«الشرق الأوسط» تعاين أضرار الزلزال في «أسني»: لم يميّز بين دُور مشيّدة بالطين وأخرى بالإسمنت المسلح

ناجون فقدوا الثقة في منازلهم وهرعوا إلى جنبات الطرق والساحات... وتضامُن واسع لتخفيف الفاجعة

تعثر جهود إنقاذ وانتشال جثت ضحايا زلزال المغرب بسبب صعوبة الوصول للمناطق المتضررة في الجبال (أ.ف.ب)
تعثر جهود إنقاذ وانتشال جثت ضحايا زلزال المغرب بسبب صعوبة الوصول للمناطق المتضررة في الجبال (أ.ف.ب)
TT

«الشرق الأوسط» تعاين أضرار الزلزال في «أسني»: لم يميّز بين دُور مشيّدة بالطين وأخرى بالإسمنت المسلح

تعثر جهود إنقاذ وانتشال جثت ضحايا زلزال المغرب بسبب صعوبة الوصول للمناطق المتضررة في الجبال (أ.ف.ب)
تعثر جهود إنقاذ وانتشال جثت ضحايا زلزال المغرب بسبب صعوبة الوصول للمناطق المتضررة في الجبال (أ.ف.ب)

انطلاقاً من مراكش، وقبل مفترق الطرق المؤدية إلى بلدتي أمزميز وتحناوت في إقليم الحوز (جهة مراكش - أسفي)، تجمعت شاحنات وسيارات كان عدد من نشطاء جمعيات المجتمع المدني والمواطنين، بصدد تحميلها بالمواد الغذائية والأفرشة، وغيرها من المساعدات، لتوجيهها إلى المناطق المنكوبة.

لا يمكن لانخراط الواقفين خلف هذه المبادرات التضامنية، القادمين من مختلف مناطق البلد، إلا أن يؤكد حساً وطنياً عالياً عبّرت عنه شرائح المجتمع المغربي بكل أطيافه...

من حملات التضامن مع المنكوبين (الشرق الأوسط)

على طول الطريق التي تقود إلى عدد من المناطق المتضررة بإقليم الحوز، انطلاقاً من طريق تحناوت، في اتجاه قرى بلدتي مولاي إبراهيم وأسني، ومن خلالها قرى أجوكاك وثلاث نيعقوب وإيغيل (مركز الزلزال)، كانت هناك سيارات إسعاف تسير في الاتجاهين، فضلاً عن شاحنات وآليات تابعة للقوات المسلحة الملكية المغربية ووزارة التجهيز، علاوة على الشاحنات والسيارات المحملة بالمساعدات.

مشهد العائلات التي تركت منازلها لتفترش جنبات الطريق والساحات، ينقل شعوراً باهتزاز الثقة في الأرض، وفي بيت السكن الذي لطالما أطلق عليه المغاربة «قبر الحياة» بوصفه ملاذاً، أو «البيت السعيد» كونه حضناً عائلياً دافئاً.

من المؤلم أن يفقد الإنسان الثقة في مسكنه، ليفيء إلى سيارته أو يهيء لعائلته بيتاً من «قش» أو «ثوب» في الهواء الطلق. ومع ذلك، فأن يفقد المرء بيته أو يتركه مؤقتاً في انتظار أن تتبدد المخاوف، خير من أن يفقد حياته.

خلال الزلزال الذي حدّد مركزه بقرية إيغيل، سجلت نسبة 60 في المائة من الوفيات بإقليم الحوز، حسب آخر حصيلة محدّثة لوزارة الداخلية، بمجموع 1351 وفاة من أصل 2122، متبوعة بإقليم تارودانت بـ492وفاة.

خيام لإيواء المتضررين (الشرق الأوسط)

في عدد من المناطق التابعة لإقليم الحوز، التي زارتها «الشرق الأوسط»، كان الضرر متفاوتاً بين الدواوير (الكفور) المنتشرة وسط تضاريس وعرة، زادت الانهيارات الصخرية من صعوبة الوصول إليها... الوصول إلى تحناوت، البلدة الصغيرة التي تقع على بعد 30 كيلومتراً من مراكش، يمنح المرء شعوراً مؤقتاً بالسكينة والهدوء، بفعل الطبيعة والجداريات التي تزين مدخلها، وأنجزها عدد من الفنانين التشكيليين المغاربة، قبل أن يعيدك صفير سيارة إسعاف إلى واقع الزلزال، لتبدأ معالم الخراب، الذي خلفته الهزة الأرضية العنيفة، في البروز بشكل صادم ومؤلم لدى التوقف بدوار (كفر) أزرو، المحاذي لتحناوت في اتجاه بلدتي أسني ومولاي إبراهيم.

وغير بعيد عن بنايات الكفر المنهارة، انشغل عدد من السكان بإعداد خيام بسيطة كمأوى بديل للمنازل التي تهدمت أو تصدعت، وذلك بما توفر لهم من وسائل بسيطة. وبين الفينة والأخرى، يثيرك صوت الطائرات المروحية وهي تحلّق في سماء المنطقة، إما استطلاعاً للمناطق المنكوبة أو نقلاً للمساعدات الإنسانية للمتضررين.

وعورة الطريق والمسالك، وتراكم الأحجار والصخور التي دُفعت إلى الجانب، تظهر حجم الجهود التي بُذلت من طرف فرق التدخل لفتحها، لنجدة المتضررين وإيصال المساعدات.

انهيار صخري في إحدى طرق مناطق الزلزال (الشرق الأوسط)

بعد مسير نحو كيلومترين على الطريق إلى بلدة مولاي إبراهيم، رافقتني خلاله وساوس حول كل تلك الصخور التي تكاد تسد الطريق، رأيت أن أعود أدراجي في اتجاه منطقة أسني وما يليها من بلدات متضررة، والتي كنت حددتها وجهة للزيارة في بداية الأمر. آثار الانهيارات الصخرية كانت كبيرة، بحيث يكون على المرء وهو يقود سيارته، أن يضبط تعامله بانتباه شديد مع صخور ضخمة في مناطق معروفة بوعورتها، الشيء الذي عطل الإنقاذ ورفع من عدد الضحايا.

في بلدة أسني، وعلى مقربة من ساحة قريبة من «دوار لعرب»، أحد الكفور الـ14، التابعة لهذه البلدة التي تبعد عن مراكش بنحو 50 كيلومتراً، ويتطلب الوصول إليها أكثر من 80 دقيقة، كانت هناك حركية كبيرة أكدت حجم الدمار وطبيعة الخسائر التي لحقت المنطقة. ...جرى نصب عشرات الخيام للقوات المسلحة الملكية وللوقاية المدنية، وبدت شاحنات وسيارات تفرق حمولتها من الأغطية والألبسة والتغذية، وغيرها من متطلبات المتضررين.

وفي «دوار لعرب»، لم يميز الزلزال بين دار مشيدة بالطين وأخرى بالإسمنت المسلح، مع فارق أن البنايات المشيدة بالطين المدكوك تتحول في رمشة عين إلى ركام. ولدى وقوفي أمام بناية لحفظ الصحة المشتركة في أسني، التي رسم الزلزال على واجهتها تصدعات كبيرة وخدوشاً غائرة، خاطبتني سيدة تحمل عدداً من البطانيات، وتمشي في اتجاه الخيام المنصوبة: «تقدم أكثر. هناك في وسط الدوار، ستجد خراباً كبيراً».

على مقربة منها كانت هناك عجوز تجاهد في حمل أوانٍ بسيطة وطاولة صغيرة. «ناولني الطاولة يا ولدي»، خاطبتني بصوت ذكّرني بوالدتي. أحد المستفيدين من الخيام، قال إنهم عانوا في الليلتين السابقتين، خصوصاً الأطفال.

العائلات المنكوبة بالزلزال (أ.ف.ب)

غير بعيد من هناك، وقف شاب في السابعة عشرة من العمر يتابع مشهد الخراب الذي ضرب الدوار والدينامية التي صارت تعرفها بلدة أسني. سألته «الشرق الأوسط» إن كان من أبناء «دوار لعرب»؟. فأجاب بأنه من «دوار تمكونسي» القريب. تحدث عن تجربته مع الزلزال، وقال إنه وعائلته كانوا نياماً لحظة وقوع الزلزال، وإنهم حسبوا الأمر في البداية مجرد انهيارات صخرية، قبل أن يتناهى إلى مسامعهم صراخ وعويل من الخارج.

وقال الشاب، واسمه حمزة، ويدرس بالثانوية الإعدادية «الأطلس الكبير» بأسني: إن سكان الدوار تركوا المنازل، مشيراً إلى أن عدداً من الموتى سجل بدوار «أسلدة» القريب. وزاد قائلاً: إن من بين الموتى زملاء له في الثانوية الإعدادية التي يدرس فيها. ثم شرع في استحضار شهادات مؤثرة حول من قضى. تحدث عن سيدة قضت وهي تحضن اثنين من أبنائها. قال: إنها كانت بصدد محاولة ترك المنزل بمعية ابنيها، قبل أن يتهاوى المنزل فوق رؤوس الجميع.

مركز إنقاذ أقامه الجيش المغربي قرب مراكش (رويترز)

حين ذكر حمزة أنه فقد زميلاً له يسكن بـ«دوار لعرب»، قلت له: إن الزلزال هدّ بيوت الدوار التي شُيّد أغلبها بالإسمنت المسلح، ليرد بأن الزلزال لم يميز بين البيوت، ولم يأخذ في حسبانه إن كانت شُيّدت بالطين أو بالإسمنت. وعن إحساسه بعد الفاجعة، قال بعامية مغربية تلخص حجم الصدمة التي هزّت ساكني المنطقة: «مخلوعين كاملين» (كلنا مفزوعون). توقفت بالقرب منا سيدة في عقدها السادس. مدت إلي هاتفها المحمول، وهي تطلب أن أربط لها اتصالاً مع اسم لم تتبين حروفه. حين سألتها «الشرق الأوسط» عن هول الزلزال، تحدثت عن ألم الفقدان. وقالت: إن إعادة الإعمار شيء ممكن، لكن تعويض من ماتوا هو المفجع في الموضوع.


مقالات ذات صلة

تركيا: زلزال بقوة 5.3 درجة قرب بحر إيجه

أوروبا شخص ينظر إلى الأنقاض والحطام بعد زلزال في كهرمان مرعش بتركيا 8 فبراير 2023 (رويترز)

تركيا: زلزال بقوة 5.3 درجة قرب بحر إيجه

أفاد التلفزيون التركي، اليوم الأحد، بوقوع زلزال بقوة 5.3 درجة قرب بحر إيجه.

«الشرق الأوسط» (أنقرة)
يوميات الشرق شرم الشيخ شهدت زلزالاً بلغت قوته 4.25 درجة على مقياس ريختر (عبد الفتاح فرج)

ما أسباب تكرار الهزات الأرضية في شمال البحر الأحمر؟

سجّلت محطات شبكة الزلازل القومية، هزة أرضية على بُعد 12 كيلومتراً من مدينة شرم الشيخ، عند الساعة 7:34 صباحاً بتوقيت القاهرة، مما أثار انتباه السكان في المنطقة.

محمد السيد علي (القاهرة)
شؤون إقليمية قُبض على الإسرائيلي بوريس ولفمان في إسطنبول 2015 وسُلم لإسرائيل لاتهامه بالاتجار بالأعضاء وعاد إلى تركيا عام 2017 (إعلام تركية)

القبض على إسرائيلي في تركيا للاتجار بأعضاء اللاجئين السوريين

قررت محكمة تركية في إسطنبول توقيف إسرائيلي مطلوب من الإنتربول الدولي بنشرة حمراء، لتورطه في عمليات اتجار بالأعضاء في أوساط اللاجئين السوريين في تركيا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية سكان مالاطيا غادروا منازلهم وبقوا في الشوارع بسبب الهلع من الزلزال (إعلام تركي)

زلزال بقوة 5.9 درجة ضرب شمال تركيا وأعاد ذكريات «كهرمان ماراش»

ضرب زلزال بقوة 5.9 درجة على مقياس ريختر ولاية مالاطيا في شرق تركيا تأثرت به بعض المناطق في جنوب شرقي البلاد وفي شمال سوريا ولم يسفر عن ضحايا أو إصابات خطيرة

سعيد عبد الرازق (أنقرة:)
شؤون إقليمية صورة أرشيفية لآثار الزلزال الذي ضرب ملاطية العام الماضي (غيتي)

شعر به سكان مدن سورية... زلزال بقوة 5.9 درجة يضرب جنوب شرق تركيا

أعلنت إدارة الكوارث والطوارئ التركية أن زلزالاً بقوة 5.9 درجة هز إقليم ملاطية في جنوب شرق تركيا، اليوم الأربعاء، وشعر به سكان مدن سورية.

«الشرق الأوسط» (اسطنبول)

القاهرة تعزز مشاركتها في قوات حفظ السلام بأفريقيا

بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
TT

القاهرة تعزز مشاركتها في قوات حفظ السلام بأفريقيا

بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)

تأكيدات مصرية على لسان وزير الخارجية، بدر عبد العاطي، بشأن «الدور النبيل» الذي تقوم به القوات المصرية ضمن بعثات حفظ السلام عبر «تعزيز السلم والأمن» في أفريقيا، وأنها تعكس «الالتزام المصري التاريخي بدعم الاستقرار في القارة السمراء».

تصريحات وزير الخارجية جاءت خلال زيارته للكتيبة المصرية ضمن قوات حفظ السلام في الكونغو الديمقراطية، التي تأتي أيضاً قبيل أسابيع من مشاركة جديدة مرتقبة مطلع العام المقبل في الصومال ضمن قوات حفظ سلام أفريقية، وسط تحفظات إثيوبية التي أعلنت مقديشو استبعاد قواتها رسمياً، وأرجعت ذلك إلى «انتهاكها الصارخ لسيادة واستقلال الصومال».

الزيارة المصرية للقوات التي يمر على وجودها نحو 25 عاماً، تعد بحسب خبراء تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، تأكيداً على «الحضور المتنامي للقاهرة، وتعزيزاً لمشاركاتها بالقارة السمراء»، مستبعدين أن تتحول أي تحفظات إثيوبية تجاه الوجود المصري بمقديشو لمواجهات أو تصعيد عسكري.

وبحسب ما كشفته «الخارجية المصرية» في أواخر مايو (أيار) 2024، «فمنذ عام 1960، عندما أرسلت مصر قواتها إلى عمليات الأمم المتحدة في الكونغو، خدم ما يزيد على 30 ألفاً من حفظة السلام المصريين في 37 بعثة لحفظ السلام في 24 دولة، وبصفتها واحدة من كبريات الدول التي تسهم بقوات نظامية في عمليات حفظ السلام، تنشُر مصر حالياً 1602 من حفظة السلام من النساء والرجال المصريين في عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام في الكونغو الديمقراطية والسودان وجنوب السودان والصحراء الغربية».

ووفق تقديرات نقلتها «هيئة الاستعلامات» المصرية الرسمية، منتصف يونيو (حزيران) 2022، تسترشد مصر في عمليات حفظ السلام بثلاثة مبادئ أممية أساسية، وهي «موافقة الأطراف والحياد، وعدم استعمال القوة إلا دفاعاً عن النفس، ودفاعاً عن الولاية».

بدر عبد العاطي يصافح كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)

وتاريخياً، شاركت مصر في قوات حفظ السلام بأفريقيا في «الكونغو أثناء فترة الحرب الأهلية من 1960 إلى 1961، ثم من نوفمبر (تشرين الثاني) 1999، وكوت ديفوار لمساعدة الأطراف الإيفوارية على تنفيذ اتفاق السلام الموقع بينهما في يناير (كانون الثاني) 2003، والصومال في الفترة من ديسمبر (كانون الأول) 1992 إلى فبراير (شباط) 1995، وأفريقيا الوسطى من يونيو 1998 إلى مارس (آذار) 2000، وأنغولا من 1991 وحتى 1999، وموزمبيق من فبراير 1993 إلى يونيو 1995، وجزر القمر من 1997 وحتى 1999، وبوروندي منذ سبتمبر (أيلول) 2004، وإقليم دارفور بالسودان منذ أغسطس (آب) 2004».

وضمن متابعة مصرية لقواتها، التقى بدر عبد العاطي، الجمعة، مع أعضاء كتيبة الشرطة المصرية المُشاركة في مهام حفظ السلام ضمن بعثة الأمم المتحدة لحفظ الاستقرار في الكونغو الديمقراطية خلال زيارته التي بدأت الخميس، واستمرت ليومين إلى العاصمة كينشاسا، لتعزيز التعاون بكل المجالات، وفق بيان صحافي لـ«الخارجية المصرية».

وقال عبد العاطي إن «مصر إحدى كبرى الدول المساهمة في قوات حفظ السلام الأممية»، مؤكداً أن «وجود الكتيبة المصرية في الكونغو الديمقراطية يعكس عمق العلاقات التاريخية بين البلدين وأهمية الشراكة الاستراتيجية مع دول حوض النيل الجنوبي». كما نقل وزير الخارجية، رسالة إلى رئيس الكونغو الديمقراطية، فيليكس تشيسيكيدي، من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تتضمن سبل تعزيز العلاقات، وإحاطة بما تم توقيعه من اتفاقيات تعاون خلال زيارته وتدشين «مجلس أعمال مشترك».

ووفق الخبير في الشؤون الأفريقية، عبد الناصر الحاج، فإن كلمة السر في مشاركة مصر بشكل معتاد ضمن قوات حفظ السلام في أفريقيا بشكل عام هي «طبيعة القوات المصرية حيث تتجلى الإمكانات العالية والخبرات التاريخية المتراكمة، ما جعل مصر دائمة المشاركة والحضور ضمن قوات حفظ السلام منذ أزمان بعيدة»، مؤكداً أن لمصر تجارب عدة في العمل ضمن بعثات حفظ السلام في كثير من دول أفريقيا التي شهدت نزاعات وأوضاع أمنية بالغة التعقيد، مثل ساحل العاج، والكونغو، وأفريقيا الوسطى، وأنغولا، وموزمبيق، وليبيريا، ورواندا، وجزر القمر، ومالي وغيرها.

جانب من كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في مهام حفظ السلام بالكونغو الديمقراطية (الخارجية المصرية)

الحاج أشار إلى أنه رغم أن الاضطرابات السياسية التي تشهدها كثير من دول أفريقيا «تزيد من تعقيد» عمل بعثات الأمم المتحدة الخاصة بحفظ السلام في أفريقيا، وعدم قدرة هذه البعثات على إحراز أي تقدم في ظل نقص المؤسسات الديمقراطية الفعالة في عدد من البلدان الأفريقية؛ فإن مصر تدرك جيداً مدى أهمية تكثيف حضورها الأمني في القارة السمراء، باعتبار أن «العدول عن المشاركة المصرية ضمن بعثات حفظ السلام، سوف يترك فراغاً عريضاً» ربما تستغله دول أخرى تنافس مصر في خارطة التمركز الفاعل في أفريقيا.

الخبير الاستراتيجي المصري، اللواء سمير فرج، أوضح أن هناك قوات لحفظ السلام تتبع الأمم المتحدة، وأخرى تتبع الاتحاد الأفريقي، وكل له ميزانية منفصلة؛ لكن يتعاونان في هذا المسار الأمني لحفظ الاستقرار بالدول التي تشهد اضطرابات ومصر لها حضور واسع بالاثنين، مؤكداً أن مشاركة القاهرة بتلك القوات يتنامى ويتعزز في القارة الأفريقية بهدف استعادة الحضور الذي عرف في الستينات بقوته، وكان دافعاً ومساهماً لتأسيس الاتحاد الأفريقي والحفاظ على استقرار واستقلال دوله.

وهو ما أكده وزير الخارجية المصري خلال زيارته للكتيبة المصرية بالكونغو الديمقراطية بالقول إن «المشاركة في بعثات حفظ السلام تعكس الالتزام المصري التاريخي بدعم الاستقرار في أفريقيا، والمساهمة الفاعلة في صون السلم والأمن الدوليين».

هذا التأكيد المصري يأتي قبل نحو شهر من المشاركة المصرية في قوات حفظ السلام الأفريقية، بالصومال، حيث أكد سفير مقديشو لدى مصر، علي عبدي أواري، في إفادة، أغسطس الماضي، أن «القاهرة في إطار اتفاقية الدفاع المشترك مع الصومال ستكون أولى الدول التي تنشر قوات لدعم الجيش الصومالي من يناير 2025 وتستمر حتى عام 2029. بعد انسحاب قوات الاتحاد الأفريقي الحالية»، قبل أن تعلن مقديشو، أخيراً «استبعاد القوات الإثيوبية رسمياً من المشاركة في عمليات البعثة الجديدة؛ بسبب انتهاكها الصارخ لسيادة واستقلال الصومال».

الرئيس الصومالي خلال توقيعه قانوناً في يناير الماضي يُبطل مذكرة تفاهم «أرض الصومال» وإثيوبيا (حساب الرئيس الصومالي على «إكس»)

ولم تعلق أديس أبابا رسمياً على هذا الاستبعاد، لكن تحدّث وزير الخارجية الإثيوبي السابق، تاي أصقي سيلاسي، في أغسطس الماضي، عن الموقف الإثيوبي بشأن البعثة الجديدة لقوات حفظ السلام في الصومال، حيث طالب بـ«ألا تشكّل تهديداً لأمننا القومي، هذا ليس خوفاً، لكنه تجنّب لإشعال صراعات أخرى بالمنطقة»، مؤكداً أن بلاده «أصبحت قوة كبرى قادرة على حماية مصالحها».

وعدَّ الخبير الاستراتيجي المصري أن استمرار الوجود المصري في قوات حفظ السلام على مدار السنوات الماضية والمقبلة، لاسيما بالصومال له دلالة على قوة مصر وقدرتها على الدعم الأمني والعسكري وتقديم كل الإمكانات، لاسيما التدريب وتحقيق الاستقرار، مستبعداً حدوث أي تحرك إثيوبي ضد الوجود المصري في الصومال العام المقبل.

فيما يرى الخبير في الشؤون الأفريقية أن الاستعداد القوي الذي أظهرته مصر للمشاركة ضمن بعثة حفظ السلام في الصومال، يأتي من واقع الحرص المصري على استتباب الأمن في هذه البقعة الاستراتيجية في القرن الأفريقي؛ لأن استتباب الأمن في الصومال يعني تلقائياً تأمين حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر، ومن ثم ضمان انسياب الحركة التجارية الدولية عبر قناة السويس. فضلاً عن أن مصر لن تنزوي بعيداً وتترك الصومال ملعباً مميزاً للقوات الإثيوبية، خصوصاً بعدما أبرمت إثيوبيا اتفاقاً مطلع العام مع إقليم «أرض الصومال» لاستغلال منفذ «بربرة» البحري المطل على ساحل البحر الأحمر.

وفي تقدير عبد الناصر الحاج فإن نجاح مصر في أي مشاركة فاعلة ضمن قوات حفظ السلام في أفريقيا، يتوقف في المقام الأول، على مدى قدرة مصر في انتزاع تفويضات واسعة من مجلس السلم والأمن الأفريقي لطبيعة عمل هذه البعثات، بحسبان أن إحدى المشكلات التي ظلت تسهم في إعاقة عمل بعثات حفظ السلام، هي نوعية التفويض الممنوح لها؛ وهو الذي ما يكون دائماً تفويضاً محدوداً وقاصراً يضع هذه البعثات وكأنها مُقيدة بـ«سلاسل».

وأوضح أنه ينبغي على مصر الاجتهاد في تقديم نماذج استثنائية في أساليب عمل قواتها ضمن بعثات حفظ السلام، بحيث يصبح الرهان على مشاركة القوات المصرية، هو خط الدفاع الأول لمدى جدواها في تحقيق غاية حفظ السلام.