قبل عامين، التقت المغنّية والممثلة نيللي معتوق، بالموسيقي والمنتج جاد الرحباني، عبر المهندس في استوديو إلياس الرحباني أوديشو كيواركيس، لتخلُص أغنية «مين قلك مين» عن الجَمعة. تفرُّغها للعائلة، أبعدها عن العطاء الفني، بعد أعمال في التلفزيون والمسرح. وحين أرادت العودة، حملت أمل المؤمنين بخلاص المدينة. أغنية «ببيروت»، جديدها، إصرار على الحياة.
كتب جاد الرحباني الكلمات، ولحَّن ووزَّع؛ ليقدّم المخرج هادي حسين لبنان المُشتهى بالصورة والخلفية. تتحدّث معتوق لـ«الشرق الأوسط» عن «الضجر من اليأس». برأيها، «بدل الاختناق فلنبحث عن فسحة للتنفُّس».
الأغنية إيقاعية؛ فكرة وإعداد كيواركيس الذي عرّفها إلى جاد الرحباني. صحيح أنّ معتوق لم تشعّ خلال الموسم الرابع من «ستار أكاديمي»، بالمفهوم السائد للوهج؛ وفيما آخرون عَبَروا من برنامج الهواة الشهير إلى النجومية، ظلّت تسعى إلى الوصول بجهد فردي. تقول: «إنها مسألة إنتاج بالدرجة الأولى. دخلتُ إلى الأكاديمية بكوني هاوية فقط. لم يسندني منتج. حصدتُ نسبة تصويت عربية لافتة، وهذا نجاحي».
تجتمع عوامل تجعل الطريق تطول والخطى تتباطأ، منها أيضاً أنّ مواقع التواصل لم تكن في عزِّها لترافق بدايات فنانة طموحة، حائزة ماجستيراً في علم الموسيقى. تتحدّث عن الوصول: «كان شاقاً ولا يزال. ما قبل مواقع التواصل، ضاع جهد كثير من دون دراية كاملة. ما بعد مواقع التواصل، ازدحمت الساحة. الممثلون والفنانون في كل مكان. يسألونني الآن: (أنتِ تغنّين، إذن، أقفلتِ باباً على التمثيل؟). أجيب بأنني فنانة؛ الغناء والتمثيل يتكاملان».
الزحمة تحرّضها على الاجتهاد: «أمرّن صوتي وأطوّر أدائي وحركتي على المسرح. أهتم بشكلي أيضاً. حين يترك الفنان فنه، سيقوم الفن بالمثل ويتخلّى عنه. وإن كففتُ عن تمرين صوتي، فسأرتبك في الغناء. بين كثيرين، وحده المجتهد يبقى».
تسمّي مسارها منذ الخطوة الأولى، حتى إصدار «ببيروت»: «حالة من السعي». وهو يشمل التمثيل ويقتضي صقل النفس بانتظار الفرص. قبل 3 سنوات، طرقت أبواباً للعودة. كانت في حاجة إلى مَن يستجيب لنداء داخلي يملي عليها عدم إطالة الغياب. سمعت تشجيعاً مفاده «أنتِ تستحقين، ولديك موهبة». إنما المسألة في الواقع ظلّت مختلفة. قلّة العروض الملائمة أتاحت المجال لتكثيف العمل الذاتي، حتى توصّلت إلى قناعة: «أنا موجودة، ومَن يلمح في موهبتي ما يناسب دوراً أو أغنية، لن يتردّد عن التواصل. المنتج والمخرج الحقيقيان ينظران بوضوح إلى الساحة الفنية. سأعود إلى التمثيل، إن وجدتُ فرصي».
«بيروت مدينة حياة، تمتهن نفض الموت. لِمَ أغنّي للكآبة؟ للانهيار والقاع؟ أؤمن بالغناء للأمل. هذا لا يعني أنّ المعاناة كذبة والإنسان في نعيم. الغناء تأكيد بأنّ ثمة ما هو أقوى من اليأس»
الفنانة نيللي معتوق
مثّلت في مسلسلات ومسرحيات: «اخترتُ أدواري بنفسي وتفاديتُ التكرار. أشعر أنني وصلت، لكنني أسعى إلى المزيد. أدّيتُ أدوار بطولة وحافظتُ على شغفي الفني. من البديهي أنّ يُلفح الفنان بالنسيان حين يبتعد. شيئاً فشيئاً، يتذكره الناس. أنتقد نفسي وأحاول شقّ طريقي، مع ذلك، أشعر بالامتنان إلى النتيجة».
تُقلِّب «تيك توك» وتتساءل: «ما هذا؟! إنهم لا يشبهونني». تعني مَن يطاردون الشهرة السهلة في التمثيل والغناء. تريد وصولاً «لا يقلّل من شأني»، وتبحث عن محتوى يليق. عودتها بأغنية «ببيروت» محاكاة لهذا الحرص.
نسألها عن بيع الأوهام لدى الغناء لمدن موجوعة. أليس ذلك إنكاراً للجروح ورقصاً حول الندوب الغائرة؟ تقلب المعادلة: «بيروت مدينة حياة، تمتهن نفض الموت. لِمَ أغنّي للكآبة؟ للانهيار والقاع؟ أؤمن بالغناء للأمل. هذا لا يعني أنّ المعاناة كذبةٌ والإنسان في نعيم. الغناء تأكيد بأنّ ثمة ما هو أقوى من اليأس».
يظهر الصيف اللبناني في الكليب بصخبه وجنون لياليه. ورغم العتمة جراء معضلة الكهرباء، تضيء ألعاب نارية سماء المدينة لإعلان النور الحقيقي، وهو الإرادة والمحاولات. تعلّق نيللي معتوق: «أردنا الإشارة إلى القدر اللبناني في نفض الخراب. توالت الحروب، وظلّ النهوض هو الخيار الوحيد. أؤمن بأنّ الأطماع إن جوبِهت من بشر يائسين، ستنتصر. أما إن واجهها عشاق حياة، فسيأتي يوم وتُنهي مرتكبيها».
تعمّد المخرج بساطة المشهدية في محاكاتها صيف المدينة ووقت المغتربين السعيد. وأتت كلمات جاد الرحباني، مع التوزيع واللحن، على هيئة احتفالية بهذا القدر اللبناني الذي يسمّونه «طائر الفينيق». ذلك، وفق معتوق، ردّ فعل عكسية على سردية الموت: «درب الخلاص قد تطول، والوقائع تبدو مشوَّهة، لكنّ العبور لا بدّ منه. بيروت عصية على تسليم جمالها».