حكايات جمال الغيطاني الهائمة.. مأهولة بهاجس الموت

يرقد غائبًا عن الوعي بمستشفى الجلاء العسكري

جمال الغيطاني
جمال الغيطاني
TT

حكايات جمال الغيطاني الهائمة.. مأهولة بهاجس الموت

جمال الغيطاني
جمال الغيطاني

لم يكفّ الروائي المصري جمال الغيطاني عن إدهاش القارئ طوال مسيرته الأدبية التي بدأت منذ عام 1959، ليصبح أحد رواد الرواية التاريخية مُدخِلا على الرواية العربية أسلوبا جديدا يتمثل في صهر تقنيات تراثية وحداثية.
نستعرض هنا آخر إصداراته قبيل الوعكة الصحية التي ألمت به وتركته على أجهزة التنفس الصناعي، وهو كتاب «حكايات هائمة» الصادر عن دار نهضة مصر، الذي يتضمن مادة حكائية تضيف للمشهد السردي الحالي نصوصا تمثل جنسا أدبيا عصيا على التصنيف يمثل أحد تجلياته الأدبية التي تتماهى فيها سائر الأجناس الأدبية، وكأن الغيطاني يبرز روعة ما في جعبته بعد ارتدائه عباءة السبعين. ونرجو من الله أن يخرج من محنته الصحية حيث يرقد الكاتب الكبير غائبا عن الوعي بمستشفى الجلاء العسكري بعد توقف قلبه لعدة دقائق أدت لتعطل عمل المخ.
عبر 510 صفحة، يأخذنا الغيطاني لعالم خيالي أسطوري أشبه بالحكايات الشعبية التي كانت ترويها الجدات، متنقلا تارة عبر تذويت الكتابة وتارة عبر خطاب صوفي للنفس البشرية، كاشفا عن طريقته في إدراك الكون من حوله، من خلال كتابة تحليلية لجوهر الوجود وللمعرفة الكينونية المتجلية فيه، ومن المثير حقا أن يتكشف للقارئ تقابل سياقات الكتابة عند الغيطاني مع سياقات فلسفة هيدجر حول الكينونة والمعرفة، فهي في غيابها أو ضمورها حاضرة هنا دائما، مما أطلق عليه «ديالكتيك تجربة الكينونة» واستعادة لأصداء فلسفية متمثلة في وجودية «سارتر».
إنها كتابة لا زمنية خلقها الغيطاني لتصلح للتلقي. أدب خارج إطار البنى الاجتماعية والبنى الأدبية، يتجلى ذلك في اللغة والشكل الفني والرؤية الجمالية والتخيل، فكلما أوغلت في العمل ستشعر بدهشة كبيرة من كيفية مزج الغيطاني لمعارفه وقراءاته وخبراته الحياتية وواقع حياته اليومية مع تجليات ابن عربي الصوفية، مع تكوينات تشكيلية فنية معاصرة ترسم أمام القارئ لوحة ببعد ثالث ما بين الماضي والحاضر والمستقبل. تجعلك تتأمل هل أنت أمام مجموعة قصصية أم أنك أمام نصّ لسيرة ذاتية يمزج النثر بالشعر والزجل؟! لكنك لوهلة ستقول إن الشكل الروائي هو الشيء الوحيد في مختلف الفنون المتعارف عليها القادر على الابتكار والتجديد والإدهاش من داخله، لكنك لن تصل إلى إجابة، وستظل في حيرتك واندهاشك.
تمثل الحكايات لحظات تجريدية تتضمن نصوصًا أشبه بالقصص القصيرة المنفصلة، فيمكنك أن تقرأ «حكايات هائمة» من بدايتها أو منتصفها أو نهايتها، لكنها مرتبطة فيما بينها بـ«تيمة» تجمعها، هي تجلي الغيطاني ما بين المرويات بأسلوبه ومفرداته اللغوية. يبدأ الكتاب بكلمة استهلالية: «هذه حكايات هائمة في الذاكرة بعضها قد تكون له أصول في الواقع، إلا أنه يصعب تحديدها، وبعضها توهُّم محض، المصادر المذكورة لا أصول لها، ربما فقدت إلى الأبد، وربما لا توجد إلا في مخيلتي». فيأخذنا إلى فصل «حكايات سديمية» ومن الصفحة الأولى نلمس استراتيجية الغيطاني في الكتابة التي أصنفها «كتابة الذاكرة» ورغبته في التحرر من الشكل النمطي لأشكال الكتابة السردية المعروفة، فيأخذك في حكاية «بستان» إلى عام 630هـ، عن عالم سيمياء مغربي جاء لمصر في تلك الفترة، ويروي حكاية أخرى عن ذي النون، وأخرى عن سيد الأرضين «رمسيس الثاني»، والخليفة المستوثق بالله. ويأخذنا في الفصل الثاني إلى «حكايات الكتب» وفيها يروي حكاية الوالي التتري منجهوري الغافقي والي عشق آباد الذي كان راغبًا في الحصول على كتاب «الابستاق الجامع لحكم القدمين»، ثم ينقلنا في حكاية «أعجمي» لرواية عن ابن إياس عن زمن الناصر صلاح الدين، وفي حكاية «كتب» يتخذ الغيطاني أسلوب القص عن رجل أمضى عمره في تكوين مكتبته ولزمها عند تقاعده محاولا استعادة ما ضاع من عمره. ويأخذنا بعدها إلى مقتطفات من سيرته الذاتية وحكايته مع «كليلة ودمنة» وكتاب «الحيوان» للجاحظ حتى حكاياته مع «أحدب نوتردام» و«أرسين لوبين». وجاء الفصل الثالث أيضًا بعنوان «حكايات سديمية»، وبها مقتطفات من حكم المتصوف ابن عطاء الله السكندري وحكم ذي النون وحكم صينية قديمة. أما الفصل الرابع «حكايات ومسائل تحوتي» وفيه مرويات عن مصر القديمة وحكمة الفراعنة المخطوطة في أوراق البردي، وتأتي حكاية «مركز» التي تعكس الفكر الفلسفي للغيطاني حول مركز الكون، حيث يبوح بأفكاره وقراءاته حول تلك الفكرة مختتما إياها بمقولة الرومي: «لا تبحث عن المركز.. انظر أيها الإنسان إلى ذاتك.. أنت المركز».
أما الفصل الخامس، فحمل عنوان «سديم»، فدارت مروياته عن القصور والبيوت الأثرية والأمكنة من اليمن إلى ميونيخ. وكانت «حكايات اليمام» عنوانا للفصل السادس يروي فيه الغيطاني حبه للطيور بأنواعها، وكيف جاء ذكرها في الحضارة الفرعونية خاصة الحمام واليمام، ويتحدث عن شعور الطير بدواخل البشر ممن يقتربون منها، متطرقا لبعض الكتابات الهيروغليفية وكتاب «سجع الغمام في أخبار اليمام» للإصطخري. يدور الفصل السابع «حكايات مراكشية» حول رحلات الغيطاني في المغرب والمتصوفة المغاربة. ويجيء الفصل الثامن كما هو الخامس بعنوان «سديم» ويستهله بأشعار أبي العلاء وامرئ القيس، ويتجلى فكر الغيطاني العميق في مقاربة بين الحكم الصينية والحكم الفرعونية والأبيات الشعرية العربية، وملاحظاته وانطباعاته عن العالم من حوله في تناغم يعكس تطور الفكر البشري وتأملاته، مع الاستشهاد بآيات قرآنية وأحاديث شريفة عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وتأتي حكايات الفصل التاسع بعنوان «ثمانية» يروي فيها حكايات 8 إخوة من البر الغربي في صعيد مصر كل منهم اسمه عبود لكن يختلف كل منهم عن الآخر كما اختلفت مصائرهم. ومرة ثالثة يحمل الفصل عاشر عنوان «سديم» وفيه يتحدث الغيطاني عن نساء في حياته وعن تأملاته حول الماء وتكوينه. وتختتم الحكايات الهائمة بالفصل الحادي عشر «حكايات الأشجار» بتأملات حول النخيل يقول: «لا أعرف متى بدأ انتباهي إلى النخلة؟ مع الوقت قوي علي حضورها عندي حتى ليحفني جريدها ويمسدني سعفها ويغمرني ذرورها بالنشوة، تملس علي، أتنشقها، أصير إليها وتصير إلي فأذوق عسليتها ونضار جمارها، أسكن إليها وتصير إلي». ويختتم الفصل بمقولات صينية وفرعونية عن الأشجار وقصيدة للأبنودي «أغنية النخلة».
طعّم الغيطاني كتابه بلوحات للفنان الأميركي إدوارد هوبر (1882 - 1967) الذي ينتمي للمدرسة الواقعية الرمزية، حيث ذكر في رائعته الروائية «نوافذ النوافذ» تأثره الشديد بهذا الفنان التشكيلي، وفي حكاية «كتابان» يقول عنه: «توحدت بعالمه المعبِّر عني بدرجة ما لا يمكنني تحديدها، شخوصه وحيدة حتى وان أحاطها زحام، عرفته خلال أسفاري.. لا أرى كتابا عنه إلا وأقتنيه، يصحبني كلما تنأنأت الكرب».
ومن المؤلم حقا قراءة آخر صفحة بعنوان «تساؤلات» في حكايات الغيطاني الهائمة التي تنم عن تخوفه من المستقبل القريب، كتب فيها: «هل من هناك عندما أمضي إلى هناك؟ هل من جهة أسلكها عندما يبدأ تفرقي عني أم أهيم إلى كل صوب؟ هل من مستقر أم سأتبع كل نسمة، وتحملني كل ريح وتنقلني كل موجة إلى حيث لا أدري، هل سيعي بعضي بعضه بعضا، أوقن أن شرط الوجود الوعي وقد عشت ترحالي في دنياي أخشى من فقدي وعيي وعندما راح مضطرا لدرء ألم ناجم، لم أعرف، إذا انتقلت من مرئيات إلى عتمة، لا أعي أنها عتمة؛ فكيف يكون الحال مع التحول من طور إلى طور».
قد ينطبق على «حكايات هائمة» إجابة سارتر عن سؤال «لماذا نكتب؟»: «يختار المرء الكتابة دون غيرها، فيسجل كتابة مظاهر هربه من الحقيقة أو مواطن انتصاره؟»، ولعل الغيطاني كان يحاول عبر الحكايات أن يهرب من هاجس الموت ونهاية الطريق أن يهيم بين تلك الحكايات التي خلقها فاختار أن يختتم حكاياته الهائمة بآية قرآنية تعكس ذلك «ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت» (سورة إبراهيم: آية 17).



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!