المُعْتَمَدُ الأدبي: سُلْطة الأمس والتباساتُ الراهن

فقد كثيراً من سطوته التوجيهية... وما عاد يمثلُ مرجعية ثقافية

روبرت أستون
روبرت أستون
TT

المُعْتَمَدُ الأدبي: سُلْطة الأمس والتباساتُ الراهن

روبرت أستون
روبرت أستون

قبل ما يقاربُ العشر سنوات ترجمتُ - في سياق ترجمات منتخبة لحوارات مع روائيات وروائيين من شتى الجغرافيات العالمية - حواراً مع الروائي الأسترالي توماس كينيللي Thomas Keneally. قد يكون هذا الاسم غريباً بعض الشيء للقراء، لكنَّ أهميته ستنكشف لو قلت إنه كتب رواية عنوانها «قارِبُ شندلر» Schindler's Ark، جعلها المخرج العالمي ستيفن سبيلبيرغ مادة لفيلمه الأشهر «قائمة شندلر». جاء السؤال الأخير في الحوار مستفهماً عن الكتب التي كان يطالعها كينيللي وقت إجراء الحوار معه؛ فأجاب: إلى الفنار To the Lighthouse لفيرجينيا وولف، ثمّ عقَّب هو ذاته على جوابه ضاحكاً: «ستندهشون إذ تتوقعون أنني قرأت كلّ الكلاسيكيات المعروفة. دعوني أخبركم: أنا لم أفعل هذا، وأظن أنه قلما يوجد مَن قرأ كلّ هذه الكلاسيكيات أو حتى نصفها»!

أرى أن كينيللي كشف بجرأة ووضوح عن وضع المعتمد الأدبي Literary Canon في عالمنا الراهن. المعتمد الأدبي هو ببساطة مجموعة الأعمال الأدبية التي اتفقت مجموعة من المشتغلين بالأدب (سمهم نقاداً أدبيين. لا بأس في هذا) على رفعها لمصاف النخبة الأدبية المصطفاة التي تتوجب قراءتها من جانب كلّ مثقف أو راغب في حيازة بعض توصيفات الثقافة (أو الجنتلمانية الثقافية بحسب مفردات العصر الفيكتوري وناقده الأبرز ماثيو أرنولد). لنتَّفقْ لأغراض التبسيط التعريفي غير المخلّ بالمفهوم على أنّ المعتمد الأدبي هو قائمة كلّ الأعمال الأدبية التي توصف بالكلاسيكيات The Classics.

غلاف "دورُ المعتمد الادبي في تدريس الادب"

المعتمد الأدبي الغربي في الماكينة الكولونيالية الغربية

ساهمت فعاليات كثيرة في إشاعة معتمد أدبي محدد هو المعتمد الغربي، واعتمد هذا السياق منذ تشكيل مفهوم المعتمد الأدبي أواخر القرن التاسع عشر. صار دانتي وغوته وشكسبير وملتون وكولردج وووردزورث وجين أوستن وفيرجينيا وولف وجورج إليوت وهنري جيمس وجيمس جويس وصامويل بيكيت أكبر من شخوص أدبية خلاقة. تحولوا إلى أدواتٍ في إشاعة السطوة الكولونيالية الغربية عبر البوابة الثقافية الناعمة. هذا لا يعني بالطبع أن هؤلاء كانوا شخوصاً راغبة في فرض سطوتها الكولونيالية؛ لكن هذا ما أراده صُناع السياسة وراسمو جغرافيات النفوذ والهيمنة على المستويين: العسكري (الصلب) والثقافي (الناعم).

غلاف "التقليد الأدبي الغربي"

لم يكن من سياسة ثقافية تدعم ترسيخ هذا المعتمد الغربي في الذاكرة والمخيال الفردي والجمعي أفضل من اعتماد سياسة تدريس مفردات من هذا المعتمد الأدبي الغربي في المدارس. واضحٌ تماماً السبب الكامن في كفاءة هذه السياسة: أنت في السياسة التعليمية تخاطب أعداداً هائلة (مليونية في العادة) من العقول الشابة المتطلّعة إلى المستقبل وغير المثقلة بأعباء التاريخ والآيديولوجيا؛ وبالنتيجة تكون إمكانية التأثير فيهم أعظم من المقاربات الأخرى التي غالباً ما تكون أكثر كلفة ومشقة، وأقل في حجم العوائد المتوقَّعة منها.

كلنا نتذكرُ أننا درسنا في المدارس الثانوية نماذج منتخبة من المعتمد الأدبي الغربي، وربما يكون إج جي ويلز في رواياته الشائعة المثال الكلاسيكي في هذا الشأن.

وساد نموذج المعتمد الأدبي الغربي كلّ النصف الأول من القرن العشرين وبدايات النصف الثاني منه، ثم انقلب الحال مع نشوء الدراسات ما بعد الكولونيالية ودراسات التابع: صرنا نسمع عن أدباء أفارقة وأميركيين لاتينيين ومن جنوب شرقي آسيا حققوا منجزات أدبية لامعة أهَّلت بعضهم للحصول على جوائز نوبل الأدبية. لكن رغم هذا ظلَّت سطوة بعض (حرَّاس البوابات GateKeepers) ممَّن يرون المعتمد الأدبي الغربي أقرب إلى نموذج الغابة المقدَّسة لإليوت، وفي مقدمة هؤلاء هارولد بلوم Harold Bloom الذي كتبتُ عنه عندما تُوفي قبل بضع سنوات موضوعاً في ثقافية «الشرق الأوسط» بعنوان ذي دلالة كاشفة: «وفاة حارس الميراث الشكسبيري». لن ننسى بالتأكيد كتاب بلوم عن المعتمد الأدبي الغربي الكلاسيكي، وهو مترجم إلى العربية بعنوان «التقليد الأدبي الغربي».

غلاف "هذا هو المعتمد"

هل ِمِنْ سبيل لمعتمد أدبي عالمي؟

الجواب بوضوح وبساطة: لا أظنّ ذلك، وحتى لو وُجِد مثل هذا المعتمد الأدبي العالمي فسيكون معتمداً كيفياً لا ينال بركات المتسيدين لحقل النقد الأدبي. أسباب كثيرة تقف وراء ذلك، منها:

- المعتمد الأدبي والكبرياء القومية: نتحدث كثيراً عن العولمة؛ لكن هذا الحديث ليس أكثر من غطاء آيديولوجي لتحقيق مصالح براغماتية في الجانب الاقتصادي على وجه التخصيص ولصالح القوى المتغولة مالياً واقتصادياً وتقنياً. هل نتوقع مثلاً أن يجعل الياباني أو العربي أو الصيني أو الأفريقي شكسبير بديلاً لشخوصه التاريخية المتوارثة؟ ولماذا يفعل ذلك؟ لا شيء يدفعه (أو يُرغّبه بالأصح) لهذه الفعلة.

- المعتمد الأدبي وعلاقته بالنقد الأدبي: المعتمد الأدبي - كيفما كان أصله وطبيعته - هو صنيعة نقاد أدبيين في نهاية الأمر. نعرف أن سطوة النقاد الأدبيين كمرجعيات ثقافية قد تهاوت وتراجعت كثيراً في عصر «تهاوي المرجعيات»، وكان من بعض نتائج ذلك أن صار النقد الأدبي فرعاً صغيراً من محيط أعظم عنوانه «الدراسات الثقافية». لم يعُد لدينا اليوم في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين من يماثلُ النموذج الفيكتوري لماثيو أرنولد أواخر القرن التاسع عشر، فضلاً عن أن الدراسات الثقافية تعنى بموضوعات متمايزة نوعياً عن الانشغالات التقليدية للنقد الأدبي، ولم يعُد في أولوياتها الملحّة تصميمُ معتمدات أدبية جديدة.

- المعتمد الأدبي ومسألة الحجم: هذه موضوعة عملية ينبغي تداركها. لو تصورنا إمكانية الاتفاق (الكيفي) على معتمد أدبي عالمي أو قومي؛ فهل سنظل نضيف له أعمالاً جديدة بعد أن تصبح بعض الأعمال الحديثة كلاسيكيات بفعل مقادير الزمن؟ ألن يتضخم هذا المعتمد إلى حدود سيعجز معها أكثر الأفراد جدية وحرصاً ومثابرة على متابعة الأعمال المعتمدة فيه؟ العناوين الكثيرة ستكبح قدرة الأفراد على المتابعة والقراءة الجدية.

ساد نموذج المعتمد الأدبي الغربي كلّ النصف الأول من القرن العشرين وبدايات النصف الثاني منه ثمَّ انقلب الحال مع نشوء الدراسات ما بعد الكولونيالية

كتابان عن راهن المعتمد الأدبي

الكتاب الأول عنوانه: «دورُ المعتمد الأدبي في تدريس الأدب»

The Role of Literary Canon in the Teaching of

Literature

لمؤلفه روبرت جَيْ أستون Robert J. Aston. الكتاب منشور حديثاً (2022) عن دار نشر «راوتليدج»، وهو غير مترجم إلى العربية. يُعرَفُ عن مؤلف الكتاب أنه مُنظّر ثقافي ومؤلف وأستاذ جامعي يركز في دراساته وأبحاثه على نظرية المعتمد الأدبي، والمعرفة الأدبية، وتدريس الأدب وفلسفته.

يفتتح المؤلف كتابه بمقدمة ممتازة عن «موضعة المعتمد الأدبي»، ثم يتناول في فصول خمسة لاحقة موضوعات: تعليق الإضافات إلى المعتمد الأدبي، وحارسي البوابات وتدريس الأدب، والمعتمد الأدبي وعلاقات السلطة الأدبية المهيمنة في مقابل المقاومة المعاكسة، عوامل الاستقرارية والتغيير في المعتمد الأدبي، موضوعة لاكتمال المعتمد الأدبي وتأثير ذلك في عملية تدريس الأدب.

الكتاب صغير الحجم لا يكاد يتجاوز المائة وخمسين صفحة مع بيبلوغرافيا جيدة التوثيق لمباحث الكتاب.

الكتاب الثاني عنوانه: «هذا هو المعتمد»، مع عنوان ثانوي حافل بالإثارة «أبطِلْ استعمار رفّ مكتبتك بواسطة خمسين كتاباً»

This is the Canon: Decolonize Your Bookshelf in 50 Books

لثلاثة مؤلفين: أحدهم من غرينادا، والآخر أسترالي المولد من أصول أفريقية، والثالث من سيراليون. الكتاب منشور حديثاً (2023) وغير مترجم إلى العربية.

هذا الكتاب هو هجوم راديكالي على مفهوم المعتمد الغربي. يذكرنا عنوان الكتاب بكتاب آخر كتبه الروائي والأستاذ الجامعي الأفريقي نغوغي واثيونغو بعنوان «إبطالُ استعمار العقل». ما يسعى له المؤلفون الثلاثة هو شطبُ المعتمد الغربي وإبدال معتمدٍ مستحدث آخر به يتأسس على أعمال أدبية ليس بينها أحد الكلاسيكيات الغربية القديمة أو الجديدة. الكتاب أقرب إلى أنثولوجيا لخمسين كاتباً وكاتبة، منهم: ياسوناري كاواباتا، إليخو كاربنتير، تشينوا أتشيبي، آسيا جبار، جين ريز، نغوغي واثيونغو، توني موريسون، أرونداتي روي، خالد حسيني، تشيماماندا نغوزي أديتشي، أرافيند أديغا، زادي سمث.

يدعي مؤلفو الكتاب أنهم بعملهم هذا لا يسعون سوى لتأكيد التنوع الأدبي وعدم قصره على لون واحد أو جغرافية واحدة.

في خريطة الأدب المعاصر

فقد مفهوم «المعتمد الأدبي» كثيراً من سطوته التوجيهية، وما عاد يمثلُ مرجعية ثقافية. صارت مسؤولية الفرد أن ينتخب ما يشاء من قراءات أدبية تبعاً لرغبته وشغفه ورؤيته الخاصة. قد يعيش المرء حياة كاملة اليوم ثم يغادر هذه الحياة من غير أن يقرأ شكسبير أو دانتي أو جيمس جويس أو أعمال أساطين أدب الحداثة وما بعد الحداثة. لا بأس في هذا. يجب أن نقبل هذا الأمر ولا نعدّه مثلبة ثقافية.

لن نستطيع بعد اليوم متابعة كلّ كلاسيكيات الأدب الغربي وغير الغربي. حسبُنا أن نقرأ ما يتناغم مع ذائقتنا الخاصة. تبدو هذه المقاربة هي المقاربة الفضلى في عصر إشكالي متخم بالمعضلات الباعثة على الاكتئاب.

لو أن الأدب ظلّ يخدم الكائن البشري كأحد العناصر المنتجة للغاية والمعنى في الحياة البشرية فذلك يكفيه من مسعى. هذا أفضل بكثير من تسطير عناوين في معتمدات أدبية قد لا تجد من يُلْقي نظرة يتيمة عليها في نهاية المطاف.



محمد طرزي: استلهمت واقع المهمشين في وطني من مقولة لنجيب محفوظ

Ca-culture1-22Dec-photo1  الكاتب محمد طرزي
Ca-culture1-22Dec-photo1 الكاتب محمد طرزي
TT

محمد طرزي: استلهمت واقع المهمشين في وطني من مقولة لنجيب محفوظ

Ca-culture1-22Dec-photo1  الكاتب محمد طرزي
Ca-culture1-22Dec-photo1 الكاتب محمد طرزي

لفت الكاتب اللبناني محمد طرزي الأنظار إليه بقوة مؤخراً؛ حيث فازت روايته «ميكروفون كاتم صوت» بجائزتي «كتارا» القطرية و«نجيب محفوظ للرواية العربية» التي تمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة، وذلك في مدة وجيزة لا تتجاوز 3 أشهر قبل نهاية العام الحالي. ما يضفي على هذه الرواية دلالة خاصة في مسيرته، وطموحه لكتابة نص له طابع اجتماعي ينهل من الواقع الاجتماعي في لبنان، ويرصد المتغيرات المجتمعية من منظور إنساني.

أقام طرزي بعدد من دول شرق أفريقيا، وأعاد اكتشافها روائياً، مستلهماً التاريخ العربي في تلك الأماكن، في ثلاثية بعنوان «الحلم الأفريقي»، ومنها «عروس القمر» و«جزر القرنفل» التي تتناول تاريخ زنجبار خلال فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان.

هنا... حوار معه حول روايته الفائزة وهموم الكتابة.

* تبدو المتناقضات كما لو كانت تشكل جوهر روايتك الأخيرة «ميكروفون كاتم صوت»، بداية من العنوان حتى النهاية. إلى أي حد تتفق مع هذا الرأي؟

- هي رواية المتناقضات بالفعل. العنوان نفسه يجسد التضاد والمفارقات التي لا تلبث أن تظهر مع الصفحات الأولى للكتاب؛ حيث يبرز شاب اسمه «سلطان»، يقيم في بيت متواضع مُطل على المقبرة، يسترزق من زوار القبور، ويطمح أن يصير أديباً. صديقه «حسن» ليس بعيداً عن تلك المفارقات، فهو يهرِّب المسروقات، يتورَّط في قضايا أخلاقية ملتبسة، وفي لحظات أخرى نجده نبيلاً عبثيّاً. أما «عفاف»، فتمتلك ملهى ليليّاً، تستقبل فيه بائعات الهوى، هي أيضاً فنانة تشكيلية، حتى وإن بدت لوحاتها تافهة.

* استلهمت الرواية من مقولة لنجيب محفوظ، كيف ذلك؟

- قرأتُ مقالة في إحدى الصحف، يتحدَّث فيها الكاتب عن الوطن، واستوقفني اقتباس لنجيب محفوظ: «وطن المرء ليس مكان ولادته؛ لكنه المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب». ظل هذا الاقتباس يلاحقني حتى سمعتُ –مصادفة- شابّاً عشرينيّاً، يردِّد، في أحد المقاهي، عبر هاتفه، أنَّ كلَّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل. في اليوم التالي أنهى الشابُّ حياته لأسباب لم يتبيَّنها أحد. ربطتُ الاقتباس بالعبارة التي قالها الشابُّ بصوت متهدِّج، فإذ بفكرة الرواية تتشكَّل في مخيلتي.

* ما علاقتك بأدب نجيب محفوظ عموماً؟

- قرأتُ «محفوظ» في عمر مبكر. اهتممتُ بعدها بالرواية التاريخية، فاطلعتُ على أبرز ما كُتب وتُرجم في التخييل التاريخي، حتى وجدتني أتبنى ذلك النمط الأدبي كاتباً. بعد الانهيار الشامل الذي ألمَّ بلبنان، قررتُ كتابة رواية اجتماعية تتلمَّس حياة اللبنانيين وتقارب بصورة وجدانية ما آلت إليه أمورهم. توجَّستُ من الخطوة؛ لأنني كنت أهم بدخول نمط أدبيٍّ لم أختبره من قبل؛ لكنني ما إن شرعتُ بالكتابة، حتى وجدتني أكتب بأريحية، بتأثير ربما بما قرأته من روايات اجتماعية عظيمة لمحفوظ. فكَّرتُ وقتها أن تلك هي قوة الأدب، تنمو في داخل المرء دون أن يشعر بذلك.

* إلى أي حد يحق للأجيال الجديدة أن تتمرد على محفوظ وتسعى لتجاوزه؟

- لكل جيل اهتماماته وتطلعاته، والأجيال الجديدة لن تصغي لأحد، وستقرر بنفسها من أي معين تنهل، ومن أي نهر تروي عطشها الأدبي والإنساني. أنا شخصيّاً من جيل أولئك الذين تظل مدرسة محفوظ حاضرة في أعمالهم، لما تمثله من نموذج فني فذٍّ، يوغل عميقاً في النفس البشرية برغم الإطار المحلي لرواياته.

* تشكل المقابر -كفضاء درامي- مقبض فكرة أساسية في «ميكروفون كاتم صوت»، ألم تخش هذه الأجواء التي قد ينفر منها بعض القراء؟

- لم أفكر في هواجس القراء من هذه الناحية، فالظروف المحيطة بالرواية هي التي اختارت المقبرة فضاء دراميّاً. وحين قصدتُ أهلَ الشابِّ الذي أنهى حياته، بعد ترديده في المقهى، عبارة أنَّ «كلّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل»، وجدتُ منزله مطلّاً على المقبرة، في زمن يعيش فيه شعبي على حافة الموت، فلم أجد حيّزاً مكانيّاً أفضل، أعبِّر من خلاله عمَّا حل بأولئك الذين لا ينشدون سوى الهروب من وطن غدا أشبه بالمقبرة.

* يرى البعض أن الرواية تقدم وجهاً صادماً غير متوقع للبنان... هل تعمدت ذلك؟

- هي رواية عن المهمَّشين الذين يعانون من النظام اللبناني القائم على تبادل الخدمات، بين الزعيم الطائفي والنخب الاقتصادية التي تدور في فلكه. نسجت تلك النخب علاقات مالية مشبوهة مع زعماء الطوائف، ما فتئت تتسبب في هدر المال العام، وإعاقة تشريع قوانين عصرية. بالرغم من كل ما يحصل، وجه لبنان المشرق موجود؛ لكن تجاهل إرادة الشعب في ظل الزبائنية الحزبية والطائفية، يشوِّه وجه وطني المشرق ويهدِّده بالتلاشي.

* فازت الرواية بجائزة «كتارا» قبل فوزها بجائزة «نجيب محفوظ» بفترة متقاربة للغاية؛ كيف استقبلت الجدل والانتقادات التي أثارها البعض حول تلك الجزئية؟

- شرَّفتني «كتارا» بضمِّي إلى لائحة الفائزين بها، وكذلك فعلت جائزة «نجيب محفوظ» للأدب. لعلَّ ذلك يحصل للمرة الأولى، ما لفت الانتباه وأثار التساؤلات، ولكنْ حقيقة أن ذلك يمثِّل سابقة، لا يعني أن لا حقَّ للرواية في نيل جائزتين، ما دامت تلك إرادة أعضاء لجنتي التحكيم، وفي سياق عدم مخالفة شروط الترشُّح؛ لأن رواية نجيب محفوظ لا تشترط عدم فوز العمل المقدم إليها بجائزة أخرى. الأهمُّ بالنسبة إليَّ، وسط هذا الجدل، أن الجائزتين العريقتين ساهمتا في منح الرواية صوتاً قويّاً، يتردَّد صداه حالياً لدى كثير من القرّاء.

* كيف ترى جدل الجوائز الأدبية في الثقافة العربية عموماً؟

- أُدرجتْ أعمالي على قوائم الجوائز المختلفة، وفازت بأربعٍ منها، ما ساهم في إيصالها إلى نقَّاد وقرَّاء جدد، بعضهم أصبحوا أصدقاء. بهذا المعنى، خدمت الجوائزُ مشروعي، وأرى أنها تخدم غيري من الكُتَّاب، وتساهم في تعزيز المشهد الثقافي العربي. الجدل وسط الكُتَّاب حول الجوائز مردُّه اعتقاد طبيعي لدى الكاتب أن كتابه جدير بالفوز. أتفهَّم هذا الشعور، فالكتابة عمل معقَّد، تستنزف طاقة الكاتب، ما يشعره أو يوهمه بأنه بصدد نصٍّ استثنائي، ليجيء تقييم اللجان مغايراً لرغبته. في نهاية المطاف، تقييم الأعمال الأدبية يعتمد على ذائقة لجان التحكيم، ما يعقِّد النقاش حول أحقية فوز هذه الرواية أو تلك.

* هل استطاع الأدب اللبناني التعبير عما تعيشه البلاد من تحولات عنيفة اقتصادياً واجتماعياً؛ فضلاً عن اشتعال المواجهة مع إسرائيل؟

- لم يعبِّر الأدب اللبناني بما يكفي عما تعيشه البلاد من تحوُّلات، ربما لأن الحدث لا يزال قائماً. ما يحملني على الظنِّ بأن ثمة أعمالاً في طور الكتابة أو النشر. لاحظتُ أن الأدب اللبناني يدور اليوم في فلك «الديستوبيا»، أو يتمحور حول القيم العالمية المتمثلة بالنسوية. بعض الأعمال أشارت إلى انفجار المرفأ في 4 أغسطس (آب) 2020. بالنسبة إلى المواجهة مع إسرائيل، فإن الأعمال الأدبية التي تناولت هذا الصراع القائم منذ أكثر من 75 عاماً، قليلة جدّاً، إذا ما قورنت بروايات الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً، وهو أمر مستغرب.

* هل يمكن أن تشهد الثقافة اللبنانية ازدهاراً لما يسمى «أدب الحرب»؟

- ازدهر أدب الحرب الأهلية اللبنانية وسط الأدباء، كما لم يزدهر أي نمط أدبي آخر. استوقفني إصرارهم على التركيز على تلك المرحلة من تاريخنا، برغم كل الحروب والأزمات التي مررنا بها. حرب يوليو (تموز) 2006 -على سبيل المثال- لم تترك بصمة قوية في الأدب اللبناني. لذلك، من الصعوبة التكهُّن حول دور الحرب الأخيرة في المشهد الأدبي.

* ما السر وراء أعمالك المتوالية عن شرق أفريقيا؟ وهل استطعت اقتناص جوهر القارة السمراء من الداخل؟

- لم أعرف شيئاً عن تاريخ العرب في شرق أفريقيا، قبل سفري إليها منذ أقل من عقدين. شكَّل اكتشافي الإرث العربي هناك صدمة ثقافية. فعمدتُ إلى التنقُّل بين دول المنطقة التي مثَّلت إمارات عربية لقرون من الزمن. ثم مع انكبابي على قراءة الكتب والدراسات التاريخية ذات الصلة، لاحظتُ أن لا وجود لروايات عربية حول تلك الحقبة، بخلاف الاهتمام الذي أولاه الأدباء العرب للأندلس. عددتُ شرق أفريقيا أندلساً منسيّاً. كان ذلك عام 2012، حين شرعتُ بكتابة «جزر القرنفل»، وهي رواية عن زنجبار، خلال فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان، أعقبتُها بثلاث روايات عن أماكن أفريقية أخرى، نالت نصيبها من الحضور العربي. بهذا المعنى، ليست الغاية من الكتابة عن أفريقيا اقتناص جوهر القارة السمراء، بقدر ما هي مسح الغبار عن الزمن العربي المنسي هناك.

* ألم تخشَ عند كتابتك عن أفريقيا أنك لست مواطناً أفريقياً لا تعرف المجتمعات المحلية جيداً، وبالتالي يمكن أن يفتقد النص العمق المطلوب؟

- بعد عشرين عاماً من الإقامة في أفريقيا، أشعر أنني أفريقي بقدر ما أنا لبناني عربي، ومع ذلك فإنني لم أكتب عن المجتمعات المحلية؛ بل كتبتُ عن تاريخ العرب في تلك المنطقة. بمعنى آخر: لم أبتعد كثيراً عن المجتمعات العربية، وإن كان الإطار المكاني للروايات أفريقيا السمراء.

* هل لديك فلسفة معينة في اختيار عناوين رواياتك؟

- بديهياً يجب أن يعبِّر العنوان عن كُنه الرواية، ولا ألجأ لعنوان لافت لجذب اهتمام القارئ، إلا إذا وجدته يعبِّر أكثر عن روح النصِّ وجوهره. مع الشروع بكتابة أي رواية أضع عنواناً مؤقتاً، على الأقل لحفظ الملف في الكومبيوتر، ولكنْ مع مواصلة السرد، تختار الرواية عنوانها بنفسها، وتفرضه عليَّ. في رواية «ميكروفون كاتم صوت»، لم أختر العنوان حتى الصفحات الأخيرة، حين وجدتْ «عفاف» نفسها محاصرة بالظلام، تخنقها روائح النفايات، بينما المكبرات تزعق بقوة حولها، مانعة إياها من التفكير أو الصراخ. في تلك اللحظة الدرامية، اكتشفنا سرَّ الميكروفونات معاً، وانفعل كلانا لاكتشافنا المتأخر.

* كيف ترى الانتقادات التي يوجهها البعض إلى الرواية التاريخية، من أنها تعكس نوعاً من الاستسهال لدى المؤلف؛ حيث إن معظم عناصر العمل متوفرة، وبالتالي تعد «خياراً آمناً»؟

- لعلَّ العكس هو الأصحُّ. كتابة الرواية التاريخية أصعب من كتابة الرواية الاجتماعية المستقاة من أحداث معاصرة، بحيث تكون شخصياتها تجسيداً لشخصيات حقيقية ومرئية. كما أن الرواية التاريخية تعود إلى حقبة زمنية أخرى، ما يحتِّم على الكاتب البحث عنها والتمحيص فيها، فضلاً عن تكبيله بحقائق تاريخية لا يمكن التملُّص منها. وقد تغدو المهمة أكثر تعقيداً في الرواية التي تتناول شخصيات تاريخية؛ لأن حرية الكاتب تصبح محدودة للغاية في رسم تلك الشخصيات، وتحديد مساراتها.

* كيف ترى علاقتك بالأجيال السابقة في الأدب اللبناني؟ وهل ترفع شعار: أنا أديب بلا أساتذة؟

- قدَّم لبنان أديبات وأدباء كباراً، عرفتُ بعضهم شخصيّاً، ورحل بعضهم قبل أن أحظى بهذه الفرصة. من الأعمال الأدبية البارزة التي تأثرتُ بها روايات جبور الدويهي، وأمين معلوف، وحنان الشيخ... للحق، إن كان لا بدَّ من شعار أرفعه، فإنني أرفع شعاراً معاكساً لما ذكرتِه في سؤالك.