الروس يبحثون عن مصادر خارجية للمعلومات

وسط عودة الروح «السوفياتية» إلى خطاب موسكو الإعلامي

ماريا زخاروفا (وزارة الخارجية الروسية - إكس)
ماريا زخاروفا (وزارة الخارجية الروسية - إكس)
TT

الروس يبحثون عن مصادر خارجية للمعلومات

ماريا زخاروفا (وزارة الخارجية الروسية - إكس)
ماريا زخاروفا (وزارة الخارجية الروسية - إكس)

شكّل التمرد العسكري لمجموعة «فاغنر» قبل أسابيع، اختباراً لافتاً لعمل وسائل الإعلام في روسيا. وبينما كانت وحدات المتمردين تحتل قطعات عسكرية مهمة في جنوب البلاد، وتتقدم نحو موسكو فارضة سيطرتها في الطريق على بعض المدن، كان الإعلام الرسمي الروسي يقدم صورة مختلفة للتطورات الجارية، تعتمد على بيانات وزارة الدفاع، التي كانت مقتضبة وخجولة، وبالكاد تتضمن تفاصيل حول ما يجري في البلاد.

في ذلك اليوم، الذي هزّ روسيا بقوة، انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي عبارة لافتة مفادها أن الحدث أحيا عادة قديمة عند الشعوب السوفياتية، عندما كان المواطن يتلقط أخبار ما يجري في بلاده من وسائل الإعلام الأجنبية.

وحتى بعد انتهاء الحدث، لم تتوقف وسائل الإعلام الرسمية طويلاً، أمام المعطيات التي قدّمتها «فاغنر» ومصادر غربية عدة، حول إسقاط طائرات ومقتل عسكريين من الطرفين. لم تهتم أي مؤسسة إعلامية بإطلاق تحقيق صحافي متكامل حول ما جرى، حول الأسباب والنتائج، والتداعيات المحتملة لاحقاً.

كان ذلك الحدث الداخلي الأبرز في روسيا خلال سنوات طويلة، وهو أظهر بوضوح مستوى عجز المؤسسات الإعلامية الروسية، وافتقارها للقدرة والرغبة في فتح أبواب النقاش حول القضايا التي تهم ملايين الروس وتؤثر في حياتهم ومصائرهم. كذلك أظهر الحدث، ضخامة الفجوة التي أحدثها الغياب الكامل لوسائل الإعلام المستقلة، ناهيك عن المعارضة لسياسات الكرملين.

المشهد الإعلامي الداخلي

إعلاميون روس يشكون من أن تجربة الصحافة في روسيا لم تأخذ حقها في التطور. وما أن شهدت البلاد موجة انفتاح قصيرة، وذاقت لسنوات محدودة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي طعم الصحافة المستقلة حتى عاد الوضع إلى الانكفاء سريعاً بحلول عام 2000، وبسرعة تلاشت التجربة الفتية وعاد الوضع إلى ما يشبه سياسة الإعلام الموجه في العهد السوفياتي.

خلال السنوات الماضية، كان هناك ما مجموعه 93000 وسيلة إعلام في روسيا، الجزء الأكبر منها يصدر محلياً في الأقاليم النائية ولا يصل إلى خارج حدود منطقته. ويشمل هذا الرقم 27000 صحيفة ومجلة و330 محطة تلفزيونية. ويعد التلفزيون المصدر الأكثر شعبية للحصول على المعلومات. بينما عدت الصحف والمجلات الخيار الثاني الأكثر شعبية عند الروس، وعلى الرغم من القفزة الكبرى التي أحدثها انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أشارت الدراسات حتى اندلاع الحرب في أوكرانيا، إلى أن الإنترنت يقبع في المرتبة الثالثة لجهة الشعبية والثقة كمصدر للمعلومات.

حتى وقت قريب كانت ملكية وسائل الإعلام تقوم على مزيج مما هو مملوك للدولة وما هو ملكية خاصة. وتعدّدت هذه الأخيرة بين وسائل إعلام تملكها الاحتكارات الكبرى مثل «غاز بروم» و«روس نفط» وغيرهما من الشركات الكبرى أو المصارف.

«سبوتنيك» (تاس)

بعض هذه «الامبراطوريات الإعلامية» ما زال قائماً، وتدخل فيها أكثر الصحف الروسية رصانة مثل «كوميرسانت» و«فيدوموستي». وغالبية هذه المؤسسات الإعلامية تقدم خطاباً يتحاشى الاحتكاك مع السلطات ويتقيد بتعليماتها، مثل استخدام «قاموس خاص» تفرضه هيئات الرقابة. وكمثال لا يمكن الإشارة في أي منشور إعلامي إلى منظمات المجتمع المدني المصنفة في روسيا على لوائح «العملاء الأجانب» إلا بإضافة فقرة إلزامية تشير إلى هويتها وتمويلها الخارجي، كما لا يمكن ذكر أي منظمة إرهابية من دون إشارة بين هلالين تذكر أن المنظمة مُدرجة على لوائح الإرهاب الروسية. وبجانب ذلك قاموس كامل من العبارات والإضافات التي يجب أن تلتزم المؤسسات الإعلامية غير الحكومية بها، تبدأ من تسمية العملية العسكرية الخاصة، في إشارة للحرب الأوكرانية ولا تنتهي عند الالتزام بالنقل الحرفي لبيانات الجيش ووزارة الدفاع.

في المقابل، اختفى الإعلام الروسي المستقل نهائياً مع التطورات التي تلت اندلاع الحرب في أوكرانيا، وشكّلت قرارات إغلاق عشرات المطبوعات والمحطات التلفزيونية والإذاعية ومنصات الإنترنت طياً لمرحلة كاملة، عاشت خلالها هذه المؤسسات صراعاً خفياً مع السلطة وصل في حالات عدة إلى المواجهة المباشرة. وهو ما حصل لصحيفة «نوفاي غازيتا»، التي دأبت لسنوات على نشر تحقيقات استقصائية عن وضع الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان، ودفعت ثمناً باهظاً تمثل في مقتل أربعة من أبرز صحافييها في ظروف غامضة لم تنكشف كل تفاصيلها بعد مرور سنوات.

وبعد 24 فبراير (شباط) 2022، قام الكرملين بسلسلة خطوات لإغلاق سوق الإعلام الروسية بشكلها السابق. وراهناً تعمل القلة المتبقية من المطبوعات المستقلة من الخارج، أما مواقعها فمحظورة في روسيا.

في المقابل، ممارسة الصحافة غير الخاضعة للرقابة داخل البلاد أمر خطير للغاية، بل هذه مهنة ممنوعة. وكانت شبكة «ميدوزا» المستقلة التي تبثّ أخبارها من الخارج حالياً، قد نشرت تحقيقاً موسعاً رصد مصائر المؤسسات الإعلامية التي أُغلِقت ولوحق المسؤولون فيها. وأظهر التحقيق أن السلطات أغلقت خلال السنوات الأخيرة، فضلاً عن المؤسسات الكبرى، عشرات الآلاف من الصفحات الإلكترونية والمنصات التي نشطت إعلامياً على مستوى فيدرالي أو بشكل محدود في الأقاليم.

أدى هذا الوضع إلى تراجع تصنيف روسيا على لوائح حرية التعبير العالمية، إلى ما دون المرتبة الـ160 من أصل 180 للمرة الأولى منذ سنوات طويلة.

ووفق تصنيف حديث لـ«مراسلون بلا حدود» تناول «مؤشر حرية الصحافة»، صُنّفت روسيا ضمن 31 دولة ذات المؤشرات الأسوأ. وحقاً، تراجعت روسيا، التي كانت أصلاً في فئة «الوضع الصعب» قبل الأخير بعد غزو أوكرانيا، تسعة مراكز أخرى هذا العام إلى المرتبة الـ164 في آخر فئة «وضع خطير للغاية». ومع أن هذا التقييم ليس جديداً، فهو مؤشر واضح على تفاقم وضع الحرية الإعلامية في روسيا.

للمقارنة، في عام 2016، احتلت روسيا المرتبة الـ148 من بين 179 دولة، في حين رصدت منظمة «فريدوم هاوس» تصنيفاً مشابهاً ووضعت روسيا في المرتبة الـ176 من أصل 197 دولة في مجال حرية الصحافة لعام 2013؛ ما جعلها في نفس مستوى السودان وإثيوبيا. كذلك أفادت «لجنة حماية الصحافيين» أن روسيا كانت الدولة التي قتل فيها عاشر أكبر عدد من الصحافيين منذ عام 1992، 26 منهم منذ بداية عام 2000، بينهم أربعة من «نوفايا غازيتا». وجاءت في المرتبة التاسعة في العالم من حيث عدد الصحافيين القتلى مع الإفلات التام من العقاب.

تباين حول الثقة بالإعلام الحكومي

على تلك الخلفية، شكّلت أحداث العام الماضي تحدياً خطيراً لكل من وسائل الإعلام المحلية وجمهورها. وكان من الصعب، بسبب القيود الكثيرة المفروضة على الإعلام، دراسة مستوى تفاعل الجمهور مع الإعلام الرسمي والإعلام الذي يدور حوله. واللافت هنا، أن المعطيات حول الموضوع تباينت بشكل كبير بين المعطيات التي قدمتها المؤسسات المقربة من الكرملين، والمؤسسات شبه المستقلة. إذ أظهر استطلاع نُشر في مطلع العام الحالي، أن مستوى ثقة الروس بأنواع مختلفة من وسائل الإعلام يتفاوت تفاوتاً كبيراً، لكن الأولوية لا تزال مخصّصة للإعلام التقليدي.

وذكرت الدراسة التي نشرها «مركز دراسات الرأي العام» القريب من الكرملين، أن التلفزيون المركزي يحظى بأكبر قدر من ثقة الجمهور الروسي بنسبة 53 في المائة. وفي المرتبة الثانية بهامش صغير، ولكن مهم من الناحية الإحصائية، حلّت قنوات التلفزيون المحلية في الأقاليم بنسبة 47 في المائة، تليها الصحافة المكتوبة بأنواعها المختلفة. أما مصادر المعلومات الأخرى، بما فيها الإنترنت، فجاءت في مرتبة متأخرة للغاية. إذ حصلت المواقع الإخبارية والتحليلية الحكومية على 35 في المائة، وجاءت الصحافة المركزية والإقليمية في المرتبة الرابعة بنسبة 33 في المائة لكل منهما، فمحطات الراديو الإقليمية والمركزية التي يستقي منها المعلومات - وفقاً للدراسة - نحو ربع الروس. وفي ذيل القائمة بـ23 في المائة، حلّت شبكات التواصل الاجتماعي. واللافت، أن الدراسة وضعت مؤشر «عدم الثقة» في شبكات التواصل ليظهر الفارق الضخم؛ إذ اتضح أن 43 في المائة قالوا إنهم لا يثقون بمعطيات تلك الشبكات.

«آر تي» (رويترز)

بالتالي، أظهرت الدراسة أنه، على الرغم من الوتيرة العالية للتحول في المشهد الإعلامي العام في العالم تحت تأثير التقنيات الرقمية، ما زال المجتمع الروسي يثق بالصيغة التقليدية لتلقي المعلومات. ولا تخفى هنا الأسباب السياسية خلف ذلك.

لكن، هذه المعطيات فنّدتها دراسات استطلاعية أخرى نشرتها صحف فيدرالية روسية، وأجريت في مايو (أيار) الماضي؛ إذ أظهرت أن ثقة الروس بالمحتوى الذي تقدمه وسائل الإعلام الحكومية، وخصوصاً التلفزيون، تراجعت إلى معدلات غير مسبوقة لتصل إلى 33 في المائة.

الإعلام الموجه سلاح بوتين القوي

مقابل المشهد الإعلامي الداخلي، نشّطت الحرب الأوكرانية وسائل الإعلام الموجّهة إلى الخارج بشكل قوي خلال الفترة الماضية. وأبرز المؤسسات التي تلعب دوراً بارزاً في إدارة السياسة الإعلامية للكرملين اليوم تبث بنحو 11 لغة، وهي تعدّ لتوسيع نطاق حضورها الجغرافي لتصل مستقبلاً إلى بلدان ولغات جديدة، وخصوصاً في أفريقيا.

كان لافتاً خلال أعمال القمة الروسية - الأفريقية الأخيرة، أن الناطقة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، قالت: إن «واحدة من المشكلات التي تعرقل جهود التقارب مع أفريقيا هي أن الغالبية الساحقة من الأفارقة يتلقون معلوماتهم عن روسيا من وسائل إعلام غربية»؛ ما يضيف أهمية خاصة لوصول القنوات الروسية بشكل مباشر إلى بلدانهم. وفي هذا السياق، نصّ البيان الختامي للقمة على تطوير التعاون الإعلامي وتبادل الخبرات وتوسيع حضور اللغة الروسية في بلدان القارة.

عموماً، تتربع شبكة «روسيا سيفودنيا» (روسيا اليوم) التي تدير وكالة «نوفوستي» و«سبوتنيك» وعشرات المنصات بلغات مختلفة على رأس «أمبراطورية» الكرملين الإعلامية الموجهة للخارج، إلى جانب قناة «آر تي»، التي تخلت عن اسمها السابق «روسيا اليوم» لتجنب الوقوع في تضارب. ويلاحظ متابع المؤسستين العملاقتين، أن التركيز الأساسي ينصبّ على الدعاية والتحريض؛ الأمر الذي تسبب بفرض رزم عقوبات واسعة من جانب الغرب على المؤسستين.

وكمثال، أفردت «نوفوستي» و«سبوتنيك»، وكذلك «آر تي»، مساحات واسعة خلال العام الأخير لتغطية نشاطات اليمين الأوروبي، وهللت مراراً لصعوده المتواصل. وقدّمت لقاءات مع ناشطين وخبراء يدعمون أفكار اليمين، مع الترويج إلى أن كل مشكلات أوروبا سببها قِصر نظر السياسات المتبعة حالياً، وأن المستقبل هو للقوى الصاعدة التي لا تُناصب روسيا العداء.


مقالات ذات صلة

«امسك مزيّف»... استنفار مصري لمواجهة «الشائعات»

العالم العربي ندوة «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بمصر

«امسك مزيّف»... استنفار مصري لمواجهة «الشائعات»

حالة استنفار تشهدها مصر أخيراً لمواجهة انتشار «الشائعات»، تصاعدت مع إعلان «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام»، الثلاثاء، عزمه إطلاق موقع «امسك مزيف».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
إعلام إدمون ساسين (إنستغرام)

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

تلعب وسائل الإعلام المرئية المحلية دورها في تغطية الحرب الدائرة اليوم على لبنان.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق وزير الإعلام سلمان الدوسري التقى رئيسة الإدارة الوطنية للإذاعة والتلفزيون الصينية كاو شومين (واس)

شراكة إعلامية سعودية صينية تطلق برامج تنفيذية مع القطاعين العام والخاص

اختتم وزير الإعلام السعودي، اليوم، أعمال برنامج الشراكة الإعلامية السعودية الصينية، وشهدت الزيارة إبرام اتفاقيات وبرامج تنفيذية وورش عمل بين الجانبين.

«الشرق الأوسط» (بكين)
إعلام توقيع مذكرة تفاهم للتعاون بين منصة سعوديبيديا وجامعة بكين للغات والثقافة (الخارجية السعودية)

مباحثات سعودية - صينية في بكين لتطوير التعاون الإعلامي

التقى سلمان الدوسري وزير الإعلام السعودي، في بكين، اليوم الخميس، مدير مكتب الإعلام بمجلس الدولة الصيني مو قاو يي.

«الشرق الأوسط» (بكين)
إعلام ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)

فوز ترمب «يُحطم» البنية الإعلامية التقليدية للديمقراطيين

قد يكون من الواجب المهني الاعتراف بأن الجميع أخطأ في قراءة مجريات المعركة الانتخابية، والمؤشرات التي كانت كلها تقود إلى أن دونالد ترمب في طريقه للعودة مرة ثانية

إيلي يوسف (واشنطن)

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)
TT

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)

تلعب وسائل الإعلام المرئية المحلية دورها في تغطية الحرب الدائرة اليوم على لبنان.

نوع من «التجنيد الإجباري» فرضته هذه الحالة على المحطات التلفزيونية وموظفيها ومراسليها، فغالبيتهم يمضون نحو 20 ساعة من يومهم في ممارسة مهامهم. وبعضهم يَصِلون ليلهم بنهارهم في نقل مباشر وموضوعي، وآخرون يضعون دمهم على كفّ يدهم وهم يتنقلون بين مناطق وطرقات تتعرّض للقصف. أما رؤساء التحرير ومقدِّمو البرامج الحوارية اليومية، فهم عندما يحوزون على ساعات راحة قليلة، أو يوم إجازة، فإنهم يشعرون كما السمك خارج المياه. ومن باب مواقعهم ومسؤولياتهم الإعلامية، تراهم يفضلون البقاء في قلب الحرب، وفي مراكز عملهم؛ كي يرووا عطشهم وشهيّتهم للقيام بمهامهم.

المشهدية الإعلامية برمّتها اختلفت هذه عن سابقاتها. فهي محفوفة بالمخاطر ومليئة بالصدمات والمفاجآت من أحداث سياسية وميدانية، وبالتالي، تحقن العاملين تلقائياً بما يشبه بهرمون «الأدرينالين». فكيف تماهت تلك المحطات مع الحدث الأبرز اليوم في الشرق الأوسط؟

الدكتورة سهير هاشم (إنستغرام)

لم نتفاجأ بالحرب

يصف وليد عبود، رئيس تحرير الأخبار في تلفزيون «إم تي في» المحلي، لـ«الشرق الأوسط»، حالة الإعلام اللبناني اليوم بـ«الاستثنائية». ويضيف: «إنها كذلك لأننا في لبنان وليس عندنا محطات إخبارية. وهي، بالتالي، غير مهيأة بالمطلق للانخراط ببث مباشر يستغرق ما بين 18 و20 ساعة في اليوم. بيد أن خبراتنا المتراكمة في المجال الإعلامي أسهمت في تكيّفنا مع الحدث. وما شهدناه في حراك 17 أكتوبر (تشرين الأول) الشعبي، وفي انفجار مرفأ بيروت، يندرج تحت (الاستنفار الإعلامي) ذاته الذي نعيشه اليوم».

هذا «المراس» - كما يسميه عبود - «زوّد الفريق الإخباري بالخبرة، فدخل المواكبة الإعلامية للحرب براحة أكبر، وصار يعرف الأدوات اللازمة لهذا النوع من المراحل». وتابع: «لم نتفاجأ باندلاع الحرب بعد 11 شهراً من المناوشات والقتال في جنوب لبنان، ضمن ما عرف بحرب المساندة. لقد توقعنا توسعها كما غيرنا من محللين سياسيين. ومن كان يتابع إعلام إسرائيل لا بد أن يستشفّ منه هذا الأمر».

جورج صليبي (إنستغرام)

المشهد سوريالي

«يختلف تماماً مشهد الحرب الدائرة في لبنان اليوم عن سابقاته». بهذه الكلمات استهل الإعلامي جورج صليبي، مقدّم البرامج السياسية ونشرات الأخبار في محطة «الجديد» كلامه لـ«الشرق الأوسط». وأردف من ثم: «ما نشهده اليوم يشبه ما يحصل في الأفلام العلمية. كنا عندما نشاهدها في الصالات السينمائية نقول إنها نوع من الخيال، ولا يمكنها أن تتحقق. الحقيقة أن المشهد سوريالي بامتياز حتى إننا لم نستوعب بسرعة ما يحصل على الأرض... انفجارات متتالية وعمليات اغتيال ودمار شامل... أحداث متسارعة تفوق التصور، وجميعها وضعتنا للحظات بحالة صدمة. ومن هناك انطلقنا بمشوار إعلامي مرهق وصعب».

وليد عبود (إنستغرام)

المحطات وضغوط تنظيم المهام

وبالفعل، منذ توسع الحرب الحالية، يتابع اللبنانيون أخبارها أولاً بأول عبر محطات التلفزيون... فيتسمّرون أمام الشاشة الصغيرة، يقلّبون بين القنوات للتزوّد بكل جديد.

وصحيحٌ أن غالبية اللبنانيين يفضّلون محطة على أخرى، لكن هذه القناعة عندهم تتبدّل في ظروف الحرب. وهذا الأمر ولّد تنافساً بين تلك المحطات؛ كي تحقق أكبر نسبة متابعة، فراحت تستضيف محللين سياسيين ورؤساء أحزاب وإعلاميين وغيرهم؛ كي تخرج بأفكار عن آرائهم حول هذه الحرب والنتيجة التي يتوقعونها منها. وفي الوقت نفسه، وضعت المحطات جميع إمكاناتها بمراسلين يتابعون المستجدات على مدار الساعات، فيُطلعون المشاهد على آخر الأخبار؛ من خرق الطيران الحربي المعادي جدار الصوت، إلى الانفجارات وجرائم الاغتيال لحظة بلحظة. وفي المقابل، يُمسك المتفرجون بالـ«ريموت كونترول»، وكأنه سلاحهم الوحيد في هذه المعركة التنافسية، ويتوقفون عند خبر عاجل أو صورة ومقطع فيديو تمرره محطة تلفزيونية قبل غيرها.

كثيرون تساءلوا: كيف استطاعت تلك المحطات تأمين هذا الكمّ من المراسلين على جميع الأراضي اللبنانية بين ليلة وضحاها؟

يقول وليد عبود: «هؤلاء المراسلون لطالما أطلوا عبر الشاشة في الأزمنة العادية. ولكن المشاهد عادة لا يعيرهم الاهتمام الكبير. ولكن في زمن الحرب تبدّلت هذه المعادلة وتكرار إطلالاتهم وضعهم أكثر أمام الضوء».

ولكن، ما المبدأ العام الذي تُلزم به المحطات مراسليها؟ هنا يوضح عبود في سياق حديثه أن «سلامة المراسل والمصور تبقى المبدأ الأساسي في هذه المعادلة. نحن نوصيهم بضرورة تقديم سلامتهم على أي أمر آخر، كما أن جميعهم خضعوا لتدريبات وتوجيهات وتعليمات في هذا الشأن... وينبغي عليهم الالتزام بها».

من ناحيته، يشير صليبي إلى أن المراسلين يبذلون الجهد الأكبر في هذه الحرب. ويوضح: «عملهم مرهق ومتعب ومحفوف بالمخاطر. لذلك نخاف على سلامتهم بشكل كبير».

محمد فرحات (إنستغرام)

«إنها مرحلة التحديات»

وبمناسبة الكلام عن المراسلين، يُعد إدمون ساسين، مراسل قناة «إل بي سي آي»، من الأقدم والأشهر في هذه المحطة. وهو لا يتوانى عن التنقل خلال يوم واحد بين جنوب لبنان وشماله. ويصف مهمّته خلال المرحلة الراهنة بـ«الأكثر خطراً». ويشرح من ثم قائلاً: «لم تعُد هناك خطوط حمراء أو نقاط قتال محددة في هذه الحرب. لذا تحمل مهمتنا التحدّي بشكل عام. وهي محفوفة بخطر كبير، لا سيما أن العدو الإسرائيلي لا يفرّق بين طريق ومبنى ومركز حزب وغيره، ويمكنه بين لحظة وأخرى أن يختار أهدافه ويفاجئ الجميع... وهذا ما وضع الفرق الصحافية في خطر دائم، ونحن علينا بالتالي تأمين المعلومة من قلب الحدث بدقة».

وفق ساسين، فإن أصعب المعلومات هي تلك المتعلقة بالتوغّل البرّي للجيش الإسرائيلي، «فحينها لا يمكن للمراسل معرفة ما يجري بشكل سليم وصحيح على الأرض... ولذا نتّكل أحياناً على مصادر لبنانية من جهة (حزب الله)، و(اليونيفيل) (القوات الدولية العاملة بجنوب لبنان) والجيش اللبناني والدفاع المدني، أو أشخاص عاشوا اللحظة. ومع هذا، يبقى نقل الخبر الدقيق مهمة صعبة جداً. ويشمل ما أقوله أخبار الكمائن والأسر، بينما نحن في المقابل نفتقر إلى القدرة على معرفة هذه الأخبار، ولذا نتوخى الحذر بنقلها».

«لبنان يستأهل التضحية»

في هذه الأثناء، يتكلم مراسل تلفزيون «الجديد» محمد فرحات «بصلابة»، عندما يُسأل عن مهمّته الخطرة اليوم.

محمد كان من بين الفريق الإعلامي الذي تعرّض لقصف مباشر في مركز إقامته في بلدة حاصبيا، وخسر يومذاك زملاء له ولامس الموت عن قرب لولا العناية الإلهية، كما يقول. ويتابع: «لقد أُصبت بحالة إنكار للمخاطر التي أتعرّض لها. في تلك اللحظة عشت كابوساً لم أستوعبه في البداية. وعندما فتحت عيني سألت نفسي لبرهة: أين أنا؟»، ويضيف فرحات: «تجربتي الإعلامية ككل في هذه الحرب كانت مفيدة جداً لي على الصعيدين: الشخصي والمهني. من الصعب أن أُشفى من جروح هذه الحرب، ولكني لم أستسلم أو أفكر يوماً بمغادرة الساحة. فلبنان يستأهل منا التضحية».

العلاج النفسي الجماعي ضرورة

أخيراً، في هذه الحرب لا إجازات ولا أيام عطل وراحة. كل الإعلاميين في مراكز عملهم بحالة استنفار. ولكن ماذا بعد انتهاء الحرب؟ وهل سيحملون منها جراحاً لا تُشفى؟

تردّ الاختصاصية النفسية الدكتورة سهير هاشم بالقول: «الإعلاميون يتعرضون لضغوط جمّة، وفي الطليعة منهم المراسلون. هؤلاء قد لا يستطيعون اليوم كشف تأثيرها السلبي على صحتهم النفسية، ولكن عند انتهاء الحرب قد يكون الأمر فادحاً. وهو ما يستوجب الدعم والمساندة بصورة مستمرة من مالكي المحطات التي يعملون بها». وأضافت الدكتورة هاشم: «ثمة ضرورة لإخضاعهم لجلسات علاج نفسية، والأفضل أن تكون جماعية؛ لأن العلاج الموسمي غير كافٍ في حالات مماثلة، خلالها يستطيعون أن يساندوا ويتفهموا بعضهم البعض بشكل أفضل».