الفن والتصوف

القضية أولاً وأخيراً ترجع إلى الذائقة لا للعقل والفهم

عزف بيانو  للودوفيكو إيناودي
عزف بيانو للودوفيكو إيناودي
TT

الفن والتصوف

عزف بيانو  للودوفيكو إيناودي
عزف بيانو للودوفيكو إيناودي

منذ فترة ليست بالبعيدة، كتب أحد النقاد في صحيفة «الغارديان»، فيليب كلارك، مراجعة غريبة لموسيقى الفنان الإيطالي لودوفيكو إيناودي، قرر فيها أنّه جلس واستمع لحفل حيّ لإينودي في لندن، لكنه لم يفهم شيئاً. ويصف كلارك عينودي بأنه «فنان شعبوي، ورسالته تثبت دائماً أنها فارغة بعناد»، على حد تعبيره، «وخالية من روح الدعابة، وأنه لا يفعل شيئاً سوى تجميع الموسيقى من مقاطع صوتية لحنية رتيبة وانفجارات منمقة من حين لآخر».

كذا كتب، مع أن الفهم ليس العبارة الصحيحة للتعبير عن أمر يتعلق بالفن، بل يكفي أن تقول «أعجبني» أو «لم يعجبني»، فالقضية أولاً وأخيراً، ترجع إلى الذائقة لا للعقل والفهم، ولا توجد معادلة رياضية أو فيزيائية للحل، ولا مساحة لتصحيح الإجابات ولا لترجيح بعضها على بعض. ويبدو أن الأستاذ الناقد ممن يحاولون أن يعقلنوا الفن، فيفصّلون له ملابس معينة، أو هو مثل الأسطورة اليونانية بروكرست، يقطع أرجل الأشخاص لكي يناسب طولهم طول سريره. ليس ببعيد عن هذا معركة: هل وُجد الفن للفن؟ وهل لا بد له من رسالة يوجهها للناس ومشروع؟ وقريب منها معارك الشكلانية والفصل بين الشكل الفني والمضمون الفكري.

بالنسبة لي، لا حاجة أبداً لفهم إيناودي أو غيره من الفنانين، يكفي أن أستمع وأستمتع. لكن ما دام سؤال الفهم قد طُرح، فلننظر في الكلمات التي قدّم بها إيناودي لقطعته الأشهر «experience»، وسنجده يقول في المقدمة: «كنت أقضي إجازة الصيف في قرية صغيرة بجبال الألب السويسرية، وكانت لي غرفة من خشب قد اتخذتها استوديو. لقد وُلدت (تجربة) في هذه الأجواء. لقد بُنيت الموسيقى من تعاقب الأوتار الأربعة، وبقيتْ تتردد وكأنها تعويذة هندية تخلق تحولاً نفسياً، وكأن الموسيقى تملك قوة تستطيع بها أن ترفعك عن الأرض. هذه كانت نواياي».

عندما نعود إلى التعويذات الهندية الأصلية (المانترا) سنجد أنها تمارس ما يمارسه إيناودي من تكرار رتيب، ولا نشاز في ذلك، فهذه الرتابة مقصودة وهي التي تصل بالذهن إلى حالة السلام المنشودة.

من يملك تصوراً جيداً للعلاقة بين الفن والتصوف لن يحتاج أن يستمع لكلمات إيناودي، فهو هنا أشبه ما يكون برقص الدرويش الصوفي الذي يتعالى على الواقع، ليعيش في عالم آخر لا ألم فيه، على طريقة المولوية أتباع مدرسة ابن عربي الطائي. وليس من العجيب أن إيناودي قد أسمى أشهر قطعة كتبها باسم «تجربة»، والتجربة مصطلح صوفي بامتياز، فالصوفية يتخذون شعار «تعال وخض التجربة، ولا تسألنا كيف، ولا تطلب منا أي وصف».

إذا أردنا حقاً أن نفهم الفن، فعلينا أولاً استبعاد كل التعاريف الأكاديمية، فالفن شعور لا يخضع للتعريف والتحديد، بل تحديده مضلل للغاية. ومع ذلك، لا بد من شيء من المقارنات لتتضح الصورة أكثر. ثمة فرق بين الفنان والفيلسوف يجعلنا على بصيرة أدق بحاليهما، فالفيلسوف هو ذلك المحقق البارد الذي لا يسأم من الإعلان عن بحثه عن الحقيقة، وكأن الحقيقة طفل له ضلّ في هذا العالم العريض وهو دون سن التمييز ولم يبقَ عنه خبر. بينما الفنان لا يشغل نفسه بالحقيقة ولا يبالي بها، ولا يبالي بأطفاله هل ملأوا الأرض أم أنهم لم يولدوا أصلاً. بل إن الفنان ليبحث عمّا وراء الحقيقة، فشغفه ليس بها بل بالمجهول، هو مفتون بما لم يُجرب بعد، وبالأرض التي لم تطأها الأقدام بعد، وهو عاشق معاتب أبداً لـ«الما وراء»، ومن هنا لا يمكن أن تكون علاقته بالمطلق عدائية، وإن شابها ما يشوبها من عتاب.

للتصوف علاقة مباشرة بالمطلق، والموسيقى والشعر والفن عموماً هي إدلاء الروح أو إفراغها من شيء مما امتلأت به من تلك الرحلة. ولذلك يقول هيغل: «إن الروح لتتجلى في ثلاثة: الفلسفة والدين والفن». ما معنى هذه الطلاسم؟ في الواقع هي أسهل مما يتخيل الناس. فعندما أقول - على سبيل المثال - إن الروح الإيطالية قد تجلت في السينما، فمن ضمن ما أقصده هو أنه لا توجد سينما أفضل من الإيطالية، وأن لا أحد أفضل من سيرجيو ليوني الإيطالي، إلا الأميركيين من أصل إيطالي من أمثال فرنسيس كوبولا ومارتن سكورسيزي. الروح الإيطالية تجلّت في السينما والعمارة والفن عموماً، ولم تتجلَّ بالدرجة نفسها في العلم التجريبي، رغم أن مؤسس العلم الحديث، غاليليو غاليلي، كان إيطالياً. ولا يوجد فلاسفة إيطاليون أصلاء، بالأعداد التي نجدهم بها في بقية الدول الأوروبية. هذا هو المقصود بتجلي الروح.

نرجو أن تقدّم هذه المقالة مساهمة ولو متواضعة، في تعزيز تقديرنا للفنون، وأنه ليس من شرطها أن تكون مفهومة، ولا أن تخاطب العقل ضرورة.

* كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار
TT

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

تحوي سلطنة عمان سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على قطاعات متفرقة من أراضيها الواسعة. بدأ استكشاف هذه المواقع بشكل علمي في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إذ أنجزت بعثة أميركية أول حفرية في خور من أخوار ساحل محافظة ظفار، يُعرف محلياً باسم «خور روري». كشفت هذه الحفرية عن قلعة مستطيلة مدعّمة بأبراج، شُيّدت بالحجارة على جبل منخفض يطل على هذا الخور، وحملت اسم «سمهرم» باللغة العربية الجنوبية القديمة، وتبيّن أن هذه القلعة كانت من أهم المواني في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية التي لعبت دوراً كبيراً في تجارة اللبان الدولية. استمرّت أعمال التنقيب في هذا الموقع خلال العقود التالية، وكشفت عن مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية ثقافية تعكس الوجه الدولي الذي عُرقت به سمهرم في الماضي.

تقع سلطنة عُمان في الربع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، يحدّها خليج عُمان من الشمال والشرق، وتطوّقها الكثبان الرملية من الجنوب، ممّا يجعلها أشبه بجزيرة بين الصحراء والبحر. تضمّ هذه الجزيرة الشاسعة إحدى عشرة محافظة، منها محافظة ظفار التي تقع في أقصى الجنوب، وعاصمتها مدينة صلالة التي تبعد عن مسقط بنحو 1000 كيلومتر. تبدو ظفار في الظاهر معزولة عن شمال عُمان بأرض قاحلة، غير أنها تشاركه في الكثير من أوجه الشبه، كما يشهد تاريخها الموغل في القدم، حيث عُرفت بأرض اللبان، واشتهرت بتصدير هذا المورد النباتي في العالم القديم، وشكّلت بوابة عُمان الضخمة المفتوحة على المحيط الهندي حلقة الوصل بينها وبين ساحل شرق أفريقيا. برزت تجارة اللبان بشكل خاص منذ منتصف الألف الأول قبل الميلاد، كما تشهد مؤلفات كبار الجغرافيين اليونانيين، وتؤكد هذه المؤلفات أن اللبان كان يُنتج داخل هذه البلاد، ويُجمع في ميناءين يقعان على ساحل يُعرف باسم «موشكا ليمن»، ومن هناك كان يُشحن بالسفن شرقاً إلى الهند والخليج العربي، وغرباً نحو ميناء قنا على ساحل بحر العرب.

زار الرحالة البريطاني جيمس ثيودور بنيت ساحل ظفار في نهاية القرن التاسع عشر، وقضى بداء الملاريا في 1897، وبعد رحيله، نشرت زوجته ومرافقته في رحلاته كتاب «جنوب الجزيرة العربية» في 1900، الذي حوى وصفاً لموقع «خور روري» في ساحل ظفار، ويُعد هذا الوصف أول تقرير ميداني خاص بهذا الموقع. استند الرحالة البريطاني في بحثه الميداني إلى دليل ملاحة يعود على الأرجح إلى منتصف القرن الأول، يُعرف باسم «الطواف حول البحر الإريتري». و«البحر الإريتري» هي التسمية التي عُرف بها خليج عدن، وشملت البحر الأحمر الحالي والخليجين العربي والهندي. ذكر صاحب هذا الدليل ميناء «موشكا ليمن»، ونسبه إلى ملك من جنوب الجزيرة العربية يُدعى إليازوس، ورأى جيمس ثيودور بنيت أن هذا الميناء يقع في «خور روري»، وأثارت هذه القراءة الميدانية البحّاثة العاملين في هذا الحقل.

تولّت بعثة أميركية مهمة التنقيب في هذا الموقع بشكل متواصل خلال عام 1950، وعاودت العمل لفترة قصيرة خلال عام 1962، وتبيّن أن الموقع يضمّ قلعة حملت اسم سمهرم، شيّدها ملك من ملوك حضرموت في تاريخ غير محدد، كما يؤكّد نقش كتابي كُشف عنه في هذا الموقع. تبنّت البعثة الأميركية قراءة جيمس ثيودور بنيت، ورأت أن سمهرم هي «موشكا ليمن»، وحُددت هوية الملك «إليازوس» على ضوء هذه القراءة، وهو ملك يَرِد ذكره بشكل مشابه في نقوش تعود إلى أكسوم في الحبشة. قيل إن ميناء سمهرم واصل نشاطه من القرن الأول إلى القرن الثالث للميلاد، كما توحي الكتابات المنقوشة واللُّقى التي عُثر عليها في الموقع، غير أن الأبحاث اللاحقة أثبتت أن هذه القراءة تحتاج إلى المراجعة. تولّت بعثة تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة البحث في هذا الموقع منذ عام 1997، ونشرت تباعاً تقارير رصدت اكتشافاتها، وأظهرت الدراسات التي رافقت هذه التقارير أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، بالتزامن مع نشوء التجارة البحرية وتطوّرها في المحيط الهندي، وقبل وصول الرومان إلى مصر بزمن طويل، ولم يُهجر قبل القرن الخامس للميلاد، حين تراجع نشاطه تدريجياً مع اندحار مملكة حضرموت، وخضوعها لملوك حمير بعد سلسلة من الحروب في القرن الرابع للميلاد.

منذ نشوئه، تميّز ميناء سمهرم بطابع «كوسموبوليتي»، كما تشهد القطع الفخارية المتعدّدة المصادر التي عُثر عليها بين أطلاله. خلال تاريخه الذي دام عدة قرون، نسج هذا الميناء كما يبدو علاقات متينة مع سائر أنحاء العالم القديم، من حضرموت إلى قتبان في جنوب جزيرة العرب، إلى أكسوم في الحبشة، ومن الخليج العربي إلى آسيا ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط. في هذا الموقع، عثرت البعثة الأميركية على تمثال هندي صغير من البرونز، يبلغ طوله 8 سنتيمترات، وهو من محفوظات متحف فنون آسيا التابع لمؤسسة «سميثسونيان» في واشنطن. يُمثل هذا التمثال الذي فقد رأسه وذراعه اليسرى امرأة تلوي خصرها، وتثني ساقها اليسرى خلف ساقها اليمنى. تُميل هذه الراقصة وركيها وتحني كتفيها إلى الجهة اليمنى، ويتميّز لباسها المحلّي بحلله المتعددة، ومنها حزام عريض يحوي أربعة صفوف من الدرر، وقطعة قماش تنسدل من طرف هذا الحزام على الفخذ الأيمن، وثلاث قلائد من الدرر تلتف حول الرقبة. صيغ هذا التمثال وفقاً لناموس الجمالية الهندية ويُجسّد كما يبدو سيدة الشجر في العالم الهندي. كذلك عثرت البعثة الإيطالية على قطعة مما تُعرف بـ«عملة كوشان» تحمل اسم كانيشكا، ملك كابل وكشمير وشمال غربي الهند. ونقع على مجموعة من الكسور واللُّقى الصغرى تعكس هذا الأثر الهندي الذي برز بشكل خاص في سمهرم.

في المقابل، يظهر أثر حضرموت في مجموعات أخرى من اللُّقى، منها المسكوكات، والأواني المتعددة، والأنصاب الحجرية المزينة بالنقوش الحجرية. من هذه الأنصاب يبرز حجر مستطيل يحمل نقشاً يصوّر ثوراً في وضعية جانبية، مع كتابة تسمّيه، بقي جزء منها فحسب. تُماثل هذه القطعة في تأليفها الكثير من القطع التي خرجت من نواحٍ متعددة من جنوب الجزيرة العربية، وهي على الأغلب من القطع التي تحمل في العادة طابعاً دينياً. في هذا الميدان، تحضر مجموعة من المجامر الحجرية تتميز بنقوشها التزيينية الجميلة. تحمل هذا المجموعة طابعاً جامعاً، كما أنها تحمل في بعض الأحيان طابعاً محلياً خاصاً، وتحتاج إلى دراسة مستقلّة خاصة بها.