تتواصل تفاعلات التدقيق الجنائي في حسابات البنك المركزي اللبناني وخلاصاته المثيرة، بصورة دراماتيكية في الأوساط الداخلية كافة، فيما تتوالى عمليات الكشف عن الثقوب السوداء التي تزخر بها البيانات المالية الأساسية للمؤسسة، بما يشمل مصروفات خاصة بالدولة، وتوظيفات الجهاز المصرفي المسندة خصوصاً بكتلة الودائع، فضلاً عن احتياطات البلاد من العملات الصعبة.
وبما يتعدى حيازته موقع الصدارة في الميادين الداخلية، سياسياً واقتصادياً وشعبياً، اكتسب تقرير «ألفاريز أند مارسال» المنجز بصيغته الأولية، وفقاً لمصادر مصرفية ومالية موثوقة، أرجحية التصنيف المرجعي الموثق لدى سلطات مالية عالمية، وبالأخص لدى المؤسسات المنغمسة بأزمات البلد وانهياراته، وفي طليعتها صندوق النقد والبنك الدوليان. كما يرتقب أن يشكل دعامة أساسية لمؤسسات تقييم التصنيف السيادي والجدارة الائتمانية للبنان.
ومن دون أي شك أو مبالغة، ووفقاً لتحليل الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور جو سرّوع، فإن «ما بعد التدقيق لن يشبه ما قبله»، في بلد يشرف على ختام السنة الرابعة من الأزمات الحادة والكوارث الاجتماعية والمعيشية. فالتقرير المنجز وضع لبنان واقتصاده الوطني ومنظومة الحكم بطبقاتها كافة، في مواجهة حقائق المال العام «السائب» والفساد والهدر، بدءاً من المؤسسة (البنك المركزي) المفترض أن تشكل النموذج للإدارة الرشيدة، وصولاً إلى طغيان المصالح الخاصة، واستغلال المواقع والنفوذ في الدولة والقطاع العام.
وبالفعل، شهدت القيود المحاسبية الخاصة بتمويلات المركزي للدولة، بداية سجالات يرجّح تحولها سريعاً إلى اشتباك جدلي جديد بين الأطراف السياسية المتنازعة، وخصوصاً بعدما أظهرت الكشوفات ضخ نحو 48 مليار دولار لتغطية مصروفات عائدة للقطاع العام، أو استجابة لتعليمات حكومية، مع التنويه بأن نصف هذه المبالغ، أي نحو 24 مليار دولار، تم استهلاكها في تلبية احتياجات مالية لمؤسسة الكهرباء ووزارة الطاقة، في حين جرى إنفاق نحو 7.57 مليار دولار على الدعم الحكومي لمواد غذائية واستهلاكية.
ولم يتأخر رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل، الذي تولى مباشرة أو عبر اختيار الوزراء، وزارة الطاقة تباعاً منذ عام 2010، في الإدلاء بمداخلته الأولى، مؤكداً أن المعركة لم تنتهِ بالتقرير، ويجب تسليم كل المستندات المطلوبة، معتبراً أن هذه مسؤولية النائب الأول للحاكم (الحاكم بالإنابة)، بغية استكمال التدقيق بالمصرف المركزي، وبكل مؤسسة أو إدارة، وخاصةً وزارة الطاقة لتبيان كل الحقائق والأكاذيب.
ولاحظ أن التقرير «أظهر كثيراً من المخالفات والسرقات للمال العام وأموال المودعين، وأخطر ما كشفه أن كلفة الهندسات المالية المباشرة، بالإضافة إلى العلاوات، بلغت 76 مليار دولار، وهي جريمة مالية غير مسبوقة بتاريخ البشرية، ومسؤولية القضاء التحقيق، والمجلس النيابي يتحرّك، لأن من حق اللبنانيين أن يعرفوا من سرق أموالهم».
ثم أضاف: «نحنا أمام سابقة تاريخية»، واصفاً التقرير بأنه «إدانة لحقبة سياسية بكاملها، ولمنظومة، أمين صندوقها هو حاكم المصرف المركزي، وهي تناصبنا العداء بكل الطرق، وبشراء ذمم قضاة وإعلاميين وسياسيين، تبيّن كم كانوا مرتشين».
وإذ تشير حيثيات التقرير إلى تعمد عدم تسليم مستندات وبيانات حيوية وأساسية للتوسع في عمليات التدقيق وإنجاز المهمة على الوجه المطلوب، يؤكد سرّوع في حديثه مع «الشرق الأوسط» على أولوية مبادرة الحكومة إلى المعالجة السريعة لهذه الثغرة، وبما يفضي إلى سبر مجمل الحسابات العامة، والدفع صوب استكمال عمليات التقصي والمتابعة وفق الأصول المهنية، ومقتضيات الشفافية المطلوبة، بغية الكشف عن كل مكامن الخسائر وتوثيقها، وبما يمهد لاجتراح خطة إنقاذية حقيقية تحظى بدعم صندوق النقد الدولي والدول المانحة.
ولا تقتصر المسؤوليات، وفق روحية التقرير وخلاصاته، على السلطة التنفيذية وحدها، بحسب قراءة سرّوع، «فالفضائح والتحليلات والجداول المرفقة، تشكل بذاتها إخبارات موثقة توجب الملاقاة التلقائية من قبل المرجعيات القضائية المختصة، كونها لا تثبت فقط أوجه القصور في إدارة القطاع العام، وغياب مجمل أشكال الرقابة الإدارية والمالية، بل تدل بالإثباتات، على سرقات موصوفة للمال العام، وهدره والتلاعب الجسيم في الميزانيات، فضلاً عن الطمس المتعمّد لعمليات وقيود تحتمل شبهات الجرائم المالية».
وليست الإدارة الجديدة للبنك المركزي بمنأى عن الموجبات التي يمكن استنباطها بسهولة من العرض المنهجي للوقائع والموانع والجداول المرفقة في التقرير. فهذه المؤسسة، كما يصفها الخبير الذي شغل مناصب قيادية في مؤسسات مصرفية دولية ومحلية، هي «المرآة العاكسة لمستوى الحوكمة في العالم أجمع»، وهي «تتمتع في لبنان باستقلالية دستورية كسلطة نقدية وبمسؤوليات شبه مطلقة في إدارة السيولة والتضخم والفوائد».
بالتالي، فإن ما تم كشفه من فجوات إدارية ومالية ومن ممارسات غير سويّة، «لا يصيب بالضرر هذه المؤسسة وحدها، إنما يؤشر إلى درك أدنى تقع فيه الدولة بكل سلطاتها ومؤسساتها»، حسب تقييم سرّوع. ولذا، فإن «الأوجب حالياً الشروع فوراً بإعادة هيكلة البنك المركزي وإداراته، والتركيز خصوصاً على التشاركية الحقيقية في صناعة القرارات، ولا سيما ذات المضمون المالي، ثم العناية الاستثنائية بفاعلية الرقابة الإدارية والمالية، والالتزام بكل إفصاحات الميزانية وتصويباتها المطلوبة من قبل المدقق الداخلي أولاً، وشركات المحاسبة والتدقيق الدولية المتعاقد معها».
ويشير سروع إلى أن «تحديد مبلغ فجوة الحقوق المالية لدى المركزي بما يصل إلى 52 مليار دولار، ومحاولة الحاكم السابق التعمية عليها بطبع العملة، يكفيان وحدهما للإدانة بانعدام الحوكمة في المؤسسة، وبإساءة الإدارة المالية للموازنة، وبغياب شبه تام للرقابة والمساءلة على مدى سنوات طويلة»، بينما تتجلى شبهة الفساد والنفع الخاص في ضخ العمولات والأرصدة في حسابات شركة «فوري» وفي جداول المنح والمخصصات.
ويسأل: «كيف جرى إخفاء التلاعب بقيود الميزانية، وتظهير أرباح تم تحويل حصص سنوية منها إلى وزارة المال، بموجب قانون النقد والتسليف، لتنقلب بذلك القاعدة القانونية التي تفرض على الدولة تغطية أي خسائر طارئة تصيب رأسمال البنك المركزي؟»، موضحاً أن «الربح الصافي، بموجب نص المادة 113 من القانون، يتألف من فائض الواردات على النفقات العامة والأعباء والاستهلاكات وسائر المؤونات. وإذا كانت نتيجة سنة من السنين عجزاً، تغطى الخسارة من الاحتياطي العام، وعند عدم وجود هذا الاحتياطي، أو عدم كفايته، تغطى الخسارة بدفعة موازية من الخزينة».