البحث عن «عالمية» الأدب السعودي

الترجمة جسر العبور إلى ضفاف المقروئية لدى الآخر

كولِم تويبين
كولِم تويبين
TT

البحث عن «عالمية» الأدب السعودي

كولِم تويبين
كولِم تويبين

يستحوذ على اهتمامنا «الجمعي» كثيراً وصولُ أدبنا إلى ما يسمى «العالمية». وأثناء انتظار الحدث المأمول، نبدو كمن ينتظر قِدْراً ليغلي، فلا يغلي حسب المثل الانجليزي. فنملأ زمن انتظارنا لغليان «قِدْرِ العالمية» بالندوات والمحاضرات والاستطلاعات الصحافية والمقالات التي تناقش وتقلب الموضوع بتكرار يصل إلى الإملال أحياناً. يختلف المشاركون في تلك الفعاليات، ولكن تتكرر وتتشابه الاقتراحات والتوصيات والحلول المطروحة مخرجاً من نفق الانتظار الطويل لـ«لعالمية».

وصول أدبنا إلى «العالمية» حلم مشروع. فإن لم يصل، أو طال به الأمد في الطريق إليها، لا ينبغي أن يتحول عدم وصوله جاثوماً ومصدراً للقلق الدائم؛ لأن وجودنا لا يتوقف على هذه «العالمية»، فنحن باقون على قيد الحياة وفي هذا العالم. «العالمية» ليست إكسير الحياة.

شروود أندرسون

من بداية الكتابة، وضعت كلمة «العالمية» بين مزدوجتين؛ لأنها ليست الكلمة المناسبة للمقال ولا للمقام. في رأيي الأدب السعودي ليس في حاجة إلى الوصول إلى العالمية، ولا تتوقف أهميته وقيمته عليها؛ لأنه أدب عالمي مثل كل آداب الدول والأمم الأخرى. كلُّ نص، أو عمل أدبي، عالمي؛ لأنه إبداعُ مؤلفٍ يعيش في هذا العالم، وينتمي إلى أدب الوطن الذي يُنْتَجُ فيه.

أي عمل أدبي سردي أو شعري يُكتب في السعودية، هو جزء من الأدب السعودي الذي هو جزء من الأدب العربي الذي هو جزء من الأدب في العالم. هكذا أرى الموضوع وأفهمه، ولا يستبدُّ بي القلق من هذا الجانب. أدبنا عالمي، وما نتكلم عنه عندما نتكلم عن «العالمية» هو مقروئيته؛ أي كونه رائجاً وشائعاً في العالم بتخطيه حدود الوطن إلى أوطان أخرى واستقباله استقبالاً إيجابياً فيها.

«المقروئية» عبر العالم هي المقصودة حين الكلام عن «العالمية»؛ وهذه إن تحققت لن يكون لكلِ عمل أدبي سعودي نصيبٌ منها أو مساوٍ لما تناله أعمال غيره من استقبال ومقروئية. لا أتصور انفتاح «آفاق العالمية» أمام كل السرد السعودي مثلاً. فإذا راجت رواية سعودية وأصبحت مقروءة في طول العالم وعرضه، لن يكون هذا مآل كل رواية تصدر في السعودية.

ورواج روايةٍ لروائي معين مثل «ترمي بشرر...» لعبده خال، لا يعني الرواج الحتمي لكل رواياته في العالم. والمقروئية التي حظيت بها رواية «بنات الرياض» ليس من الأكيد أن تحظى بها رواية رجاء الصانع الثانية التي طال أمد ترددها في نشرها. التفاوت هو القاعدة، تفاوتٌ في المقروئية على مستوى العالم من عمل إلى آخر، ومن أديب إلى آخر، ومن زمن إلى آخر، ومن كان يُقْرَأُ أدبُهُ في الأمس قد يَفْقِدُ الإقبالَ على شراءِ وقراءةِ أعمالِه اليوم، أو يُقْرأُ بمعدلٍ أدنى.

وليم فوكنر

الأدب الانجليزي، ويشمل كل عمل مكتوب بالإنجليزية، أكثرُ الآداب مقروئية في العالم، لا يحتاج ذلك إلى تدعيم بالأدلة والإحصائيات. وكان للهيمنة والاستعمار الانجليزي دور عظيم في انتشار اللغة الانجليزية وآدابها في البلدان التي خضعت للاستعمار عن طريق فرضها لغةً للتدريس والعمل والسيطرة في كل أرجاء الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.

ورغم ذلك ليس كل الأدباء الإنجليز معروفين ومتساوين بالمقروئية في العالم. ربما يكون الشاعر والكاتب المسرحي ويليام شكسبير معروفاً ومقروءاً في كل الأزمنة وفي أمكنة كثيرة من المعمورة؛ لكن هذا امتياز لا يتمتع به معاصروه من المسرحيين رغم مكانتهم العالية وإسهامهم في تطور وازدهار المسرح الانجليزي، على سبيل المثال لا الحصر: توماس كِد، كريستوفر مالرو، بِن جونسون، توماس دِكَرْ، وجون ويبستر. كما تتفاوت مسرحيات شكسبير نفسه في الشعبية والمقروئية والإنتاج المسرحي.

وعندما نغادر شكسبير ومعاصريه وزمنه إلى القرن العشرين، نلتقي بحالةٍ دالةٍ تجسد فكرة أن المقروئية عبر العالم لا تحدث بالتساوي لكل الأدباء من بلد واحد كالولايات المتحدة ذات الهيمنة الثقافية والسياسية والعسكرية. أطراف هذه الحالة ثلاثة روائيين أميركان: شروود أندرسون وإرنست هيمنغواي وويليام فوكنر. ويقف أندرسون في الوسط بينهما.

إن همنغواي وفوكنر أكثر شهرة من أندرسون، وأعمالهما أوسع انتشاراً ومقروئية من أعماله رغم أنه لا يقل عبقرية وعظمة عنهما، وله فضلٍ كبير عليهما وعلى أدباء أميركان آخرين بما قدمه من دعم ورعاية ونصح، ولدوره الفاعل في تطورهم.

همنغواي

كان أندرسون صديقاً ونديماً وأستاذاً لفوكنر لفترة من الزمن، قبل أن يتمرد التلميذ على أستاذه ويقلب عليه ظهر المجن. ما كان لفوكنر أن يصبح فوكنر المعروف والمشهور لو لم يلتق بأندرسون. والحقيقة أن فوكنر لم يلتق به صدفة، بل سعى إلى ذلك فسافر من مسيسيسبي إلى نيو أورليانز، حيث كان أندرسون هناك وقد التفّ حوله عدد من الكُتّاب الشباب الذين ضمهم تحت جناحي رعايته. نصح أندرسون فوكنر بأن ينطلق في كتاباته من تجربته الذاتية، ويستمد المواضيع والأفكار لرواياته وشخصياته من مكانه وبيئته ولاية ميسيسبي، وبمساعدته عرف فوكنر الطريق إلى النشر ومؤسساته.

وكانت علاقة أندرسون بهمنغواي قصيرة نسبياً، ولكن كانت ذات تأثير كبير على الكاتب الشاب. نصح أندرسون همنغواى بالكتابة عن تجاربه الذاتية في الحرب والحب، ونصحه بالذهاب إلى باريس؛ لأنها المكان المناسب لأي كاتب جاد. ولم يكتفِ بالنصح، بل كتب توصيات ورسائل تقدم همنغواي إلى بعض الأسماء المهمة مثل غرترود ستاين التي كانت تقيم هناك برفقة أليس ب. توكلاس، والآيرلندي جيمس جويس، وسلفيا بيتش مديرة مكتبة شكسبير وشركائه وعزرا باوند. وهكذا انضم همنغواي إلى مجموعة الأدباء المغتربين في باريس خلال عشرينات القرن الماضي، الذين أطلقت عليهم ستاين: «الجيل الضائع». كما لا يمحو إنكار هيمنغواي تأثيرَ أندرسون على قصصه القصيرة في تلك الفترة.

أثناء كتابة هذه المقالة، وخلال توقفٍ لدقائق قليلة، رحت أتفقد مكتبتي بشرود وبطريقة آلية كالعادة، فوقع بصري على الرواية «المعلم/ The Master» للروائي الآيرلندي كولِم تويبين. لمحت عنوانها فولدت فكرة توظيفها في مثال آخر يدعم ما كتبته آنفاً. نشر تويبين روايته في (2004) وهي سيرة غيرية تخييلية غير كاملة «fictionalized biography» تصور الأحداث خلال أربع سنوات من حياة الروائي هنري جيمس من 1895-1899، ابتداءً من الفشل الذريع لمسرحيته «غاي دومفيل»، زيارته لآيرلندا، وعودته إلى إيطاليا بعد غياب أربع سنوات ليلتقي ثانيةً بالنحات هندريك آندرسون. شهدت السنوات التي قضاها جيمس في إيطاليا صدور رواياته «دورة اللولب» و«ما كانت تعرفه ميزي» والتخطيط لروايته «السفراء» في 1899.

ألَّف تويبين روايته عن «هنري جيمس» الذي يتفوق عليه، وهو في قبره، شهرةً ومقروئيةً على الأقل في العالم العربي؛ إذ لم أعثر على ترجمةٍ عربيةٍ ولو لواحدة من رواياته. ما يعني أن تويبين غير مقروء خصوصاً بالعربية مقارنة بجيمس وبمواطنه جيمس جويس. يُظهر هذا المثال أن الموتى جيمس وجويس أشهر في الوطن العربي من الكاتب الحي تويبين. لكن هذا لا يقلل أهميته ومكانته كروائي وشاعر وناقد وصحافي وأكاديمي صدر له 30 كتاباً تقريباً.

أي عمل أدبي سردي أو شعري يُكتب في السعودية، هو جزء من الأدب السعودي الذي هو جزء من الأدب العربي الذي هو جزء من الأدب في العالم

وبالطريقة نفسها، لا يحط من مكانة السرد السعودي، والأدب السعودي عموماً، أنه غير رائج، غير مقروء في العالم. وإن حصل اختراق من هذا الجانب، في لحظة تاريخية ما، فسيكون من نصيب أسماء وأعمال سردية معدودة؛ انفتاح آفاق الانتشار والمقروئية في العالم أمام كل عمل سردي يصدر في الوطن هو الحلم المستحيل والوهم بعينه.

الترجمة جسر العبور إلى ضفاف المقروئية لدى الآخر، وتتعدد تبعاً للغات الترجمة. إن رواج العمل في الخارج يتوقف على ترويجه وتسويقه؛ وإقبال الآخر على ترجمته مشروط برواجه في الداخل كما كتبت في مقالة سابقة «فكتابٌ لا يحقق انتشاراً في وطن مؤَلِّفِه، تكون فرصة مقروئيته ضئيلة في أوطان الآخرين للغاية إن لم تكن معدومة» (الأدب العربي إنساني وإن لم يوجد على الرفوف اللندنية!). هنا أتفق مع القاص والصحافي علي فايع في أن إثبات الأديب السعودي نفسه وحضوره في الداخل بعمل يستحق... أهم وأبقى، من وهم الانتشار، والمقروئية غير المتحققة في الخارج «منقول بتصرف من صفحته في (فيسبوك)» سيكون الحضور بعمل متميز في الداخل الخطوة الأولى الأهم في رحلة العبور إلى الآخر.

* ناقد وكاتب سعودي


مقالات ذات صلة

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».