تهديدًا مساويًا إن لم يكن أخطر، وبخاصة بعدما أثبتت قدرتها على كسب انتخابات. في الدنمارك والسويد وهولندا والنمسا غدت أحزاب اليمين الراديكالي المتطرّف جزءا من المشهد السياسي، وبعضها شريك في حكومات ائتلافية. وفي فرنسا نجح حزب «الجبهة الوطنية» في أن يصبح أكبر الأحزاب في البلاد من حيث عدد الأصوات التي حصل عليها في الانتخابات المحلية، وتتمتّع زعيمته مارين لوبن بفرصة طيبة للمنافسة بقوة في الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 1917. بل، حتى في بريطانيا، تمكن حزب استقلال المملكة المتحدة (UKIP) في أن يغدو ثالث أكبر الأحزاب من حيث عدد الأصوات التي نالها مرشحوه في الانتخابات العامة الأخيرة. وأخيرا وليس آخرا، في دول أوروبا الشرقية، وبالأخص، المجر وبولندا وسلوفاكيا وبلغاريا، نجد أحزاب اليمين الراديكالي إما مشاركة في الحكومات أو تتمتع بنفوذ مؤثر من خارجها.
* راديكاليون.. في أميركا!
«الأمر الواقع» يواجه تحدّيا جدّيا اليوم ليس فقط في أوروبا، بل حتى في الولايات المتحدة، التي يعدّها كثيرون الدولة الديمقراطية الأكثر يمينية في العالم.
في أميركا نرى حاليا بروزا لافتا للراديكاليين اليساريين واليمينيين بعد عقود عديدة من الغياب شبه الكامل عن الساحة.
على اليسار يطلّ السيناتور بيرني ساندرز، السياسي الأميركي الوحيد على المستوى الوطني الذي يصف نفسه بأنه «اشتراكي»، وهو يتصدّر استطلاعات الرأي بين ناخبي الحزب الديمقراطي متقدما على هيلاري كلينتون في التنافس على ترشيح الحزب لمعركة دخول البيت الأبيض. ومثل كوربن في بريطانيا، الذي يتقاسم معه الكثير من المبادئ والشعارات، يجتذب ساندرز جموعا ضخمة غير مسبوقة في السياسة الأميركية. كذلك على يسار الديمقراطيين هناك نجمة متألقة هي السيناتورة الديناميكية الشقراء إليزابيث وارين (تمثل ولاية ماساتشوستس)، التي تطرح نفسها مناضلة من أجل المساواة وإعادة توزيع الثروات، وثمة في واشنطن من يقول إن وارين مرشحة جدية لمنصب نائب الرئيس إذا ترشح نائب الرئيس الحالي جو بايدن بهدف مواصلة برامج باراك أوباما وسياساته.
اللافت، هذه المرة، أن الحزب الاشتراكي الأميركي، الذي تأسس عام 1973، يدعم بقوة ترشيح ساندرز، لكنه قد يساند وارين إذا دخلت الحلبة. لكن هناك قوى يسارية راديكالية ناشطة الآن بجانب الاشتراكيين، مثل «التحالف الأخضر»، وإن كانت الجماعات الراديكالية التي اعتمدت العنف اختفت وطويت صفحتها.
وعلى اليمين، يسبّب رجل الأعمال الملياردير اليميني دونالد ترامب، هذه الأيام، ضيقا بالغا في أوساط المرشحين الرئاسيين الجمهوريين بخطابه اللاذع المتطرّف، لا سيما أن ما يقول دفعه إلى صدارة استطلاعات الرأي عند ناخبي الحزب الجمهوري.
بطبيعة الحال، لا يعتبر ترامب زعيم الجناح اليميني في الحزب الجمهوري. بل يتنافس على «الزعامة» هنا عدة مرشحين طموحين بينهم السيناتور تيد كروز (من ولاية تكساس)، المحسوب من نجوم جماعة «حفلة الشاي» اليمينية المتشددة. ويذكر أن هذا الجماعة عبارة عن تحالف شعبوي يميني عريض القاعدة يطالب بتقليص دور الحكومة وخفض الضرائب ووقف الهجرة وإنهاض ما تصفه بـ«القيم العائلية الأميركية الأصيلة والتدين الإنجيلي» ضمن إطار «الحلم الأميركي». لكن مناوئي جماعة «حفلة الشاي» يتهمونها بأنها تنظيم فاشي يهدف إلى الحفاظ على نفوذ الجماعات العنصرية المتطرفة مثل الـ«كو كلوكس كلان» و«جمعية جون بيرتش»، التي ظلت ناشطة على الأقل حتى عقد السبعينات من القرن الماضي في ولايات الجنوب الأميركي المحافظة.
الحقيقة أن الراديكالية الجديدة، يمينية كانت أم يسارية، تقوم الآن على ثلاثة مبادئ:
1) الطبقة الحاكمة باتت تعبة وفاسدة ومغرورة، مما يحتّم تغييرها.
2) التفاهم السياسي العريض الراهن لا يؤدّي إلا لمزيد من الإجحاف (الغني يزداد غنى والفقير يزداد فقرا) والنزاع الاجتماعي.
3) المؤسسات الحالية غير ديمقراطية وما عادت تتجاوب مع رغبات الناس وحاجاتهم.
وفي حين يلوم الشارع الأوروبي مؤسسة «الاتحاد الأوروبي»، يلوم المواطن الأميركي «الحكومة الفيدرالية» والنخبة الطبقية المرتبطة بها. لكن هناك، في المقابل، فارقًا مهمًا هو أن الأحزاب الراديكالية الأوروبية، اليسارية واليمينية، تتشارك في نوع من «العداء للأمركة» وفقا لمقتضيات الموضة. وهذا، بالذات، هو الاختلاف الأساسي بين موجة الراديكالية الحالية والموجات السابقة.
الموجة الحالية لا تسعى إلى تغيير المجتمع بأساليب عُنفية، بل تأمل في تحقيق مُبتغاها عبر صناديق الاقتراع ومن خلال المؤسسات الديمقراطية.
هل سيعزّز التحدّي الراديكالي الجديد قوة الديمقراطيات الغربية في نهاية المطاف؟
لقد فعل ذلك في الماضي، أما عن المستقبل فعلينا الانتظار.