القليل من محمود درويش

القليل من محمود درويش
TT

القليل من محمود درويش

القليل من محمود درويش

كانت المرة الأولى التي سلمتُ فيها على الشاعر العربي الفلسطيني محمود درويش، يداً بيد، في مدينة مكناس المغربية في مارس (آذار) 1983. كنا في غَمْرة أجواء أول ندوة عربية ينظمها اتحاد كتاب المغرب حول القصة القصيرة، حين فاجأنا محمود بحضوره «غير المنتظر»، وجاء خصِّيصاً ليحصل على أشغال الندوة لحساب مجلة الكرمل، التي كان يشرف عليها ويديرها. ولم يكن الإِخوة في الاتحاد ليَدَعُوا الفرصة تمر دون تنظيم لقاء شِعْري جماهيري للشاعر الكبير في قاعة المعرض الكبرى في تلك الحاضرة التاريخية الجميلة.

تقدمتُ للسلام على محمود درويش، وقدمتُ إِليه نَفْسِي، ثم سَلَّمتُ إِليه مخطوطة الشاعر الصديق مُحمَّد الأشعري «يومية النار والسفر» ليحملها معه إلى بيروت – كما جَرى اتفاق هاتفي مسبق – ونَشْرها في المؤسسة العربية. في ذلك اللقاء الأول، كانت صورتي الأولى مع محمود، بمعية الكاتب إِدريس الخوري والشاعر أحمد لمسيَّح. وهناك، تبادلنا عبارات المجاملة الأولى بين شاعر عربي إِنساني وشاعر شاب يحمل تحت إبطه مجموعته الشعرية الأولى وفي داخله الكثير من التَّهيُّب والدهشة.

كنتُ عضواً في لجنة التنظيم التي شكَّلَها رئيس اتحاد الكتاب الأستاذ محمد برادة، فلسطيني الوعي والهَوَى، مما منحني فرصة التواصل التلقائي مع محمود، ومع كُتَّاب عرب من الضيوف حضروا الندوة من أمثال إِلياس خوري، وإدوارد الخراط، وخالدة سعيد، ويُمنَى العيد، وسيد بحراوي، وعبد الرحمن مجيد الربيعي... فضلاً عن كتَّاب ونقاد مغاربة بينهم عبد الفتاح كيليطو الذي كانت مداخلته حدثاً نقديّاً معرفيّاً في اللقاء، وكانت حول عبارة «زعَمُوا أَنَّ» التي تُفْتَتَحُ بها حكايات كتاب «كليلة ودِمْنَة». وسينشر محمود لاحقاً في المجلة بعضاً من مداخلات الندوة في مقدمتها مداخلة كيليطو.

هكذا انطلقت علاقة حَيِيَّة مع محمود درويش لم تتوقف إِلّا بانْصرافِهِ الأخير إلى الضفة الأخرى لِلَّيل في غشت (أغسطس/آب) 2008. ومنذ أول لقاء إلى آخر لقاء في الدار البيضاء والرباط في 2007، وكانت آخر زيارة له إلى المغرب، إلى آخر مكالمة مُطَوَّلَة أثناء معاناته الأخيرة مع وَجَع قَلْبِهِ، جَرَتْ لقاءات متعددة بيننا، وتحققت فُرَصٌ وذكرياتٌ وحوارات ونقاشات وهوامش وتفاصيل إِنسانية ثرية تستحق كتاباً مخصوصاً بالقوة وبالفعل عليَّ أن أتغلَّب على نَفْسي لأكتُبَه.

كان محمود درويش صديقاً للمغرب ومعجباً بالمغاربة، وظل يتردد علينا في المغرب منذ أصبح له أصدقاء مغاربة يثق بهم، ويستأنس برأيهم كلما تَلقَّى دعوة مغربية (هل يأتي أم لا؟). وقلَّما كان يتناول وجبات الغداء والعشاء في فندقه، فقد كان علينا أن ننظم – كلما قَدِم إلى الرباط – أجندة لقاءاته في بيوت الأصدقاء مَمَّنْ كانوا يعتبرون استضافته مع آخرين امتيازاً.

ومنذ أول زيارة له إلى المغرب، سنة 1972، سنةً واحدةً بعد مغادرته فلسطين المحتلة واستقراره في القاهرة، لم يتوقف محمود عن زيارة المغرب ونسْج علائق شخصية قوية مع فضاءاته وأهله، خصوصاً مع جمهوره وقرائه، وتحديداً مع فضاء المسرح الوطني – محمد الخامس في الرباط الذي كان يعدّه أحد أفضل الأمكنة التي قرأ فيها شِعْرَه، حتى إِنه خَصَّصَ نصّاً نثريّاً للتعبير عن شَغَفِهِ بهذا المكان.

والحق أنني أحتفظ في الذاكرة، وفي ألبوماتِ الصور، وفي كتابتي بالكثير من محمود درويش، ودائماً أستحضر مكانته الشعرية والإِنسانية بغير قليلٍ من التأثر والامتنان. أستحضر طرائفه، نُكَتَه، ممازحاته معي ومع أسرتي، مداعباته ومحكياته وذكرياته مع الشعراء العرب والأجانب، مع القائد الوطني الفلسطيني الشهيد ياسر عرفات، مع عائلته الصغيرة وبالخصوص والدته السيدة حورية التي كان يعدّها «ماكرةً» بحب، ومع أصدقائه الخُلَّص من الشعراء والمبدعين أو أصدقاء حياته اليومية.

كان محمود درويش شاعراً عظيماً من قلة من شعرائنا العرب الكبار الذين حققوا انتشاراً جدِّيّاً في جهاتِ العالم الأربع، اخْتَرَقُوا المشهد الشعري الكوني وشَكَّلُوا لحظةً مضيئة من تاريخ الشعرية الإنسانية، وأستحضر هنا بالأساس – دون أدنى مفاضلة أو تراتبية أو حكم قيمة – شاعرنا العربي الكبير أدونيس، والشاعر الكبير الآخر سعدي يوسف. ولا يمكنني القبول مطلقاً بما يَلُوكُه بعضهم عن مكانة محمود درويش الشعرية، وكذا بعده الجماهيري، حققهما ارتباطه بالقضية الفلسطينية. صحيح أن فلسطين هي أساس جغرافيته الشعرية وهويته الوطنية والنّصية، لكن وَعْيَه التراجيدي وموهبته وذكاءه وإِحساسه العميق بأن الشِّعْر مَصير وليس مجرد لعبة كتابة، وأيضاً – لكي لا أنسى – روحه الموسيقية العالية، لَمِمَّا جَعَل قصيدته الأقرب إلى الذائقة العربية المعاصرة، والأكثر قدرةً على تحقيق الانتشار المُقْنِع وغير المُتَردّد.

لقد شَيَّدَ محمود درويش لنَفْسِهِ مكانةً متقدمةً ورفيعةً في «البَّنْتِيُّونْ» الشِّعْري الإِنساني إلى جانب آخرين من أمثال فديريكو غارسيا لوركا، وبَّابْلُو نيرودا، وأوكتافيو باث، ويانيس ريتسوس، وديريكْ وَالكُوتْ وأدونيس، وأُنْسِي الحاج، ومحمد المَاغُوط وسركون بولص. وكانت له سُلَالَتُه العربية المتجذرة التي تعود إلى امْرئِ القيس والمتنبي وصولاً إلى نزار قباني وسعدي يوسف اللذين خَصَّهُما بمديح متأخر حَرصَ على كتابته ونشره لكي يُعْرَف ويبْقَى.

وشخصيّاً، يظل محمود درويش بالنسبة إليَّ صديقاً يُعَلِّم أصدقاءه معنى أن يكون الشّعْر أوسع من القصيدة، وأكثر قدرةً على الامتداد والتحول والتجدد والإبدال والعلاقة، بالأَخص العلاقة الإنسانية العميقة التي تعلو على الآني والنفعي إلى ما هو مصيري وجوهري وسِرِّي وبَاقٍ.

شاعر من المغرب


مقالات ذات صلة

تفاهم سعودي - كويتي لتعزيز التعاون الثقافي

يوميات الشرق المذكرة تضمنت تعزيز العمل المشترك بين البلدين في مختلف المجالات الثقافية (واس)

تفاهم سعودي - كويتي لتعزيز التعاون الثقافي

أبرم وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، ونظيره الكويتي عبد الرحمن المطيري، مذكرة تفاهمٍ لتعزيز التعاون الثقافي بين البلدين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق اجتماع سعودي - قطري للارتقاء بالتعاون الثقافي والسياحي والترفيهي

اجتماع سعودي - قطري للارتقاء بالتعاون الثقافي والسياحي والترفيهي

استعرضت لجنة الثقافة والسياحة والترفيه بمجلس التنسيق السعودي - القطري، الاثنين، جهود فرق العمل ومنجزاتها، والمبادرات والمستهدفات المحددة لها في مجالاتها.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان ووزير الإعلام والثقافة الكويتي عبد الرحمن المطيري بعد توقيع مذكرة التفاهم في الرياض (كونا)

السعودية والكويت توقّعان مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون في المجال الثقافي

ويأتي توقيع هذه المذكرة في إطار العلاقات الوثيقة والأخوية التي تربط البلدين، وتهدف إلى تعزيز التعاون والتبادل الثقافي بين الطرفين في المجالات الثقافية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق محمد المكي أحد مؤسسي «مدرسة الغابة والصحراء» (الشرق الأوسط)

رحيل الشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم في القاهرة

تزايد نزف المبدعين السودانيين، برحيل الشاعر والدبلوماسي الموسوم بـ«شاعر الأكتوبريات» محمد المكي إبراهيم، في العاصمة المصرية القاهرة، إثر علّة لم تمهله.

أحمد يونس (كمبالا)
يوميات الشرق الهاكاثون يُمثِّل فرصةً مثاليةً لتطوير تجارب تعليمية تفاعلية تُعزِّز من تعلُّم اللغة العربية (وزارة الثقافة)

انطلاق هاكاثون «تعلُّم واحتضان اللغة العربية» بالرياض

تستضيف الرياض فعاليات هاكاثون «تعلُّم واحتضان اللغة العربية» الذي تنظمه وزارة الثقافة السعودية خلال الفترة بين 18 و19 سبتمبر الحالي في مقر «بينالي الدرعية».

«الشرق الأوسط» (الرياض)

اتفاقية لترجمة ونشر الثقافة الصينية في الخليج

جانب من توقيع اتفاقية ونشر عدد من الكتب الصينية للعربية بين «دار كلمات» وجامعة الدراسات الأجنبية ببكين (الشرق الأوسط)
جانب من توقيع اتفاقية ونشر عدد من الكتب الصينية للعربية بين «دار كلمات» وجامعة الدراسات الأجنبية ببكين (الشرق الأوسط)
TT

اتفاقية لترجمة ونشر الثقافة الصينية في الخليج

جانب من توقيع اتفاقية ونشر عدد من الكتب الصينية للعربية بين «دار كلمات» وجامعة الدراسات الأجنبية ببكين (الشرق الأوسط)
جانب من توقيع اتفاقية ونشر عدد من الكتب الصينية للعربية بين «دار كلمات» وجامعة الدراسات الأجنبية ببكين (الشرق الأوسط)

وقّعت «دار كلمات» للنشر والتوزيع، السعودية، وجامعة الدراسات الأجنبية ببكين، أمس، عقداً لترجمة ونشر عددٍ من الكتب الصينية التي تهتم بالثقافة العربية، ووقع العقد عن «دار كلمات» مديرها العام فهد العودة، وعن جامعة الدراسات الأجنبية ببكين شير لي، من دار النشر التابعة لجامعة بكين لإعداد المعلمين.

يشمل الاتفاق ترجمة الكتب الفلسفية والتاريخية التي تعنى بالجانبين الصيني والعربي، مثل كتاب «15 محاضرة عن طريق الحرير»، وكتاب «الصين من وجهة نظر الكتّاب العرب»، وكتاب «الأغاني» وهو كتاب عن الأغاني الشعبية الصينية التاريخية، والعديد من الموروث الأدبي الصيني، وجميعها ستتم طباعتها ثنائية اللغة في كل كتاب «عربي - صيني».

وبهذه المناسبة، أقام الجانب الصيني فعالية لتقاليد الشاي الصيني في مقرّ جمعية النشر السعودية بالرياض، تمّ فيها سرد تاريخ نشأة الشاي الصيني وكيف أصبح علامة لإبراز حضارة الصين الممتدة عبر آلاف السنين.