الجريمة تفتك بالمجتمع العربي في إسرائيل

قتلى يتساقطون يومياً برصاص عصابات منظمة وسط تقاعس مريب لأجهزة «دولة خطيرة»

TT

الجريمة تفتك بالمجتمع العربي في إسرائيل

توابيت رمزية تندد بجرائم العنف في المجتمع العربي في تل أبيب 6 أغسطس (أ.ف.ب)
توابيت رمزية تندد بجرائم العنف في المجتمع العربي في تل أبيب 6 أغسطس (أ.ف.ب)

استشرت الجريمة كثيراً داخل المجتمع العربي في إسرائيل، لتزرع خوفاً ودموعاً في كل حي وبيت، وسط فشل أمني وقضائي في وضع حد لهذه الظاهرة التي بدأت قبل 5 سنوات، وبلغت خلال العام الحالي ذروتها، ويبدو أنها آخذة في التصاعد.

حتى كتابة هذه السطور، قتل 159 شخصاً منذ مطلع سنة 2023، وأصيب نحو ألف شخص بجراح، في حوادث إطلاق نار. وهذه أرقام قياسية في تاريخ هذه الشريحة من العرب، مواطني إسرائيل، البالغ عددهم 1.8 مليون نسمة. هؤلاء الذين عرفوا بأنهم الفلسطينيون الذين صمدوا في أرض الوطن سنة 1948 رغم النكبة، وخاضوا قصة كفاح مدهشة تحت الحكم الإسرائيلي، مليئة بالتحديات، فلم يتخلوا عن لغتهم أو انتمائهم أو كفاحهم، وحققوا نجاحات هائلة في العلم والتطور، وبلغوا أرفع المراتب في الطب والاقتصاد و«الهايتك» والتكنولوجيا العالية. أصيبوا في السنوات الأخيرة بنكبة داخلية قاصمة، تمثلت في انتشار الجريمة.

كل الحملات الشعبية والتحركات والمسيرات التي وصل بعضها إلى تل أبيب لم تضع حداً لهذا العنف الذي يقض مضاجع العرب في إسرائيل، ويبدو أنها فشلت في جعل المجتمع اليهودي يحس بالوجع الأليم الذي يعانيه المجتمع العربي، لينضم إلى الضغوط على حكومة بنيامين نتنياهو، حتى تتحرك وتفعِّل الشرطة للقيام بواجبها.

فما يحدث في المجتمع العربي في إسرائيل «ليس له مثيل في العالم»، حسب سليمان العمور، المدير العام لمنظمة «أجيك» في النقب. يقول: «هناك دولة قوية ذات أجهزة أمن خطيرة، تنفذ عمليات دقيقة وراء الحدود؛ لكنها لا تفكك رموز جرائم قتل تحت أنفها. وتترك جمهوراً من مليوني نسمة عرضة لانفلات منظمات الجريمة. فلا يستطيع المرء أن يخرج من بيته بشكل آمن. وحتى في ساحة البيت يمكن أن يُقتل من دون ذنب. يجب أن يتوقف هذا الإهمال، ويوضع حد لمظاهر جباية الإتاوات وتصفية الحسابات الدموية، وغيرها من مظاهر العنف والجريمة».

 

إسرائيليات من العرب واليهود يشاركن في احتجاج بتل أبيب في مارس 2021 على ضحايا الجريمة المنظمة بالمجتمع العربي (غيتي)

«الولد لا يرد على الهاتف»، تزعق الأم الفلسطينية في بيتها بالناصرة (شمال إسرائيل)، فيتكهرب الجو ويسود التوتر. وينقض كل من في البيت على هاتفه ليتصل بالابن. الأب يتصل بصديق لابنه يسأله عنه. الأخت تبكي. الجارة تخبر بأنها استمعت قبل قليل لأزيز رصاص أُطلق في الحي، فتؤجج نيران الخوف والقلق أكثر. الأخ يطلب الاتصال بالشرطة. جلبة. ضوضاء. قلق شديد. ينزل العم من الطابق العلوي يسأل: ما الخبر؟ يسأل: أين يمكن أن يكون؟ ويتطوع للذهاب للبحث عنه. العم الثاني يرش ملحاً على الجرح: «لقد حذرتكم من ممشى هذا الولد. لا يعجبني». الأخ يطلب أن يرافقه.

وفجأة، يتصل الابن بنفسه، ويعتذر لأنه كان قد وضع الهاتف على الصمت، لذلك لم يتنبه للاتصال. فيشتمه الأب وتعاتبه الأم. ويعودون إلى الحياة الطبيعية. طبيعية! لا، ليست طبيعية بحال من الأحوال. فالعائلات العربية في إسرائيل تعيش في أجواء توتر وقلق دائمين، بسبب الانتشار الفاحش للجريمة.

هذا المشهد الذي يبدو وكأنه درامي، إنما يعكس حقيقة مرة يعيشها الناس هنا في كل يوم تقريباً.

عمليات القتل لا تقتصر على الناصرة؛ بل تشمل كل مدينة وبلدة يعيش فيها عرب. ونحو 90 في المائة من القتلى والجرحى هم من الشباب، وبينهم عدة أطفال. غالبيتهم قتلوا بأيدي منظمات الإجرام؛ حيث توجد 11 منظمة كهذه حسب معطيات الشرطة، وتوجد بينها حرب عصابات يصفي بعضها بعضاً. خلال التصفيات يقع كثير من الضحايا الأبرياء. في الناصرة قتلوا زعيم عصابة وقتلوا معه ابنه الطفل ابن السنتين من العمر.

وقبل ذلك بثلاث سنوات، أطلقوا النار على مخبز، فقُتل الفنان توفيق زهر الذي جاء وحفيده لشراء الخبز. في بئر المكسور القريبة، أطلق شبان 55 رصاصة على آليات تابعة لمقاول منافس، فقتلوا طفلاً في الرابعة من عمره، كان يلعب في حديقة ألعاب مجاورة. في كفر كنا أرادو إيلام شخص، فأطلقوا الرصاص على قدميه، وقتلوا زوجته الشابة أمام عينيه وأمام طفليه. في يافة الناصرة قتلوا 5 أشخاص دفعة واحدة، ما سميت في حينها بحق: مجزرة. وفي أبو سنان نُفذت مجزرة أخرى راح ضحيتها 4 أشخاص، بينهم مرشح لرئاسة المجلس المحلي. وهناك حوادث إطلاق رصاص ينفذونها في إطار تحصيل الإتاوات، و«الخاوة»: «لا تريد أن تدفع المال فتدفع حياتك كلها».

وهناك حوادث قتل نساء بأيدي أزواجهن أو أقاربهن، على خلفية ما يسمى «شرف العائلة». يكفي أن تقرر شابة من عائلة محافظة وقرية مغلقة أن تتعلم في الجامعة وتنام في السكن الجامعي، حتى يمسوا بشرفها ويهدروا دمها. وهناك حوادث قتل تتم على خلفية الثأر والانتقام، ضمن الشجارات العائلية.

النائب العربي في «الكنيست» أحمد الطيبي مشاركاً في احتجاج ضد إهمال المجتمع العربي (أ.ف.ب)

مؤامرة حكومية

قادتهم السياسيون يعتقدون بأن هذه مؤامرة حكومية مخططة، ويقول أحدهم بألم وقلق: «السلطات الإسرائيلية حاولت طيلة 75 عاماً أن تجعل منا حطابين وسقاة ماء، فضربت جهاز التعليم، وحاربت الثقافة الوطنية، وفشلت.

ونشأ لدينا كبار الشعراء والأدباء الفلسطينيين: محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، وسالم جبران، وإميل حبيبي، ومحمد علي طه، وغيرهم كثيرون. وحاولت أن تفسخنا على أسس طائفية ما بين مسلم ومسيحي ودرزي وفشلت، وانتصرت روح التآخي. وحاولت ضرب بعضنا ببعض سياسياً، وزرعت في صفوفنا عملاء يضربون الروح الوطنية العالية وفشلت. وبعد عشرات السنين من منعنا من تشكيل أحزاب وطنية قررت إغراقنا بالأحزاب، وسمحت وشجعت قيام أحزاب قومية وإسلامية لكي تفتت صفوفنا، وفشلت. لكنها الآن تنشر في صفوفنا الجريمة، ونجحت. إنها تشجع منظمات الجريمة، وتزودها بالأسلحة والعتاد الذي تؤكد كل التحقيقات أن مصدره هو مخازن الجيش الإسرائيلي. إنهم يقولون إنهم يتيحون للعرب أن يقتل بعضهم بعضاً. إنني مصاب باليأس. فكيف غابت عنا هذه الآفة؟ كيف زرعوا فينا هذا الفيروس؟».

العامل الجماهيري محمود نصار، مدير دائرة مواجهة العنف والجريمة في اللجنة القُطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية في إسرائيل، يقول: «إذا لم يكن ذلك مخططاً مرسوماً، فلا شك في أن هناك إفلاساً في عمل الشرطة على المستوى المهني بشكل مؤكد. لكن: لماذا تنجح هذه الشرطة نفسها في مكافحة الجريمة في المجتمع اليهودي؟ لماذا تتمكن من فك رموز 75 في المائة من جرائم القتل في المجتمع اليهودي، ولا تنجح في فك أكثر من 15 في المائة من الجريمة عندنا؟ فمن جهتنا يوجد قتلة نفذوا 85 في المائة من جرائم القتل، ويتجولون أحراراً في الشوارع، والشرطة لا تضبهم ولا تحاسبهم. ومن جهتنا، توجد جريمة مستفحلة تجعل الناس يخشون من السير في الشوارع أو شراء خبز من المخبز».

عائلات ضحايا الجريمة في المجتمع العربي الإسرائيلي يرفعون صورهم خلال احتجاج على ارتفاع معدلات الجريمة 6 أغسطس (غيتي)

تقصير الشرطة

التقيتُ المفتش العام للشرطة الإسرائيلية، يعقوب شبتاي، في أحد مباني مدرسة شرطية، فنفى أن تكون هناك خطة لدى مؤسسته لنشر العنف في المجتمع العربي؛ لكنه اعترف بالتقصير. وعزا ذلك للنقص الكبير في عدد أفراد الشرطة، ولعدم تعاون المجتمع العربي مع الشرطة خلال التحقيقات. وعرض خطة لدى شرطته لمكافحة العنف والجريمة في المجتمع العربي، قائلاً إنه بدأ في تنفيذها رغم الموارد القليلة. ثم قال إن الشرطة نجحت في القيام بآلاف الأعمال والمبادرات في السنوات الخمس الأخيرة، لمحاربة الجريمة في المجتمع العربي. مثلاً: جرى القبض على 141 بندقية «ساعر» و806 مسدّسات، و223 قطعة سلاح مُرتَجلة، و50 بندقية صيد، و254 قنبلة يدويّة، و101 شحنة أسلحة تخريبيّة، وليس أقل من 46280 قطع ذخيرة وأعتدة.

وتستعرض الشرطة عشرات الحملات على أهداف ومواقع المجرمين وذوي السوابق في البلدات العربية. وتقدم الشرطة تقريراً عن 29 إحباطاً وإبطالاً لأحداث قتل منذ بداية سنة 2023، بينما في المقابل في سنة 2022 جرى إحباط 67 عملية قتل، كان قد جرى تخطيطها. لكن هذه الجهود المباركة متواضعة. ولا تقنع الناس ولا تحقق لهم الأمان. والأهم: لا تؤثر على قادة منظمات الإجرام.

لافتات تدين جرائم القتل في المجتمع العربي ببلدة يافة الناصرة (أرشيفية- رويترز)

المجرمون يهددون

قبل أيام، نُشرت في الشبكات الاجتماعية رسالة صوتية لأحد الأشخاص الذي تكلم باسم إحدى منظمات الإجرام. فاستخف بالشرطة واستخف بالمخابرات العامة (الشاباك). فقال إن هناك قائمة تضم 160 شخصاً سيجري قتلهم. وذكر أسماء بعض العائلات التي ينتمي إليها المرشحون للتصفية، وقال إن بينهم أطباء ومحامين ومهندسين. وقال: «ستتم تصفيتهم، ولا يهمنا (الشاباك) ولا الشرطة». وبعد أيام من هذه الرسالة تم قتل نجل نائب رئيس البلدية في الناصرة، مهران عوايسي، بعد أن كانوا قد قتلوا شقيقه قبل شهرين، وابن عمه قبل أسبوع.

وأوضح صاحب الرسالة أن عدداً من القتلى هم أبرياء، وليست لديهم مشكلة مع منظمات الإجرام؛ لكن لأنهم من أقرباء أناس متورطين معهم فإنهم سيقتلونهم لكي يؤلموا الخصوم. وهذا أسلوب جديد يتبعه قادة الإجرام. فيتصلون بشخص ما ويطالبونه بدفع «الخاوة»، وعندما يرفض يهددونه: «سنقتل أحسن واحد في عائلتك». في قرية طوبا الزنغرية هددوا رجلاً بأنهم سيقتلون ابنه الطبيب الشاب، فقرر أن يأخذ سيارة هذا الابن، وقال له: «سأوصلك إلى العمل بنفسي وأعود لآخذك إلى البيت بانتهاء الدوام». ولكن، عندما كان الطبيب في مناوبته في مستشفى صفد، أحضرت سيارة الإسعاف والده مصاباً، ومات بين يديه. لقد نفذوا التهديد وأطلقوا الرصاص على السيارة فمات الوالد. وفي قرية جت قتلوا طبيب أسنان.

وليس القتلى شباباً فقط؛ بل القتلة أيضاً. ويقول محمود نصار: «نحن أيضاً تقع علينا مسؤولية في عدد من حوادث الجريمة. فليس كل شيء يقع على مسؤولية الشرطة؛ لكن استسهال القتل يتم بسبب غياب الشرطة، وبسبب سياسة التمييز الحكومية. هناك دراسة أكاديمية جديدة تشير إلى أن لدينا 57 ألف شاب في سن التعليم الجامعي، لا يعملون ولا يتعلمون. سياسة التهميش والإقصاء للعرب تجعل هؤلاء الشباب بلا أمل في أي نجاح. عصابات الجريمة تعرف ذلك، وتجد سهولة بالغة في استقطابهم. تدفع لهم مالاً وفيراً لكي يقتلوا. تعطيهم سيارة فارهة، وتلبسهم ملابس أشهر الماركات العالمية، وترسلهم لارتكاب الجرائم».

محمود نصار متحدثاً عن واقع الجريمة وأسبابها (الشرق الأوسط)

جيوش العصابات

بهذه الطريقة أصبح لكل عصابة جريمة جيش من الشباب الباحثين عن الربح السهل. قسم منهم قُتلوا في هذه الحرب؛ لكن القتل لم يردعهم. وقد بدأت هذه الحالة المريعة تتخذ طابعاً سياسياً في الشهر الجاري. فنحن على عتبة انتخابات بلدية. وعصابات الإجرام تسللت إلى البلديات وبات لها نفوذ بارز، وغدت تتحكم في المناقصات للمشاريع، وتجني من ورائها أرباحاً هائلة. قبل أسبوعين أُطلق الرصاص على بيت المرشح لرئاسة بلدية الناصرة، مصعب دخان. وقبل أيام أُطلق الرصاص على المرشح لرئاسة مجلس محلي كفر ياسيف، الدكتور هلال خوري. وقد حذر خوري: «هناك من يريد تحويل الانتخابات إلى بحر من الدماء».

الحكومة الجديدة

الحكومة السابقة التي ترأسها نفتالي بنيت ويائير لبيد، وضمت في صفوفها «القائمة العربية الموحدة للحركة الإسلامية» برئاسة النائب منصور عباس، وضعت خطة لمكافحة الجريمة، وأقامت لجنة برلمانية برئاسة عباس لهذا الغرض. ووضعت نائب وزير الأمن الداخلي، اللواء السابق في الشرطة، يوآف سكلوفتش، مسؤولاً من الحكومة عن تنفيذ الخطة، ومنحته صلاحيات واسعة للتنسيق بين الوزارات. وقد نجحوا في تخفيض طفيف (16 في المائة) لنسبة الجريمة. لكن وزير الأمن الداخلي في الحكومة الجديدة، إيتمار بن غفير، قرر عدم مواصلة هذه الخطة. وقال إنه يضع خطة أخرى، وإنه سوف يجري أحاديث مفتوحة ومتواصلة مع قادة مِن المجتمع العربي، مع التركيز على أنه «لن يجري أحاديث مع قادة يؤيدون الإرهاب، أو هؤلاء الذين لا يعترفون بكوْن إسرائيل دولة ديمقراطية ويهودية». وكان الرد على هذا الكلام رفض سلطات محلية عربية اللقاء معه.

يدّعي تومر لوطن، الذي كان مديراً عاماً لوزارة الأمن الداخلي في الحكومة السابقة: «عملياً، كل العناصر والعوامل التي اعتمدناها بهدف تخفيض عدد الضحايا جرى إيقافها وإبطالها... هذا يبدو وكأن إنساناً قرّرَ قطع التيار الكهربائي عن المشروع». يقول لوطن: «وضعْنا برنامجاً وطنيّاً لمحاربة الجريمة والعنف في المجتمع العربي، يشمل 4 مركّبات وخطط: الأول: خطة هجومية لزيادة وتقوية حملة جمع الأسلحة، وإدخال عملاء إلى منظمات الجريمة، وتجنيد شُهّاد لصالح الدولة.

والثاني: خطة (المسار الآمن) التي تعني العمل المنسّق لكل مكاتب السلطات الحكومية للقضاء على المخالفين والمجرمين. والثالث: بناء قوّة لهذا، بما فيها زيادة أفراد الشرطة ومراكزها ومقرّاتها وكاميرات التصوير وما شابهها. والرابع يخص مجال القانون، وإصدار قانون لتوسيع صلاحيات التفتيش وقانون شبكات الحراسة. وهكذا كانت تجري الأمور عند سكلوفتش: عندما كنا نقرّر مثلاً الدخول إلى القرية (إكس) كان يوجد لنا فيها أربعون هدفاً أو أقل أو أكثر.

أيضاً سلطة الضريبة كانت ترافقنا، وتسأل ما الذي تفعله؟ وإذا وجد فيها مشروع ملوّث للبيئة، كان يرافقنا أشخاص مِن وزارة البيئة التي تسأل لماذا نهاجم المشروع. ونتيجة لهذا تحولت محاربة الجريمة في الوسط العربي إلى جزء مِن برنامج عمل لعدة جهات، لم تكن في السابق تنشغل بهذا الموضوع. لذا بدأ هنا العمل المشترك يترك دلائله وتأثيراته على الأرقام. كل هذا ألغاه بن غفير، بدعم كامل من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو. لا توجد الآن تغطية ودعم مِن قِبَل رئيس الحكومة، ولا يوجد مدير مسؤول عن إدارة المشروع بإمكانه تحريك الأمور أو العكس. توجد أمور جرى إيقافها وإبطالها عن قصد».

 

لذلك، لا غرابة في أن نرى أن نسبة الجريمة تضاعفت منذ بداية عمل هذه الحكومة في يناير (كانون الثاني). فإذا كانت سنة 2022 كلها قد شهدت مقتل 109 أشخاص، والسنة التي سبقتها 111 شخصاً، فإنها في الأشهر السبعة الأولى من السنة شهدت مقتل 159، وعلى هذه الوتيرة سيتخطى العدد 200 قتيل.

فما الذي سيحرك الحكومة لتغير سياستها؟ يبدو أن السبيل الوحيد الذي سيحركها هو أن تفهم أن الجريمة لن تتوقف عند المجتمع العربي، وستصل حتماً إلى المجتمع اليهودي. وقد بدأت تقترب. ففي هذه السنة ارتفعت نسبة الجريمة هناك أيضاً من 35 في سنة 2022، إلى 48 قتيلاً يهودياً في السنة الجارية. لكن هذا لا يكفي بعد لتحريك الحكومة.

وعصابات الإجرام العربية التي يعمل بعضها بشراكة مع الجريمة المنظمة في المجتمع اليهودي، بدأت توسع نشاطها نحو البلدات اليهودية. عصابة «أبو لطيف» في الجليل تعمل في كل بلدات الشمال العربية واليهودية، وقد امتد نشاطها حتى إلى وزارة الدفاع الإسرائيلية. وقد تم اعتقال عدد من قادتها بتهمة تجنيد موظفين في هذه الوزارة، لترتيب فوزهم بمناقصات لمشاريع تابعة للوزارة.

الجنرال في جيش الاحتياط، يتسحاق بريق، الذي كان عضواً في رئاسة الأركان، يعتبر عصابات الجريمة العربية تهديداً أمنياً استراتيجياً. ويقول، في مقابلة مع الموقع اليميني «ميدا»: «لدينا قيادة سياسية وأمنية تتسم بغباء رهيب. ترك منظمات الإجرام تعمل بحُرية في المجتمع العربي هو جريمة بحد ذاته. فهذه المنظمات ستكون منبعاً للإرهاب. هناك تقديرات تقول إن بين أيدي العرب في إسرائيل توجد اليوم 400 ألف قطعة سلاح.

في الحرب على غزة التي قمنا بها في شهر مايو (أيار) 2021، شهدنا مظاهرات عنيفة من العرب تضامناً مع غزة، وخلالها تم استخدام السلاح في عدة مواقع، مثل اللد والرملة ويافا وعكا، وتم قتل يهود. في الحرب القادمة سوف تتسع هذه الظاهرة أكثر. سيتحول العرب في إسرائيل إلى جبهة حربية مسلحة، إلى جانب (حزب الله) في لبنان و(حماس) و(الجهاد الإسلامي) وتنظيم حركة (فتح) في الضفة الغربية وقطاع غزة».وموشيه يعلون الذي كان رئيساً لأركان الجيش ووزيراً للدفاع، قال في تصريحات للتلفزيون الرسمي «القناة 11»: «يؤسفني أن أقول إن ما يجري اليوم هو أن الحكومة تؤمن بضرورة التخلص من العرب الجيدين، والإبقاء على عرب يصلحون للعمل حطابين وسقاة ماء. لذلك فإن محاربة الجريمة في صفوفهم تتناقض مع مخططاتها».

محمد عمر حجيرات متحدثاً عن طفله عمار الذي قُتل برصاص الجريمة (الشرق الأوسط)

قلتُ له: قم يا عمار

> قبلَ 5 سنوات، عندما جرى انتخاب خالد حجيرات رئيساً للمجلس المحلي لقرية بير المكسور في الجليل الأسفل، كان عنده حُلم مُتواضع أصر على تحقيقه: إقامة حديقة ألعاب لأطفال القرية: «عندما بدأت في ممارسة مهامي، قلت إنني أريد إعطاء الجواب للمواطنين حتى لا يذهبوا لحدائق كريات آتا أو كريات بيالك. أردت أن يكون للأولاد مكان للعب في بير المكسور قريباً مِن بيوتهم».

أعد حجيرات ميزانية للمشروع، وأرسل «تراكتور» لتسوية الأرض وفرشها بعشب اصطناعي، وأحاطها بسياج ووضع عليها ألعاباً للرياضة، كما هي الحال في الحدائق اليهودية.

لم يكن بإمكان حجيرات أن يتخيل أن مكان الألعاب هذا سيتحول إلى كابوس مروّع. قبل 3 سنوات، وصلَ الطفل ابن السنوات الأربع، عمار حجيرات، بصحبة خالته للّعب هنا. ويروي والده محمد، بصوت مُصدّع ومثلوم: «اشتريتُ له دراجة، وكان طوال الوقت يركب عليها في طريقه إلى هناك. لكن، في اللحظة نفسها وصل إلى المكان مواطن مِن الناصرة عمره 24 عاماً، هو ابن لعائلة مقاولي بناء. وكان مُسلّحاً ببارودة (إم- 16). بدأ في إطلاق زخّات مِن الرصاص على سيارة شحن كانت تقف في شارع قريب، يملكها مقاول توجد له خلافات معه. جرى إطلاق 55 رصاصة باتجاه سيارة الشحن في ضوء النهار وفي حي سكني. شقّت إحدى الرّصاصات رقبة الولد ابن الأربع سنوات».

في اليوم الذي قُتِل فيه، تسلّم محمد حجيرات فيلماً قصيراً يظهر فيه ابنه عمار وهو يلعب على مشّاية في تلك الحديقة. هذا ما يذكره حجيرات: «كان يضحك ويقول لي: يا بابا، أنا أحبك». بعد مرور نصف ساعة، مات.

محمد حجيرات هو المؤذن في مسجد القرية. كان وزوجته ينتظران ولادة عمار بعد ولادة 4 بنات. يقول حجيرات: «يوجد في بيتنا شباك باتجاه الشارع. رأيتُ فجأة مِن خلال هذا الشباك سيارة «جيب» قريبة العائلة وهي تسير بسرعة وتقف عند باب البيت. خرج أولاد مِن السيارة. عندما نظرتُ إلى وجوههم عرفتُ أن شيئاً ما قد حدث. قال لي أحدهم رأساً ووجهاً: (عمار مات). لن أنسى أبداً هذه اللحظة». يقول هذا وينفجر ببكاء مُرّ يمزّق القلب.

ويواصل: «ذهبنا إلى الحديقة ورأينا دم عمار. سافرتُ مِن هناك إلى مستشفى (رَمْبَم) في حيفا. صادفنا اختناقات سير. قلتُ لذاتي: (لن يحدث أي شيء، أنا أحبه). عندما دخلت إلى غرفته رأيت الأطباء يبكون.قلتُ لهم: لماذا تبكون؟ وضع أحدهم يده على كتفي، وقال لي بالعربية: (الله يعطيك عماراً آخر). عندها رأيتُ عماراً نائماً هناك. أحد الأطباء وضع يده على رقبته حتى لا أرى المقطع الذي هناك. عندها أخذت أمرّر أصابعي عليه وأقول له: (قُم يا عمار)... من يومها وأنا لا أحب الحياة».

 

حقائق

«لن يتوقف قتل العرب إلا إذا وصل إلى اليهود وقد بدأ يقترب»


مقالات ذات صلة

إسرائيل تحض واشنطن على ضربة مزدوجة لإيران والحوثيين

شؤون إقليمية أفراد من خدمة الإسعاف الإسرائيلي يشاهدون مكان انفجار صاروخ أطلقه الحوثيون (رويترز)

إسرائيل تحض واشنطن على ضربة مزدوجة لإيران والحوثيين

كشفت مصادر سياسية في تل أبيب عن جهود حثيثة لإقناع الإدارة الأميركية بوضع خطة لتنفيذ ضربة عسكرية واسعة ومزدوجة تستهدف الحوثيين في اليمن وإيران في الوقت ذاته.

نظير مجلي (تل أبيب)
العالم العربي شخص يفحص منزلاً متضرراً في تل أبيب بالقرب من مكان سقوط صاروخ أطلق من اليمن فجر السبت (إ.ب.أ)

إسرائيل تدرس خياراتها في الرد على الحوثيين وتبدأ برسم «صورة استخباراتية»

تدرس إسرائيل خياراتها للرد على الهجمات الحوثية المتكررة ضدها، وآخرها صاروخ سقط أدى إلى أضرار وإصابات يوم السبت، لكنها تواجه عدة مشكلات، بعدّ الجبهة بعيدة.

كفاح زبون (رام الله)
المشرق العربي من آثار الصاروخ الذي سقط في تل أبيب (رويترز)

الجيش الإسرائيلي يقول إنه اعترض مسيّرة آتية من جهة الشرق

أعلن الجيش الإسرائيلي أنه اعترض، اليوم (السبت)، طائرة مسيّرة آتية من جهة الشرق.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
تكنولوجيا شعار تطبيق «واتساب» المملوك لشركة «ميتا بلاتفورمز»  (د.ب.أ)

محكمة أميركية تدين شركة برمجيات إسرائيلية بقضية اختراق «واتساب»

أصدرت قاضية أميركية حكماً لصالح شركة «واتساب» المملوكة لشركة «ميتا بلاتفورمز» في دعوى قضائية تتهم مجموعة «إن إس أو» الإسرائيلية باستغلال ثغرة بالتطبيق.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شؤون إقليمية رجال الطوارئ الإسرائيليون يتفقدون حفرة في الموقع الذي سقط فيه مقذوف أطلق من اليمن في تل أبيب في وقت مبكر من اليوم السبت (أ.ف.ب)

إصابة 16 شخصاً في سقوط صاروخ وسط تل أبيب... و«الحوثي» يتبنى الهجوم

أعلن الجيش الإسرائيلي، اليوم (السبت)، أن صاروخاً أطلِق من اليمن أصاب الأراضي الإسرائيلية قرب تل أبيب بعد فشل محاولات اعتراضه.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
TT

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)

بين مجاعة وشيكة، وفقر مدقع، وأمراض لا تذر كبيراً ولا صغيراً، يقع سكان قطاع غزة محاصرين بين ثالوث شر لا يرحم، وقوات عسكرية لا تملك أي إنسانية.

وبعد نحو 14 شهراً من المأساة، يرى شهود عيان أن مَن مات في القطاع استراح، أما من عاش، فهو يحيا تجربة الاقتراب من الموت كل لحظة؛ سواء من القصف، أو من الجوع والمرض والفقر. تحدثت «الشرق الأوسط» إلى كثير من أهالي القطاع المحاصر والنازحين والمسؤولين الأمميين للوقوف على واقعهم اليوم.

يتذكر محمد، وهو اسم مستعار طلب محدِّثنا استخدامه، كأغلب النازحين الذين فضلوا عدم تعريفهم خشية تعرضهم لمشكلات، أيامه قبل الخروج هرباً من القطاع في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فيقول: «كنا نسمع في أجواء الحي القصف ليلاً، وصفير القذائف المتوالية بينما تسقط قبل انفجارها، لنجلس طوال الليل نحاول أن نعرف أين سقطت ومن مات... ثم نصحو لنخرج جميعاً إلى الشوارع من أجل معرفة الحقيقة، وعزاء أسر الضحايا، وتهنئة من لا يزال حياً».

وبدوره يروي إياد، لـ«الشرق الأوسط»، معاناة عائلته في غزة بعدما اضطر لتركهم خلفه، فيقول باكياً: «تحدث معي إخوتي وقالوا لي، لديك فرصة للخروج من غزة إلى مصر، اذهب ولا تقلق علينا ولا على أمك وأخواتك البنات، فالبقاء هنا لن يعني إلا أن نموت جميعاً. على الأقل يمكنك من هناك إرسال بعض المال لإعانتنا، أو حتى تقدر أن تسحبنا خلفك إلى مصر... وعلى الأسوأ، إذا متنا نجد أحداً يدفننا».

الهروب إلى الأمام

الدكتور محمد أبو دوابة، محاضر أكاديمي في الجامعات الفلسطينية وباحث في المجال النفسي والاجتماعي، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن وجهة نظره في ما يعانيه سكان غزة كأكاديمي عاصر جزءاً كبيراً من الأحداث على الأرض، وقال: «العوامل في قطاع غزة متداخلة، ولا يمكن الفصل بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحلول المتاحة أصبحت لا تكفي لمشكلات الناس. وفي علم الاجتماع، عندما تكون هناك مشكلة وأنت في وسطها وتتحرك معها، فتراها من منظور... لكن إذا خرجت خارج الصندوق، تجد حالك تراها وأنت ثابت بشكل مختلف تماماً، وتشعر بالمعاناة التي يعانيها أهل غزة».

ظاهرة أخرى غريبة رصدها أبو دوابة وقال إنه يحاول دراستها، فقد لاحظ أن أهالي غزة ممن لديهم أولاد أو بنات صاروا يُقبلون على تزويج أبنائهم بكثافة، لا من أجل الفرح –«وهو إحساس قُتل عند الجميع»- حسب تعبيره؛ بل كنوع من أنواع تخفيف المسؤولية. فأهل البنت يريدون أن تدخل تحت غطاء الحماية الاجتماعية لزوجها، وأهل الولد يريدون أن يستقل عنهم.

ويتابع أبو دوابة: «لم يعد الزواج يمارَس بوصفه امتداداً ونواة للمجتمع لبناء الأسر، لكن هنا صار الوضع كله هروباً من الظروف الاقتصادية وتخفيف الأعباء على الأسر، فالوضع الاقتصادي ضرب نسيج المجتمع في مقتل. وفي العالم كله كلمة زواج تعني الفرح والسعادة والمستقبل والخلفة، فيما أهل غزة لا تمكنهم إقامة أفراح، ففي كل عائلة أكثر من شهيد وحالات ممتدة من الحداد، والفقر يحاصرهم من كل جانب».

أبرز القطاعات المتضررة في غزة (الشرق الأوسط)

ولادة تحت القصف

تجربة أخرى مريرة ترويها عزة، التي تقول إنها كانت في شهور الحمل الأخيرة وكان من المقرر أن تسافر مع زوجها قبل اشتعال الأزمة، لكن كل شيء تغير بعد بدئها.

تروي عزة: «تجربة آخر شهرين في الحمل كانت صعبة جداً في الحرب بسبب عدم توفر الغذاء الصحي للحامل وعدم وجود غاز الطهي، وأغلب الوقت شغالين على نار الحطب، وطبعا دخان كثير وكنت خايفة جداً على الجنين من دخان النار... والأكل اللي كان متوفر إما مكرونة أو عدس، ولو عاوزين حاجه دافية في البرد نشرب شاي من دون سكر».

وتواصل عزة شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «وقت الولادة كان الاتصال مقطوعاً عن غزه كلها، ما فينا نكلّم الإسعاف لو صار وجع ولادة، وحتى سيارات الإسعاف كانت تُستهدف كثيراً... ولا فينا نطلع بالسيارة لأنه لا يوجد بنزين. وأي شخص عنده سيارة ومتوفر فيها بنزين كان يخاف يطلع ويخاطر بحياته لأنه بيتم قصف السيارات المدنية. وقتها بيتي كان بعيداً عن المستشفى وكان أفضل حل أروح بيت أهلي القريب نوعاً ما للمستشفى».

لكن لسوء الحظ تم إبلاغ المربع الذي يسكن فيه أهل عزة بالإخلاء، لأن الجيش الإسرائيلي سيتدخل برياً، فنزحت هي وأهلها مجدداً إلى بيتها. ومن شدة الرعب، لم تداهمها آلام الولادة، فذهبت إلى المستشفى للكشف، ليكتشفوا أن حالة الجنين ليست مطمئنة، فحجزوها 3 أيام لحين الولادة.

تقول عزة: «خلال هذه الأيام الثلاثة لم يكن هناك من غذاء سوى الحلاوة التي تدخل من خلال المساعدات. وضُرب المستشفى بقذيفة دبابة، لكنّ الله سلَّم. وعُدتُ إلى البيت لأجد أمراً آخر بالإخلاء، لم يكن أمامنا من خيار سوى الذهاب إلى المخيمات بابنتي حديثة الولادة... حيث البرد القارس، والأمطار تبلل كل شيء داخل الخيمة. ولا طعام إلا وجبة واحدة مكونة من نصف رغيف خبز، ومياه الشرب قليلة ولا يحبذ الشرب بعد الساعة السادسة مساءً لأنه غير مسموح بمغادرة الخيمة للحمامات مساءً... كل هذا أدى في النهاية لعدم تمكني من إرضاع طفلتي بشكل طبيعي، واضطررت لاستخدام الحليب الصناعي، الذي كنت أشك في صلاحيته بالأساس لكونه يباع في الشارع؛ لكن لم يكن أمامي أي خيارات».

أما بالنسبة للملابس، فتقول عزة إن سكان القطاع يتعاونون في توفير ملابس الأطفال المستعملة بعضهم لبعض، فيما كانت تضطر لإبقاء على حفاظة ابنتها لأكثر من 10 ساعات كونها غير متوافرة. وتضيف: «أساساً موضوع الصحة آخر ما يمكن أن تفكر فيه في المخيمات... الاستحمام متاح مرة كل أسبوعين، وغسيل الملابس باليد على شاطئ البحر، وطبعاً شيء مثل الفوط الصحية النسائية تَرَفٌ غير موجود من الأساس».

نساء بطلات و«قلة حيلة»

وضع النساء -بصورة خاصة- المأساوي، دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إلى الدكتور معز دريد، المدير الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، الذي أوضح وجود أكثر من 155 ألف امرأة حامل أو مرضع داخل قطاع غزة حالياً، أغلبهن لا يجدن رعاية كافية بما يؤدي إلى تفاقم خطورة الأوضاع الصحية، وبينما تحاول الهيئات الأممية بكل السبل إيجاد وسائل لدعمهن ودعم غيرهن، إلا أنها تقف «قليلة الحيلة» في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات، خصوصاً بعد حظر «أونروا» من ممارسة دورها، والتي كانت تعد العمود الفقري الأساسي للمؤسسات الأممية كافة داخل القطاع، ودورها بلا بديل ولا يعوَّض.

سيدة فلسطينية تُطعم طفلها وسط الأنقاض في منطقة نهر البارد جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

وقال دريد: «الوضع كارثي، وعدد القتلى في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يناهز حالياً 45 ألف شخص، وهذا يعادل 6 أضعاف عدد القتلى خلال مجمل الأعوام الـ15 التي سبقت الأحداث الحالية. كما أن التركيبة الديمغرافية لهؤلاء الضحايا شهدت تغيراً فارقاً، إذ إن 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، بعكس كل الأحداث والأعوام الماضية، مما يؤكد زيادة الاستهداف الأعمى للسكان دون التفرقة بين المدنيين وغيرهم... وهذا المعدل يساوي قتل ما يناهز 3 من السيدات والأطفال في كل ساعة يومياً منذ بداية الحرب!».

وأكد دريد أن بعض الأسر نزحت أكثر من 10 مرات من أجل الهرب من الضربات، ولا يوجد مكان آمن في غزة، والخدمات غير متوفرة، والأوضاع في غاية السوء.

وحول المساعدات التي تقدمها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في غزة، أوضح دريد أنها قدمت مساعدات غذائية ونقدية لنحو 75 ألف امرأة وأسرهن، «من بينهن 14 ألف امرأة مسؤولات بالكامل عن أسرهن نظراً لغياب أي عائل لأسباب الوفاة أو الاعتقال أو خلافه، إضافة إلى برامج الدعم النفسي والاجتماعي. كما تتعاون الهيئة مع منظمات فلسطينية في غزة تقودها النساء، واللاتي نثمن ونقدر دورهن وصمودهن في ظل الأوضاع والصعاب الحالية».

وأفاد دريد بأن المساعدات التي تصل إلى مستحقيها شحيحة جداً، ليس بسبب قلة التمويل أو تقاعس مقدمي الدعم، ولكن بسبب العوائق التي تفرضها قوى الاحتلال، وغياب القدرة على تأمين هذه المساعدات القليلة التي تعبر إلى داخل القطاع، وهو أيضاً ما يقع تحت مسؤولية قوة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي.

وبعد نحو 14 شهراً من الحرب، يؤكد دريد أنه مع مستويات الفقر والبطالة والدمار الهائلة في غزة، ومع فقدان العائل الأساسي لنحو 8 آلاف من الأسر، تشير التحليلات إلى أن النساء فقدن روافد الدخل ومصادر الرزق بشكل فائق... ومع توحش التضخم، أصبحت حالة هؤلاء النساء مأساوية.

تجريف وجوع

وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي القطاع، حاولت بعض القرى أن تلجأ إلى زراعة احتياجاتها الغذائية، بل نجح أهالي جباليا وبيت لاهيا، على سبيل المثال، في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي زراعياً... لكنَّ القوات الإسرائيلية اجتاحت الأراضي ودمرت البنية التحتية عمداً، بما يشمل الأراضي وقنوات الري وحتى مزارع الإنتاج الحيواني والسمكي، وذلك تحت ستار البحث عن الأسلحة والأنفاق، حسب شهادات شهود عيان وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط»، إلى جانب فرض قيود على دخول البذور والأسمدة إلى القطاع.

رجل يختبئ خلف عمود فيما ينتشر الدخان والغبار نتيجة انفجار خلال غارة إسرائيلية استهدفت مدرسة في غزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش إحدى الفاعليات الخاصة التي حضرتها «الشرق الأوسط» في القاهرة، قال عبد الحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، إن «التحدي الأكبر للمنطقة العربية بشكل عام فيما يخص الأمن الغذائي هو الحروب والنزاعات، وخلال النزاعات المطولة والممتدة مثل الوضع في غزة، يوجد أثر كبير على قطاع الزراعة والغذاء».

وأضاف الواعر أن «ذلك يعود إلى عدة عوامل، أولها هجران الناس والمزارعين أراضيهم، مما يتسبب في خلل المنظومة الزراعية، خصوصاً أنهم في حالة نزوح دائم من منطقة إلى أخرى. وذلك بالإضافة إلى الدمار المباشر لهذه الأراضي، فقد جرى تدمير نحو 70 في المائة من الأراضي الزراعية في غزة، سواء بالضرب المباشر خلال العمليات العسكرية أو عبر التجريف، وتأثراً بحركة الآليات الثقيلة... كما نضبت الثروة السمكية تقريباً داخل القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والثروة الداجنة انتهت بالكامل لأنه لا توجد إمدادات، وبقي جزء قليل جداً من الثروة الحيوانية، الذي نحاول كمؤسسات دولية دعمه بالمدخلات الضرورية مثل العلف والتحصينات والمغذيات. وبالإضافة إلى ذلك لا توجد مصادر مياه أو غذاء آمنة ونظيفة ولا كافية، والمساعدات الغذائية شبه متوقفة».

وأكد الواعر أن «كل سكان» غزة أصبحوا للمرة الأولى يقعون تحت خطر التهديد بالجوع، حيث إنهم إمَّا يقعون في الفئة الخامسة (المجاعة) أو الرابعة (الكارثة)، وهي الفئة التي لا يتحصل فيها الإنسان على وجبة واحدة يومياً بصفة منتظمة.

مكان غير صالح للحياة

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فلم يكفِ سكان قطاع غزة كل ما يمرون به، ليُنكَبوا بوقف إسرائيل دخول المساعدات الشحيحة بالأساس.

وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كثيرة، ومن أصل 423 حركة مساعدات إنسانية تم التنسيق لها مع السلطات الإسرائيلية في الفترة من الأول إلى 20 أكتوبر الماضي، تم تسهيل 151 حركة فقط، ورُفضت 189، وعطلت البقية. وفيما يتعلق بحركة وصول المساعدات إلى شمال القطاع، قال المكتب الأممي إنه تم تسهيل 4 حركات فقط من أصل 66 حركة مخططاً لها في ذات الفترة.

التأثير الاقتصادي والشرائح التي شملها هامش الفقر (الشرق الأوسط)

من جانبه، أكد عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن هناك تراجعاً بالغاً في مستويات الأمن الغذائي في قطاع غزة، وأن الوضع في الجنوب «على أبواب مجاعة حقيقية»، فيما دخل الشمال مجاعة فعلية، ودخلت المنظومة الصحية بشكل عام مرحلة الانهيار. وأشار إلى تكرار رفض طلبات دخول المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع من جانب الحكومة الإسرائيلية. وضرب مثالاً بأن الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) شهد مرور 37 شاحنة يومياً فقط، من بينها شاحنات مياه وأدوية وخيام، وذلك لخدمة 2.3 مليون ساكن للقطاع.

ولفت المسؤول الأممي، خلال «مائدة مستديرة» حضرتها «الشرق الأوسط» بمكتب الأمم المتحدة في القاهرة، إلى نقطة أخرى مهمة تؤكد معاناة سكان القطاع، إذ إن مئات الآلاف من السكان صاروا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية نتيجة ما يمرون به من مأساة، حيث قدمت «أونروا» أكثر من 800 ألف استشارة نفسية في غزة خلال الفترة الماضية. كما حذر من أن المياه في غزة غير صالحة للشرب على الإطلاق، وكل المياه ملوثة ولا يمكن تنقيتها بعد تدمير منظومة الصرف الصحي تماماً.

حصار من كل الجوانب

وتشير أحدث تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، والصادرة في شهر نوفمبر إلى أن مستوى الفقر في دولة فلسطين بشكل عام قفز إلى 74.3 في المائة في عام 2024، مؤثراً على أكثر من 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون يدخلون تحت هذا الخط للمرة الأولى. فيما تشير التقديرات إلى قفزة متوقعة لما يُعرف باسم «مؤشر الفقر متعدد الأبعاد» -الذي يقيس الفقر وفقاً لعدد من الأبعاد مثل مستوى المعيشة والوصول إلى الخدمات وغيرها- من 10.2 في المائة (وفقاً لقياسات عام 2017) إلى 30.1 في المائة في عام 2024... وكل ذلك بالتزامن مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1 في المائة مقارنةً بسيناريو عدم وجود حرب، وارتفاع البطالة إلى 49.9 في المائة (التقديرات الحالية من أغلب المسؤولين -وفي ظل غياب أرقام دقيقة- تشير إلى مستويات بطالة تفوق 85 في المائة من السكان).

فلسطينيون يجلسون وسط الأنقاض في موقع غارة إسرائيلية على منزل بالنصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

مؤشر خطير آخر تشير إليه البيانات، مع تدهور مؤشر التنمية البشرية في فلسطين إلى مستوى 0.643 نقطة فقط، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق منذ بداية تسجيل البيانات في عام 2004، فيما هوى المؤشر في قطاع غزة تحديداً إلى 0.408 نقطة، ماحياً كل ما اكتسبه على مدار أكثر من 20 عاماً.

كما تشير «إسكوا» إلى أن عدد الإصابات في غزة تخطى 102 ألف شخص، فيما تخطى عدد القتلى 43 ألف شخص، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 7 آلاف امرأة.

تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير أيضاً إلى أن هناك نحو 1.9 مليون نازح داخلياً في قطاع غزة بما يمثل 90 في المائة من مجمل السكان البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، خصوصاً أن نحو 87 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع إما دُمِّرت وإما تضررت بشدة. وأن من بين هؤلاء السكان أكثر من 345 ألف في حالة مجاعة شديدة (المرحلة الخامسة)؛ و876 ألفاً في حالة خطرة (المرحلة الرابعة)، فيما يواجه 91 في المائة من السكان ظروفاً غذائية غاية في السوء تضعهم في المرحلة الثالثة على مقياس الأزمة الغذائية.

دمار البشر والحجر

وتوضح تقديرات تقارير «أوتشا» أن نحو 68 في المائة من الأراضي الزراعية في القطاع قد تم تدميرها، وكذلك 52 في المائة من الآبار الزراعية، و44 في المائة من المشاتل أو الصوب الزراعية، و70 في المائة من أسطول الصيد. وتابعت أن 95 في المائة من الماشية أيضاً ماتت، نتيجة إمّا القصف وإمّا عدم الرعاية وإمّا الاستهلاك من دون قدرة على الإحلال.

وتشير بيانات دولية أخرى إلى أن نحو 80 في المائة من المرافق التجارية في قطاع غزة، و68 في المائة من شبكة الطرق فيها دُمِّرت، وفقاً للحسابات والتقديرات حتى صيف العام الجاري. كما أن أكثر من 650 ألف طالب لا يحصلون على تعليم مستدام، خصوصاً مع احتياج أكثر من 87 في المائة من المباني في مدارس قطاع غزة لإعادة بناء.

أطفال فلسطينيون يجري إجلاؤهم من موقع تعرَّض لقصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ.ب)

وفي أبريل (نيسان) الماضي، أصدر البنك الدولي تقريراً بالاشتراك مع الأمم المتحدة، يقدِّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة في ثلاثة أشهر (من بداية الحرب حتى يناير «كانون الثاني» الماضي فقط) بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.

كما أشار التقرير إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. ومع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، أصبح إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان صعباً للغاية.

ويؤكد التقرير أن «الدمار خَلَّفَ كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها»، أما على المستوى الإنساني، فقال: «تعرضت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة للقدر الأكبر من الآثار التراكمية الكارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية، مع توقع أن يواجه الأطفال الأصغر سناً عواقبَ سوف تؤثر على نموهم وتطورهم طوال حياتهم».

وأفاد التقرير بأنه مع تضرر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقي منها، لا يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة. وتعرَّض نظام المياه والصرف الصحي تقريباً للانهيار، وأصبح لا يوفر سوى أقل من 5 في المائة من خدماته السابقة، مما دفع السكان إلى الاعتماد على حصص مياه قليلة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نظام التعليم فقد انهار، حيث أصبح 100 في المائة من الأطفال خارج المدارس النظامية.

وفيما يخص الحالة الصحية والغذائية في القطاع، أشارت التقارير الأممية إلى أن 96 في المائة من الأطفال في عمر 6 إلى 23 شهراً، والنساء، لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من العناصر الغذائية الكافية نتيجة النقص الحاد في التنوع الغذائي. مقدرةً أن نحو 50 ألف طفل من أبناء القطاع يحتاجون إلى علاج لسوء التغذية خلال العام الجاري.

وفيما يخص وضع القطاع الطبي، تشير الإحصاءات إلى أن 19 مستشفى (من بين مجموع 36 مستشفى) خرجت عن العمل، فيما تعمل الـ17 مستشفى الباقية بصورة جزئية؛ إما نتيجة تضرر بنيتها التحتية، وإما نتيجة الافتقار إلى المعدات والأدوات الأساسية وإما نتيجة نقص في طواقم العمل الطبية... ونتيجة لذلك، فإن نحو 14 ألف مريض في حالات متباينة يحتاجون للإخلاء الطبي خارج القطاع من أجل إنقاذ حياتهم.

آلام مضاعَفة

الأوضاع الصحية السيئة التي يشير إليها الجميع داخل قطاع غزة، وسط بنية تحتية تعاني من دمار هائل، جعلت «الشرق الأوسط» تسأل منظمة «أطباء بلا حدود» حول الوضع هناك، وهل تمارس المنظمة عملها بشكل طبيعي؟

الدكتور أحمد أبو وردة، مدير الأنشطة الطبية في مستشفى ناصر بخان يونس، أجاب قائلاً: «بالطبع لا، نحاول في (أطباء بلا حدود) بذل كل ما بوسعنا لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى والمصابين بالوضع الحالي؛ لكن الكل يعلم صعوبة دخول المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية منذ إغلاق معبر رفح».

ويشير أبو وردة إلى أنه لا يوجد حالياً سوى نحو 1000 موظف في كل أفرع المنظمة في قطاع غزة، مؤكداً أن «الحاجة كبيرة جداً وهناك فجوات في بعض التخصصات حتى اليوم».

ومع استهداف المستشفيات، فإن عدد الأسرّة المتاحة للمرضى صارت محدودة للغاية، ويتم التعامل مع الحالات حسب الأولوية الصحية، حسب أبو وردة، الذي يوضح أن أعداد الحالات من ذوي الأمراض المزمنة، خصوصاً داخل المخيمات صارت «مهولة»، حيث إن «معظم سكان القطاع متكدسون في منطقة صغيرة للغاية بظروف بيئية وصحية سيئة للغاية، ويتردد يومياً على عيادات الرعاية الأولية آلاف المرضى من ضمنهم الأمراض المزمنة، وفي ظل الوضع الحالي الكثير من أدويتهم غير متوفرة».

تجويع ممنهَج وفساد

شاهِد آخر من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم وسام، قال: «بدأت الحرب في أكتوبر، وكانت بالتوازي معها هناك حرب اقتصادية تمثلت في جميع مناحي الحياة لأول مرة في تاريخ المعارك العسكرية ضد الفلسطينيين... من قطع جميع أواصر الحياة والضرب العنيف على كل أوتار الاقتصاد؛ يعني آلة القتل الإسرائيلية تطول الناس من ناحية، ومن الأخرى تقطع الكهرباء ليتم دفع الصناعة بالكامل إلى الشلل وتوقف التجارة بالكامل بعد إغلاق المعابر ليصبح هناك نقص حاد في الموارد السلعية».

وسام، الذي يعمل بأحد المراكز الحكومية ذات الصلة بالتجارة، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الوضع صار خطيراً بالفعل حالياً، لأن المخزون السلعي الاستراتيجي انخفض بشكل حاد، ليصبح لا يكاد يكفي 72 ساعة إثر الإغلاق الكامل للمعابر وقطع الإمدادات. ويتابع وسام: «فيما يخص الغاز مثلاً، فقد أصبح يدخل القطاع بشكل متقطع. والاعتماد حالياً على ما يدخل بشكل مباشر لأن الخزانات أصبحت بلا قيمة، فما يدخل ينفد في ذات اللحظة».

أطفال يحملون أواني معدنية ويتزاحمون للحصول على الطعام من مطبخ يتبع الأعمال الخيرية في خان يونس بقطاع غزة (إ.ب.أ)

أيضاً هناك أزمة أخرى، فالمواد السلعية التي تمر ليست منتظمة ولا منسَّقة، وعن ذلك يقول: «ما بيعطوك كامل المواد من احتياجاتك مرة واحدة... اليوم ممكن يمر منظفات وشغلات ثانوية ويقطعوا عنك اللحم والأرز والمواد الأساسية، عشنا آخر 10 أيام على هذه الشاكلة. بتلاقي أيام تانية نزلّك لحم ودجاج لكن بشكل أقل من الكميات المطلوبة، وبيصير سعرها عالي طبعاً. وهذا شكل مقنن لقطع المصادر الغذائية الأساسية وتوصيل الناس إلى مراحل كبيرة من سوء التغذية، وبتلاقي الناس كلها هزيلة وتعبانة لأنهم ما بيحصلوا على وجبة كاملة... لازم يكون في نقص في شيء».

فساد داخلي؟

لم يكن وسام وحده الذي يشير إلى الفساد، ورغم أن الكل يُدين الطرف الإسرائيلي سواء في المجازر أم الحصار والتجويع لسكان قطاع غزة، إضافةً إلى مسؤولية دولة الاحتلال عن توصيل المساعدات وفقاً للقانون الدولي، فإن كثيراً من قاطني القطاع والهاربين منه يُدينون الإدارة المحلية في قطاع غزة بأنها جزء من الأزمة، سواء بالضلوع في استغلال الوضع، أو السكوت عن الفساد.

وأشار عدد كبير ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إلى أن الإدارة المحلية تسيطر على توزيع المساعدات الأممية، لكنَّ الفساد يتسلل إلى جانب من هذه المنظومة حيث تكثر السرقات للمستودعات، إضافةً إلى فرض ضرائب باهظة و«إتاوات» على مرور أي بضائع داخل القطاع... وكل ذلك أدى إلى حالة شح شديدة بالأسواق، وتضخم متوحش كسر ظهور سكان قطاع غزة.

ويرى خبير اقتصادي من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم الدكتور وليد، أن «حماس» تسيطر على السيولة النقدية داخل القطاع، حيث أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن حجم الأموال التي جمعتها «حماس» خلال عام من الحرب تتجاوز 750 مليون دولار، من بيع المساعدات عدا عن الضرائب التي جمعتها، بالإضافة إلى السيولة النقدية التي قامت ببيعها. علماً أن الحركة سيطرت على خزانة بنك فلسطين المحدود التي كانت تحتوي على ما يقرب من 140 مليون دولار في بداية الحرب، حسب مصادر محلية ودولية.

آفاق مالية غائمة

وفيما يخص القطاع المالي في غزة إثر كل هذه التحديات العنيفة، تبلغ قيمة محفظة البنوك في غزة نحو مليار دولار، وتبلغ قيمة قطاع التمويل الأصغر في المنطقة نحو 54 مليون دولار، حسب تقارير الأمم المتحدة.

ونفّذت سلطة النقد الفلسطينية وقفاً مؤقتاً للقروض حتى سبتمبر (أيلول) 2024، على الرغم من أن التأثير على كفاية رأس المال والسيولة كان كبيراً. وتقدَّر الخسائر المباشرة التي تكبَّدتها مرافق القطاع المالي في غزة بأكثر من 14 مليون دولار، بالإضافة إلى التأثير الإجمالي للظروف الاقتصادية المتدهورة على المحفظة المصرفية.

فلسطينيون يلتقطون رزم مساعدات أُلقيت من الجو على شمال غزة (أرشيفية - أ.ف.ب)

وهناك أيضاً مخاوف بشأن استعادة السيولة النقدية المتاحة في غزة قبل الحرب. وتؤكد التقارير أنه «لمعالجة نقص السيولة، قدمت سلطة النقد الفلسطينية بعض المساعدات، لكن مشكلات السيولة والوصول إلى الخدمات المالية لا تزال قائمة. ويظل انكشاف النظام المصرفي على القطاع العام مرتفعاً، حيث تجاوز مستوى 2.5 مليار دولار في يوليو (تموز) 2024. وتشير النسبة المتزايدة من الشيكات المرتجعة -التي تصل إلى 9 في المائة من قيمة جميع الشيكات في الربع الأول من عام 2024، حتى 25 في المائة في بعض الحالات- إلى ملف مخاطر مالية كلية متنامٍ».

وفي تقرير للبنك الدولي، صدر في مايو (أيار)، أكد أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الأخيرة قبل صدوره، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وأشار إلى «نضوب تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي. وتؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع بسرعة بين حجم الإيرادات والمصروفات لتمويل الحد الأدنى من الإنفاق العام إلى أزمة في المالية العامة».

وأوضح التقرير أنه في نهاية عام 2023، وصلت الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، وأنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الفجوة خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1.2 مليار دولار. وأفاد بأن زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخرات المستحقة للموظفين العموميين والموردين هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية.

وفقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وختم التقرير بعبارة: «ومع ضبابية المشهد وعدم اليقين بشأن آفاق عام 2024، من المتوقع حدوث انكماش اقتصادي آخر يتراوح بين 6.5 و9.6 في المائة».

7 عقود ضائعة

وفي تقديرات أخرى لـ«إسكوا»، فإنه في حال دخول الاقتصاد الفلسطيني إلى السيناريو الأسوأ مع عدم التعافي المبكر من آثار الحرب، واستمرار التضييق الإسرائيلي على السكان وبقاء مستوى المساعدات على وضعها الحالي، فإنه من المتوقع تهاوي الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20.1 في المائة في 2025، وصولاً إلى 34 في المائة في 2034، مقارنةً بأوضاع ما قبل الحرب.

في تقرير آخر صادم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، صدر في أكتوبر الماضي بمناسبة مرور عام على حرب غزة، أكد أن «آثار الحرب أدت إلى تراجع التنمية في غزة بما يناهز 69 عاماً»، وأنه «دون رفع القيود الاقتصادية، وتمكين جهود التعافي، والاستثمار في التنمية، لن يقدر الاقتصاد الفلسطيني على استعادة مستويات ما قبل الحرب والتقدم للأمام بالاعتماد على تدفق المساعدات الإنسانية وحدها».

مقتل أكثر من 10 أشخاص إثر قصف إسرائيلي على منزل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

ويشير التقييم إلى أن خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034 -ولكنَّ هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة.

وقال أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «تؤكد التوقعات الواردة في هذا التقييم الجديد أنه في قلب المعاناة الإنسانية والخسائر الفادحة في الأرواح، تَلوح في الأفق إرهاصات أزمة إنمائية خطيرة تُعرِّض مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة للخطر». وأضاف: «يشير التقييم إلى أنه حتى لو تم تقديم المساعدات الإنسانية كل عام، فإن الاقتصاد قد لا يستعيد مستوى ما قبل الأزمة لمدة عقد أو أكثر. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى استراتيجية قوية للإنعاش المبكر يتم تنفيذها حالما تسمح الظروف على الأرض، كجزء لا يتجزأ من مرحلة المساعدة الإنسانية، من أجل إرساء الأسس للتعافي المستدام».

معركة الصبر والصمود

وحول الوضع النفسي حالياً لسكان غزة، يقول الدكتور محمد أبو دوابة: «المعروف عن الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود، لا أتحدث عن المقاومة العسكرية، بل على مقاومة الظروف الصعبة... فهل ما وصلنا إليه يعد حالة يأس؟ في رأيي -وبعد عام كامل من الأزمة وظروف يمكن أن تضرب هذه الروح في مقتل- إننا بشر نُبدع في (آليات الصبر واستراتيجيات الصمود)».

وحول تجربته الشخصية، يقول أبو دوابة: «في بداية الأزمة، عملت متطوعاً في مستشفى الأقصى متخصصاً نفسياً... لكن كم كانت المهمة صعبة جداً، مثلاً ماذا يمكن أن نقول لشخص كل عائلته استُشهدت؟ وكان لي منذ سنوات ورقة بحثية في مؤتمر حول الصحة النفسية، أتكلم فيها عن (اضطرابات ما بعد الصدمة)، وأن ما يحدث في غزة هو صدمة مستمرة (Ongoing trauma) وليست صدمة عبرت بالفعل... ولكن هذه المرة فإن طول أمد هذه الصدمة المستمرة يجعلنا نشعر أن الناس بدأوا يصرخون بأنهم بشر وليسوا صامدين أو ناجين، فالناجي من الموت في غزة شخص يموت من الصدمة أكثر من 100 مرة في اليوم».