قراءة جديدة لحرب «خلقت الشّرق الأوسط الحديث»

نصّ يبدو كسرد دراميّ من وجهة النظر الإسرائيلية

أنور السادات يتابع مجريات الحرب
أنور السادات يتابع مجريات الحرب
TT

قراءة جديدة لحرب «خلقت الشّرق الأوسط الحديث»

أنور السادات يتابع مجريات الحرب
أنور السادات يتابع مجريات الحرب

يوري كوفمان، مؤلف كتاب «ثمانية عشر يوماً في أكتوبر... حرب يوم الغفران وكيف خلقت الشرق الأوسط الحديث»، الذي صدر منذ أيّام (بالإنجليزيّة) في أجواء الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، ليس مؤرخاً تقليدياً بالمفهوم الأكاديمي المحض، بل هو محامٍ يهوديّ أميركيّ متدين، صنع ثروة صغيرة من العمل في العقارات، منحته الوقت، والقدرة الماديّة كذلك، لأن يطارد شغفه طوال 20 عاماً... تشريح تلك اللّحظة، ذات أكتوبر، الشّديدة الكثافة في تاريخ الشرق الأوسط المعاصر، بداية من التقاطعات الإقليمية والدّوليّة المؤدية إليها، إلى تفاصيل تطوّر الأوضاع العسكريّة والاستخباراتية والسياسية على مختلف الجبهات أثناءها، ومن ثمّ انعكاساتها المباشرة على مصائر الشخصيات التي قادتها من الجانب الإسرائيلي، وعلى الترتيبات السياسيّة التي أدت إليها، سواء على صعيد الدّائرة الأولى التي خاضت الحرب مباشرة (مصر، وسوريا، وإسرائيل) أو في الدّائرة الثانية (العراق والمغرب وليبيا والسعودية والكويت)، بالإضافة إلى الرعاة الدوليين؛ الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي حينها. خلفيّة كوفمان، اليهودي الأميركيّ الثري، فتحت أمامه أبواباً كثيرة، في الداخل الإسرائيلي، فضلاً عن الولايات المتحدة، للاطلاع على الوثائق، ومقابلة الأشخاص، بل زيارة المواقع التي جرت فيها بعض المواجهات الحرجة. على أنّ الإضافة النوعيّة التي يجلبها كوفمان، مقارنة بعشرات النصوص الإسرائيلية والأميركيّة التي نشرت قبله، لا شك ارتبطت بعامل الزمن من ناحيتين؛ مرور نصف قرن على الحدث التّاريخي يمكن أن يسمح بالنّظر إلى الأمور ومآلاتها بتبصّر لا يتوفر لمن كتب في وقت الحدث أو بعده مباشرة، وكذلك فإنّ ترتيبات سريّة وثائق الأرشيف الرّسميّة لكثير من الدّول تؤجل الكشف عنها لفترات تتراوح بين 25 و50 عاماً، ناهيك عن أن كثيراً من العارفين بتفاصيل محددة يفضّلون الانتظار لعقود، كي تتغير المناخات السياسيّة، أو تمر فترة تسقط عنهم إمكان الادعاء الجرميّ، أو ترقباً لرحيل بعض الأشخاص المعنيين عن عالمنا، قبل أن يدلوا بشهاداتهم.

يوري كوفمان

بالطبع، يبدأ كوفمان من واقع موضوعي يجعل من حرب أكتوبر (يسميها السوريون تشرين، والمصريون رمضان، والإسرائيليون حرب يوم الغفران) تطوراً طبيعيّاً لسلسلة الهزائم العسكريّة القاسية التي ألحقتها الدولة العبريّة بمصر (في 1956، وفي 1967) وسوريا (في 1967)، وتتويجاً لعزم القيادتين المصريّة (جمال عبد الناصر) والسوريّة (حافظ الأسد) على استعادة أراضيهما المحتلّة وماء الوجه أمام شعوبهما الذي أريق عندما دمّر سلاح الجو الإسرائيلي القوة الجوية لمصر وسوريا بالكامل تقريباً خلال الساعات الأولى لحرب الأيّام الستة.

كان الإسرائيليون يدركون ذلك تماماً ويتوقعونه، لكن جهاز الاستخبارات العسكريّة (أمان) وثق في «مفهوم» نقله إليهم «الجاسوس الذهبي»، حسب تسميتهم، أشرف مروان (الذي كان مقرباً من السادات، وصهراً لناصر) خلاصته أن سوريا لن تذهب إلى الحرب من دون مصر، وفي المقابل لن تذهب مصر إلى الحرب حتى تتمكن من تحييد سلاح الجو الإسرائيلي؛ الميزة الاستراتيجية النوعيّة التي يمتلكها جيش الكيان. حتى عندما بنى المصريون جدار صواريخ سام المضادة للطائرات على طول الجانب الغربي من قناة السويس مقابل سيناء المحتلّة، وسيّج السوريون دمشق بالصواريخ بأكثر مما كانت موسكو أو هانوي محميّة بها، تطّور المفهوم إلى أن مصر لن تذهب إلى الحرب قبل الحصول على صواريخ سكود الروسيّة الباليستية لاستهداف المدن الإسرائيلية حال حاول سلاح الجو الإسرائيلي استهداف المدن المصريّة، كما فعل إبّان حرب الاستنزاف (بين 1967 – 1973). وقد وصلت المعلومات بشأن تسلم الجيش المصري لتلك الصواريخ، لكن مزيجاً من سوء الإدارة، وضعف التقدير، والصلّف، والاستخفاف بالعرب، أنتج داخل «أمان» مزاجاً من الغطرسة دفع بها لتأكيد أن الحكومة الإسرائيليّة بحكم تواصلها مع مصادر مطلعة على صنع القرار (إلى جانب أشرف مروان، كان هناك ضابط رفيع في الجيش المصري، كُشف عن وجوده، دون اسمه في 2020) قادرة على الحصول على إنذار قبل 48 ساعة على الأقل من انطلاق أيّ أعمال عسكريّة من الجانب العربيّ. وتلك مسألة شديدة الأهميّة للدفاع عن كيان صغير المساحة مثل الدولة العبرية المحاطة بـ3 جبهات طويلة، لناحية استدعاء الاحتياط، حيث جميع الإسرائيليين الراشدين تقريباً مجندو احتياط.

كان الإسرائيليون قد عزموا على تجنب بدء الحرب المقبلة مع العرب كي لا يتعرضوا لإدانات وضغوط دوليّة، ولا سيّما حليفتهم الولايات المتحدة، التي لا تفضّل التورط في مواجهة مع الاتحاد السوفياتي (حليف العرب) أو المخاطرة بإمدادات النفط المتدفقة من الشرق الأوسط.

غلاف الكتاب

ذلك كله تسبب في أخطاء تقييم بشأن النّوايا العربيّة، مكّنت تصورات «أمان» من الصمود رغم كل الإشارات على الأرض ومن المصادر الثانوية بأن المصريين بدأوا بالفعل التحرك لعبور قناة السويس، وأن السوريين يراكمون قواتهم تجاه الجولان، وشبكات صواريخ أرض جوّ جاهزة بالفعل لقنص الطائرات الإسرائيليّة.

وهكذا رفضت القيادة العليا الإسرائيلية، بقيادة وزير الدّفاع موشيه ديان، تحت رعاية رئيسة الحكومة غولدا مائير، الإشارات المتكررة بشأن هجوم عربي وشيك، بما في ذلك مغادرة عائلات الخبراء السوفيات لدمشق والقاهرة، ولذلك لم تكن مستعدة تماماً لهجوم كوماندوز سوري على جبل الشيخ في 6 أكتوبر، ولم يتوفر هناك عدد كافٍ من الدبابات على الأرض في سيناء، وتضاربت التوجيهات للقوات الجويّة، ما تسبب بعدم توفر حجم كافٍ من الطائرات المقاتلة الجاهزة لخوض المعركة فور نشوبها، وبدا كل شيء معتمداً على الارتجال السريع بدل الاستناد إلى خطط محكمة. وهكذا نجحت القوات المصريّة في تنفيذ عبور جريء عبر القنال وتحرير شريط من الأرض في جهته الشرقيّة، فيما انطلق هجوم سوري عنيد عبر 3 محاور، وحقق اختراقات، وبدأ يتجه نحو نهر الأردن والطريق إلى عمق الأراضي المحتلة، وشعرت القيادة الإسرائيلية باليأس لدرجة أن مجلس الوزراء ناقش فكرة استخدام الأسلحة النووية.

يقول كوفمان عن تلك الصدمة الأولى: «قبل حرب 1973، عرّفت القواميس الكلمة العبرية (ميخدال) بأنها؛ التقصير عن تنفيذ شيء مهم. لكن بعد الحرب، اتخذت الكلمة معنى جديداً، لا يزال معتمداً حتى يومنا هذا، لوصف كل فشل ذريع، بأنّه مثل إخفاقات الجيش الإسرائيلي في الأيام الثلاثة الأولى من حرب (يوم الغفران)».

ومع ذلك، ما لبث الإسرائيليون أن استعادوا توازنهم إثر الصدمة الأولى، وشرعوا «بعد 9 أكتوبر» ووصول قوات الاحتياط إلى الجبهات بشنّ هجمات مضادة، وخاضوا معارك طاحنة في مختلف المواقع، إلى أن بدأ أكبر جسر جويّ في التاريخ لتعويض خسائر الجيش الإسرائيلي من المعدات والذخائر، في موازاة ضغوط دولية لفرض وقف لإطلاق النار، ما مكّنهم من تحقيق اختراقات بالتوغل داخل الأراضي السوريّة شمالاً، وعبور قناة السويس نحو الأراضي المصرية ومحاصرة الجيش الثالث المصري وتهديد القاهرة جنوباً، على نحو وضع نظام السادات في زاوية حرجة، سهلت قبوله للحد الأدنى من أجل إنقاذ أرواح جنوده ونظامه.

يعتبر كوفمان أن تدخّل السادات في إدارة المعركة على الأرض، رغم وجود قيادة كفوءة ممثلة بالفريق سعد الدين الشاذلي، انتزع للمصريين الهزيمة من قلب نصر ممكن. ومع ذلك، كانت الهزيمة تباع في صحف القاهرة على أنّها نصر مؤزر، بينما كان الإسرائيليون العاديون يتعاملون مع انتصار جيشهم، المؤيّد أميركياً، وكأنّه هزيمة، وضغطوا لتشكيل لجنة تحقيق أدانت في تقريرها أداء قائد الجيش ديفيد إليعازار، ومدير الاستخبارات العسكريّة، فيما تغاضت عن أدوار غولدا مائير، وموشي ديان، صاحبي المسؤوليّة الأساسيّة في «التقصير»، لكنهما اضطرا للاستقالة تالياً وغرقا في المرض والعار.

خلفيّة كوفمان، اليهودي الأميركيّ الثري، فتحت أمامه أبواباً في إسرائيل وأميركا للاطلاع على الوثائق، ومقابلة الأشخاص، وزيارة المواقع التي جرت فيها بعض المواجهات الحرجة

كوفمان يقول عن ذلك؛ إنّ نصف قرن مرّ على الحرب يرينا الآن أن إسرائيل حققت أهدافها الاستراتيجيّة في الحرب، بعد أن خرجت مصر نهائياً من دائرة الصراع مع الكيان العبري، واضطر السوريون بعد حرب استنزاف مريرة خاضوها لعام كامل ضد القوات الإسرائيلية إلى القبول بوقف إطلاق نار ثبّت الأوضاع القائمة على الأرض حتى اليوم، مع شبه استحالة لاستعادة الجولان. علاوة على ذلك، تم في 18 مارس (آذار) 1974 رفع الحظر النفطي العربي، وقفز السادات إلى الأمام عبر زيارته إلى القدس المحتلة، ووقع تالياً اتفاق سلام (في كامب ديفيد) أصبح بوابة عبرت منها دول عربيّة أخرى إلى اتفاقيات مماثلة، مع تطبيع رسمي في العلاقات مع عدد منها. بالتأكيد، لم يعد بإمكان إسرائيل اعتبار تفوقها العسكري أمراً مفروغاً منه، كما كان الحال بعد عام 1967، لكن العرب لم يعد بإمكانهم واقعيّاً أن يأملوا في محو إسرائيل نهائياً من الخريطة.

الكتاب يعاني من نفس توراتي فرضه فهم كوفمان للعالم، ومبالغة في تأثير أوضاع الأشخاص النفسيّة والصحيّة لتفسير قراراتهم (مائير والسادات)

«ثمانية عشر يوماً في أكتوبر» يعاني من نفس توراتي فرضه فهم كوفمان للعالم، ومبالغة في تأثير أوضاع الأشخاص النفسيّة والصحيّة لتفسير قراراتهم (مائير والسادات)، كما هناك انحياز ظاهر غير مبرر لشخصية أرئيل شارون الإشكاليّة، لكن النصّ مع ذلك يبدو كسرد دراميّ آسر للحدث من وجهة النظر الإسرائيلية حيث مزيج من القتال العنيف، والمشاحنات المستمرة بين القادة، وحكايات اللحظات الحرجة، على مختلف نقاط الاشتباك لحدث مفصلي لا يمكن فهم التاريخ المعاصر للشرق الأوسط من دونه.

«ثمانية عشر يوماً في أكتوبر»

Eighteen Days in October: The Yom Kippur War and How It Created the Modern East

المؤلف: يوري كوفمان

الناشر: مطبعة سنت مارتن، 2023


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم